الظهور
تعريف الظهور: وهو الدلالة الأقوی الذي يقابل التنصيص، فالظهور هو أن يكون مدلول الدليل الشرعي قابلاً لأحد مدلولين، ولكنّ أحدهما ينسبق إلى ذهن المکلف، کظهور صيغة الأمر مثلاً علی الوجوب في مقابل دلالتها علی الاستحباب.
تعريف الظهور لغةً
وهو كلّ شيء علا فقد ظهر. وظهر الأرض: خلاف بطنها[١].
قال الفرّاء: العرب تقول: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي تراه. قال الأزهري: وهذا جاء في الشيء ذي الوجهين الذي ظهره كبطنه، كالحائط القائم لما وليك يقال: بطنه ولما ولي غيرك: ظهره[٢].
الظهر خلاف البطن... والظاهر خلاف الباطن[٣].
تعريف الظهور اصطلاحاً
ظهور مصدر، ومفردة ظاهر التي يستخدمها الأصوليون كمرادف لظهور هو اسم فاعل. ويجمعان بنحو ظهورات وظواهر.
والظهور يقابل التنصيص، والظاهر يقابل النص، وقد وردت تعاريف قليلة له مثل التعاريف التالية:
الظاهر هو أن يكون مدلول الدليل الشرعي قابلاً لأحد مدلولين، ولكنّ أحدهما ينسبق إلى ذهن الإنسان العرفي[٤].
دلالة اللفظ على مراد المتكلّم دلالة ظنّية. ويقابله دلالتها على المراد يقينا، وهو ما يدعى نصّا[٥].
ويراد منه المعنى المدلول عليه واضحا بينا لا يحتاج في حمل اللفظ عليه إلى تأويل، وفرقه عن النص في أنّ هناك معنى أو معاني اُخرى متصوّرة للفظ، بينما تلك المعاني منتفية في النصّ[٦].
الألفاظ ذات الصلة
1. إجمال
وقد وردت عدّة تعاريف للفظ المجمل:
منها: وهو ما لم تتضح دلالته[٧].
ومنها: هو اسم لما يكون معناه مشتبها وغير ظاهر فيه[٨].
وعليه، يكون المراد من المجمل كونه لفظا غير ظاهر معناه وغير واضح، وفرقه عن الظاهر في كون الأخير واضح المعنى ولكن يحتمل أكثر من معنى واحد.
2. بيان
ورد عن الاُصوليين وخاصّة القدماء منهم عدّة تعاريف للبيان:
منها: الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه. وهو اختيار القاضي[٩]. أو هو الدليل الذي يتوصّل بصحيح النظر إلى ما هو دليل عليه[١٠]. أو هو الدليل[١١].
ومنها: هو الدلالة على اختلاف أحوالها. وإليه ذهب أبو علي، وأبو هاشم[١٢]. قال قوم من المتكلّمين: البيان هو الدلالة على الشيء أو الحكم[١٣].
ومنها: إظهار المعنى بلفظ غير ملتبس ولا مشتبه[١٤]. أو إظهار ما خفي على المخاطب[١٥].
وعليه يكون البيان في الحقيقة الدليل المبيّن من قبل الشارع والذي يمكن أن يكون ظاهرا أو نصّا في المراد، وهذا هو فرقه عن الظاهر.
3. خطاب
وهو الكلام الموجَّه من شخص إلى آخر، أو من المخاطِب إلى المخاطَب، وفرقه عن البيان في أنَّ الأخير أعمّ من الكلام، فيشمل الفعل و ]]التقرير]] كذلك. وكثير من بحوثه تشترك مع البيان، مثل: النسخ، والحقيقة، والمجاز، فبعض أدرج هذه البحوث تحت البيان، وآخر تحت الخطاب[١٦]. وفرقه عن الظاهر في أنّه يشمل الظاهر والنصّ، فقد يكون الخطاب ظاهرا وقد يكون نصّا.
4. نصّ
وردت مفردة النص في كلمات الاُصوليين بعدّة معانٍ، مثل مطلق الكلام أو الكتاب و السنة، ولكنّ الذي يقابل الظاهر هو كون اللفظ لا يحتمل أكثر من معنى واحد، بينما الظاهر يحتمل أكثر من معنى[١٧].
أقسام الظهور
وردت أقسام وتقسيمات مختلفة للظاهر نوردها هنا:
1. الظهور اللفظي
وهو الظهور الذي يستلهم من الألفاظ[١٨].
2. الظهور الحالي
وهو الظهور الذي يتجسّد في حال ووضع المتكلّم ولم يتجسّد في لفظه[١٩].
3. الظهور السياقي
السياق هو الظهور المستشفّ من سياق الكلام[٢٠].
4. الظهور الإطلاقي
وهو ظهور اللفظ في الإطلاق[٢١].
5. الظهور الاستقلالي والضمني
الظهور الاستقلالي يعني كون ظهور الكلام في مطلب ما ظهورا كاملاً. والظهور الضمني أو التضمني يعني أن يكون للفظ ظهور في كلّ جزء من أجزاء ذلك المطلب[٢٢].
6. الظهور الانصرافي
وهو انصراف اللفظ إلى معنى محدد، مثل انصرافه عن معناه الموضوع له أو انصرافه عن الإطلاق إلى التقييد[٢٣].
7. الظهور التصوّري
وهو الظهور الناشئ من وضع اللفظ لمعنى مخصوص، وهو تابع للعلم بالوضع، سواء كان في الكلام أو في خارجه قرينة على خلافه أم لم تكن[٢٤]. ويعرّف أيضا بالمعنى المنسبق إلى الذهن لتبادر أو لقرينة[٢٥]. ويسمّى الظهور الابتدائي كذلك[٢٦]. ويبدو من استعمالات الأصوليين كونه هو نفسه المدعو الظهور الوضعي، أي ظهور اللفظ في ما وضع له[٢٧]، ويقابله الظهور الانصرافي[٢٨]. ويقابله كذلك الظهور التصديقي والعرضي.
8. الظهور العرضي
ويراد منه ظهور اللفظ في معناه المجازي[٢٩].
