المقدمة

مراجعة ٠٦:٢٥، ٢٦ سبتمبر ٢٠٢١ بواسطة Mahdipoor (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)

المقدمة: هذا عنوان البحث الذي ورد في مدوّنات اُصوليي الشيعة، وقد عنونه أهل السنة أيضاً، ولکن بعض من الشيعة عنونه بعنوان آخر، وهو: «ما لا يتمّ الأمر إلاّ به» أو «ما لا يتمّ الواجب إلاّ به»[١]. والعنوان الأخير مستخدم لهذا البحث من قبل أصوليي أهل السنة أكثر منه لدى الشيعة[٢]. وفيه بحوث مقدّمة الواجب. أمّا بحوث مقدّمة الحرام، فجلّها مدرجة تحت عنوان سد الذرائع. وعليه بحث المقدّمة موزّع لدى أهل السنّة بين عنوانين، بينما هو موحّد في مدوّنات اُصوليي الشيعة ومبحوث تحت عنوان «المقدّمة»، وباعتبار كون أهمّ بحث يدرج تحته هو وجوب مقدّمة الواجب فإنّ عنوان «مقدّمة الواجب» أكثر بروزا من العناوين الاُخرى.

تعريف المقدمة لغةً

المقدّمة: من قدم يقدم. ومقدّمة الجيش أوّله...[٣]. والقَدَمُ والقُدْمة: السبقة في الأمر[٤]. وتقدّمتُ القوم سبقتُهم، ومنه: (مقدّمة) الجيش الذين يتقدّمون بالتثقيل اسم فاعل، ومقدّمة الكتاب مثله[٥].

تعريف المقدمة اصطلاحاً

قد وردت تعاريف عديدة للمقدّمة، أكثرها هي نفسها التي وردت في علوم اُخرى مثل: الكلام والمنطق والفلسفة، مثل:
ـ ما يتوقّف عليه الشيء[٦].
ـ الطريق التي يتوصّل بها إلى الشيء[٧].
ـ المقدّمة هي العلة أو جزء العلّة[٨].
ـ مطلق ما يتوقّف عليه الشيء فتطلق على العلة التامّة وعلى كلّ جزء من أجزائها [٩].
ومع غضّ النظر عن التعاريف فإنّ اصطلاح المقدّمة قد استخدم في أصول الفقه بمعنى واسع يشمل الشرط و السبب وغيرهما. هذا هو الملحوظ في كلمات الاُصولين وبناء على تقسيماتهم وأمثلتهم لها.

الألفاظ ذات الصلة

بناء على استخداماتهم لهذه المفردة وتقسيماتهم التي ستأتي لاحقا يكون للمقدّمة معنى واسع جدّا شامل لكلّ من الأسباب و الشرائط و العلل وغيرها. وبهذا يكون هناك نوع تداخل بين بحث المقدّمة وبحوث اُصولية اُخرى وردت تحت عنوان «الشرط» أو «السبب» أو غير ذلك. لكن هذا لم ينقّح في كلماتهم، وقد مرّوا على هذا الأمر مرّ الكرام، ولم نعثر على من سعى لتحديد العلاقة بين هذه الاصطلاحات. ويبدو أنّ المسلم هو كون مفردة مقدّمة عامّة شاملة للمفردات المذكورة، فالعلاقة بين هذه المفردة وباقي المفردات هي عموم وخصوص مطلق، لكن نورد مفردة واحدة نرى مناسبة سردها كألفاظ ذات صلة.

ذريعة

ممّا عرّف بها الذريعة هو التوسّل بما هو مصلحة إلى مفسدة[١٠]. والواضح في هذا التعريف أنّه يخصّ المقدّمة المباحة لأجل الوصول إلى أمر فاسد أو محرّم. وبناء على هذا التعريف فإنّ المقدّمة أوسع وتشمل الذريعة المحرّمة والذريعة الفاسدة، لكن هناك من يوسّع معنى الذريعة لتشمل المحرّمة كذلك، فعندئذٍ يكون معنى الذريعة اصطلاحا مرادفا للمقدّمة[١١]. لكن المشهود في بحث سد الذرائع هو النظر إلى المقدّمات المحرّمة.

أقسام المقدمة

التقسيمات التالية للمقدّمة ممّا وردت في كلمات الاُصوليين:

1 ـ تقسيمها باعتبار الأحكام

وهذا التقسيم بناء على أنّ المقدّمة قد تكون مقدّمة للواجب أو المحرم أو المستحبّ أو المكروه أو المباح، أي تقسيمها حسب الأحكام التكليفية، وقد تقسّم حسب الأحكام الوضعية مثل الصحّة كذلك، وسيأتي الكلام عن ذلك.

