المؤتمر الدولي بمناسبة الذكرى المئوية لإعادة تأسيس الحوزة العلمية في قم
المؤتمر الدولی للذکری المئویة لإعادة تأسیس الحوزة العلمیة فی قم، برسالة من الإمام خامنئي وبحضور علماء وفضلاء الحوزة وشخصیات بارزة محلیة ودولیة، أقیم یوم الأربعاء 17 أردیبهشت الموافق 9 ذي القعدة 1446 هـ. في قم. مقام القیادة الرئیسی فی هذه الرسالة التاریخیة، بعد تناول أبعاد الحوزة العلمیة ودورها المؤثر، یوضح المحاور التالیة: أولاً: مرکز علمی ذو تخصصات محددة؛ ثانیاً: مرکز لتربیة الکوادر المهذبة والفعّالة لهدایة المجتمع دینیاً وأخلاقیاً؛ ثالثاً: خط المواجهة الأول فی مواجهة تهدیدات الأعداء فی مختلف المجالات؛ رابعاً: مرکز لإنتاج وتوضیح الفکر الإسلامي فیما یتعلق بالنظم الاجتماعیة؛ من النظام السیاسي وشکله ومحتواه، إلی نظم إدارة الدولة، وحتی نظام الأسرة والعلاقات الشخصیة، بناءً على الفقه والفلسفة والنظام القیمي الإسلامي؛ خامساً: مرکز وربما قمة الابتکارات الحضاریة واستشراف المستقبل فی إطار الرسالة الإسلامیة العالمیة.
رسالة الإمام خامنئي
بسم الله الرحمن الرحیم والحمد لله رب العالمین وأفضل الصلاة والسلام على سیدنا محمد المصطفى وآله الطاهرین سیما بقیة الله في العالمین.
ظاهرة فریدة من نوعها
ظهور الحوزة المباركة فی قم فی مطلع القرن الرابع عشر الهجري الشمسی کان ظاهرة فریدة من نوعها حدثت وسط أحداث کبیرة وعاصفة؛ أحداثٌ أظلمت أجواء منطقة غرب آسیا وجعلت حیاة شعوبها عرضة للفوضى والدمار. مصدر وسبب هذه المعاناة الواسعة والممتدة کان تدخلات الدول الاستعماریة والقوى المنتصرة فی الحرب العالمیة الأولى، التی استهدفت السیطرة على هذه الجغرافیا الحساسة الغنیة بالموارد الباطنیة، فاستخدموا جمیع الأدوات؛ بالقوة العسکریة، وبالمخططات السیاسیة، وبالرشوة واستخدام الخونة المحلیین، وبالأدوات الإعلامیة والثقافیة، وبأی وسائل أخرى ممکنة، حتى حققوا أهدافهم.
فی العراق، أقاموا حکوماً بریطانیاً ثم نظاماً ملکیاً عمیلاً. فی منطقة الشام، فرضت بريطانيا من جهة وفرنسا من جهة أخرى سیطرتهما الاستعماریة عبر إنشاء أنظمة طائفیة فی جزء وحکومات عائلات عمیلة لبريطانیا فی جزء آخر، مع فرض القمع والضغط على الشعوب وخاصة المسلمین وعلماء الدین فی جمیع أنحاء المنطقة. فی إيران، رفعوا ضابطاً قاسیاً طماعاً بلا شخصیة إلی منصب رئیس الوزراء ثم الملک. فی فلسطين، بدؤوا بتهجیر العناصر الصهیونیة وتسلیحها تدریجیاً، ممهدین بخطوات هادئة لإنشاء ورم سرطانی فی قلب العالم الإسلامي.
أیّما مقاومة ظهرت ضد مخططاتهم التدریجیة - سواء فی العراق أو الشام أو فلسطین أو إیران - قاموا بقمعها، وفی بعض المدن مثل النجف، وصل الأمر إلی اعتقال جماعي للعلماء وحتی إلی نفی مهین لمراجع کبار مثل المیرزای النائینی والسید أبوالحسن الأصفهاني والشيخ مهدي الخالصي، وللقیام باعتقال المجاهدین، نفذوا عملیات تفتیش من بیت إلی بیت. أصیبت الشعوب بالرعب والحیرة، وأصبحت الآفاق مظلمة ومیئوساً منها. فی إیران، أراقوا دماء مجاهدی جیلان وتبریز ومشهد، ووضعوا منفذي المعاهدات الخائنة فی مراکز السلطة.
نبتة جدیدة مبارکة
فی خضم هذه الأحداث المریرة وهذه اللیلة بلا ضوء، طلع نجم قم. أيقظت القدرة الإلهیة فقیهاً کبیراً تقیاً خبیراً لیهاجر إلی قم ویحیي الحوزة المتداعیة والمغلقة، ویغرس نبتة جدیدة مبارکة فی تربة ذلك الزمن الصعب، بالقرب من مرقد السیدة الطاهرة فاطمة بنت الإمام موسی الکاظم (علیه السلام)، وفی تلک الأرض الخصبة.
لم تکن قم عند وصول آیة الله الحائري خالیة من العلماء الکبار؛ فقد کان فیها عظماء مثل آیة الله المیرزا محمد الأرباب والشيخ أبوالقاسم الکبیر وآخرون، ولکن فنّ تأسیس الحوزة العلمیة -أی معهداً للعلم والعالم والدین والمتّقی- بکل تفاصیلها وتدابیرها الدقیقة، لم یکن لیتحقق إلا بشخصیة مدعومة من السماء مثل آیة الله الحاج شیخ عبدالکریم الحائري.
الخبرة الثمینة التی کسبها خلال ثمانیة أعوام من تأسیس وإدارة الحوزة العلمیة المزدهرة فی أراک، وسنین طویلة قبل ذلک من مخالطة قریبة لزعیم الشیعة الکبیر المیرزای الشیرازی فی سامراء وملاحظة تدابیره فی تأسیس وإدارة الحوزة العلمیة فی تلک المدینة، کانتا مرشدین له؛ أما الحکمة والشجاعة والدافع والأمل فی نفسه، فقد دفعته إلی الأمام فی هذا الطریق الصعب.
نجت الحوزة فی السنوات الأولى بفضل صمود المخلص المتوکل له من تحت سیف رضاخان المسلول الذی لم یتردد فی محو معالم الدین وأصوله، دون تمییز بین الصغیر والکبیر. زال الطاغوت الخبیث، وبقیت الحوزة التی عانت لسنین تحت ضغوطه القصوى، ونمت، ومنها ظهر شمس مثل حضرت روح الله.
الحوزة العلمیة التی کان طلابها یفرّون عند الفجر إلی زوایا خارج المدینة للحفاظ على أرواحهم ویواصلون الدرس والبحث، ثم یعودون عند المساء إلی غرفهم المظلمة فی المدارس، أصبحت خلال أربعة عقود بعد ذلک مرکزاً یبعث شعلات المقاومة ضد العائلة الخبیثة رضاخان إلی جمیع أنحاء إیران، ویثیر القلوب المحبطة والیائسة، ویجذب الشباب المنعزل إلی ساحة المواجهة.
وهذه هی الحوزة نفسها التی بعد فترة قصیرة من وفاة مؤسسها، بقدوم المرجع العظیم آیة الله البروجردي، أصبحت قمة العلم والبحث والدعوة للتشیع فی جمیع أنحاء العالم. وفی النهایة، هذه هی الحوزة التی فی أقل من ستة عقود، رفعت قوتها المعنویة ومکانتها الشعبیة إلی درجة تمکنت فیها من اقتلاع نظام الملکیة الخائن الفاسد الفاسق بأیدی الشعب، وبعد قرون، وضعت الإسلام فی موقع السیادة السیاسیة لدولة کبیرة ذات ثقافة وغنیة بجمیع أنواع الإمکانیات.
الخریجون من هذه الحوزة المبارکة هم من جعلوا إیران نموذجاً للتیار الإسلامي فی العالم الإسلامي، بل طلیعة الصحوة الدینیة فی جمیع أنحاء العالم؛ بخطابه النبوي، انتصر الدم على السیف؛ بتدبیره، وُلدت الجمهوریة الإسلامیة؛ بشجاعته وتوکله، وقف الشعب الإیراني صامداً أمام التهدیدات وتغلّب على کثیر منها؛ والیوم، بدروسه وتراثه، یتجاوز البلد العقبات فی کثیر من مجالات الحیاة ویتقدم. رحمة ورضوان الله الدائمان على مؤسس هذه الحوزة المبارکة العظیمة وهذه الشجرة الطیبة المثمرة؛ الإنسان السامی العالم المبارک، عالم الدین والمتزیّن بهدوء الیقین، حضرت آیة الله العظمی الحاج شیخ عبدالکریم الحائري.
