سد الذرائع

من ویکي‌وحدت

سد الذرائع: اصطلاحٌ أصوليٌ مقابل فتح الذرائع، والمراد من السدّ هو المنع أو التحريم، أمّا الذرائع فهي جمع ذريعة وهو ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، والقاعدة تشير إلی منع الذرائع أو الاُمور المؤدّية والمفضية إلى عمل محظور، ومنها: قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا» نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلاّ يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم.

تعريف سد الذرائع لغةً

السدّ مصدر سددت الشيء سدّا، والسُدّ الحاجز بين الشيئين[١]. سدّ يسدّ سدّا، والاسم السُدّ... والسدّ: السحاب الذي يسدّ الأفق. وفي الحديث «من يغش سُدد السلطان يقم ويقعد» يريد الأبواب[٢].
السدّ: إغلاق الخلَل وردم الثلم. وحكي عن الزجاج: ما كان مسدودا خلقة فهو سُدّ، وما كان من عمل الناس فهو سَدّ[٣].

تعريف سد الذرائع اصطلاحاً

الواضح من استخدام هذا الاصطلاح في عبارات الأصوليين أنّ المراد من السدّ هو المنع أو التحريم، أمّا الذرائع فهي جمع ذريعة، وقد عرّفت بعدّة تعاريف:
منها: أمر غير ممنوع لنفسه، قويت التهمة في أدائه إلى فعل محظور[٤].
ومنها: التوسّل بما هو مصلحة إلى مفسدة[٥]. ومنها: المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصّل بها إلى فعل المحظور[٦].
أمّا مجمل القاعدة فتعني منع الذرائع أو الاُمور المؤدّية والمفضية إلى عمل محظور، ولأجل ذلك ورد عن البعض تعريفها بمثل: منع الوسائل المفضية إلى المفاسد[٧]. أو حسم وسائل الفساد[٨].
وهناك من وصف اصطلاح سدّ الذرائع وأوضحه بقوله: «الذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، وأنّ من تأمّل مصادر الشريعة ومواردها علم أنّ اللّه‏ تعالى ورسوله(ص)سدّ الذرائع المفضية إلى المحارم، بأن حرّمها ونهى عنها»[٩].
التعاريف السابقة ناظرة إلى الوسائل الموصلة إلى المفسدة، لكن هناك تعاريف تفرض الذريعة أعمّ من الموصلة إلى المفسدة، بل تشمل كلّ مقدّمة ووسيلة سواء أوصلت إلى المصلحة أو المفسدة، مثل التعريف التالي:
الوسيلة الموصلة إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة، أو المشروع المشتمل على مصلحة[١٠]. وبهذا التعريف يكون الموضوع شاملاً لسدّ الذرائع وفتحها، لعدم اقتصار الذرائع على ما أفضت إلى المفسدة.
وبناء على التعاريف السالفة يرى البعض أنّ لسدّ الذرائع ثلاثة أركان هي:
الأوّل: الوسيلة أو الفعل الذي يتوسّل به لغرض ارتكاب فعل آخر.
الثاني: الإفضاء، أي أن تكون هناك حالة إفضاء بالوسيلة تنتهي إلى المحظور عادة.
الثالث: المتوسّل إليه، أي الفعل المحظور الذي يرتكب من خلال ارتكاب الوسيلة[١١].
وقد يقال في تحرير النزاع في بحث سدّ الذرائع: أنّ الذي يفضي إلى الوقوع في المحظور تارة يفضي إليه بنحو قطعي ودائما، أو يفضي إليه غالبا أو ينفك عن المحظور غالبا أو يتساوى الإفضاء وعدمه، والأوّل لا شكّ في حرمته من باب كون الواجب لا يتمّ إلاّ به، والثاني والثالث مختلف فيه، والرابع هو الذرائع موضع البحث هنا.
ويُذكر هنا أنّ أكثر المذاهب توسّعا في هذا البحث هو المالكية، ثُمّ الحنبلية[١٢]. وأقلّها الشافعية، وبرغم أنّ الحنفية قالوا بسد الذرائع إلاّ أنّهم كانوا أقرب إلى الشافعية من حيث التخفيف في الأخذ بها[١٣]. ولأجل هذا نجد التعرّض لهذا الموضوع قليلاً في مدوّنات أصول الفقه الشافعي والحنفي. أمّا الشيعة فتناوله بعض من كتب في أصول الفقه المقارن، مثل: الشيخ السبحاني، والسيّد محمد تقي الحكيم.