9. الظهور التصديقي
وهو الظهور الناشئ من الكلام من حيث مجموعه بحيث يكون قابلاً للترجمة ولـ بيان مراد المتكلّم بلفظ آخر. وهو يتوقّف على عدم وجود قرينة متّصلة على خلاف الظهور؛ باعتبار أنّ الظهور الحالي في هذه المرحلة يحكي إرادة المتكلّم لاستعمال اللفظ في معناه. ويسمّى الظهور الاستعمالي أو بلحاظ الإرادة الاستعمالية. وإذا انعدمت القرينة المتّصلة والمنفصلة الدالّة على خلاف الظهور التصديقي الجدي أو التصديق بلحاظ الإرادة الجدية تعيّن المراد الجدي للمتكلّم والكلام[٣٠]. فلهذا الظهور مرحلتان: مرحلة الاستعمال، ومرحلة المراد الجدي، وقد تتطابق هذان المرحلتان وقد تختلفان، ويسمّى الظهور الثانوي كذلك[٣١].
10. الظهور التنجيزي والظهور التعليقي
الظهور التنجيزي هو الظهور الذي لا يتوقّف ولا يناط بشيء خاصّ، مثل ظهور العام في العموم، حيث لا يتوقّف ولا يناط بشيء خاصّ، ودلالته على العموم بالوضع. والظهور التعليقي، هو الظهور الذي يناط بشيء آخر ويتوقّف عليه، مثل ظهور المطلق في إطلاقه، حيث يتوقّف ويناط بعدم القرينة على خلافه وفقا لمقدّمات الحكمة[٣٢].
11. الظهور المطابقي والظهور المفهومي
الظهور المطابقي: هو الظهور المنتزع من الدلالة المطابقية، ويقابله الظهور المفهومي، وهو الظهور المنتزع من المدلول الالتزامي[٣٣].
12. الظهور الذاتي
هو ظهور اللفظ في المعنى لو خلي ونفسه بلا ضمّ قرينة حالية أو مقالية[٣٤]. وقد يعرّف بأنّه: الظهور الذي ينسبق إلى ذهن كلّ شخص متأثّرا بظروف معيّنة أو بثقافة معيّنة[٣٥]. وقد يعرّف كذلك بأنّه: الظهور في ذهن إنسان معيّن. وعليه، يكون فرقه عن التصوّري في أنّ التصوّري ناظر إلى الوضع، وهذا غير ناظر إليه، مع أنّ الذاتي أعمّ من التصوّري ويشمل التصديقي كذلك[٣٦].
13. الظهور الموضوعي
هو الظهور الذي يتبلور وفق العلاقات اللغوية والأساليب الدارجة لدى أهل العرف وأبناء اللغة لا وفق الخلفيات الذهنية التي يحملونها[٣٧].
أحكام الظهور
هناك عدّة مواضيع تناقش تحت عنوان الظهور، نوردها هنا:
1 ـ أدلّة حجّية الظهور
لا يبدو هناك من شكّ في أصل حجية الظهور، وقد استدلّ مجمل الاُصوليين على حجية الظهور في الأساس بـ سيرة العقلاء و أهل اللسان والعرف العامل بالظواهر، وهي سيرة شاملة لجميع اللغات وغير منحصرة باللغة العربية. ومن جانب آخر لم يردع عنها الشارع، فيكون دليلها الشرعي هو إمضاء الشارع لها[٣٨].
وأضاف إليها البعض دليل الإجماع[٣٩].
كما أنّ الاستدلال بـ السيرة قد يكون من خلال الاستدلال بـ سيرة المتشرعة واُخرى بسيرة العقلاء، وكلاهما منعقدان في العمل بظواهر الكلام مع أنّه لم يردع الشارع أيًّ منهما.
ومن الواضح توافق السيرتين في هذا المضمار، ولو كانت سيرة المتشرعة على خلاف سيرة العقلاء لشكّل ذلك ظاهرة منفردة انعكست لدينا، ولأبدى الشارع تجاهها رأيه لكنّا لم نجد هذا حاصلاً، ما يعني مساوقتهم للعقلاء هنا. وما قد يُثار ويُدعى من وجود رادع ولو جزئي عن هذه السيرة يخصّ آيات القرآن فقد رفضه جلّ الاُصوليين، وذهب إليه عدد من الأخباريين[٤٠]، بناء على وجهة نظرهم في عدم اعتبار حجية الظواهر، وسيأتي بعض الكلام في هذا المجال.
لكن هناك اختلافات حصلت في جملة من الأمور ذات الصلة بهذا الموضوع نوردها تباعا.
2 ـ موضوع حجّية الظهور
ناقش الأصوليون قضية حجية الظهور وتحديده بالضبط، وذلك تمهيدا لذكر الأدلّة على حجّية الظهور. وتذكر هنا ثلاث فرضيات:
الفرضية الاُولى
الموضوع مركّب من جزءين، أحدهما: الظهور التصديقي، والآخر: عدم القرينة المنفصلة. وبأصالة عدم القرينة المتّصلة يحرز الجزء الأوّل (الظهور التصديقي)، وبأصالة عدم القرينة المنفصلة يحرز الجزء الثاني. ذهب إلى هذه الفرضية المحقّق النائيني تبعا للشيخ الأنصاري[٤١].
الفرضية الثانية
كون الموضوع الظهور التصوّري وعدم العلم بالقرينة على الخلاف، وفي موارد الشكّ في وجود القرينة نرجع إلى أصالة الظهور دون الحاجة إلى أصالة عدم القرينة؛ لأنّ العلاقة بينهما طولية، والمدلول التصوّري محفوظ على كلّ حال.
ذهب إلى هذه الفرضية المحقّق الإصفهاني[٤٢].
الفرضية الثالثة
يتكوّن الموضوع من جزءين، أحدهما: الظهور التصديقي، والآخر: عدم العلم بالقرينة المنفصلة. وفرق هذه الفرضية عن الاُولى هو أنّا إذا احتملنا القرينة المتّصلة كنّا بحاجة إلى إحراز موضوع أصالة الظهور في المرتبة السابقة بأصل أو غيره، وإذا احتملنا القرينة المنفصلة رجعنا إلى أصالة الظهور ابتداءً وبلا حاجة إلى أصل طولي؛ لانحفاظ كلا جزئي الموضوع هنا[٤٣].
وهذه الفرضيات في حقيقتها تحليل لارتكاز عقلائي يعمل به أهل العرف، وهو أصالة الظهور، لذلك لا نجد من استدلّ على هذه الفرضيات بأدلّة عقلية أو نقلية أو ما شابه، بل الجميع يرتكز إلى تحليله الذهني لهذه الأصالة وسيرة العقلاء في هذا المجال.