حوزة رائدة ومتطورة
الآن یجب التحدث عن عدة مواضیع یُعتقد أنها ستخدم حاضر الحوزة ومستقبلها، على أمل أن تساعد الحوزة الناجحة الحالیة فی أن تصبح "رائدة ومتطورة".
أول موضوع هو عنوان "الحوزة العلمیة" ومضمونها العمیق. الأدبیات السائدة هنا قصیرة وناقصة. الحوزة -خلافاً لما توحي به هذه الأدبیات- لیست مجرد مؤسسة للتعلیم والتعلّم، بل هی مجموعة من العلم والتربیة والوظائف الاجتماعیة والسیاسیة. أبعاد هذه الکلمة العمیقة یمکن تلخیصها أساساً کما یلي: 1. مرکز علمی ذو تخصصات محددة؛ 2. مرکز لتربیة الکوادر المهذبة والفعّالة لهدایة المجتمع دینیاً وأخلاقیاً؛ 3. خط المواجهة الأول فی مواجهة تهدیدات الأعداء فی مختلف المجالات؛ 4. مرکز لإنتاج وتوضیح الفکر الإسلامي فیما یخص النظم الاجتماعیة؛ من النظام السیاسي وشکله ومحتواه، إلی نظم إدارة الدولة، وحتی نظام الأسرة والعلاقات الشخصیة، بناءً على الفقه والفلسفة والنظام القیمي الإسلامي؛ 5. مرکز وربما قمة الابتکارات الحضاریة واستشراف المستقبل فی إطار الرسالة الإسلامیة العالمیة.
هذه العناوین الرئیسیة هی التی تعطي معنی "الحوزة العلمیة" وتوضح عناصرها التکوینیة أو "التوقعات" منها؛ وهذه هی التی یمکن للاجتهاد فی تعزیزها وتطویرها أن یجعل الحوزة بحق "رائدة ومتطورة"، ویعالج التحدیات والتهدیدات المحتملة فی الطریق.
حول کل من هذه العناوین، توجد حقائق وآراء یمکن إیجازها کما یلي:
أولاً: المركز العلمي
حوزة قم، وارثة لرأس المال العلمي الضخم للشيعة. هذه الثروة الفريدة من نوعها هي نتاج تفكير وبحث آلاف العلماء الدينيين في علوم مثل الفقه والكلام والفلسفة والتفسير والحديث على مدى ألف عام. قبل اكتشافات العلوم الطبيعية في القرون الأخيرة، كانت الحوزات العلمية الشيعية تُعتبر ساحةً للدراسة في علوم أخرى أيضاً؛ لكن في جميع العصور، كانت المحور الرئيسي للنقاش والبحث في الحوزات هو «علم الفقه»، وبعد ذلك بفترة «الكلام والفلسفة والحديث».
تقدم علم الفقه التدريجي على مدى هذه الفترة الطويلة، من زمن شیخ طوسی إلى عصر محقق حلی، ومنه إلى الشهيد، ثم إلى محقق أردبیلی، ومن ثم إلى شیخ انصاری وإلى العصر الحالي، كان محسوسًا لأهل الفن. المعيار في تقدم فقه هو إضافة إلى المعارف، أي إنتاجات علمية قيمة ورفع مستوى العلم والاكتشافات الجديدة؛ ولكن اليوم، مع النظر إلى التحولات السريعة والشديدة في الفكر والممارسة في العصور المعاصرة، خاصة في القرن الأخير، يجب أن تؤخذ توقعات أكبر في مجال التقدم العلمي للحوزة بعين الاعتبار.
فيما يتعلق بعلم الفقه، هناك نقاط جديرة بالملاحظة: أولاً، الفقه هو إجابة الدين على احتياجات الفرد والمجتمع العملية. مع عقلانية الأجيال المتطورة، يجب أن تكون هذه الإجابة اليوم أكثر من أي وقت مضى مدعومة بأسس فكرية وعلمية قوية، وفي نفس الوقت قابلة للفهم والهضم. كما أن الظواهر المعقدة والمتعددة في حياة الناس اليوم تطرح أسئلة غير مسبوقة يجب أن يكون الفقه المعاصر جاهزًا للإجابة عليها. بالإضافة إلى ذلك، مع تشكيل النظام السياسي الإسلامي، فإن السؤال الرئيسي هو كيف ينظر الشارع إلى أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية للبشر وأسسها الرئيسية؛ من النظر إلى الإنسان ومكانته الإنسانية وأهداف حياته، إلى النظر إلى الشكل المثالي للمجتمع البشري، والنظر إلى السياسة والسلطة والعلاقات الاجتماعية والأسرة والجنس والعدالة وغيرها من أبعاد الحياة. يجب أن تعكس فتوى الفقيه في كل مسألة جزءًا من هذه الرؤية الشاملة. الشرط المهم للوصول إلى هذه الخصائص هو أولاً، معرفة الفقيه بجميع الأبعاد والمعارف الدينية في جميع المجالات، وثانياً، معرفة مناسبة بالمعارف الحالية للبشر في مجالات العلوم الإنسانية والمعارف المرتبطة بحياة الإنسان. يجب أن نقر بأن الثروة المتراكمة للعلم في الحوزة لديها القدرة على أن تؤهل الطالب للوصول إلى هذا المستوى من القدرات العلمية، بشرط أن تُنظر بعض النقاط في أسلوب العمل الحالي بعين مفتوحة وأن تُعالج بيد قادرة.
إحدى هذه النقاط هي طول فترة الدراسة. تمر فترة قراءة النصوص للطالب بطريقة تثير التساؤلات؛ حيث يُضطر الطالب إلى دراسة كتاب ضخم ومحقق لعالم كبير ككتاب دراسي. هذا الكتاب يتعلق فعليًا بوقت دخوله إلى مرحلة البحث الاجتهادي، وتسليمه له قبل هذه المرحلة، ليس له سوى تأثير واحد، وهو إطالة فترة قراءة النصوص. يجب أن يحتوي الكتاب الدراسي على محتوى ولغة مناسبة للطالب خلال الفترة المحدودة قبل دخوله إلى مرحلة البحث. كانت الجهود الناجحة أو غير الناجحة لكبار مثل آخوند خراسانی، وحاج شیخ عبدالکریم حائری، وحاج سیدصدرالدین صدر، لاستبدال كتب مثل القوانين والرسائل والفصول، بكفایه ودررالفوائد وخلاصة الفصول، نظرًا لهذه الضرورة المهمة.
نقطة أخرى هي مسألة الأولويات الفقهية. اليوم، مع تشكيل النظام الإسلامي وظهور الحكم بطريقة إسلامية، أصبحت موضوعات مهمة ذات أولوية في الحوزة لم تكن مطروحة في السابق؛ مثل العلاقات بين الدولة وشعبها ومع الدول والشعوب الأخرى، موضوع نفي السبيل، النظام الاقتصادي وأسسها الرئيسية، أسس النظام الإسلامي، مصدر الحاكمية من وجهة نظر الإسلام، دور الشعب في ذلك، والموقف من القضايا المهمة ومواجهة نظام الهيمنة، مفهوم ومحتوى العدالة، وعشرات الموضوعات الأساسية وأحيانًا الحيوية الأخرى التي لها أولوية اليوم وغدًا في البلاد وتنتظر جوابًا فقهيًا.
في أسلوب العمل الحالي في الحوزة، لا يُلاحظ اهتمام كافٍ بهذه الأولويات في القسم الفقهي. أحيانًا نرى أن بعض المهارات العلمية التي غالبًا ما تكون ذات جانب عملي ومبدئي للوصول إلى الحكم الشرعي، أو بعض الموضوعات الفقهية أو الأصولية خارج الأولويات، تغرق الفقيه والباحث في سحرها، مما يصرف ذهنه تمامًا عن تلك المسائل الأساسية والأولوية، ويضيع الفرص الثمينة والموارد البشرية والمالية، دون أن يقدم أي مساعدة في توضيح نمط الحياة الإسلامية وتوجيه المجتمع في خضم هجوم کفر. إذا كان الهدف من العمل العلمي هو إظهار الفضل والسمعة، والتنافس في التفوق، فسيكون مصداقًا للفعل المادي والدنيوي واتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ(فرقان/ 43).