الألفاظ ذات الصلة

1 ـ فتح الذرائع

يناقش موضوع فتح الذرائع أحيانا تحت عنوان الحيل أو الحيل الشرعية، والقول بها يناقض القول بسدّ الذرائع، فالمراد من الفتح هو السماح ببعض الذرائع كمقدّمة لارتكاب المفاسد بحيل شرعية، وذلك مثل: تحليل الربا في قالب بيع صوري[١٤].

2 ـ مقدّمة

عرفت المقدمة بعدّة تعاريف، مثل: هي الطريق التي يتوصّل بها إلى الشيء[١٥] أو ما يتوقّف عليه الشيء[١٦].
وفي الفرق بينها وبين الذريعة والبحوث المدرجة تحت كلّ منهما يقول الشيخ السبحاني: «بأن البحث المدرج تحت عنوان سدّ الذرائع يخصّ مقدّمة الحرام، بينما بحث المقدّمة عام ويشمل الحرام والواجب»[١٧]. لكن يذهب الشيخ وهبة الزحيلي إلى أنّ المقدمة عبارة عمّا يتوقّف عليها وجود الشيء ولولاها لما تمكّن أحد من تحقيق الهدف المقصود، أمّا الذريعة فلا يتوقّف عليها وجود الشيء ويؤتى بها للتوصّل إلى الشيء، ففي قوله تعالى: «وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ»[١٨]. من باب الذريعة؛ لأنّ افتتان الرجل بالمرأة لا يتوقّف على الضرب بالرجل، ولكنّه ذريعة إلى تلك المفسدة؛ لأنّ من شأنه أن يؤدّي إليها[١٩].
واُجيب بأنّ الضرب بالأرجل مقدّمة أيضا لكنّها غير منحصرة بالافتتان، فالأخير يحصل بغير الضرب بالأرجل كذلك[٢٠].
ويرى البعض أنّ بينهما عموما وخصوصا من وجه، والذريعة تصدق في الموارد التي من شأنها أن تفضي إلى الفساد بينما المقدمة تصدق في الموارد التي تؤدّي بنحو قطعي ولا يتخلف عنها ويتوقّف الحرام عليها، فإنّ ضرب المرأة برجلها ذات الخلاخل ذريعة للافتتان بها؛ لأنّ من شأن الضرب أن يجرّ إلى الافتتان، بينما السفر لارتكاب معصية معينة لا تتم إلاّ به، فهو مقدّمة؛ لأنّ المعصية تتوقّف على هذا السفر، والسفر ليس ذريعة؛ لأنّه ليس من شأنه أن يفضي إلى المعاصي. وقد يجتمع الاثنان كالنكاح، فإنّه مقدّمة باعتباره شرطا للتحليل وذريعة باعتباره يفضي عادة إلى التحليل[٢١].
وبناء على هذا النقاش وما ورد من تعاريف للذريعة يمكن القول بوجود معنيين للذريعة في استخدامات الأصوليين، أحدهما المعنى الخاصّ، وهي الذريعة التي تنتهي إلى المحرّم، ومعنى عام وهو المعنى المرادف للمقدّمة، والتي يمكن أن تفضي إلى الحرام أو الواجب أو غيرهما[٢٢].
والاختلاف في حقيقته ناشئ عن استعمال الذريعة بمعنى عام، وهو مطلق المقدّمة، ولذلك أشار بعض الأصوليين إليها مثل قول القرافي: «واعلم أنّ الذريعة كما يجب سدّها يجب فتحها ويكره ويندب ويباح، فإنّ الذريعة هي الوسيلة، فكما أنّ وسيلة المحرم محرّمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحجّ»[٢٣].