3 ـ الظنّ النوعي أو الشخصي بالظاهر
ناقش الاُصوليون الظنّ الحاصل من الظاهر، واختلفوا في كفاية حصول ظنّ نوعي فعلي بالظاهر أو عدم كفايته واشتراط حصول ظنّ شخصي به، بحيث يفقد الظاهر حجّيته إذا لم يتبلور لدى الشخص ظنّ شخصي أو تبلور لديه ظنّ مخالف غير معتبر؟
يبدو من البعض اشتراطهم حصول ظنّ فعلي شخصي أو عدم تبلور ظنّ بالخلاف ولو كان ظنّا غير معتبر بالظاهر لكي يكتسب الحجية؛ وذلك بدليل عدم حجّية الظاهر إذا لم يفد ظنّا[٤٤].
لكنّ بعضا آخر لم يشترط هذا بدليل كون العرف وسيرة العقلاء وأهل اللّسان في جميع الألسنة واللغات يأخذون بالظواهر من غير مراعاة للظنّ الفعلي ولا يعتنون بالظنّ المخالف إذا كان غير معتبر، أي الدليل هو سيرة العقلاء التي تحليلها ينتهي إلى هذا الأمر[٤٥].
وسعى البعض لئن يورد دليلاً عقليا على الرأي الأخير (عدم اشتراط انعدام الظنّ بالخلاف) فأورد اعتبارات لذلك[٤٦]، أو أرجعها إلى قضية التحسين والتقبيح العقليين وأنّ كلّ عقل يحكم بحسن عقوبة المولى عبده إذا خالف ظاهر كلامه المتضمّن لحكم إلزامي باحتمال إرادة خلاف الظاهر وقبح عقوبته إذا وافقه...[٤٧].
واشترط بعض آخر عدم الظنّ بالخلاف في حجّية الظواهر. نسب الشيخ الأنصاري هذا الرأي إلى بعض المعاصرين دون تحديده[٤٨].
ويذهب الشيخ المظفر إلى أنّ الظن بالخلاف إن كان منشؤه ممّا يعتمد ويصحّ لدى العقلاء فيكون قرينة على المراد من الكلام، وينبغي الأخذ به، وإن كان ممّا لا يعتمد من قبل العقلاء فلا يؤخذ به ولا قيمة له، ومن المحتمل أنّ مراد صاحب هذا الرأي هو ما إذا كان منشأ الظنّ ممّا يعتمده العقلاء وإن كان مراده المنشأ الآخر غير المعتمد لدى العقلاء فلا قيمة له لعدم اعتمادهم هذا، وبناؤهم على غيره[٤٩].
4 ـ الظهور في عصر السماع أو عصر الصدور
لاشكّ في أنّ الظواهر الفكرية والاجتماعية واللغوية تتغيّر بمرور الزمان، وفيما يخصّ اللغة فإنّ مراد ومعنى الكلام الذي أطلق عهد صدور النصوص الدينية قد يكون مختلفا عن المعنى الظاهر من الكلام في عصر سماع تلك النصوص[٥٠].
من هنا تبلورت مسألة أنّ حجّية الظهور تختصّ بظهور النصّ عصر الصدور أم عصر السماع؟
المعروف عن الاُصوليين قولهم بكون الحجة والمعتبر هو الظهور عصر النصّ؛ لكون حجّية الظهور أصلاً عقلائيا وسيرة عقلائية ارتكازية تكشف كشفا نوعيا عن مراد المتكلّم لا الكلام، ولأجل ذلك يتمسّك العلماء بأصالة عدم التغيير في اللغة (أي عدم نقل الكلمة أو السياق من معنى إلى آخر) فإنّ ظاهر حال المتكلّم هو إرادة المعنى الظاهر فعلاً وعهد التكلّم لا الذي قد يظهر في المستقبل[٥١].
وفيما يخصّ حجّية الظهور علينا أن نثبت أنّ الظهور الموضوعي في عصر السماع مطابق للظهور الموضوعي في عصر صدور الكلام. ويثبت هذا من خلال أصل عقلائي آخر يُدعى أصل عدم النقل أو الثبات في اللغة، وهو أصل عقلائي يعمل به أهل اللغة و العرف، وقد أقرّه وأمضاه الشارع فجعله حجّة ما لم يقم دليل على خلافه[٥٢].
5 ـ اختصاص أو عدم اختصاص حجّية الظهور بالمشافهين
هناك نقاش في أنّ حجّية الظهور مختصّة بمن قصد إفهامه من المشافهين والحاضرين في مجلس الخطاب والكلام أو أنّها لا تختصّ بهم؟ ومنشأ النقاش هو احتمال وجود قرائن لم يلتفت إليها كانت متّصلة أو مقترنة بالكلام لم تعكسها النصوص الدينية لوضوحها عند المخاطبين أو لغفلة الناقل أو لأسباب اُخرى. وقد أدرج هذا الموضوع تحت مدخل خطاب[٥٣].
6 ـ تعارض النصّ مع الظاهر
من الواضح في حالة تعارض النصّ مع الظاهر هو ترجيح النصّ على الظاهر. أمّا تبرير هذا الترجيح فيقال فيه بأنّ مرجع هذا التعارض هو التعارض بين أصالة الحقيقة في الظاهر ودليل حجّية النصّ، أي لدينا دليل وأصل هنا، ومن المعلوم ارتفاع موضوع الأصل]] مع وجود دليل، فإنّ النصّ يوجب القطع، ومعه لا موضوع للظنّ الذي يحصل من الظاهر. هذا الحکم المجمل والكلّي لهذه الحالة من التعارض، لكن هناك تفاصيل فيما يخصّ وجود أكثر من صورة له:
منها: كون كلّيهما قطعيي الصدور والاختلاف في الدلالة فقط، فمن الواضح هنا تقديم النصّ؛ لكونه يوجب العلم، والآخر يوجب الظنّ، ومع العلم ينتفي موضوع حجّية الظنّ.
ومنها: أن يكون النصّ ظنّي الصدور، والظاهر قطعيّه، من قبيل تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وفيه اختلافات كثيرة[٥٤].
7 ـ تعارض الظاهرين
إذا تعارض ظاهران من النصوص فإنّ هذه الحالة تدخل في مجمل المنهج المستخدم لعلاج التعارض من ملاحظة المرجحات المنصوصة أو غير المنصوصة. وفيما يخصّ موضع البحث. فإذا تساوى النصّان الظاهران المتعارضان من جميع الجوانب عندئذٍ يسعى الفقيه لبلورة وجه للجمع بينهما بناءً على كون الجمع أولى من الطرح، فيقدّم الأظهر على الظاهر. وإذا لم يكن أحدهما أظهر فيختلف الأصوليون بين قائل بالتساقط وقائل بالرجوع إلى أصل التخيير[٥٥].