ثانياً: إعداد قوى مؤدبة وفعالة
الحوزة هي مؤسسة ذات طابع خارجي. مخرجات الحوزة في جميع المستويات تخدم فكر وثقافة المجتمع والإنسانية. الحوزة ملزمة بـ «بلاغ مبين». نطاق هذا البلاغ واسع، يمتد من المعارف التوحيدية السامية إلى الواجبات الشرعية الشخصية، ومن توضيح النظام الإسلامي وشكله ووظائفه إلى أسلوب الحياة والبيئة ودعم الطبيعة والحيوانات، والعديد من مجالات وزوايا الحياة البشرية الأخرى. لقد قامت الحوزات العلمية منذ زمن بعيد بأداء هذه المهمة الثقيلة، وقد انخرط العديد من خريجيها في مختلف المستويات العلمية بطرق متنوعة لنشر الدين، وقضوا أعمارهم في ذلك. بعد الثورة، ظهرت مؤسسات لتنظيم وربما تعزيز محتوى هذه الحركات الدعوية في الحوزة. يجب ألا تُغفل خدماتهم القيمة وغيرها من الأنشطة الدعوية. ما هو مهم هو معرفة فضاء الفكر والثقافة في المجتمع وإيجاد تناسب بين ما تُقدمه الدعوة والواقع الفكري والثقافي بين الناس، خاصة الشباب. في هذا الجانب، تواجه الحوزة مشكلة. هذه المئات من المقالات والمجلات والخطابات التلفزيونية وما شابهها، لا يمكن أن تؤدي وظيفة البلاغ المبين كما هو مطلوب وملائم، أمام سيل من الإيحاءات المغالطة. هناك عنصران رئيسيان مفقودان في هذا الجانب: «التعليم» و«التهذيب».
إيصال رسالة حديثة تملأ الفراغ وتحقق هدف الدين، يحتاج بالتأكيد إلى تعليم وتعلم. يجب أن تكون هناك جهة مسؤولة عن هذه المهمة، تعلم الطالب أساليب الإقناع، وكيفية الحوار، والوعي بنوع التفاعل مع الأفكار العامة والفضاء الإعلامي والافتراضي، والانضباط في مواجهة العناصر المعارضة، وتجعله مؤهلاً لدخول هذا المجال من خلال التدريب والممارسة في فترة محدودة. من جهة أخرى، يجب جمع أحدث وأشهر الإيحاءات والأفكار السلبية الأخلاقية، وتوفير أفضل وأوضح وأقوى الإجابات في إطار أدبيات تناسب العصر، ومن جهة أخرى، يجب إعداد أهم المعارف الدينية المناسبة للواقع الثقافي والفكري اليوم في شكل حزم فكرية وثقافية تناسب الأجيال الشابة والأسر. هذه المجموعة الشكلية والمحتوية هي أهم موضوع للتعليم في هذا الجانب.
في العمل الدعوي، الموقف الإيجابي وحتى الهجومي أهم من الموقف الدفاعي. ما قيل حول دفع الشبهات والإيحاءات لا ينبغي أن يجعل الجهاز الدعوي يغفل عن الهجوم على المسلمات الثقافية المنحرفة السائدة في العالم، وأحياناً في بلادنا. الثقافة المفروضة والمُلقاة من الغرب، تتجه بسرعة نحو الانحراف والانحدار؛ فلا يكتفي الفلاسفة والمتكلمون بالدفاع ضد الشبهات بل يخلقون تحديات فكرية تجاه هذا الانحراف والضلال، ويجبرون المدعين على تقديم إجابات. إعداد هذا الجهاز التعليمي يُعد من أولويات الحوزة؛ إنها تربية «مجاهد ثقافي»، ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار بجدية وبسرعة نظرًا لتحركات أعداء الدين الذين يسعون جاهدين لتجنيد القوى، خاصة في بعض المجالات المهمة.
التهذيب هو ضرورة أخرى بجانب التعليم. التهذيب لا يعني الانعزال. جزء كبير من نطاق نشاط المجاهد الثقافي هو الدعوة إلى تهذيب النفس والأخلاق الإسلامية، وهذا دون أن يتمتع الداعي بما يدعو إليه، سيكون عملاً بلا تأثير وبدون بركة. تحتاج الحوزة إلى حركة أكبر من الماضي في التأكيد على التوصيات الأخلاقية.
أيها الطلاب والشباب الفضلاء، أنتم بالتأكيد قادرون بفضل قلوبكم النقية وغير الملوثة وألسنتكم الصادقة على إتمام مهمة تهذيب الأخلاق للجيل الشاب اليوم، بشرط أن تبدأوا بأنفسكم أولاً. الإخلاص في العمل وقطع الطريق على وساوس المال والشهرة والسلطة هو مفتاح الدخول إلى فضاء الروحانية والحقيقة؛ وهكذا ستكون مهمة المجاهد الثقافي الصعبة واجبًا لذيذًا وحركة مؤثرة. صعوبات الطلبة في مثل هذه الحالة، بدلًا من أن تعيق السلوك المجاهد في الدعوة، ستتحول إلى وسيلة لإرادة قوية وعزم راسخ. أؤكد على أنه لا ينبغي النظر إلى ساحة الدعوة إلى الدين كحقل بلا منافسة، ويجب ألا نغفل عن مواجهة الغموض والمغالطات التي تُرسل إلى الساحة باستمرار. في هذا الجانب، بجانب إعداد القوى للبلاغ المبين، يجب أيضًا إعداد القوى للوظائف الخاصة في النظام وإدارة البلاد، وكذلك إعداد القوى لتنظيم داخل الحوزة العلمية وأداء واجباتها، وهو ما يتطلب نقاشًا منفصلًا.
ثالثاً: الخط الأمامي لمواجهة تهديدات العدو في مجالات متنوعة
هذه واحدة من أكثر الأبعاد غموضًا في الحوزات العلمية ووظيفة مجموع علماء الدين. بلا شك، لا يمكن العثور على أي حركة إصلاحية أو ثورية في الـ 150 عامًا الأخيرة في إيران والعراق لم يقم علماء الدين بقيادتها أو لم يكن لهم حضور في خطوطها الأمامية. هذه علامة مهمة على طبيعة الحوزات العلمية.
على مدى هذه الفترة، في جميع الحالات التي كانت فيها الهيمنة الاستعمارية والاستبداد، كان علماء الدين هم الذين دخلوا الميدان أولاً، وفي كثير من الحالات، بفضل دعم الشعب، استطاعوا إحباط العدو. لم يكن هناك أحد غيرهم يجرؤ على الكلام أو يفهم القضية بشكل صحيح، وبعد صرخات العلماء، ربما بدأ آخرون في رفع أصواتهم.
كسروي، الذي يُعتبر من أعداء علماء الدين، يعترف بأن بداية حركة المشروطة جاءت من التعاون الحكيم لسيدين بهبهاني وطباطبائي. نعم، في تلك الأيام التي كانت فيها وحشية الاستبداد ترفع رايتها في إيران، لم يكن هناك أحد سوى المراجع والعلماء يجرؤ على الكلام.
تم إبطال العقود المشينة خلال هذه الفترة بفضل معارضة وممانعة العلماء؛ فالعقد مع رويتر تم إبطاله بفضل جهود الحاج ملاعلي كني، العالم الكبير في طهران؛ والعقد مع التنباكو تم إبطاله بحكم ميرزای شیرازی، المرجع الأعلى، وبمشاركة العلماء الكبار في إيران؛ والعقد مع وثوق الدولة تم إبطاله بفضل فضح مدرس؛ ومكافحة المنسوجات الأجنبية بفضل مبادرة آقانجفی الأصفهانی ومشاركة علماء أصفهان ودعم علماء النجف؛ وغيرها من الحالات.
في نفس السنوات التي تزامنت مع تأسيس حوزة قم، كانت أجزاء من العراق وحدود إيران، مع مركزية نجف وکوفه، مسرحًا للصراع المسلح بين العلماء وقوات الاحتلال الإنجليزية؛ حيث لم يكن الطلاب والمدرسون فقط، بل بعض العلماء المعروفين مثل سيد مصطفى كاشاني وبعض أبناء المراجع قد شاركوا في هذه الاشتباكات، حيث استشهد البعض وتم نفي الكثير منهم بعد ذلك إلى مستعمرات إنجليزية بعيدة.