3 ـ مصلحة ومفسدة

ورد أكثر من تعريف للمصلحة، مثل: جلب منفعة أو دفع مضرّة[٢٤] أو ما يوافق الإنسان في مقاصده لدنياه أو لآخرته أو لهما[٢٥]. ولابدّ أن المفسدة تقابل المصلحة.
وحقيقة سدّ الذرائع نوع عمل وفق المصلحة، وسدّ الذرائع أو فتحها يدور مدار المصلحة، فقد تستدعي المصلحة السدّ وقد تستدعي الفتح، فقد يرى الحاكم مصلحة في منع ممارسة بعض المباحات لأجل مصلحة أو مفسدة. وقد يبيح بعض الوسائل الممنوعة لترتّب بعض المصالح على تلك الوسائل ويذكر لهذا مثال إباحة لحم الخنزير عند الضرورة وكذلك دفع مال للعدو لأجل تخليص الأسرى من يده[٢٦].
ويقول الشاطبي: «إنّ قاعدة الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه تقوم في حقيقتها على التوسّل إلى ما هو مصلحة»[٢٧].

سدّ الذرائع دليل أم أصل أم قاعدة أم أمارة؟

اختلف أصوليو أهل السنة في إطلاق اسم قاعدة أو دليل أو أمارة عليه، فيصحّحون إطلاق الدليل عليه باعتبار شمول الدليل للقطعي منه والظنّي، وسدّ الذرائع ظنّي، كما يصححون إطلاق الأمارة عليه باعتبار ظنّيته، كما يصححون إطلاق الأصل عليه، باعتبار أنّ الأخير يعني الدليل أو الراجح أو القاعدة، وسدّ الذرائع قاعدة كذلك[٢٨]. هذا برغم أنّه لا يرقى إلى مستوى أحد مصادر التشريع (الكتاب و السنة و الإجماع و القياس)[٢٩].

استقلالية أو عدم استقلالية سدّ الذرائع

كما وقع البحث في تسميته أصلاً أو دليلاً أو قاعدة وقع البحث كذلك في استقلاله وعدمه. يذهب البعض إلى أنّ سدّ الذرائع دليل تبعي يرجع إلى واحد من مصادر التشريع (الكتاب و السنة و الإجماع و القياس)[٣٠]. لكنّ أكثر أو جميع الذين قالوا بهذا الأصل (وهم المالكية و الحنابلة) اعتبروه أصلاً مستقلاً وأفرزوا له عنوانا وبحثا خاصّا.
أمّا أصوليو الشيعة لا يعدونه أصلاً أو دليلاً مستقلاً في عرض سائر الأدلّة مثل القرآن و السنة؛ وذلك باعتبارهم يدرجون هذا البحث تحت عنوان المقدمة، ويعتبرونه من جزئيات ذلك البحث ومصاديقه. فحرمه المقدّمة إمّا ناشئة عن نفس النهي عن ذيها (على رأي بعض الأصوليين) فيندرج الموضوع تحت السنّة إذا دلّ دليل على حرمة ذيها دليل من السنّة. وقد يدخل الموضوع تحت العقل إذا دلّ على حرمة ذي المقدّمة دليل من العقل وهكذا. والنتيجة (وفق ما يذهب إليه البعض) لا يعتبر سدّ الذرائع دليلاً مستقلاً[٣١].
ويُذكر بالنسبة إلى الحنفية و الشافعية الذين نسب إليهم نفي القول بسدّ الذرائع أنّهم في الحقيقة نفوا كونه أصلاً مستقلاً ولم ينفوا حكم سدّ الذرائع من الأصل[٣٢].