2 ـ المقدّمة الداخلية والمقدّمة الخارجية

يراد من المقدّمة الداخلية: مجموعة الأجزاء المأخوذة في ماهية المأمور به، مثل الركوع والسجود بالنسبة إلى الصلاة. والمقدّمة الخارجية: هي مجموعة الاُمور الخارجة عن ماهية المأمور به ممّا لا يكاد يوجد المأمور به دونها، مثل الوضوء و التيمم بالنسبة إلى الصلاة. ويقال في مجال هذا التقسيم: يُطلق الاصطلاح الأخير على أجزاء المأمور به إذا نظر إلى الأجزاء بنحو منفرد غير مجتمع مع باقي الأجزاء، فالركوع والسجود وغيرها هي مقدّمات للصلاة، ويُطلق على ذات الأجزاء ذو المقدّمة إذا لوحظت مجتمعة أو بشرط الاجتماع[١٢].
لكن ناقش البعض في اعتبار أجزاء الشيء مقدّمة لذلك الشيء؛ لأنّ الأجزاء المذكورة هي نفس الشيء وليست مقدّمة، فالمقدّمة تطلق على ما يقع في طريق وجود ذلك الشيء، والأجزاء ليست كذلك، لكن أجاب مثل المحقّق الخراساني بإضافة قيد «بالأسر» إلى الأجزاء (وهو تعبير للإشارة إلى اجتماع الأجزاء) ليكون المعنى كونها أجزاء بانضمام بعضها إلى الآخر، بينما ذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع. وقد تكون هناك توجيهات اُخرى لاعتبار الأجزاء مقدّمات لذي المقدّمة[١٣].
وهناك من قسّم المقدّمة الداخلية إلى الداخلية بالمعنى الأخصّ، والداخلية بالمعنى الأعمّ، أمّا بالمعنى الأخصّ: فهي الأجزاء التي يتقوّم بها المأمور به، وبهذا المعنى يخرج مثل الشروط عن كونها مقدّمة داخلية. أمّا الداخلية بالمعنى الأعم: فهي كلّ ما يتوقّف امتثال المأمور به عليها، ويستحيل الامتثال دونها، فتدخل مثل الشروط وعدم الموانع فيها [١٤]. وبهذا تكون المقدّمة الداخلية بالمعنى الأعمّ هي تعبير آخر عن المقدّمة الخارجية[١٥].

3 ـ المقدّمة العقلية والشرعية والعادية

وهذا التقسيم وارد للمقدّمة الخارجية، ويعرّف كلّ من هذه الأقسام بالنحو التالي:
المقدّمة العقلية: هي التي تكون إناطة وجود ذي المقدّمة بها إناطة عقلية ، كإناطة الحجّ بالسفر إلى مكّة .
والمقدّمة الشرعية: هي التي تكون إناطة ذي المقدّمة بها إناطة شرعية، كإناطة الشرع الصلاة بالوضوء.
والمقدّمة العادية: هي التي تكون إناطة ذي المقدّمة بها إناطة بحسب العادة، ووجود ذي المقدّمة دونها ممكن، لكن العادة اقتضت أن يكون وجود ذي المقدّمة منوطا بها [١٦].
ويذهب البعض إلى أنّه لا وقع ولا تأثير لتقسيم المقدّمة إلى شرعية وعقلية وعادية[١٧]. بينما يذهب آخرون إلى أنّ المقدّمات المذكورة تعود جميعها إلى العقل، وهو يحكم بمقدّميتها جميعا [١٨].

4 ـ مقدّمة الوجود والصحّة والوجوب والعلم

مقدّمة الوجود: هي المقدّمة التي يتوقّف وجود المأمور به عليها، مثل: أركان الصلاة كالركوع والسجود، ودونهما لا وجود للصلاة أصلاً.
مقدّمة الصحّة: هي المقدّمة التي يتوقّف صحّة المأمور به عليها، مثل: الأجزاء غير الركنية للصلاة مثل السورة والذكر، فدونهما الصلاة غير صحيحة.
ومقدّمة الوجوب: هي التي يتوقّف الوجوب عليها، مثل الاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، فلا وجوب أصلاً ما لم تحصل الاستطاعة.
مقدّمة العلم: هي التي يتوقّف العلم بالمأمور به عليها، مثل: العلم بجهة القبلة فإنّه مقدّمة لوجوب الصلاة بذلك الاتجاه وإلاّ تجب في الاتجاهات الأربعة[١٩].