وحكي عن إمام الحرمين أقوال في مجال تعارض ظاهرين من الكتاب والسنّة، منها: تقديم الكتاب لخبر معاذ، ومنها: تقديم السنة؛ لأنّها مفسّرة، ومنها: التعارض المستقرّ والممانعة بينهما، فيلزم حينئذٍ التخيير أو التوقّف[٥٦].
وقد ذكرت لهذا الصنف من التعارض صور وتقسيمات وتفريعات عديدة[٥٧]، منها الصور التالية:
الاُولى: تعارض المجاز والتخصيص، من قبيل: «...وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا...»[٥٨]. فباعتبار شمول الآية للانتهاء عن المكروهات إمّا أن نقول باختصاص الأمر بالمحرمات أو نحمل صيغة الأمر على الاستحباب أو الجامع بين الاستحباب و الوجوب مجازا.
وهنا ينظر إلى أظهر الظهورين بناء على ما لدى الفقيه من قرائن حاضرة. ويبدو أنّ الأكثر رجّح التخصيص على المجاز.
الثانية: تعارض المجاز والتقييد، كما في: «وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ...»[٥٩]. فباعتبار عدم وجوب المسارعة إلى المستحبّات إمّا أن تقيّد المغفرة بالواجب أو تحمل الصيغة على الاستحباب مجازا.
يرجّح التقييد على المجاز في هذه الحالة، بناءً على كونه أظهر.
الثالثة: تعارض المجاز والاضمار، كما في: «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ...»[٦٠]. فيحتمل إرادة الأهل من القرية مجازا بعلاقة المجاورة، أو إضمار الأهل ليصحّ تعلّق السؤال به.
يرى البعض هنا انتفاء الأظهرية وتساويهما في الحاجة إلى القرينة فإمّا التوقّف والأخذ بالأصول العملية أو البحث عن قرائن توجب ترجيح أحدهما.
الرابعة: تعارض المجاز والنسخ، في قوله تعالى: «...فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ...»[٦١] فالظاهر البدء في غسل اليدين من الأصابع والانتهاء بالمرافق مع ما دلّ من إجماع أو رواية قطعية الصدور على لزوم البدء بالمرافق والانتهاء بالأصابع، فالآية تحتمل نسخ حكمها بواسطة الإجماع أو الروايات القطعية الصدور، وتحتمل التجوّز في إرادة البدء من الانتهاء.
ويرجّح هنا المجاز على النسخ عملاً بقاعدة الإلحاق بالأعم الأغلب، فالمجازات في خطابات الشارع كثيرة وشائعة[٦٢].
الخامسة: تعارض التخصيص والتقييد والذي يعود إلى تعارض العموم والإطلاق، كما في قوله: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفاسق» فيتعارضان في مادّة الاجتماع، وهي العالم الفاسق، فإمّا أن يخصص العام أو يقيّد المطلق.
ويرجّح الأصوليون هنا التقييد بناء على قاعدة الإلحاق بالأعم الأغلب، فإنّ التقييد ممّا راج في الشريعة كثيرا، وأكثر وقوعا من التخصيص.
السادسة: تعارض التخصيص والإضمار، كما في قوله(ص): «لا صيام لمن لم يجمع أو لم يثبت الصيام من الليل»[٦٣]. فهذا خاصّ بالصيام الواجب أمّا المستحب فينعقد حتّى بالنيّة المتأخّرة إلى الزوال أو حتّى بعده، فهنا إمّا أن نقول بتخصيص العام بما عدا النفل أو إضمار ما يعود إلى النفل.
يرجّح الأصوليون التخصيص هنا لقاعدة الإلحاق بالأعم الأغلب.
السابعة: تعارض التخصيص والنسخ، ويعود هذا التعارض إلى التعارض بين العام والخاص المتنافيي الظاهر، وفيه تفاصيل عدّة.
الثامنة: تعارض التقييد والإضمار، من قبيل قوله(ص): «الصلاة خير موضوع من شاء استقلّ ومن شاء استكثر»[٦٤]. وباعتبار عدم جواز تقليل أو إكثار جزء من الصلاة، فإمّا أن تقيّد الصلاة بالنفل أو تضمر النافلة عقيب قوله: «استقلّ».
ويرجّح هنا التقييد لقاعدة الإلحاق بالأعمّ الأغلب.
التاسعة: تعارض التقييد و النسخ، وشأنه كما تقدّم في تعارض التخصيص والنسخ.
العاشرة: تعارض الإضمار والنسخ، ومثله قوله تعالى : «... فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ...»[٦٥]. ومع ملاحظة وجوب تطهير ما باشره الكلب وملاحظة إطلاق الآية فيما يخصّ موضع العضّ إمّا أن يضمر ما يفيد خروجه عن الإطلاق أو يلتزم بنسخ مقتضى الإطلاق بالنسبة إلى هذا الموضع[٦٦].
8 ـ التعارض بين الظاهر والأظهر
قد تكون في هذا الصنف من التعارض أكثر من صورة[٦٧] والمعروف هنا تقديم الأظهر على الظاهر؛ لكونه أقوى دلالة من الظاهر[٦٨]. ولذلك قد يعبّر هنا بالأقوائية[٦٩]. ويبدو هذا واضحا ولا يوجد من أشكل عليه. ولذلك ربّما استدلّ البعض بالإجماع على التقديم[٧٠]. ويعدّ هذا التقديم من موارد الجمع العرفي[٧١]، كما أنّ التقديم لا يعدّ خروجا عن أصالة الظهور وحجّيتها، فإنّ التقديم إعمال لها كذلك. ويُذكر أنّ بناء العرف على عدم حجّية الظاهر في ظرف ورود الأظهر بسبب ارتفاع موضوعها به، فيكون دليل صدور الأظهر محرزا لارتفاع موضوع حجّية الظهور في ظاهره[٧٢].
إنّ دليل حجّية الأظهر يجعله قرينة صارفة عن إرادة الظاهر، فيتعيّن العمل به وتأويل الظاهر وفقه[٧٣].