كانت نشاطات المراجع الكبار في قضية فلسطین أيضًا - سواء في بداية القرن عندما كانت سياسة التهجير وتسليح الصهاينة تُنفذ في فلسطين، أو في العقد الثالث عندما تم تسليم جزء كبير من فلسطين رسميًا للصهاينة وأُعلن عن الدولة الصهيونية الوهمية - من أبرز جوانب الحوزات العلمية. رسائلهم وبياناتهم في هذا الشأن تُعتبر من أندر الوثائق التاريخية. دور حوزة قم ثم بقية الحوزات العلمية في إيران في إنشاء النهضة الإسلامية وإقامة الثورة وتوجيه الرأي العام وإشراك عموم الناس، أيضًا من أبرز علامات الهوية الجهادية للحوزات العلمية. خريجو الحوزة بأذهانهم النشطة وألسنتهم الفصيحة كانوا من أوائل من استجابوا لصوت الإمام المجاهد الذي يكسر العدو، ودخلوا الميدان بسرعة وجدية مع تحمل الأذى، واهتموا بنشر المفاهيم الثورية وتوجيه الرأي العام.
مع الوعي بهذه الحقائق، الإمام الراحل (رضوانالله علیه) في رسالته الغنية والمثيرة للقلق إلى الحوزات العلمية[١] اعتبر رجال الدين رواد الشهادة في جميع الثورات الشعبية والإسلامية، وبدوره اعتبر طريق الشهداء وعملهم الوصول إلى حقيقة الفقه. في تعبير آخر، عرّف العلماء بأنهم رواد في ميدان جهاد ودعم الوطن ودعم المظلومين. بالنسبة لمستقبل الحوزة، وضعوا أكبر آمالهم على الطلاب والفضلاء الذين دفعتهم هموم النهضة والمقاومة والثورة إلى الحركة، وأبدوا استياءهم من أولئك الذين اكتفوا فقط بالكتب والدروس بعيدًا عن هذه القضايا الحيوية. في هذه الرسالة، تم الإشارة عدة مرات إلى المتحجرين وتحذيرهم من نفوذ العدو باستخدام غفلتهم، وإعلان الخطر بشأن أساليب بيع الدين المتطورة. وفقًا لرأي الإمام العظيم، فإن صيادي الاستعمار في جميع أنحاء العالم يتربصون بشجاعة رجال الدين السياسيين ويخططون لمواجهة مجد وعظمة ونفوذ رجال الدين.
في تلك النص الحكيم الذي كُتب بمشاعر عارفة وعاشقة، يتضح قلق الإمام العظيم من أن تيار التحجر والتقديس يمكن أن يسبب انفصال الحوزة عن الدين والنشاطات الاجتماعية، ويغلق الطريق الصحيح للتقدم. هذا القلق ناشئ من ترويج تيار خطير يعتبر تدخل الحوزة في القضايا الأساسية للشعب ودخولها في النشاطات الاجتماعية والسياسية ومواجهتها للظلم والفساد متعارضًا مع قدسية الدين وحرمته الروحية، ويدعو رجال الدين إلى السلام العام والابتعاد عن مخاطر الدخول في السياسة.
ترويج هذا الوهم الباطل هو أكبر هدية لعوامل الاستعمار والاستكبار، الذين دائمًا ما تضرروا من حضور ودخول علماء الدين في معركة مقاومتهم، وفي العديد من الحالات هُزموا؛ وأكبر هدية لعوامل النظام الفاسد والفاسق والمرتزق الذين تم القضاء عليهم بفضل حركة الشعب الإيراني بقيادة مرجع تقليد.
قدسية الدين تتجلى أكثر في ميادين الجهاد الفكري والسياسي والعسكري، وتُثبت بتضحيات وجهاد حاملي معارف الدين ونذر دمائهم الطاهرة. يجب أن تُرى قدسية الدين في سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي عند دخوله إلى یثرب، كانت أولى خطواته تشكيل الحكومة وتنظيم القوة العسكرية وتوحيد مجالات السياسة والعبادة في مسجد.
يجب على الحوزة العلمية أن تحافظ على مصداقيتها الروحية وولائها لفلسفتها الوجودية، وألا تنفصل أبدًا عن الشعب والمجتمع والقضايا الأساسية له، وأن تعتبر الجهاد في جميع أشكاله عند الحاجة واجبًا قطعيًا.
هذه هي الكلمة المهمة التي كررها الإمام العظيم مع الحوزة ومع الرواد والعلماء، وخاصة مع الطلاب والشباب الفضلاء، وأكد عليها.
رابعاً: مركز المشاركة في إنتاج وتبيين الأنظمة الاجتماعية
تدير البلدان والمجتمعات البشرية شؤونها الاجتماعية بنظم محددة؛ شكل الحكومة، أسلوب الحكم (استبداد، مشورة، ...)، النظام القضائي والتحكيم في النزاعات والانتهاكات والمواضيع القانونية أو الجنائية، النظام الاقتصادي والمالي وقضية المال وغيرها، النظام الإداري، نظام الأعمال، نظام الأسرة، وغيرها، كلها من الشؤون الاجتماعية للدولة التي تُدار بطرق متنوعة وبأنظمة مختلفة. لا شك أن كل واحد من هذه الأنظمة يعتمد على أساس فكري - سواء كان ناتجًا عن عقول المفكرين وأصحاب الآراء، أو مستمدًا من العادات والتقاليد المحلية والإرث - وينبثق من ذلك. في الحكومة الإسلامية، يجب أن يكون هذا الأساس والقواعد مستندًا بطبيعة الحال إلى الإسلام ونصوصه المعتبرة، وتستخرج أنظمة إدارة المجتمع منها. على الرغم من أن فقه الشيعة لم يتناول هذا الأمر بشكل كافٍ إلا في بعض الحالات - مثل باب القضاء - إلا أن بفضل القواعد الواسعة المستفادة من الكتاب والسنة، وكذلك بفضل العناوين الثانوية، فإن لديه الكفاية اللازمة لتصميم أنظمة متنوعة لإدارة المجتمع.
فيما يتعلق بأصل ومنشأ الحكومة، كان عمل الإمام الراحل في مناقشات «ولایت فقیه» أثناء نفيه إلى نجف بداية مباركة، وفتح الطريق أمام فضلاء الحوزة، وبعد تأسيس الجمهورية الإسلامية، تطورت أبعادها المختلفة في النظر والعمل؛ لكن هذا العمل لا يزال غير مكتمل وغير منظم في العديد من الأنظمة الاجتماعية للدولة. يجب على الحوزة أن تسد هذه الفجوة؛ فهي من بين الواجبات الحتمية للحوزة العلمية. اليوم، مع حكم واستقرار النظام الإسلامي، فإن واجب الفقيه والفقيه ثقيل. لا يمكن اعتبار الفقه، كما عبر الإمام الراحل، غرقًا في الأحكام الفردية والعبادية. الفقه الذي يبني الأمة ليس محصورًا في حدود الأحكام العبادية والواجبات الفردية.
بالطبع، تحتاج الحوزة إلى معرفة كافية بالأنظمة الاجتماعية وفقًا للاكتشافات الحديثة في العالم. ستُمكن هذه المعرفة الفقيه من استخدام الصحيح والخاطئ من هذه الاكتشافات، مما يمنحه الوعي اللازم للاستفادة من تصريحات وإشارات الكتاب والسنة، وتصميم هيكل الأنظمة الاجتماعية لإدارة المجتمع بشكل شامل وكامل على أساس الفكر الإسلامي. بجانب الحوزة، فإن الجامعة في البلاد أيضًا لها قدرة وواجب في هذا المجال؛ يمكن أن تكون هذه واحدة من مجالات التعاون بين الحوزة والجامعة. تتمثل المهمة الكبرى للجامعة في تحديد الصواب والخطأ في الآراء السائدة في علوم الإنسان المتعلقة بالأنظمة الحاكمة والشعبية، من خلال نظرة بحثية ونقدية، وتقديم محتوى الفكر الديني في أشكال مناسبة بالتعاون مع الحوزة.
خامساً: الابتكارات المدنية في إطار الرسالة العالمية للإسلام
هذا هو أبرز توقع من الحوزة العلمية. قد يُعتبر طموحًا وأحلامًا. في تلك الليلة التاريخية بعد الهجوم على فيضية في عام 42، عندما كان الإمام الراحل يتحدث في منزله بعد صلاة العشاء لجمعية محدودة من الطلاب الخائفين، قد يبدو هذا التعبير العالي "هؤلاء سيذهبون وأنتم ستبقون" لبعضنا طموحًا، لكن مرور الزمن أظهر أن الإيمان والصبر والتوكل يمكن أن تحطم جبال الموانع وأن كيد الأعداء أمام السنة الإلهية غير مجدي.