5 ـ كما تقسّم المقدّمة الخارجية إلى المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة

المقدّمة المتقدّمة: هي التي تتقدّم على المأمور به، مثل: الطهارة، فهي مقدّمة لوجوب الصلاة.
المقدّمة المقارنة: هي التي يقترن وجودها بوجود المأمور به، مثل: استقبال القبلة، فهو ممّا ينبغي مقارنته للتكليف وعدم زواله.
المقدّمة المتأخّرة: هي التي تتأخّر عن المأمور به، وهي مثل: الشرط المتأخر، ومثالها الغسل الليلي المعتبر في صحّة صوم المستحاضة في اليوم السابق عند البعض[٢٠].
لكن أشكل في صحّة هكذا مقدّمة؛ لكونها تكون من قبيل تقدّم المعلول على العلة، وهو يستلزم تأثير المعدوم في الموجود، وهو محال. ولأجل هذا سعى الكثير لتصوير الشرط المتأخر بأنحاء مختلفة[٢١].

6 ـ المقدّمة الموصلة والمقدّمة غير الموصلة

وهذا قد لا يكون تقسيما معتبرا لدى الاُصوليين؛ لأنّ المراد من مفردة الموصلة هو نفس المعنى اللغوي، ويراد من مجموع التركيب المقدّمة التي توصل المكلّف إلى المأمور به، فيبحث في وجوبها وحرمتها وغير ذلك. وغير الموصلة هي التي تضادّها، ولا توصل إلى المأمور به. ولأجل هذا لم ترد في كلمات الاُصوليين ضمن تقسيمات المقدّمة، بل وردت في مظان بحث المقدّمة عموما [٢٢].

7 ـ المقدّمة المفوّتة

وهي المقدّمة التي تتقدّم على الواجب وتفويتها وعدم الإتيان بها يوجب تفويت الواجب؛ لتوقّف الواجب على الإتيان بها. وهي مثل قطع المسافة لأجل الوصول إلى مناسك الحجّ في الوقت المناسب، أو غسل الجنابة قبل طلوع الشمس لأجل صحّة صوم اليوم اللاحق. ونوقش في وجوبها نظريا من حيث كيف يمكن تصوّر وجوبها قبل وجوب الواجب؟ فكيف يمكن تصوّر وجوب قطع المسافة للحجّ قبل فعلية الحجّ؟ وكذا الطهارة كيف يمكن القول بوجوبها قبل وجوب ذيها، وهو الصوم؟[٢٣]

8 ـ المقدّمة العبادية

وهي المقدّمة التي تقع على وجه العبادة، وقد حصروا مثالها بالطهارات الثلاث: الغسل، و الوضوء، و التيمم. وناقشوا تحت هذا العنوان توفيق كونها عبادية مع كون مثل الوضوء واجبا غيريا ينبغي أن يكون توصّليا، كما نوقش من حيث كيفية استحقاق الثواب على الواجب الغيري[٢٤].

حكم المقدمة

طرح موضوع المقدّمة ضمن إطار العناوين التالية:

1 ـ المسألة اُصولية أم فقهية؟

اختلف في ماهية هذه المسألة وما إذا كانت فقهية أم اُصولية، وعلى فرض كونها اُصولية، فهل هي لفظية أو عقلية؟
الذين ذهبوا إلى كونها فقهية نظروا إلى جانب كونها تعود إلى أفعال المكلّفين وما عليهم القيام به، مضافا إلى أنّ البعض عنونها: «ما لا يتمّ الواجب إلاّ به» وهو أمر يوحي إلى كون المسألة تتعلّق بما يجب على المكلّف عمله. وبهذا تكون مسألة فرعية فقهية.
والذين ذهبوا إلى كونها اُصولية نظروا إلى جانب كونها تتناول موضوع الحكم، وهو من البحوث الاُصولية، وتقع في طريق استنباط الأحكام.
كما أنّهم ناقشوا ما إذا كانت ذات طابع لفظي اُصولي أم عقلي؟ فالبعض يرى أنّ وجوب المقدّمة من دلالات لفظ الأمر، بينما يذهب آخر إلى أنّ وجوب المقدّمة ليس من دلالات اللفظ نفسه، بل العقل هو الذي يرشد إلى وجوب المقدّمة، ولا يوجد دليل نقلي من الكتاب و السنة دالّ على وجوب المقدّمة[٢٥].