أقسام الذرائع

وردت أقسام وتقسيمات عديدة للذرائع، والأمر يعود إلى اُمور مثل: القول بتساوي معناها مع معنى المقدّمة وعدم التساوي أو فرض معنى عام ومعنى خاصّ لها. نورد هنا بعض هذه التقسيمات.
قسّمت الذرائع وفق تقسيم الأحكام الشرعية الخمسة، وذلك بناءً على ما تفضي إليه الذريعة من محرّم أو واجب أوغيرهما، فإذا أفضت إلى واجب كانت واجبة وإذا أفضت إلى ما محرم كانت محرّمة وإذا أفضت إلى مستحبّ كانت مستحبّة وهكذا [٣٣].
وقسّمها القرافي إلى ثلاثة:
1 ـ قسم أجمعت الأمة على سدّه، وهو ما أدّى قطعا أو ظنّا قريبا من القطع إلى مفسدة بحسب العادة كبيع السلاح في أوقات الفتن وبيع العنب لمن عرف بصناعة الخمر.
2 ـ قسم أجمعت الأمّة على عدم سدّه، وهو ما كان أداؤه إلى المفسدة نادرا مثل زراعة العنب، فقد تؤدّي نادرا إلى صناعة الخمر.
3 ـ قسم اختلفت الأمّة فيه، وهو القسم الذي يفضي إلى الفساد كثيرا، لكن ليس غالبا، مثل: قضاء القاضي، أو بناء بئر في جنب حائط الجار يجتمع فيه ماء، فقد يؤدّي إلى خراب حائط الجار[٣٤].
وورد عن بعض تقسيمها بالنحو التالي:
النوع الأوّل: الوسائل الموضوعة للمباح ويحتمل أن تفضي إلى مفسدة، ولكن مصلحتها أرجح من مفسدتها، مثل: قبول خبر المرأة في انقضاء عدّتها، أو قبول خبر العدل مع احتمال عدم ضبطه.
النوع الثاني: الوسائل الموضوعة للاُمور المباحة والتي لم يقصد فاعلها التوسّل بها إلى مفسدة، ولكن تفضي إلى مفسدة غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها مثل بيع السلاح لمن نقطع بعدوانه على الأبرياء وكإيجار العقار لمن يريد اتّخاذه محلاًّ لبيع الخمر.
النوع الثالث: الوسائل الموضوعة للاُمور المباحة إلاّ أنّ فاعلها استعملها لغير ما وضعت له فاستعملها للمفسدة مثل أن يتوسّل بالبيع للوصول إلى الربا[٣٥].
وقسمت من حيث ورود النصّ إلى الأقسام التالية:
القسم الأوّل: مشروعة وهي الموصلة إلى أمر مشروع.
القسم الثاني: ذريعة ورد النصّ بمنعها، مثل: الخلوّبالأجنبية.
القسم الثالث: ذريعة سكتت النصوص عنها، فلم يؤمر بها ولم ينهَ عنها[٣٦].
وقد تكون هناك تقسيمات اُخرى ومناقشات وردت في هذا المجال[٣٧].