«إقامة الحضارة الإسلامية» هو الهدف الأسمى للثورة الإسلامية إيران، أي حضارة تُستخدم فيها العلوم والتكنولوجيا والموارد البشرية والطبيعية وكل القدرات وكل التقدمات البشرية، والحكومة والسياسة والقوة العسكرية وكل ما هو في متناول البشر، في خدمة العدالة الاجتماعية والرفاه العام وتقليص الفجوات الطبقية وزيادة النمو الروحي والارتقاء العلمي وزيادة المعرفة بالطبيعة وتعزيز الإيمان. الحضارة الإسلامية قائمة على التوحيد وأبعادها الاجتماعية والفردية والروحية؛ قائمة على تكريم الإنسان من حيث إنسانيته - وليس من حيث الجنس أو اللون أو اللغة أو القومية أو الجغرافيا -؛ قائمة على العدالة وأبعادها ومصاديقها؛ قائمة على حرية الإنسان في مجالات متنوعة؛ قائمة على الجهاد العام في جميع الميادين التي تحتاج إلى حضور جهادي.
الحضارة الإسلامية تقابل الحضارة المادية الحالية. بدأت الحضارة المادية منذ البداية بالاستعمار، باحتلال الأراضي واحتقار الأمم الضعيفة، بعمليات الإبادة الجماعية للسكان الأصليين، باستخدام العلم لقمع الآخرين، بالظلم، بالكذب، بخلق الفجوات الطبقية، وبالاستبداد، وشيئًا فشيئًا، تسرب الفساد والانحراف عن الأسس الأخلاقية والضوابط الجنسية فيها. اليوم، نرى أمثلة واضحة ومكتملة من هذا البناء المعوج في البلدان الغربية وأتباعها: قمم الثروة بجانب وديان الفقر والجوع؛ استبداد عشاق القوة على كل من يمكنهم استبداده؛ استخدام العلم لعمليات الإبادة العامة؛ جر الفساد الجنسي إلى داخل الأسر وحتى الأطفال؛ ظلم ووحشية لا مثيل لها في أمثلة مثل غزة وفلسطين؛ التهديد بالحرب بسبب التدخل في شؤون الآخرين كما هو الحال في تصرفات المسؤولين الأمريكيين في السنوات الأخيرة. من الواضح أن هذه الحضارة الباطلة ستزول وسينتهي وجودها؛ هذه هي السنة الحتمية للخلق: إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(اسراء/ 81)؛ ... فَاَمَّا الزَّبَدُ فَیَذهَبُ جُفاءً ...(رعد/17) إن واجبنا اليوم هو أولاً مساعدة في إبطال هذا الباطل وثانيًا إعداد حضارة بديلة في النظر والعمل قدر الإمكان. القول بأن "الآخرين لم يستطيعوا، لذا نحن أيضًا لا يمكننا" هو مغالطة. لقد نجح الآخرون حيث تحركوا بالإيمان والتخطيط والثبات. المثال الواضح أمامنا هو الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية.
في هذه المعركة، هناك آلام وضغوط وفقدان يجب تحملها. إذا تم ذلك، فإن النصر حتمي. الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) خرج ليلًا وسرًا من مكة ومن بين حلقة الوثنيين، واختبأ في الغار، لكن بعد ثماني سنوات دخل مكة بكل مجد وقوة وطهر الكعبة من الأصنام ومكة من الوثنيين. عانى في هذه السنوات الثماني معاناة لا حصر لها وفقد أصدقاء مثل حمزة، لكنه انتصر.
دفاعنا المقدس الذي استمر ثماني سنوات أيضًا ضد التحالف العالمي للظالمين والكذابين هو مثال آخر. الحوزة الكبيرة والفعالة اليوم في قم، التي واجهت في البداية تلك المحن، هي نموذج أمام أعيننا؛ وهناك أمثلة عديدة يمكن العثور عليها.
تتحمل الحوزة العلمية في هذا المجال مهمة قيمة، وأولها رسم الخطوط الرئيسية والفرعية للحضارة الإسلامية الجديدة، ثم توضيحها وترويجها وتثقيف المجتمع حولها. هذه من بين أبرز مصاديق «بلاغ مبين». في رسم هيكل الحضارة الإسلامية، يلعب الفقه دورًا معينًا، وتلعب العلوم العقلية دورًا آخر. يجب أن ترسم فلسفتنا الإسلامية امتدادًا اجتماعيًا لقضاياها الأساسية. كما يجب أن يحدد فقهنا، من خلال توسيع مجال الرؤية والابتكار في الاستنباط، القضايا الجديدة التي تطرأ على هذه الحضارة ويحدد أحكامها.
إن بيان الإمام العظيم حول الفقه وطريقته في الحوزة العلمية هو مفتاح. في هذا البيان، تعتبر طريقة الاستنباط هي نفس الطريقة الفقهية التقليدية، كما عبر عنها، وهي الاجتهاد الجواهري؛ ومع ذلك، فإن «الزمان» و«المكان» هما عنصران حاسمان في الاجتهاد. قد يكون لموضوع ما حكم في الماضي، لكن مع تغير العلاقات السائدة في السياسة والمجتمع والاقتصاد، قد يحصل الآن على حكم جديد. هذا التغيير في الحكم ناتج عن أن الموضوع، رغم أنه في الظاهر هو نفس الموضوع السابق، إلا أنه، بالنظر إلى تغير العلاقات السياسية والاجتماعية وما إلى ذلك، قد تغير بالفعل وأصبح موضوعًا جديدًا، وبالتالي يتطلب حكمًا جديدًا.
علاوة على ذلك، قد تؤدي الأحداث العالمية المتكررة والتقدم العلمي وما إلى ذلك في بعض الحالات إلى فهم جديد للفقيه الماهر من نصوص الكتاب والسنة، مما يصبح حجة شرعية لتغيير الحكم؛ كما يحدث غالبًا في تبدل آراء المجتهدين. على أي حال، يجب أن يظل فقه فقهًا، ويجب ألا يتحول الفهم الجديد إلى تمييع للشريعة.
فيما يتعلق بتعريف وتفسير عنوان الحوزة العلمية ومحتواها العميق، سأكتفي بما قيل وسأقول كلمة قصيرة عن حوزة قم التي وصلت الآن إلى مئويتها.
حوزة قم، حوزة حية ومتقدمة
حوزة قم اليوم هي حوزة حية ومتقدمة. إن وجود آلاف المدرسين والمؤلفين والباحثين والكتّاب والمفكرين في المعارف الإسلامية ونشر المجلات العلمية والبحثية وكتابة المقالات المتخصصة والعامة، يشكل ثروة كبيرة للمجتمع اليوم وقدرة عظيمة لمستقبل البلاد والأمة. إن انتشار دروس التفسير والأخلاق وزيادة المراكز والدروس في العلوم العقلية هي نقطة قوة بارزة لم تكن الحوزة قبل الثورة قد حصلت عليها. لم تشهد حوزة قم من قبل هذا العدد الكبير من الطلاب والفضلاء ذوي الأفكار. إن المشاركة الفعالة في جميع ميادين الثورة وحتى في الميدان العسكري وتقديم الشهداء الأكرم في فترة الدفاع المقدس وما قبله وبعده، هي من الفخر الكبير للحوزة ومن بين حسنات الإمام الراحل التي لا تعد ولا تحصى. فتح الطريق أمام المجال الدعوي العالمي وتربية آلاف الطلاب من شعوب متنوعة وحضور خريجيها في العديد من الدول هو عمل كبير وغير مسبوق يجب تقديره. إن اهتمام الفقهاء الجدد بالقضايا المعاصرة والدروس الفقهية المتعلقة بها يبشر بمستقبل واعد في التقدم والتحول العلمي. إن إقبال الفضلاء الشباب على التعمق في النقاط المعرفية للنصوص الإسلامية المعتبرة، خاصة كلام الله مجيد، يبشر بمزيد من طرح القرآن في الحوزة العلمية. إن تأسيس الحوزات العلمية للنساء هو أيضًا ابتكار مهم وذو تأثير، وثوابها الدائم يصل إلى روح الإمام الراحل الطاهرة. إن حوزة قم، من هذا المنظور، هي مجموعة حية وديناميكية وتعيد الأمل.
ومع ذلك، فإن هذا التوقع المنطقي بأن تكون حوزة قم حوزة رائدة ومتفوقة، لا يزال بعيدًا عن الوضع الحالي. يمكن أن تقلل الانتباه إلى النقاط التالية هذه الفجوة:
- يجب أن تكون الحوزة على اطلاع دائم؛ يجب أن تتقدم باستمرار مع الزمن، بل حتى تتجاوز الزمن.