2 ـ مقدّمة الواجب

هناك بحوث ونقاشات جزئية تصنّف ضمن عنوان مقدّمة الواجب[٢٦]. ومن النزاعات الواردة تحت هذا العنوان هو نزاع في صنف الوجوب المبحوث هنا، فما هو صنفه؟ وقد وردت الآراء التالية:
الأوّل: كون الوجوب غيريا تبعيا مترشحا من الأمر النفسي لذي المقدّمة. وبذلك يكون هناك نوعان من الوجوب في كلّ واجب له مقدّمة، أحدهما: نفسي، والآخر: غيري.
الثاني: ليس هناك إلاّ واجب واحد إن نسب إلى المقدّمة كان غيريا وإن نسب إلى ذيها كان نفسيا. الثالث: وجوب المقدّمة بمعنى عدم تعلّق الأمر النفسي حقيقة إلاّ بها [٢٧].
وأهمّ بحث ونزاع يدرج تحت عنوان مقدّمة الواجب هو وجوب المقدّمة أو عدم وجوبها. مع أنّه يبدو من المسلّم به هو وجوب مقدّمة الواجب، وذلك ممّا يدركه العقل، فهو يفرض ويوجب المقدّمة على المكلّف، سواء في المقدّمات الشرعية أو غير الشرعية مثل العادية والعقلية وما شابه، لكن النقاش في أنّ هذا الواجب هل يمكن أن يكون واجبا شرعيا كذلك[٢٨]؟ أي أنّ الملازمة التي يدركها العقل بين وجوب أمر ووجوب مقدّمته هل يمكنها أن تكون ممّا يحكم به الشرع كذلك؟ وعلى هذا يكون البحث من صغريات البحث عن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. أو أنّ النقاش في هذه المسألة يصبّ في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته. وبناءً على هذا تخرج عن موضوع البحث ومحلّ النزاع مقدّمة الوجوب؛ لكون المقدّمة لا تتصف بالوجوب قبل فعلية الوجوب المشروط، كما هو الحال في مقدّمة الوجوب، كما تخرج المقدّمة العلمية، فإنّ وجوبها من باب وجوب الطاعة وإرشادا عقليا [٢٩].
وهذا هو محلّ النزاع في قضية وجوب المقدّمة.
وفيه عدّة آراء، هي:
1 ـ هناك تلازم بين وجوب أمر ووجوب مقدّمته مطلقا.
2 ـ لا توجد ملازمة مطلقا.
3 ـ هناك ملازمة إذا كانت المقدّمة سببا لا غير.
4 ـ هناك ملازمة إذا كانت المقدّمة شرطا شرعيا لا غير.
5 ـ التفصيل بين الشرط بنحو مطلق وغيره من المقدّمات مثل رفع المانع[٣٠].
وهناك أقوال اُخرى كذلك قد تصل إلى عشرة أو أكثر[٣١]، لكن هناك إبهام وعدم وضوح في نسبتها لأصحابها، وقد تكون مطروحة كاحتمالات أو فروض في هذا البحث لا غير.