حكم الذرائع

يختلف حكم الذرائع باختلاف المذاهب وباختلاف الزاوية التي يُنظر من خلالها إلى الذرائع، فيحكم بحلّيتها أو حرمتها دون النظر إلى ما تؤول إليه، وقد يُنظر إليها من حيث ما تؤول إليه بنحو قطعي أو احتمالي أو غالبا، عندئذٍ يختلف الفقهاء في حكمها، ومكان بحثها الأساس هو الفقه، برغم بعض النقاشات التي أوردها بعض الأصوليين في هذا المضمار.
يذهب البعض إلى أنّ البحث هنا في الذرائع التي لم يرد فيها نصّ، أمّا التي ورد فيها نصّ فحكمها ما ورد في النصّ[٣٨].
بالنسبة إلى الوسائل الموضوعة للمباح مع احتمال ضئيل في إفضائها إلى الفساد فيبدو وجود اتّفاق على حلّيتها.
وبالنسبة إلى الوسائل المستخدمة في المفسدة فقط قطعا أو ظنّا قريبا منه فيبدو وجود اتّفاق كذلك على حرمتها[٣٩].
وبالنسبة إلى الموضوعة للمباح لكنّها تفضي إلى المفسدة غالبا أو أنّها موضوعة للمباح، لكن استعملها الشخص في المفسدة فموضع اختلاف ونقاش ينصبّ على هذين الصنفين في موضوع سدّ الذرائع[٤٠].
ذهبت الحنابلة و المالكية إلى منعها لما تفضي إليه؛ باعتبار أنّ حلّية الوسائل بحلّية مقاصدها، وهنا المقاصد غير محللة فتمنع وتحرم، بينما ذهب أبو حنيفة، والشافعي إلى عدم منعها؛ وذلك لإباحتها في الشريعة، ومجرّد احتمال الإفضاء إلى المفسدة لا يخرجها عن الإباحة[٤١].
باعتبار أنّ الشيعة يلحقون موضوع سدّ الذرائع بالمقدّمة وأحكامها فقد ذهبوا في ذلك البحث إلى أنّ حكم المقدّمة حكم ذيها، فإذا كان ذوها محرما فتحرم، وإذا كان مباحا فتباح. ويبدو هذا مجمعا عليه، لكن الاختلاف في تبرير حكمها من الوجوب أو الإباحة أو ما شابه. فقد يقال: بأنّ هذا الحکم يدخل في الملازمات العقلية وأنّ أمرا ما إذا وجب وجبت مقدّمته عقلاً. أو قد يقال: بأنّ هذا التلازم يدلّ عليه الدليل الدالّ على الوجوب لفظا لا عقلاً[٤٢].
ويرى البعض أنّ الشيعة كادت أن تطبق كلمتها على تبعية المقدمة لذيها على اختلاف في تفسير التبعية وحدودها من حيث الإطلاق و التقييد. لكنّ هناك من ينكر التبعية ويرى حكمها مستقلاً[٤٣].
وباعتبار أنّ حكم الذرائع يدور مدار المصالح والمفاسد، ومصاديقهما متغيّرة حسب الزمان والمكان، فطبيعي أن يختلف الحكم من زمن إلى آخر، ولأجل هذا نجد لدى الفقهاء نقاشات أحيانا تكون مطوّلة فيما يخصّ الموضوع والأمثلة التي استخدمت لسدّ الذرائع، فهناك تفاصيل واختلافات كثيرة وردت عنهم في هذا المجال، وجلّها بحوث فقهية، حيث سعى الفقهاء للاستدلال بسدّ الذرائع على بعض الموارد كالأمثلة التي وردت في هذا المقال[٤٤]؛ ولأجل ذلك يقال بأنّ الوسيلة قد تحرّم في زمن وتباح في زمن آخر نظرا لتغيّر المصلحة باختلاف الأزمنة، وذلك يستدعي تجديد النظر في حكم الوسائل في الأزمان المختلفة[٤٥].
وقد وضع البعض عدّة اعتبارات ينبغي ملاحظتها في الحکم على الوسيلة مثل ملاحظة طبيعة التشريع وحالة التغيّر فيه، وعدم حصر التفكير بالوسيلة المباشرة، وتحديد مواضع تحريمها لا بنحو مطلق، تحديد مَن تحرم عليه وحسب منصبه ومقامه، وأهمّية المصلحة الملحوظة في الحکم، وتجديد النظر في حكمها بين الحين والآخر، وعدم الغلو في حكمها[٤٦].
ويذهب بعض آخر إلى أنّ سدّ الذرائع من وجهة نظر ابن تيمية داخل تحت أصل المصلحة المعتبرة وبذلك تتخذ حكم المصلحة، حيث يقول: «إنّ سدّ الذرائع داخل تحت أصل المصلحة المعتبرة، حيث إنّ كلّ مسألة تُمنع سدّا للذرائع نكون بذلك أعملنا المصلحة. فالعمل بسدّ الذرائع يفضي إلى المحافظة على المصالح، حيث إنّنا أغلقنا الباب أمام كلّ مفسدة نكون بذلك فتحنا الباب للمصلحة وأعملناها»[٤٧].