وقد فصّل الشهيد الصدر في الموضوع، من حيث قد تكون الدلالتان المتنافيتان في كلام واحد، وقد تكونان في كلامين منفصلين، وبرغم تقديم الأظهر في كلا الموردين إلاّ أنّ فذلكة كلّ منهما تختلف عن الآخر بعض الشيء، فالتقديم يتمّ بالنحو التالي: إذا كانت الدلالتان في كلام واحد فالتقديم بسبب تهديم الأظهر لدلالة الظاهر بأحد الوجوه التالية:
الأول: افتراض وقوع تزاحم بين المقتضيين للظهور التصوّري، فيتغلّب المقتضي الأقوى في الذهن والذي يتمثّل في الأظهر.
الثاني: ألاّ يقع تزاحم بين مقتضيي الظهورين التصوّريين ولا يصعب على الذهن تصوّرهما معا، لكن لا يمكن التصديق بإرادتهما معا، فيحصل التزاحم في مرحلة الظهور التصديقي، فيقال: عندئذٍ: إنّ الظهور التصديقي ينعقد على طبق ما يكون ظهوره التصوّري أقوى وآكد.
الثالث: من باب فرض كون الأظهرية قرينة نوعية معدّة لإخراج الظاهر عن الدلالة المطلوبة.
أمّا إذا كان الظاهر والأظهر منفصلين فبرغم اتّحاد الحکم، وهو تقديم الأظهر، إلاّ أنّ فذلكة تقديمه تختلف؛ باعتبار أنّ المحاولات الثلاث المتقدّمة موقوفة على انعقاد الدلالة التصوّرية أو التصديقية على خلاف الظاهر، وهي لا تنعقد بالمنفصلات. وعليه فنحتاج لأجل إثبات هذا الحکم إلى تعميم إحدى المحاولات الثلاث التي تذكر في التخصيص بالمنفصل (في بحث التخصّص) لتشمل حالة الظاهر والأظهر.
أي أنّ الشهيد الصدر يعمّم المحاولات المذكورة في فذلكة تخصيص العام لتشمل موضوع الظاهر والأظهر، فيتمسّك بتخريجات تلك الحالة ليعمها إلى موضوع البحث هنا[٧٤].
وفي مجال التعارض الذي يمكن أن يحصل هنا بين أصالة الظهور وأصالة الصدور يقال بتقديم أصالة الظهور. ووجه التقديم هو كون أصالة الظهور تكون واردة على أصالة الصدور ورودا ظاهريا، فبناء العرف هو عدم حجّية الظاهر في حالة وجود أظهر معارض وارتفاع موضوع أصالة الظهور في هذه الحالة، وبذلك يكون دليل صدور الأظهر محرزا لارتفاع حجّية الظهور في الظاهر.
بل قد يدّعى أنّ الورود هنا واقعيا وليس ظاهريا؛ لأنّ الشرط في حجّية أصالة الظهور هو عدم وصول الأظهر، الذي يرتفع واقعا بدليل الصدور، لا عدم وجوده واقعا، الذي يحرز ظاهرا بالدليل المذكور؛ وذلك لحجّية الظهور مع عدم وصول الأظهر وإن كان موجودا واقعا[٧٥].
9 ـ إنكار حجّية الظهور في القرآن
نسب إلى الأخباريين أو بعضهم رفض حجّية الظواهر القرآنية[٧٦]، ويؤيّد هذه النسبة جزئيا ما ورد عن أحد كبار علمائهم، وهو محمد أمين الإسترآبادي، حيث قال في بيان مذهب قدماء الأخباريين: «الصواب عندي مذهب قدمائنا الأخباريين وطريقتهم، أمّا مذهبهم فهو: أنّ كلّ ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عليه دلالة قطعية من قبله تعالى حتّى أرش الخدش، وأنّ كثيرا ممّا جاء به النبي(ص) من الأحكام، وممّا يتعلّق بكتاب اللّه وسنة نبيّه(ص) من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل مخزون عند العترة الطاهرة(ع) وأنّ القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية. وكذلك كثير من السنن النبوية، وأنّه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام الشرعية النظرية أصلية كانت أو فرعية إلاّ السماع من الصادقين(ع) وأنّه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب اللّه ولا من ظواهر السنن النبوية ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر(ع)»[٧٧].
والملاحظ في عبارات الاسترابادي أنّ هذا الرأي خاص بـ الأحكام الشرعية، وقد لا يشمل جميع الآيات الواردة في القرآن، ممّا قد يشكّك في ما نسب إليهم بنحو مطلق، مضافا إلى أنّهم لم ينكروا أصل ظهور القرآن، بل ينكرون حجّيته.
ومن الملاحظ كذلك في هذه العبارات أنّ الإسترابادي لم يذكر دليلاً على مقولته، لكنّه أشار استطرادا إلى أنّ القرآن ورد على وجه التعمية، لكنّه أورد في محلّ آخر من كتابه مجمل أدلّته على هذه المقولة، حيث قال: «وأمّا استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب اللّه من غير سؤال أهل الذكر(ع) عن حالها من كونها منسوخة أم لا، مقيّدة أم لا، مأوّلة أم لا، فقد جوّزه من متأخّري أصحابنا وعملوا به في كتبهم الفقهية مثل التمسّك بعموم قوله تعالى: «... أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ...»[٧٨] في إثبات صحّة العقود المختلف فيها. وهو أيضا غير جائز، وذلك لوجوه:
من جملتها: عدم ظهور دلالة قطعية على ذلك.
ومن جملتها: ترتّب المفاسد على فتح هذا الباب، ألاترى أنّ علماء العامّة قالوا في قوله تعالى: «... أَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ...»[٧٩] أنّ المراد السلاطين.
ومن جملتها: أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار(ع) بعدم جوازه معلّلاً بأنّه إنّما يعرف القرآن من خوطب به، وبأنّ القرآن نزل على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعيّة، وبأنّه إنّما نزل على قدر عقول أهل الذكر(ع)، وبأنّ العلم بناسخه ومنسوخه والباقي على ظاهره وغير الباقي على ظاهره ليس إلاّ عندنا أهل البيت(ع)، وقد تقدّم طرف من تلك الأخبار فيه الكفاية إن شاء اللّه تعالى.
ومن جملتها: إنّ ظنّ بقائها على ظاهرها إنّما يحصل للعامّة دون الخاصّة، وقد مرّ بيان ذلك في الفصل الخامس.
وبالجملة، عند المحقّقين من الأصوليين التفحّص عن الناسخ والمنسوخ و التخصيص و التأويل واجب، وطريق التفحّص عندنا منحصر في سؤالهم(ع) عن حالها[٨٠].