أدلّة الملازمة

برغم تعدّد الأقوال في الموضوع لكنّ المهمّ هو القول بالملازمة أو عدمها، أمّا الأقوال المفصّلة فلم نجد من ركّز عليها وتوسّع فيها. وجلّ الاستدلالات هنا تركّزت على القول بالملازمة أو نفيها.
بالنسبة إلى القول بالملازمة نسب هذا القول إلى أكثر المحقّقين[٣٢]، ويذهب الآمدي إلى أنّ هذا هو رأي الأصحاب و المعتزلة[٣٣].
ويبدو أنّ جميع من قال بها أورد العقل أو الوجدان أو الضرورة كدليل على أصل الملازمة، فاعتبر البعض العقل مدركا وجوب المقدّمة إذا وجب ذوها [٣٤]. ويرى بعض كون الملازمة من الضروريات[٣٥]. ويرى آخر أنّ الوجدان هو الذي يحكم بالملازمة، واعتبره أقوى الأدلّة[٣٦].
لكن يشكّك البعض بأنّ الوجدان هنا شاهد على الملازمة؛ كون هذا الدليل ناشئا عن قياس الإرادة التشريعية على الإرادة التكوينية[٣٧].
كما أضاف البعض اعتبارات إلى الأدلّة السابقة، مثل:
إذا تركت المقدّمة وبقي المأمور به كان تكليفا بما لا يُطاق أو لزم القول بعدم وجوب الواجب، وهو محال كذلك. وبتعبير آخر: لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها، وإذا بقي الواجب على وجوبه في هذه الحالة لزم التكليف بما لا يطاق[٣٨].
واستدلّ على وجوب المقدّمة إن كانت سببا بأنّ التكليف لا يكاد يتعلّق إلاّ بالمقدور، والمقدور لا يكون إلاّ هو السبب، والمسبّب هو من آثاره المترتّبة عليه قهرا، وهو ليس من أفعال المكلّف وسكناته.
لكن يردّ بأنّ هذا دليل على كون الأمر النفسي إنّما يكون متعلّقا بالسبب دون المسبّب، مع كون المسبّب مقدورا للمكلّف، وهو متمكّن عنه بواسطة السبب، ولا يعتبر في التكليف أكثر من كونه مقدورا بواسطة أو دون واسطة[٣٩].
واستدلّ على التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره بأنّه لولا وجوب الشرط شرعا لما كان شرطا أصلاً؛ باعتبار أنّ العقل أو العادة لا يحكمان بوجوبه.
ويردّ بأنّ الشرط الشرعي يعود إلى العقل، مضافا إلى أنّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري إلاّ بما هو مقدّمة الواجب، فلو كانت مقدميته متوقّفة على تعلّق الواجب بها لحصل دور. والشرطية وإن كانت منتزعة عن التكليف إلاّ أنّها منتزعة عن التكليف النفسي المتعلّق بما قيّد بالشرط لا عن التكليف الغيري[٤٠].
على أنّ مجمل هذه الآراء مبنية على الملازمة بينما بناء على نفيها فلا وجوب شرعيا هنا، وفي النهاية لا يطرح موضوع الفرق والتفصيل بين الشرط الشرعي وغيره. وهناك ردود اُخرى كذلك[٤١]. هذا مضافا إلى أنّ الظاهر من قدماء الاُصوليين عدم تحرير محلّ النزاع بالدقّة وعدم تفريقهم بين الوجوب العقلي و الوجوب الشرعي، فهم يطلقون وجوب المقدّمة دون الإشارة إلى أنّ المراد هو الوجوب العقلي المسلّم لدى الجميع أو الوجوب الشرعي الذي هو محلّ النزاع في الحقيقة.

أدلّة عدم الملازمة

ذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ وجوب المقدّمة يفترض فيه أن يكون هناك وجوب غيري وأن يقال: بالنسبة إلى الوضوء والغسل كونهما واجبين غيريين، مع أنّه لا وجود للوجوب الغيري أصلاً، وأوامر مثل: «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» تحمل على الإرشاد وبيان الشرطية، والعقل هو الذي يدرك لزوم الإتيان بالشرائط والمقدّمات لأجل الإتيان بذي المقدّمة[٤٢].
أمّا إشكال ترتّب الثواب والإطاعة على الطهارات دون شكّ، فيردّ بأنّ مثل هذه المقدّمات هي بنفسها عبادة مستحبّة فيثاب عليها [٤٣]. وقد يستدلّ على عدم الملازمة باعتبارات وأنحاء اُخرى كذلك[٤٤].