أدلّة القائلين بسدّ الذرائع

أورد المالكية و الحنابلة عدّة أدلّة على حجية سد الذرائع، وقد أورد ابن قيم الجوزية تسعاً وتسعين وجهاً من أوجه الاحتجاج، وهي بعدد أسماء اللّه‏ الحسنى كما يقول[٤٨]:

الدليل الأول: النصوص القرآني والروايي

فقد استدلّ بكثير من الآيات والروايات لإثبات حجّية سدّ الذرائع: من القرآن موارد عديدة:
منها: قوله تعالى: «وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»[٤٩] فحرم اللّه‏ تعالى سبّ آلهة المشركين مع كون السبّ غيظا وحمية للّه‏ وإهانة لآلهتهم لكونه ذريعة إلى سبّهم للّه‏ تعالى وكانت مصلحة ترك مسبّته تعالى أرجح من مصلحة سبّنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلاّ يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
ومنها: قوله تعالى: «وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ»[٥٠] فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه؛ لئلاّ يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهنّ.
ومنها: قوله تعالى: «لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ»[٥١]. أمر تعالى في هذه الآية مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة لئلاّ يكون دخولهم غفلةً بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطّلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها وإن أمكن في تركه هذه المفسدة لندورها وقلّة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدّمة.
ومنها: قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا»[٥٢] نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلاّ يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنّهم كانوا يخاطبون بها النبي(ص) ويقصدون بها السبّ يقصدون فاعلاً من الرعونة فنهي المسلمون عن قولها سدّا لذريعة المشابهة ولئلاّ يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي(ص) تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون.
ومن السنّة موارد عديدة كذلك:
منها: إنّ النبي(ص) كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلاّ يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم إنّ محمّدا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممّن دخل فيه ومن لم يدخل فيه ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.
ومنها: إنّه(ص)حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن والسفر بها ولو في الحجّ وزيارة الوالدين سدّا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع.
ومنها: إنّه(ص) نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة كقوله: «إنّ اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم». وقوله: «إنّ اليهود لا يصلّون في نعالهم فخالفوهم». وقوله في عاشوراء: «خالِفوا اليهودَ صوموا يوما قبله ويوما بعده». وقوله: «لا تشبهوا بالأعاجم». وروى الترمذي عنه «ليس منّا من تشبه بغيرنا» وروى الإمام أحمد عنه: «من تشبه بقوم فهو منهم» وسرّ ذلك أنّ المشابهة في الهدى الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل.
ومنها: إنّه(ص) حرم الجمع بين المرأة وعمّتها والمرأة وخالتها: وقال «إنّكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» حتّى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأنّ ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرّمة كما علل به النبي[٥٣].

الدليل الثاني: فتاوى الصحابة

لقد وردت عدّة فتاوى عن الصحابة استفاد منها القائلون بسدّ الذرائع كأدلّة:
منها: إجماع الصحابة على قتل الجماعة بالواحد وإن كان أصل القصاص يمنع من ذلك؛ والسبب هو ألاّ يكون هذا الصنف من القتل ذريعة للتعاون على سفك الدماء البريئة.
ومنها: حكم عثمان بن عفان بتوريث تماضر بنت أصبغ الكلبية المطلقة بائنا من زوجها عبدالرحمن بن عوف فيمرض موته؛ لأنّ الطلاق في هذه الحالة ذريعة إلى قصد حرمان المرأة من الميراث بعد تعلّق حقّها به. وكان ذلك بمحضر من كبار الصحابة ولم ينكروا عليه.
ومنها: جمع عثمان المصحف على حرف واحد؛ لئلاّ يكون ذريعة إلى اختلافهم في القرآن ووافقه في ذلك الصحابة[٥٤].