لم نأثر الكثير عن هذا الموضوع كان قد صدر عن الأخباريين ولذلك شهدنا بعض الأصوليين اهتمامهم بذكر أدلّة رأي الأخباريين هذا، إمّا استنباطا من مجمل مقولاتهم أو سماعهم لها شفويا أو حدسا، ووردت الأدلّة بالنحو التالي:
1 ـ كون القرآن محرفا فلا يمكن الوثوق بظاهره[٨١].
2 ـ المنع عن الأخذ بالظاهر تعبّدا بالروايات ذات الصلة لكيلا يطرأ على القرآن الاختلاف.
3 ـ كون العرف والسيرة وعموم الناس عاجزين عن فهم ظاهر القرآن وقاصرين عن ذلك؛ لأنّه كتاب لا يفهمه إلاّ أهله، بناءً على حديث الصادق(ع): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه، ولكن لا يبلغه عقول الرجال»[٨٢]. وقول المعصوم رداً على قتادة: «ويحك، إنّما يَعرِف القرآنَ من خوطب به»[٨٣].
4 ـ كون ما يتراءى منه ظاهرا هو ليس ظاهرا في الحقيقة إمّا لأنّ فيه اصطلاحات خاصّة ومفردات موضوعة لمعان شرعية خاصّة، وإمّا لكونه يتضمّن مجازات لا يعرفها العرب؛ لوجود حالة التقييد و النسخ وغير ذلك، وعدم تميّز هذه الاُمور لدى الناس، وقد وردت بعض الأخبار تدلّ على هذا المضمون[٨٤].
5 ـ العلم الإجمالي بطروّ بعض الاُمور من قبيل التقييد والنسخ ممّا يؤدّي إلى إجمال النص القرآني وعدم ظهوره.
ومن جانب آخر، فإنّ الرويات التي يبدو منها تأييد رأي الأخباريين قد عدّت بمئتين وخمسين رواية ممّا دعا البعض لاعتبارها متواترة[٨٥].
لكن الأصوليين رفضوا استدلالات الأخباريين، فهم لا يعتقدون بفكرة تحريف القرآن، ورفضوها بالكلّية.
وبالنسبة إلى التعبد بالأخبار فقد يقال: بأنّ العكس هو الصحيح، مع أنّ الظواهر لا تستلزم الاختلاف عمليا، وإذا سلّم الاستلزام، فإنّه يختصّ بما إذا استغني عن أخبار المعصومين لا فيما إذا استعين بها. وهي في الحقيقة ناهية عن التفسير بالرأي و الاستحسانات الظنّية.
وفيما يخصّ قصور عقول الناس عن بلوغ معاني القرآن، فإنّه لا يمنع عن بلوغ هذه العقول لما هو ظاهر ومفهوم، والقصور خاصّ بموارد الإشارات وأصول المعارف الخاصّة بذاته وصفاته.
وفيما يخصّ الدليلان الأخيران فإنّهما يصلحان أدلّة للمنع بالأخذ ببعض الظواهر قبل تميّزها أمّا بعد تميّز وتحديد القيود و النواسخ و التخصيصات فينحل العلم الإجمالي ويتحوّل إلى علم تفصيلي.
هذا مضافا إلى ما دلّ من نصوص كثيرة تدعو لقراءة القرآن والتفكّر فيه، فلو أنّه كان غير مفهوم لكانت هذه الدعوى لغوا. وقد يزيد البعض ردودا أكثر من هذه الردود المتقدّمة[٨٦].
10 ـ أصالة الظهور ورجوع أو عدم رجوع الأصالات اللفظية إليها
بناءً على ما تقدّم في تعريف الظهور أسس الأصوليون قاعدة تدعى أصالة الظهور، وهي من بين الأصالات اللفظية التي يرجع إليها عندما يكون للفظ أكثر من معنى واحد ويحتمل عدم الجدية أو قرينة متّصلة أو منفصلة تخالف المعنى الظاهر من الكلام. وتنفى هذه الاحتمالات من خلال الأصالة المزبورة، بناءً على ما درج عليه العقلاء و أهل العرف[٨٧].
وقد اختلف الأصوليون في هذه الأصالة من حيث رجوع أو عدم رجوع باقي الأصالات اللفظية، مثل: أصالة البيان، والعموم، و الإطلاق، والحقيقة إليها.
المعروف عن الاُصوليين إرجاعهم للأصالات اللفظية إلى أصالة الظهور؛ لأنّ كلّ واحد منها يشكّل جانبا من تلك الأصالة، فإنّ تلك الأصالات ليست تعبّدية، بل تحكي ظاهرا في اللفظ وتشترك جميعها في كونها حاكية عن ظاهر، فاللفظ العام يحكي بظهوره عن العموم، واللفظ دون قرينة صارفة يحكي عن إرادة معناه الحقيقي، وهكذا باقي الأصالات، ولا يبدو وجود من شكّ في هذا الأمر[٨٨].
نعم، أشكل البعض في رجوع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور، فقد ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ الأصول اللفظية الوجودية، مثل: أصالة الحقيقة، والعموم، والإطلاق، ترجع إلى أصالة عدم القرينة، فأصالة الحقيقة ترجع إلى أصالة عدم القرينة على المجاز، وأصالة العموم تعود إلى أصالة عدم المخصص وهكذا[٨٩].
بينما ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ أصالة عدم القرينة ترجع إلى أصالة الظهور، وليس للعقلاء إلاّ بناء واحد، وهو أصالة الظهور لا بناءان (عدم القرينة والظهور) وأصالة عدم القرينة هي نفسها أصالة الظهور[٩٠].
وذهب الشيخ المظفر إلى أنّه لا وجود لأصالة عدم القرينة أصلاً لكي يقال برجوعها إلى أصالة الظهور أو رجوع أصالة الظهور إليها[٩١].
وجميع المختلفين يتمسّكون ببناء العقلاء، ويستشهدون بالوجدان العقلائي، فالشيخ الأنصاري يرى أنّ بناء العقلاء قائم على عدم وجود قرينة في الكلام، وباقي البناءات والأصالات رغم كونها قائمة لدى العقلاء لكنّها في حقيقتها ترجع إلى هذا الأصل، بينما يذهب الشيخ الخراساني إلى أنّ البناءين (عدم القرينة والظهور) هما بناء واحد، وهو الظهور. ويذهب الشيخ المظفر إلى أنّ القائم لدى العقلاء هو بناء واحد، وهو الظهور ولا بناء آخر لكي يطرح موضوع أيّهما يعود إلى الآخر. وهذا البناء يقضي بإلغاء كلّ احتمال ينافي الظهور، مثل: احتمال الغفلة، أو الخطأ، أو تعمّد الإيهام، أو نصب قرينة على الخلاف، ومعنى الإلغاء هو حجّية الظهور[٩٢].