ثمرة بحث مقدّمة الواجب

يذهب البعض إلى أنّه لا ثمرة فقهية تترتّب على بحث مقدّمة الواجب، فهي مسألة غير اُصولية أصلاً [٤٥]. وأهمّ ثمرة يمكن ترتيبها على هذا البحث هو كون وجوب المقدّمة عقليا يستلزم وجوبها شرعا؛ لأنّه بعد وجوبها عقلاً ولا بدية الإتيان بها إذا اُريد الإتيان بذيها فلا فائدة في النقاش حول وجوبها أو عدم وجوبها شرعا [٤٦].
لكنّ بعضا آخر أورد عدّة ثمرات لهذا البحث، هي:
الثمرة الاُولى: كونه يثمر في النذور والأيمان ونحوها، كما لو نذر الإتيان بواجبات عديدة، فإنّه يكفيه الإتيان بواجب واحد ومقدّماته على القول بوجوب المقدّمة، بخلاف ما لو قيل بعدم وجوب المقدّمة.
لكن قد يشكل على هذه الثمرة بأنّه لا يبعد انصراف إطلاق الواجب في النذور وغيرها إلى الواجب المستقلّ دون الغيري التابع لوجوب الغير[٤٧].
ويرى البعض أنّ مثل النذر لا يصلح أن يقع ثمرة في المسائل الاُصولية التي تعنى بالقضايا التي تقع في طريق استنباط الحكم[٤٨].
الثمرة الثانية: استحقاق الثواب على فعل المقدّمات والعقاب على تركها بناء على وجوب المقدّمة خلافا فيما إذا قيل بعدم وجوبها.
لكنّ هذه الثمرة مردودة؛ باعتبار ابتناء الثواب والعقاب على الوجوب النفسي، و الوجوب الغيري لا يستلزم الثواب[٤٩]. مضافا إلى أنّها ـ على فرض ثبوتها ـ ليست ثمرة اُصولية بل كلامية.
وقد أورد البعض على هذا بأنّ استحقاق الثواب لا يفرّق فيه بين الأوامر النفسية والغيرية، وملاك استحقاق العقاب واحد، وهو ترك أداء حق المولى وعدم القيام بوظائف عبوديته. وكذلك الثواب، ولا يتعدد الثواب والعقاب من حيث المقدّمة ومن حيث ذيها [٥٠].
الثمرة الثالثة: ترتّب الفسق على ترك المقدمات إذا كانت متعدّدة، بحيث يقضي بصدق الإصرار المتفرّع على الإكثار، ولو اكتفينا في صدقه بمجرّد العزم على معصية اُخرى ولو من غير جنسه جرى ذلك مع وحدة المقدّمة أيضا، بخلاف ما لو قلنا بعدم وجوب المقدّمة؛ إذ لا عصيان حينئذٍ إلاّ في ترك نفس الواجب، فإن كانت صغيرة لم يكن هناك فسق وإن كثرت مقدّماتها.
وتردّ الثمرة بأنّ العصيان المترتّب على ترك المقدّمات ناظر إلى ترك نفس ذيها وليس لها مباشرة، فهي بحدّ ذاتها غير مطلوبة ولا يزداد العصيان حتّى بترك ألف مقدّمة. والمترتّب هو عصيان ذيها فقط[٥١].
الثمرة الرابعة: عدم تعلّق الإجارة بها على القول بوجوبها كغيرها من الأفعال التي على المكلّف الإتيان بها مجانا بخلاف ما لو كانت واجبة، إذ لا مانع من تعلّق الإجارة بها، فيصحّ العقد فيها ويستحقّ المتعاقد عليها الأجرة المعيّنة بإزائها. وبناء على هذه الثمرة يمكن للمكلّف أن يستأجر نفسه لقطع مسافة الحجّ فقط أمّا بالنسبة إلى أفعال الحجّ فيمكنه أن يؤجر نفسه لغير المستأجر الأوّل.
وتردّ هذه الثمرة بأنّ المراد من مقدّمة الحجّ مثلاً هو الوصول إلى المناسك وقطع الطريق ليس مرادا بالذات، بل هو لأجل الوصول إلى تلك المناسك، ولا فائدة في نفس قطع الطريق[٥٢].
الثمرة الخامسة: عدم جواز اجتماع المقدّمة مع الحرام على القول بوجوبها بناء على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي بخلاف ما لو قيل بعدم وجوبها، فيمكن اجتماعها مع الحرام.
وتردّ هذه الثمرة بأنّ المقدّمة إذا كانت عبادية مثل: الوضوء فلا ريب في عدم جواز اجتماعها مع الحرام حتّى لو لم نقل بوجوبها وإن لم تكن عبادة. وإذا كانت غير عبادة فعدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة لا يقضي بعدم حصول المقصود من المقدّمة (وهو التوصّل إلى الواجب) باعتبار أنّ حصول التوصّل أمر عقلي أو عادي حاصل بحصول المقدّمة سواء كانت محرمة أو واجبة، ومع حصول التوصّل يصحّ الإتيان بذي المقدّمة من غير حاجة لإعادتها لحصول الغرض منها، يسقط وجوب الإتيان بها بعد التوصّل إلى الواجب. هذا بناء على عدم جواز اجتماع الحرمة والوجوب أمّا بناء على جواز الاجتماع فالإشكال من الأصل غير ثابت[٥٣].
الثمرة السادسة: كون الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه. وهذا يستلزم أن يكون ترك الضد من مقدّمات حصول الضدّ الآخر... .
وثمرات اُخرى كذلك يرفضها الكثير من الاُصوليين، ولا يعدّها ثمرات تُذكر[٥٤].

3 ـ مقدّمة المستحبّ

إذا قيل بالملازمة بين الواجب ومقدّمته فيقال بالملازمة كذلك بين المستحبّ ومقدّمته، أي تكون مستحبّة أيضا، وحكم مقدّمة المستحبّ حكم مقدّمة الواجب، ومايجري من بحث ونقاش في مقدّمة الواجب ذات الصلة بالملازمة المذكورة يجري في مقدّمة المستحبّ أيضا [٥٥].