الدليل الثالث: الاعتبارات العقلية

ذهب مثل ابن قيم الجوزية إلى أنّ حكم الوسائل تتبع ما تنتهى إليه، وأنّ تحريم وسيلة في حقيقته لأجل القصد والغاية المطلوبة منها و الحکم يتبع القصد. ولو أباح اللّه‏ الوسيلة المفضية إلى المحرّم لكان نقضا للتحريم وإغراء للنفوس إليه[٥٥]. وبرغم أنّ مجمل الأدلّة لسدّ الذرائع وردت عن المالكية و الحنبلية إلاّ أنّ هناك من يرى كون القول بسدّ الذرائع لا اختصاص له بالمالكية والحنبلية إلاّ من حيث التركيز عليها وكمية موارد الاستدلال بها والبحث فيها وتوسيع نطاق الاستدلال بها، وإلاّ فهناك من الذرائع ما هو مجمع عليه لدى المذاهب كالمنع من حفر بئر في طريق المسلمين، وإلقاء السم في طعامهم، وسبّ الأصنام عند من يُعلم حاله أنّه يسبّ اللّه‏، ومنها ما هو ملغى إجماعا كزراعة العنب، ومنها ما هو مختلف فيه كبيوع الآجال[٥٦].
ويذهب بعض آخر إلى أنّ سدّ الذرائع مجمع عليه في الجملة والنقاش في ذرائع خاصّة اختلف في حكمها مثل بيوع الآجال، أي يبيع سلعة إلى أجل ما ويشتريها نقدا بخمسين، فقد توصّل إلى الخمسين بمجرّد ذكر السلعة، وكذلك أمثال هذه الموارد[٥٧].
يرفض الشيخ السبحاني ما أروده ابن قيّم من شواهد أو أدلّة استقرائية على سدّ الذرائع من الكتاب و السنة، وذلك باعتبار أنّ القائلين بسدّ الذرائع مرادهم تحريم المباح من باب كونه حراما غيريا لوقوعه مقدّمة لحرام آخر، لا حراما نفسيا بينما أغلب ما ذكره ابن قيّم من شواهد هي حرام نفسي، والفرق بين الحرام النفسي والغيري أنّ الأخير لا يعاقب عليه بخلاف الحرام النفسي. لكنّ بعض الأمثلة التي ذكرها يبدو كونها محرمة غيرية، وهي موارد محدودة لا تصلح أن تكون دليلاً على حجّية سدّ الذرائع. وإذا شكّ في حرام كونه غيريا أو نفسيا فالإطلاق يقتضي أن يكون نفسيا، وعندئذٍ لا تصلح الشواهد أن تكون دليلاً على المراد.
ويُلاحظ على الاعتبارات العقلية التي أوردها ابن القيم عدّة ملاحظات:
أوّلاً: أنّها لو صحّ ادّعاء الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ذريعته فالقاعدة تكون من فروع حكم العقل لا قاعدة مستقلّة.
ثانيا: لا ملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدّمته بل لا مانع من حرمة الشيء وحلّية مقدّمته، وليس فيه أي نقض للتحريم، فالإباحة تعني اختيار المكلّف الفعل أو الترک، لكن لو أتى بها يعاقب لأجل إتيان ذيها، ولأجل ذلك يشترط في المقدّمة عدم التنافي بين حكمها وحكم ذيها، بأن يكون الشيء حراما وذريعته واجبة، لأنّ مثل هذا يعدّ نقضا للتحريم دون ما إذا كانت مباحة، فإنّه وإن لم يكن في هذه الحالة إلزام شرعي بتركها بل الفعل و الترک سيان عنده، لكنّ العقل يوجّهه ويرشده إلى ما هو فيه الصلاح ويدعوه من باب النُصح إلى ترك الذريعة خوفا من الوقوع في الحرام.
ثالثا: يمكن أن يقال كون تحريم المقدمة تحريما غيريا أمرا لغوا؛ لأنّ التحريم الغيري لا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب، وشأنه شأن الأمر المقدّمي في أنّ أمره يدور بين اللغوية إذا كان بصدد الإتيان بذيها، أو عدم الباعثية وإحداث الداعوية إذا لم يكن بصدد الإتيان بذيها. كما يورد مناقشات اُخرى على استدلالات ابن القيم[٥٨].