ويبدو لـ الشهيد الصدر عدم إرائة الشيخ الأنصاري دليلاً واضحا على رأيه، لكن سعى المحقّق العراقي للبرهنة على رأيه من خلال ربط القضية بقضية قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقال باستكشاف وجود قرينة في كلّ محلّ ثبت فيه عدم إرادة الظاهر لكيلا يلزم القبح المذكور. واحتمال إرادة خلاف الظاهر يكون دائما مساوقا لاحتمال القرينة. وإذا نفينا الاحتمال الأخير بأصالة عدم القرينة ثبتت إرادة الظهور.
لكنّ الشهيد الصدر يرفض هذا الاستدلال، باعتبار أنّ تطبيق قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة فرع بيانية الظهور في الدليل الأوّل، وهي فرع حجّيته، أي إثبات إرادة الظهور بأصالة عدم القرينة فرع حجّية الظهور في المرتبة السابقة حتّى بناءً على مسلك قبح تأخير البيان[٩٣].
والسيّد الروحاني يدعم في موضع من كتابه رأي الشيخ الأنصاري بأنّ مجرى أصالة عدم القرينة غير مجرى أصالة الظهور، فمجرى أصالة عدم القرينة هو تشخيص المراد الاستعمالي، ومجرى أصالة الظهور هو تشخيص مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الواقعي، فلا يغني أحدهما عن الآخر[٩٤]، ثُمّ يذهب في موضع آخر من كتابه إلى أنّ الأمر لا يعود إلى بحث علمي، بل إلى أمر ذوقي وجداني[٩٥].
الهوامش
- ↑ . ترتيب جمهرة اللغة 2: 481 مادّة «ظهر».
- ↑ . لسان العرب 3: 2467 مادّة «ظهر».
- ↑ . القاموس المحيط: 404 مادّة «ظهر».
- ↑ . دروس في علم الاُصول 2: 197.
- ↑ . اُصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 151.
- ↑ . اُصول البحث الفضلي: 75.
- ↑ . منتهى الوصول ابن حاجب: 136، معالم الدين: 152، كفاية الاُصول: 252.
- ↑ . محاضرات في اُصول الفقه 5: 386.
- ↑ . المستصفى 1: 285.
- ↑ . اللمع: 116.
- ↑ . البرهان في اُصول الفقه 1: 39، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 24.
- ↑ . الذريعة المرتضى 1: 329.
- ↑ . الواضح في اُصول الفقه 1: 104.
- ↑ . المصدر السابق 1: 102.
- ↑ . التبيين 1: 641.
- ↑ . اُنظر: الذريعة المرتضى 1: 8 ـ 15، العدة في اُصول الفقه (الطوسي) 1: 8 ـ 11، اللمع: 37، المحصول (الرازي) 1: 409 ـ 417، الإحكام (الآمدي) 1 ـ 2: 85، معارج الاُصول: 49.
- ↑ . اُنظر: الذريعة المرتضى 1: 328، رسائل المرتضى 2: 287، العدة (الطوسي) 1: 407، الإحكام (ابن حزم) 1 ـ 4: 39، اُصول السرخسي 1: 139 و153 و2: 141.
- ↑ . اُنظر: تعليقة على معالم الاُصول القزويني 5: 411، أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 92، غاية المسؤول في علم الاُصول 1: 212 و394، فوائد الاُصول 1 ـ 2: 493، دروس في علم الاُصول 2: 215.
- ↑ . اُنظر: تقريرات المجدد الشيرازي 2: 299، دروس في علم الاُصول 2: 215، بحوث في علم الاُصول الهاشمي 3: 411، شرح العروة الوثقى (الصدر) 2: 129.
- ↑ . اُنظر: ما وراء الفقه 6: 79، فوائد الاُصول 1 ـ 2: 480 ـ 481، منتهى الاُصول البجنوردي 1: 423، بحوث في علم الاُصول (الهاشمي) 2: 373، مباحث الاُصول (الحائري) 2: 187، منتقى الاُصول 3: 433 و461.
- ↑ . اُنظر: نهاية النهاية 1: 301 ـ 304، فوائد الاُصول 1 ـ 2: 215، بحوث في علم الاُصول الهاشمي 2: 70، المحكم في اُصول الفقه 2: 45 ـ 53.
- ↑ . اُنظر: دروس في علم الاُصول 2: 215، تحقيق الاُصول 4: 214، حقائق الاُصول 1: 494.
- ↑ . اُنظر: منتهى الدراية 3: 592، تسديد الاُصول 1: 474 ـ 475، كفاية الاُصول دروس في مسائل علم الاُصول التبريزي 1: 321، منتقى الاُصول 3: 450، أجود التقريرات 2: 444.
- ↑ . أجود التقريرات 4: 284، اُصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 150.
- ↑ . تنقيح الاُصول: 31، مقالات الاُصول 2: 61، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 524، بحوث في علم الاُصول الهاشمي 7: 174 ـ 175.
- ↑ . اُصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 152، منهاج الفقاهة 6: 245، مصباح الفقاهة 2: 101.
- ↑ . تقريرات المجدد الشيرازي 1: 84 ـ 85، نهاية النهاية 1: 304، مقالات الاُصول 1: 471 ـ 472، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 547 ـ 548.
- ↑ . كفاية الاُصول مع حواشي المشكيني 2: 419.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 136، درر الفوائد في الحاشية على الفرائد 1: 467، واُنظر: عناية الاُصول 3: 137.
- ↑ . أجود التقريرات 4: 284، اُصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 150، دروس في علم الاُصول 2: 213 ـ 214، مباحث الاُصول 2: 164 ـ 165، مجمع الأفكار ومطرح الأنظار 4: 384.
- ↑ . فقه الصادق الروحاني 18: 16، منهاج الفقاهة 6: 245.
- ↑ . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 543 ـ 544، عناية الاُصول 3: 136، كفاية الاُصول مع حواشي المشكيني 1: 141.
- ↑ . كفاية الاُصول مع حواشي المشكيني 2: 31، المباحث الاُصولية (الفياض) 4: 397، بداية الوصول في شرح كفاية الاُصول 4: 39.