4 ـ مقدّمة الحرام والمكروه

لا تتصف مقدّمة الحرام و المكروه بـ الحرمة أو الكراهة؛ لأنّه بإمكان المكلّف أن يترك الحرام برغم إتيانه بالمقدّمة، ولا دخل لها بالإتيان بالمحرم أو المكروه، وعليه لا يترشّح من طلب ترك فعل طلب ترك مقدّمته، فالسفر إذا كان لمعصية لا يكون محرّما باعتباره مقدّمة للوصول إلى المعصية إلاّ أن يكون السفر منتهيا إلى ارتكاب المعصية دون غيرها من الأفعال، عندئذٍ تكون محرّمة لهذا السبب[٥٦].
لكن يذهب بعض آخر إلى أنّ ما يجري في مقدّمة الواجب يجري في مقدّمة الحرام كذلك، ويجب الاجتناب عن مقدّمة الحرام، وحكم مقدّمة المكروه ذات حكم مقدّمة الحرام[٥٧]. وضعّف القول بعدم اتّصاف مقدّمة الحرام ـ المعلوم دون المشتبه به ـ بالحرمة، وخصّ القول بعدم اتّصاف مقدّمة الحرام ـ المعلوم دون المشتبه به ـ بالحرمة بالاُمور المالية وما شابهها. أمّا باقي المحرمات فيبدو وجود إجماع على الحرمة، فإذا اشتبه الكافر بالمسلم، ومن يحلّ سبيه ومن لا يحلّ، ومن يحلّ وطؤه بمن يحرم، أو اشتبه الخمر بغيره أو السمّ بغيره، فهذه الموارد جميعها ممّا لا يقول بجواز ارتكابها أحد[٥٨].
واستثنى بعض آخر من جريان بحوث مقدّمة الواجب الرأيين التفصيليين، أحدهما: التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره، وثانيهما: التفصيل بين السبب وغيره. وعلل ذلك بتبرير عقلي بأنّ مقدّمة الترك منحصرة في السببية؛ لأنّ الوجود لا يتحقّق إلاّ بعد تحقّق علّته التامّة المركبة من السبب و الشرط ورفع المانع، وأمّا العدم فعلّته عدم العلة، وهو إنّما يتحقّق بعدم إحدى مقدّمات الوجوب فيكون انتفاء كلّ واحدة منها سببا لحصول ترك المعلول. وعليه إن كان للحرام مقدّمة واحدة وجب على المكلّف تركها بعينها لانحصار علة الترک في تركها، وإن كانت له مقدّمات عديدة من الأسباب و الشروط كان مخيرا في ترك إحدها، وإن اختار ترك الجميع دفعة واحدة، فالعلّة هو المجموع. وإن تركها تدريجيا فـ الترک مستند إلى ترك الأسبق... ويتفرّع على هذا أن لا شيء من المقدّمات توصف بالحرام إلاّ عند الانحصار؛ لأنّ ترك المقدّمات تخييري...[٥٩].