الهوامش

  1. . كتاب مجمل اللغة: 346.
  2. . جمهرة اللغة 2: 182 مادّة «سدّ».
  3. . لسان العرب 2: 1782 مادّة «سدّ».
  4. . سد الذرائع في الشريعة: 80.
  5. . الموافقات 4: 199.
  6. . البحر المحيط 6: 82، إرشاد الفحول 2: 281.
  7. . اُصول الفقه الذي لا يسعُ الفقيه جَهلَهُ: 211.
  8. . سد الذرائع في الشريعة: 81.
  9. . إعلام الموقعين 3: 4.
  10. . غاية المأمول: 351.
  11. . سدّ الذرائع في الشريعة: 101 ـ 102.
  12. . امتاع العقول 1: 458.
  13. . التطبيقات المعاصرة لسدّ الذريعة: 13.
  14. . اُنظر: اعلام الموقعين 3: 137 ـ 160، اُصول الفقه الإسلامي عبدالعزيز: 495 ـ 496، اُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: 224 ـ 228.
  15. . الحدائق الناضرة 7: 166.
  16. . غاية المسؤول في علم الاُصول الشهرستاني 1: 266، تحقيق الاُصول 3: 61، الوافية: 219.
  17. . اُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: 206.
  18. . النور: 31.
  19. . الوجيز في اُصول الفقه وهبة الزحيلي: 108.
  20. . اُصول الفقه المقارن فيما لا نص فيه: 207 ـ 208.
  21. . اُنظر: سد الذرائع في الشريعة: 84 ـ 85، الذريعة عند شيخ الإسلام: 44 ـ 46.
  22. . اُنظر: سد الذريعة في الشريعة: 69 ـ 74.
  23. . شرح تنقيح الفصول: 449.
  24. . المستصفى 1: 258.
  25. . معارج الاُصول: 221.
  26. . إمتاع العقول 1: 463 ـ 465، اُصول الفقه شلبي: 309 ـ 312، التطبيقات المعاصرة لسدّ الذريعة: 29 ـ 31.
  27. . الموافقات 4: 198 ـ 199.
  28. . سدّ الذرائع عند شيخ الإسلام: 35 ـ 39.
  29. . سدّ الذرائع في الشريعة: 170.
  30. . سدّ الذرائع في الشريعة: 170.
  31. . اُصول الفقه المقارن فيما لا نص فيه: 221 ـ 222، الاُصول العامة للفقه المقارن: 415.
  32. . اُصول الفقه الإسلامي عبدالعزيز: 486.
  33. . شرح تنقيح الفصول: 448 ـ 449.
  34. . الفروق 2: 32 و3: 266، واُنظر: التطبيقات المعاصرة لسدّ الذرائع: 53 ـ 62.
  35. . تحليل وفلسفة اُصول الفقه: 481 ـ 482.
  36. . غاية المأمول: 352.
  37. . اُنظر: سدّ الذرائع في الشريعة: 175 ـ 198.
  38. . غاية المأمول: 352.
  39. . امتاع العقول 1: 458.
  40. . تحليل وفلسفة اُصول الفقه: 482 ـ 483.
  41. . إرشاد الفحول 2: 282 ـ 283، تحليل وفلسفة اُصول الفقه: 482 ـ 483.
  42. . الاُصول العامة للفقه المقارن الحكيم: 398 ـ 399، واُنظر: اُصول الفقه (المظفر) 1 ـ 2: 350 ـ 355.
  43. . الاُصول العامة للفقه المقارن: 396.
  44. . الكنوز الثمينة الزكية: 228 ـ 236، المجموع النووي 10: 157 ـ 161، مواهب الجليل 4: 254، بحوث في الفقه المعاصر (الجواهري) 5: 25 ـ 40.
  45. . تمكين الباحث من الحكم بالنصّ: 324.
  46. . تمكين الباحث من الحكم بالنصّ: 310 ـ 331.
  47. . سدّ الذرائع عند شيخ الإسلام: 262.
  48. . إعلام الموقعين 3: 159.
  49. . الأنعام: 108.
  50. . النور: 31.
  51. . النور: 58.
  52. . البقرة: 104.
  53. . إعلام الموقعين 3: 137 ـ 159، واُنظر: إمتاع أهل العقول 1: 460 ـ 462، الجامع لأحكام القرآن 2: 57 ـ 59، التطبيقات المعاصرة لسدّ الذرائع: 13 فما بعدها، اُصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله: 212 فما بعدها، اُصول الفقه عبدالعزيز: 489 ـ 495.
  54. . إمتاع أهل العقول 1: 462.
  55. . إعلام الموقعين 3: 135.
  56. . إرشاد الفحول: 282 ـ 283.
  57. . البحر المحيط 6: 82.
  58. . اُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: 215 ـ 223، واُنظر: الاُصول العامة للفقه المقارن الحكيم: 397 ـ 398.