- يجب إعطاء أهمية لتربية القوى في جميع المجالات. إن مسار حركة هذه الأمة ومستقبل الثورة سيرسمه القوى التي تُربى اليوم في الحوزة العلمية.
- يجب على الحوزويين تعزيز علاقتهم مع الناس. يجب التخطيط لوجود الفضلاء في وسط الناس وعلاقة ودية بينهم.
- يجب على مديري الحوزة بحكمة مناسبة، إحباط الإيحاءات المغرضة التي تُحبط الطلاب الشباب من المستقبل. اليوم، يتمتع الإسلام وإيران والشيعة في العالم بعزة وكرامة لم يكن لديهم في الماضي. يجب أن يدرس الطالب الشاب بهذا الشعور وينمو.
- يجب النظر إلى الجيل الشاب من المجتمع بتفاؤل والتفاعل معهم بهذا المنظور. إن جزءًا كبيرًا من الشباب اليوم، على الرغم من جميع الإيحاءات الضارة للفكر والشعور الديني، مخلصون لدينهم ومدافعون عنه، والعديد منهم ليس لديهم أي عداء تجاه الدين والثورة. يجب ألا يؤدي القلة القليلة من المعارضين للظاهر الديني إلى تحليل غير واقعي للحوزة.
- يجب أن تُكتب البرامج الدراسية للحوزة بطريقة تجعل الفقه واضحًا ومستجيبًا ومحدثًا، وبالطبع فنيًا ومعتمدًا على طريقة الاجتهاد، مع فلسفة واضحة ولها امتداد اجتماعي، ومؤهلة في هيكل الحياة المجتمعية، إلى جانب علم الكلام الرصين والثابت والقوي في الإقناع، تُدرس بواسطة أساتذة مهرة، ويجب أن تتألق هذه الثلاثة في ضوء فهم القرآن ودروس التفسير.
- الزهد، التقوى، القناعة، الاستغناء عن غير الله، التوكل، روح التقدم، والاستعداد للجهاد، هي التوصيات الدائمة للإمام العظيم وكبار الأخلاق والمعرفة للطلاب الشباب، وأنتم أيها الشباب الأعزاء في الحوزة العلمية مخاطبون بهذه التوصيات.
- فيما يتعلق بالشهادات الدراسية للحوزة، فإن توصية الدائمة والحالية لي هي أن الشهادة يجب أن تُمنح من قبل الحوزة نفسها - وليس من مركز خارجها - بالطبع يمكن تسميتها بمسميات معروفة في المراكز العلمية في البلاد والعالم، مثل: بكاليوس، ماجستير، دكتوراه، وما إلى ذلك.
أنهي حديثي هنا وأسأل الله تعالى عزته وعزته المتزايدة الإسلام وقوة وثبات الأمة الإسلامية المتزايد وتقدم وسعادة الشعب الإيراني المتزايد ورفعة وكفاءة الحوزات العلمية المتزايدة والنصر على الأعداء والمنافقين والمعادين.
سلام الله على بقية الله (أرواحنا فداه وعجل الله فرجه) وتحياتنا الخالصة لأرواح الشهداء وروح الإمام الراحل[٢].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
۱۴۰۴/۲/۸
رسالة آية الله مكارم شيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وآله الطاهرين لا سيما بقية المنتظر أرواح العالمين له الفداء وعجّل الله تعالى فرجه الشريف
في البداية، أود أن أهنئكم جميعًا بميلاد الإمام الثامن حضرة علي بن موسى الرضا (عليه آلاف التحية والثناء) وميلاد ولي نعمتمان حضرة فاطمة المعصومة (سلام الله عليها). وأشكر القائمين والمنظمين والضيوف، وآمل أن يحقق هذا المؤتمر أهدافه ويترك آثارًا دائمة. المدينة المقدسة قم، التي تحولت إلى مأوى لمحبي أهل البيت (عليهم السلام) ومركز لنشر وتعليم معارفهم بعد فترة قصيرة من اعتناق الإيرانيين للإسلام، قد مرت بتاريخ حافل على مدى ألف ومئتي عام.
تشكيل حوزة العلوم الدينية
تأسيس حوزة العلوم الدينية وتربية الروحانيين والعلماء في هذا المذهب وتشكيل قراءة صحيحة وعلمية من تعاليم الدين المبين الإسلام ونموها ساهم في الحفاظ على كيان الإسلام ومذهب الشيعة من المؤامرات والانحرافات. خاصة في القرن الأخير وبعد إحيائه مرة أخرى على يد الزعيم القوي حاج شيخ عبدالکريم حائری (أعلى الله مقامه الشريف). كانت هذه الحوزة العلمية هي التي حافظت على المجتمع الإيراني المتألم أمام المؤامرات والمكائد الداخلية والخارجية وضعف الحكام غير الأكفاء ومخططات الانتهازيين، وفي النهاية، ثورة الشعب الإيراني التي انطلقت من الحوزة العلمية ومذهب التشيع قد أثمرت بفكر وقيادة الإمام الراحل، وخلقت نقطة تحول في تاريخ إيران والعالم. فما من وسوسة أو مؤامرة أو ظلم أو نهب في تاريخنا إلا وقد واجهها العلماء والروحانيون الربانيون بتضحياتهم ودمائهم، وبدعم من الناس المخلصين والفدائيين، ولم تصل إلى مبتغاها، وقد تحولت هذه الشجرة الطيبة بفضل الجهاد والجهود الكبيرة إلى شجرة عظيمة أصلها ثابت وفرعها في السماء(ابراهیم/24).
اليوم، إن بقاء هذا الإرث العظيم كأكبر مركز علمي في العالم والحفاظ عليه حتى ظهور حضرة ولي العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هو واجب على عاتق الحوزات العلمية والعلماء والطلاب المحترمين، وتحقيق ذلك يتطلب الالتزام بأمور سأشير إلى بعضها في هذه الفرصة القصيرة:
الأمور العشرة
أولاً: التأكيد على تهذيب النفس وتربية الروح والتحلي بالصفات الحسنة، التي يجب أن تكون أساس شخصية الحوزويين، كما قال: «فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره».
ثانياً: الحفاظ والتمسك بالتقاليد والقيم الأصيلة للحوزة، التي كانت واحدة من أسرار تربية العلماء البصيرين والمخلصين في هذه الحوزة المقدسة، ويجب أن نعلم أنه كلما ابتعدنا عن ذلك، سنعاني من خسائر أكبر.
ثالثاً: تعزيز الحركة العلمية في الحوزة وتربية الطلاب الفضلاء والمتخصصين، والابتعاد عن التعليم السطحي، حيث يتطلب ذلك أحيانًا إصلاح البرامج الدراسية والنصوص العلمية وتناسبها مع احتياجات اليوم ومستقبل المجتمع.
رابعاً: رفع مستوى الوعي بين الطلاب والتفكير بعيد المدى والنظر إلى المستقبل من قبل المخططين، حيث تزداد أهميته مع سرعة التغيرات في عالم اليوم. بالطبع، فإن الاستفادة من التكنولوجيا والأدوات الجديدة مثل الإعلام، والفضاء الافتراضي، والذكاء الاصطناعي وما إلى ذلك، ستسرع وتقوي الأمور، ولكن يجب أن نكون حذرين من الآفات الخطيرة لها أيضًا.
خامساً: إعطاء الأولوية والتركيز على نشر الدين والدعوة، والابتعاد عن الركود في الحوزة، من خلال دعم الطلاب وتمكينهم بالعلوم والفنون اللازمة، والاستفادة من الأدوات الحديثة وتعلم اللغات والثقافات المختلفة.
سادساً: إقامة علاقة عميقة وواسعة بين الحوزات العلمية وجميع الناس، ومرافقتهم ودعمهم في الصعوبات والمشاكل، حيث تعزز هذه العلاقة التفاعل المتبادل بين الناس والحوزات.
سابعاً: التأكيد على الحفاظ على استقلال الحوزة عن الحكومات، الذي كان دائمًا سببًا في حريتها وتفكيرها الحر، ومع ذلك، فإن الحوزة العلمية، باعتبارها مصدرًا وأم الحركة الكبرى للثورة الإسلامية، كانت وستبقى داعمة للثورة وقيادتها.
ثامناً: الجهاد في التبيين وإزالة الشبهات عن المعتقدات الدينية، خاصة من عقول الشباب، وتقديم الحلول المناسبة لحياة أفضل.