المصادر

  1. . معالم الدين: 60 و 67 و 68، معارج الاُصول: 73، الفوائد المدنية والشواهد المكّية: 406، هداية المسترشدين 2: 126، دراسات في علم الاُصول 1: 248.
  2. . البحر المحيط 1: 223، المستصفى 1: 85، المنخول: 184، المحصول 2: 291، الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 96.
  3. . ترتيب جمهرة اللغة 3: 102.
  4. . لسان العرب 3: 3155، مادّة: «قدم».
  5. . المصباح المنير: 493، مادّة: «قدم».
  6. . غاية المسؤول في علم الاُصول 1: 266، تحقيق الاُصول 3: 61.
  7. . الحدائق الناضرة 7: 166.
  8. . الدروس الحيدري 3: 200.
  9. . اصطلاحات الاُصول المشكيني: 255.
  10. . الموافقات 4: 113.
  11. . شرح تنقيح الفصول: 449، سدّ الذرائع في الشريعة: 69 ـ 74.
  12. . كفاية الاُصول: 89 ـ 90، وسيلة الوصول إلى حقائق الاُصول: 263، اُصول الفقه المظفر 2: 329، محاضرات في اُصول الفقه 2: 115 ـ 116.
  13. . كفاية الاُصول: 90 ـ 91، نهاية الاُصول 1 ـ 2: 155، حقائق الاُصول 1: 216 ـ 217.
  14. . أجود التقريرات 1: 313.
  15. . محاضرات في اُصول الفقه 2: 115 ـ 116.
  16. . عناية الاُصول في شرح كفاية الاُصول 1: 287 ـ 296، وسيلة الوصول إلى حقائق الاُصول: 264، منتهى الدراية 2: 120 ـ 130، المحكم في اُصول الفقه 2: 238.
  17. . محاضرات في اُصول الفقه 2: 123.
  18. . تقريرات في اُصول الفقه الاشتهاردي: 68، زبدة الاُصول 1: 347.
  19. . وسيلة الوصول إلى حقائق الاُصول: 265، محاضرات في اُصول الفقه 2: 122 ـ 125، تحقيق الاُصول 2: 267، زبدة الاُصول 1: 347.
  20. . فوائد الاُصول 1 ـ 2: 272، وسيلة الوصول إلى حقائق الاُصول: 266، تقريرات في اُصول الفقه الاشتهاردي: 69 ـ 74.
  21. . زبدة الاُصول 1: 348 ـ 354، منتقى الاُصول 2: 108 ـ 126، منتهى الدراية 2: 130 ـ 150.
  22. . مطارح الأنظار 1 : 372، تقريرات آية اللّه‏ المجدد الشيرازي 2 : 305 ـ 306، و 319، بدائع الأفكار: 340 ـ 341، لمحات الاُصول: 153 ـ 154.
  23. . فوائد الاُصول 1 ـ 2: 290 ـ 294، اُصول الفقه المظفر 2: 336 ـ 340، تحريرات في الاُصول 3: 74 ـ 90، دروس في علم الاصول 1: 291 ـ 292، المحكم في اُصول الفقه 2: 284 ـ 295.
  24. . مطارح الأنظار 1: 353 ـ 354، اُصول الفقه المظفر 2: 344 ـ 350، دراسات في علم الاُصول 1: 247 ـ 355.
  25. . تقريرات المجدد الشيرازي 2: 62 ـ 64، 210 ـ 218، هداية المسترشدين 3: 103، كفاية الاُصول: 89، بدائع الأفكار: 295، غاية المسؤول في علم الاُصول: 226، أجود التقريرات 1: 312 ـ 313، دراسات في علم الاُصول 1: 248.
  26. . نهاية الاُصول: 191، أجود التقريرات 1: 309 ـ 359، تحريرات في الاُصول 3: 3 ـ 29.
  27. . وقاية الأذهان الإصفهاني: 246 ـ 249.
  28. . اُصول الفقه المظفر 2: 317، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 258.
  29. . كفاية الاُصول: 92 و 126.
  30. . الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 96 ـ 97، البحر المحيط 1: 223 ـ 227، الوافية في اُصول الفقه: 219، هداية المسترشدين 2: 103 ـ 104، اُصول الفقه (المظفر) 3: 351.
  31. . اُصول الفقه المظفر 3: 351 ـ 352.
  32. . الذريعة 1: 83، الوافية: 219.
  33. . الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 97.
  34. . كفاية الاُصول: 118.
  35. . هداية المسترشدين 2: 103.
  36. . وقاية الأذهان: 249، حقائق الاُصول 1: 296.
  37. . دراسات في علم الاُصول 1: 256 ـ 257.
  38. . كفاية الاُصول: 127.
  39. . كفاية الاُصول: 127 ـ 128، حقائق الاُصول 1: 299 ـ 300.
  40. . كفاية الاُصول: 128.
  41. . لمحات الاُصول: 157 ـ 160، حقائق الاُصول 1: 300.
  42. . اُصول الفقه المظفر 2: 353.
  43. . حقائق الاُصول 1: 263 ـ 264.
  44. . بحوث في علم الاُصول الشاهرودي 2: 281 ـ 283.
  45. . المباحث الاُصولية الفياض 4: 281.
  46. . اُصول الفقه المظفر 2: 319، لمحات الاُصول: 155.
  47. . هداية المسترشدين 2: 104، أجود التقريرات 1: 355.
  48. . مقالات الاُصول 1: 334.
  49. . هداية المسترشدين 2: 104 ـ 105.
  50. . نهاية النهاية 1: 159، أجود التقريرات 1: 174.
  51. . هداية المسترشدين 2: 105، أجود التقريرات 1: 356.
  52. . هداية المسترشدين 2: 105 ـ 106، مقالات الاُصول 1: 334، أجود التقريرات 1: 355 ـ 356.
  53. . هداية المسترشدين 2: 106 ـ 107، أجود التقريرات 1: 358.
  54. . هداية المسترشدين 2: 107 ـ 108، كفاية الاُصول: 123 ـ 125، أجود التقريرات 1: 243 ـ 247.
  55. . كفاية الاُصول: 128، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 356، هداية المسترشدين 2 : 179 ـ 181 ، أجودالتقريرات 1 : 248 ، حقائق الاُصول 1 : 300 ـ 301.
  56. . كفاية الاُصول: 128 ـ 129، أجود التقريرات 1: 358 ـ 362.
  57. . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 356.
  58. . هداية المسترشدين 2: 181.
  59. . بدائع الأفكار: 356.