- ↑ . منتقى الاُصول 4: 227.
- ↑ . بحوث في الفقه المعاصر 4: 75.
- ↑ . دروس في علم الاُصول 2: 205.
- ↑ . دروس في علم الاُصول 2: 205 ـ 206، بحوث في الفقه المعاصر 4 : 75.
- ↑ . تعليقة على معالم الاُصول القزويني 5: 157، وسيلة الوصول إلى حقائق الاُصول: 475، اُصول الفقه (المظفر) 3 ـ 4: 152، نهاية الاُصول 1 ـ 2: 293، المحكم في اُصول الفقه 3: 163، 164.
- ↑ . بدائع الأفكار الرشتي: 94، أجود التقريرات 3: 156.
- ↑ . الظنّ: 233 ـ 250.
- ↑ . فوائد الاُصول 3: 145 ـ 146، 4: 717 ـ 719.
- ↑ . نهاية الدراية في شرح الكفاية 2: 172 ـ 173.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 267، مباحث الاُصول (الحائري) 2: 165 ـ 167.
- ↑ . نسبه الشيخ الأنصاري إلى بعض المعاصرين دون تحديده، حيث قال: وربّما يجري على لسان بعض متأخّري المتأخّرين من المعاصرين. فرائد الاُصول 1: 170.
- ↑ . تعليقة على معالم الاُصول القزويني 5: 157 ـ 158، درر الفوائد (الخراساني) 85 ـ 86، اُصول الفقه (المظفر) 3 ـ 4: 154.
- ↑ . نهاية البداية 2: 163 ـ 164.
- ↑ . نهاية الاُصول 1 ـ 2: 472.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 591، حيث قال: ولعلّه الوجه فيما حكاه لي بعض المعاصرين عن شيخه أنّه ذكر له مشافهة أنّه يتوقّف في الظواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف حتّى القياس وأشباهه.
- ↑ . اُصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 156.
- ↑ . دروس في علم الاُصول 2: 206.
- ↑ . بحوث في الفقه المعاصر 4: 27.
- ↑ . دروس في علم الاُصول 2: 207.
- ↑ . اُنظر: مباحث الاُصول الحائري 2: 179 ـ 185، زبدة الاُصول (الروحاني) 2: 345 ـ 350، منتقى الاُصول 3: 371 ـ 374 و4: 212 ـ 216، تنقيح الاُصول (الطباطبائي): 31.
- ↑ . فرائد الاُصول 4: 86، بدائع الأفكار الرشتي: 410 ـ 411.
- ↑ . تعليقة على معالم الاُصول القزويني 7: 582 ـ 583، مقالات الاُصول 1: 515.
- ↑ . إرشاد الفحول 2: 364.
- ↑ . بدائع الأفكار الرشتي: 414.
- ↑ . الحشر: 7.
- ↑ . آل عمران: 133.
- ↑ . يوسف: 82.
- ↑ . المائدة: 6.
- ↑ . وفي هذه الآية تبريرات ووجوه اُخرى تناولها المفسّرون، والوجوه غير مقتصرة على ما ورد هنا، كمثال اُنظر: الميزان في تفسير القرآن 5: 218 ـ 223.
- ↑ . سنن الدارقطني 1 ـ 2: 173.
- ↑ . بحار الأنوار المجلسي 79: 308 ـ 309.
- ↑ . المائدة: 4.
- ↑ . تعليقة على معالم الاُصول القزويني 2: 204 ـ 220، واُنظر: تقريرات المجدد الشيرازي 1: 175 ـ 226، بدائع الأفكار (الرشتي): 93 ـ 105.
- ↑ . اُنظر: بدائع الأفكار: 413.
- ↑ . أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 612، بحر الفوائد 4: 51، أحكام الصلاة السبحاني: 31.
- ↑ . تعليقة على معالم الاُصول القزويني 5: 421.
- ↑ . بدائع الأفكار الرشتي: 410.
- ↑ . عناية الاُصول في شرح كفاية الاُصول 6: 10 ـ 11.
- ↑ . المحكم في اُصول الفقه 6: 88.
- ↑ . فرائد الاُصول 4: 86، وسيلة الوصول إلى حقائق الاُصول: 821.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 7: 197 ـ 200.
- ↑ . المحكم في اُصول الفقه 6: 87 ـ 88.
- ↑ . الدرر النجفية 2: 22 و27، فرائد الاُصول 1: 139.
- ↑ . الفوائد المدنية: 104 ـ 105.
- ↑ . المائدة: 1.
- ↑ . النساء: 59.
- ↑ . الفوائد المدنية والشواهد المكية: 270 ـ 271.
- ↑ . على أنّ شكوكا تكتنف نسبة التحريف إليهم، وقد لا نجد من صرّح بذلك من الأخباريين إلاّ النزر القليل، الذي قد لا يعبّر عن رأي مجمل هذه الطائفة.
- ↑ . المحاسن البرقي: 268.
- ↑ . الكافي 8: 312.
- ↑ . اُنظر: وسائل الشيعة 27: 176 ـ 177.
- ↑ . اُنظر: درر الفوائد الخراساني 1: 87 ـ 88، نهاية النهاية 2: 54 ـ 59، أجود التقريرات 3: 156.
- ↑ . اُنظر: فرائد الاُصول 1: 139 ـ 158، درر الفوائد الخراساني 1: 88 ـ 92، نهاية النهاية 2: 54 ـ 59، أجود التقريرات 2: 90 ـ 93، فوائد الاُصول 3: 136 ـ 137، نهاية الاُصول 1 ـ 2: 476 ـ 485، مصباح الاُصول 2: 122 ـ 125.
- ↑ . درر الفوائد الخراساني 1: 87، اُصول الفقه (المظفر) 1 ـ 2: 75 ـ 76.
- ↑ . الرسائل الإمام الخميني 1: 238، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 522 ـ 523.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 135.
- ↑ . نسب هذا إلى حواشي المحقّق الخراساني على فرائد الاُصول، اُنظر: اُصول الفقه المظفر 3: 157، مباحث الاُصول (الحائري) 2: 175.
- ↑ . اُصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 157 ـ 159.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 270 ـ 272، مباحث الاُصول (الحائري) 2: 174 ـ 179، المحكم في اُصول الفقه 3: 165 ـ 166، الظنّ 268 ـ 274.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 272.
- ↑ . منتقى الاُصول 4: 211 ـ 212.
- ↑ . منتقى الاُصول 4: 212.