تاسعاً: تعزيز روح الأمل في المستقبل، مما يؤدي إلى النشاط في التعليم والتهذيب والدعوة؛ خاصة الآن حيث زادت أسباب الإحباط وفقدان الحافز بشكل كبير.
عاشراً: الاتصال العميق والثابت مع صاحبنا ومولانا حضرة حجت بن الحسن (أرواحنا فداه). فسبب كل هذه الجهود والسعي هو رضا ذلك العظيم.
في الختام، أشكر مرة أخرى القائمين والمنظمين لهذا المؤتمر، وخاصة الفاضل المحترم آية الله اعرافي (زيد عزه). وأسأل الله تعالى توفيقات متزايدة للحوزات العلمية ولعموم الشعب الإيراني، وآمل أن ينصر المسلمين في العالم على أعدائهم والمستكبرين، وأن يُهيئوا لظهور حضرة ولي العصر عجل الله تعالى فرجه[٣].
والسلام عليكم ورحمة الله
1404/02/16
رسالة آية الله نوري همداني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، سيما بقية الله في الأرضين. وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (توبه/122).
أرحب بالجمع المحترم الذي يُعقد بحضور العلماء والفضلاء والشخصيات المؤثرة.
أمر بترحيل جماعي
إن مؤسس الحوزات العلمية هو الرب الذي أصدر لأول مرة أمرًا بهجرة جماعية من المسلمين من بلدان مختلفة إلى مركز العلم، وأمرهم بعد تحصيل العلم من ذلك المركز أن يعودوا إلى بلادهم ليُنذروا قومهم. يجب اعتبار رسول الله «صلى الله عليه وآله» أول معمار لحوزة إسلامية، حيث حول المدينة إلى مركز للعلم والفضيلة، ليأتي طالبو المعرفة من بلاد مختلفة إلى تلك الأرض النوراء، وبعد التعلم والتهذيب، يعودوا لهداية قومهم. وقد حول الأئمة الشيعة بعد ذلك بلدان مثل کوفه ومدینه وبغداد إلى مراكز لتعليم وتهذيب العلماء. ربما لهذا السبب، في عصر الغيبة، نشأت الحوزات العلمية الإمامية في مدن مثل نجف وسامرا ومشهد وقم حول مضاجع هذه الأسرة النورانية.
شجرة طیبة
إحدى هذه الحوزات العلمية هي حوزة قم، التي تأسست منذ مئة عام في واحدة من أصعب الفترات التاريخية في إيران، بفضل حكمة وتدبير حضرة آية الله العظمى حاج شيخ عبدالکریم حائری يزدي، وبنظرة عميقة ولكن هادئة وحذرة تجاه السياسات المعادية للدين في ذلك الوقت. كانت تلك النظرة السياسية، التي كانت متأصلة في عمق وجود الشيخ المؤسس، مرتبطة بمصير الإسلام والتشيع ومكانته في العالم الجديد، وقد تحولت تدريجياً بفضل الجهود العلمية والعملية لعظماء مثل آية الله العظمى بروجردي وتلاميذه المجاهدين إلى «شجرة طيبة» تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا(ابراهیم/25). لقد صمم الشيخ بحكمته الحوزة المباركة بطريقة تضمن عدم اقتصارها على الفضائل العلمية فقط، بل أن تدخل في جهاد أصغر وتتحمل المعاناة العديدة وتقدم الدماء الطاهرة لمعارك العدالة للشعب الإيراني، حتى تحقق انتصار الثورة الإسلامية وتأسيس نظام جمهوری اسلامی ایران، حيث كان لدور الإمام خميني دور لا يضاهى ودائم.
اليوم، وقد قطعت هذه الشجرة الطيبة مسيرتها المتعرجة والمليئة بالتحديات وبلغت مئويتها، يجب على الكبار أن يأخذوا بيد أبناء هذه الحوزة الشباب، ويقفوا معًا على قمة إنجازات المئة عام، وينظروا جميعًا إلى الأفق أمامهم ويضعوا بعض النقاط نصب أعينهم:
النصائح الستة
أولاً: يجب التعرف على الأصالة الثابتة وغير القابلة للتغيير للحوزة، والتفريق بينها وبين التقاليد الزمنية التي يجب أن تتغير وفقًا للاحتياجات الزمنية، بحيث لا يُهمل الحفاظ على الأصالة الثابتة للحوزة، ولا يُندم على التخلي عن التقاليد المتغيرة للحوزة.
ثانيًا: يجب أن يكون هناك نظرة إلى المعاصرة، مع الاعتماد على الأصالة الحوزوية، وفهم عمق احتياجات العالم الجديد مع تجنب السطحية، حتى لا تُدفع الحوزة عن غير قصد إلى طريق العزلة، حيث لا تؤدي العزلة إلا إلى انحدار تدريجي.
ثالثًا: يجب ألا تُضحى العلوم والمعارف الثمينة للحوزة، التي هي كنز من أكثر من ألف وأربعمئة سنة من الحضارة الإسلامية والشيعية، بأي ثمن، ولكن يجب أن تُراقب باستمرار احتياجات العالم واحتياجات المسلمين والشيعة في جميع أنحاء العالم واحتياجات نظام الجمهورية الإسلامية، بحيث تُعيد المعارف الإسلامية إنتاجها وتفسيرها بطريقة تلبي احتياجات اليوم.
رابعًا: من المهم أن تكون الأساس الرئيسي للمعارف الحوزوية هو القرآن الكريم وسنة النبي وأهل البيت (عليهم السلام)، ولكن يجب ألا يُغفل عن وجود العقل الإلهي المجتهد بجانب هذين المصدرين النورانيين، حتى لا تتعرض المعارف الحوزوية للإفراط والتفريط.
خامسًا: بلا شك، فإن البيئة القيمة التي ستنمو فيها هذه الجهود، وإذا تم تجاهل هذه البيئة، فلن تُثمر الجهود، هي الروحانية والإخلاص والانتباه الدائم لحضور الله تعالى ووليّه الأعظم حضرة صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه). آمل أن يصبح هذا العنصر القيم أكثر رسوخًا وفاعلية يومًا بعد يوم في الحركة نحو الأفق المستقبلي.
سادسًا: النقطة الأخيرة هي أنه يجب على حوزة قم العلمية، التي تمتد تاريخها لعدة قرون وتم إعادة تأسيسها منذ مئة عام على يد فقيه عظيم مثل آية الله العظمى حاج شيخ عبدالکريم حائری يزدي، أن تعمل بطريقة يعرف فيها القادمون أن الروحانية الأصيلة كانت دائمًا بجانب الناس، ويدركون آلامهم ومعاناتهم، ويسعون للتخفيف منها، حيث تظهر هذه الخدمات العامة في المجتمع، ومن بين هذه الخدمات التي قدمها الشيخ في زمانه في تلك الأجواء الخاصة، وهذه الخدمات القيمة مستمرة حتى اليوم من قبل الروحانيين والحوزة. إن ثمار هذه الحوزة كانت تربية طلاب كبار، وأحد ثمارها هو الحكمة والتخطيط والصبر الحكيم للشيخ المؤسس، والتي أدت إلى إقامة ثورة إسلامية كبرى على يد أحد طلابه، حيث وضعت نهاية لحكم 2500 سنة من الملكية، وأعادت العزة والاستقلال والحرية للشعب ایران، وأثرت أيضًا على الساحة الدولية، وأبرز مثال على ذلك هو تطبيق آيات القرآن الكريم وروايات المعصومين، خصوصًا حضرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواجهة الظالم والدفاع عن المظلوم دون النظر إلى الحدود الجغرافية، وتحويل قضية فلسطين إلى القضية الأولى في العالم الإسلامي، ومن خلال توعية الناس والتواصل مع الجامعات، وإتاحة الفرصة للشباب، كانت لها تأثيرات كبيرة، حيث كانت الحوزة رائدة في كل ذلك.
بناءً على ذلك، فإن الحفاظ على هذه الثمرة الكبرى وتعريف آثارها وبركاتها وإنجازاتها، وكذلك تحليل الأضرار المرتبطة بها، هو من مسؤولية هذه الحوزة المباركة، مع الأخذ بعين الاعتبار ميثاق الروحانية الذي أُرسل اليوم من قبل قائد الثورة الحكيم، والذي يُذكر هذا الجمع المحترم بميثاق روحانية الإمام الراحل، يمكن أن يكون خارطة طريق للحوزات العلمية والطلاب والأساتذة والفضلاء المحترمين. أعتبر هذه الجلسة العظيمة فرصة ثمينة، وأعبر عن تقديري وإجلالي للعلماء الكبار الذين خطوا خطوات في نشر ثقافة القرآن وأهل البيت (عليهم السلام)، خصوصًا الشخصيات العظيمة في عصرنا مثل آيات الله العظام حائري وبروجردي والإمام الراحل.
وفي الختام، أشكر جميع المنظمين لهذه الجلسة المهيبة بمناسبة الذكرى المئوية لإعادة تأسيس الحوزة العلمية، التي تم جمع آثارها القيمة التي طُبعت في 20 مجلدًا، وكذلك الأعمال الكتابية المتعلقة بهذا الموضوع، بما في ذلك 30 مجلدًا من المقالات التي تم جمعها بجهد كبير، وخاصة الإدارة المحترمة والعالمة لحوزة قم العلمية. أسأل الله تعالى التوفيق للجميع[٤].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
5 من شهر ذي القعدة 1404
بيان الأمين العام لمجمع تقريب مذاهب الإسلامية
نص بيان الأمين العام لمجمع تقريب مذاهب الإسلامية العالمي كما يلي:
في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، كانت مراكز الدراسات الدينية في عالمنا الإسلامي نقطة انطلاق للتقدم والتطور في جميع المجالات. كانت هذه المراكز تلبي احتياجات المجتمع في الأمور الدنيوية والمعنوية. كانت تتقدم مع احتياجات العصر في المجالات المادية مثل العلوم الطبية والهندسة والفلك والزراعة والتكنولوجيا، وكانت أيضًا تستجيب للاحتياجات الفردية والاجتماعية في العلاقات الإنسانية، وعلاقة الإنسان بربه، وتربية الروح والعاطفة. يمكن العثور على دليل على ذلك في تاريخ الحضارة الإسلامية وكنوز العلوم والمعارف العلمية والإنسانية والتربوية التي تركت من تلك الفترة. ولكن لأسباب تاريخية داخلية وخارجية، تأخرت هذه الدراسات عن تلبية احتياجات المجتمع، وغالبًا ما كانت تقتصر على كتابة الشروح والحواشي التي لم تكن لها علاقة بالواقع الفردي والاجتماعي. ثم، مع ظهور اليقظة الإسلامية المباركة، تحركت هذه الركود في الدراسات الدينية. أدت هذه اليقظة إلى تفاعل بين مراكز الدراسات الدينية في قم ونجف والأزهر والزيتونة والقرويين وغيرها من المراكز في حركة الحضارة المعاصرة. ومع ذلك، لم يُسد الفجوة بين الوضع الحالي والوضع المرغوب. الوضع المرغوب هو إنشاء حضارة إسلامية جديدة وتعزيز مكانة العالم الإسلامي على الساحة العالمية. لقد حقق الانقلاب الإسلامي في إيران واهتمام متزايد بالإسلام كمشروع عالمي لحل التحديات العالمية، جنبًا إلى جنب مع تسارع التقدم العالمي في مجالات التكنولوجيا وعلوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي وانتشار ثقافة الشبكات الاجتماعية، واقعًا جديدًا يتطلب من مراكز الدراسات الإسلامية أن تستجيب له بالتعاون مع الجامعات ومراكز البحث. هذه النظرة الرفيعة لمستقبل أفضل لمراكز الدراسات الإسلامية تفتح آفاقًا جديدة تجعل الخلافات في إطار الحضارة الإسلامية صغيرة وغير مهمة، ولا ينبغي أن تُغفلنا عن القضايا الأكبر. إن كلمات القائد المعظم الإمام خامنئي بمناسبة الذكرى المئوية لإعادة تأسيس حوزة قم العلمية على يد العالم الكبير آية الله الشيخ عبدالکريم حائري (قدس سره)، تؤكد على ضرورة هذا الارتقاء وتكون عاملاً لتقريب مراكز الدراسات الإسلامية في جميع أرجاء الحضارة الإسلامية، ويجب أن تُبذل الجهود في هذا الاتجاه[٥].
الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
مسائل ذات صلة
الهوامش
- ↑ صحیفۀ امام، ج ۲۱، ص ۲۷۳؛ رسالة إلى رجال الدين، المراجع، المدرسين، الطلاب وأئمة الجمعة والجماعات (۱۳۶۷/۱۲/۳).
- ↑ «الحوزة الرائدة والمتفوقة»، الموقع الرسمي لمكتب حفظ ونشر آثار حضرت آية الله العظمى سيد علي خامنئي (مد ظله العالی).
- ↑ رسالة آية الله العظمى مکارم إلى المؤتمر المئوي لإعادة تأسيس حوزة قم، وكالة الأنباء الرسمية للحوزة.
- ↑ رسالة آية الله العظمى نوري همداني إلى المؤتمر المئوي لإعادة تأسيس حوزة قم، وكالة الأنباء الرسمية للحوزة.
- ↑ بيان الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية تبعاً لتوجيهات القائد المعظم حول الدراسات الدينية، الموقع الرسمي للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
المصادر
- [https://farsi.khamenei.ir/message-content?id=60106 «الجامعة الرائدة والمتقدمة، الموقع الإلكتروني لمكتب حفظ ونشر آثار الإمام السيد علي الخامنئي (مد ظله العالي)، تاريخ نشر المحتوى: 17 شعبان 1446 هـ، تاريخ مشاهدة المحتوى: 17 شعبان 1446 هـ..
- [https://www.hawzahnews.com/news/1255541/%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%AD-%D9%BE%DB%8C%D8%A7%D9%85-%D8%A2%DB%8C%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B8%D9%85%DB%8C-%D9%85%DA%A9%D8%A7%D8%B1%D9%85-%D8%A8%D9%87-%D9%87%D9%85%D8%A7%DB%8C%D8%B4-%DB%8C%DA%A9%D8%B5%D8%AF%D9%85%DB%8C%D9%86-%D8%B3%D8%A7%D9%84%DA%AF%D8%B4%D8%AA-%D8%A8%D8%A7%D8%B2%D8%AA%D8%A3%D8%B3%DB%8C%D8%B3 توضيح رسالة الإمام السيد الأُستاذ مکارم للشعبية المئوية لإعادة تأسيس جامعة قم، وكالة الأنباء الرسمية للجامعة، تاريخ نشر المحتوى: 17 شعبان 1446 هـ، تاريخ مشاهدة المحتوى: 22 شعبان 1446 هـ.
- [https://www.hawzahnews.com/news/1255676/%D9%BE%DB%8C%D8%A7%D9%85-%D8%A2%DB%8C%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B8%D9%85%DB%8C-%D9%86%D9%88%D8%B1%DB%8C-%D9%87%D9%85%D8%AF%D8%A7%D9%86%DB%8C-%D8%A8%D9%87-%D9%87%D9%85%D8%A7%DB%8C%D8%B4-%DB%8C%DA%A9%D8%B5%D8%AF%D9%85%DB%8C%D9%86-%D8%B3%D8%A7%D9%84%DA%AF%D8%B4%D8%AA-%D8%A8%D8%A7%D8%B2%D8%AA%D8%A7%D8%B3%DB%8C%D8%B3 رسالة الإمام السيد النوري همداني إلى المؤتمر المئوية لإعادة تأسيس جامعة قم، الوكالة الرسمية للجامعة، تاريخ نشر المحتوى: 17 شعبان 1446 هـ، وتاريخ مشاهدة المحتوى: 23 شعبان 1446 هـ.
- [https://taqrib.ir/fa/news/%D8%A8%DB%8C%D8%A7%D9%86%DB%8C%D9%87-%D8%AF%D8%A8%DB%8C%D8%B1%DA%A9%D9%84-%D9%85%D8%AC%D9%85%D8%B9-%D8%AC%D9%87%D8%A7%D9%86%DB%8C-%D8%AA%D9%82%D8%B1%DB%8C%D8%A8-%D9%85%D8%B0%D8%A7%D9%87%D8%A8-%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%DB%8C-%D9%BE%DB%8C%D8%B1%D9%88-%D8%B1%D9%87%D9%86%D9%85%D9%88%D8%AF%D9%87%D8%A7%DB%8C-%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%85-%D9%85%D8%B9%D8%B8%D9%85-%D8%B1%D9%87%D8%A8%D8%B1%DB%8C-%D8%AF%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%87-%D9%85%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%AF%DB%8C%D9%86%DB%8C بيان الأمين العام لمجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية حول توجيهات سماحة القائد حول الدراسات الدينية، موقع المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، تاريخ نشر المحتوى: 23 شعبان 1446 هـ، وتاريخ مشاهدة المحتوى: 23 شعبان 1446 هـ.