حجية خبر الواحد
حجية خبر الواحد: ممّا اختلف فيه الأصوليون هو حجّية خبر الواحد حيث وردت أقوال كثيرة في هذا المجال، وأهمّها هو ما نتعرّض إليه هنا. طبعا لا شكَّ في حجّية خبر الواحد عند من يقول بإفادته العلم؛ باعتبار حجّية العلم الذاتية. وقد ورد عن ابن حزم الأندلسي قوله: إنَّ خبر العدل عن مثله إلى رسول اللّه(ص)يوجب العلم والعمل معا، وبهذا نقول. أمّا الذين قالوا بعدم إفادته العلم، فاختلفوا على أقوال:
الأقوال حول حجية خبر الواحد
القول الأوّل: لا يجوز العمل به عقلاً
يذهب أصحاب هذا الرأي إلى عدم جواز العمل به عقلاً، ونسب إلى بعض أهل البدع من القدرية ومن تابعهم [١]. ونسب كذلك إلى الجبائي وجماعة من المتكلّمين [٢].
استدلَّ على هذا الرأي بعدّة اُمور واعتبارات عقلية:
منها: الشرائع لا تكون إلاّ مصالح لنا، ولا يمكن التحقُّق بمصحلة ما تضمّنه خبر الواحد، ولا نأمن كونه مفسدة.
ومنها: إذا لم يجز أن نخبر بما لا نأمن كونه كذبا، كذلك لا يجوز أن نقدم على ما لا نأمن من كونه مفسدة.
ومنها: لا يجوز قبول قول الرسول إلاّ بمعجزة ودليل نقطع من خلاله بالصدق، فغير الرسول أولى في عدم قبول قوله.
ومنها: لم يجز الرسول العمل بقوله إلاّ بدليل قاطع؛ لاحتمال الغلط، وهذا هو شأن خبر الواحد كذلك.
ومنها: إنَّ العمل يتبع العلم، وبما أنَّ الخبر لا يوجب العلم، فالعمل به يكون تبخيتا وتخمينا.
ومنها: لو جاز العمل بخبر الواحد ببعض الأحكام لجاز في سائرها حتّى في الأصول وإثبات القرآن والنبوّات.
ومنها: لو جاز التعبُّد بخبر العدل لجاز بخبر الفاسق كذلك، لعدم الفرق عقلاً بينهما [٣].
وردّ السيد المرتضى وغيره هذه الاعتبارات بما يلي:
أمّا الدليل الأوّل: فلأنَّ الخبر إذا أوجب العلم أو الوثوق علمنا بأنَّ ما أخبر به صلاحا وليس فسادا.
وردّ الثاني: بأنَّه إذا كان هناك ما يؤمّن للمكلّف كونه ليس كذبا جاز أن يؤخذ بالخبر.
ورُدَّ الثالث والرابع، وهما متقاربان: بأنَّ استيعاب الإعجاز عن طريق الرسول لا يتمُّ إلاّ من خلال العلم والدليل القاطع ولا طريق آخر، أمّا في مورد البحث فهناك دليل قائم على وجوب العمل بخبر الواحد.
ويردُّ الخامس: بردِّ مقولة تبعيّة العمل للعلم.
ويردُّ السادس: بأنَّه من غير الممتنع نظريا أن تثبت جميع أصول الشريعة بخبر الواحد.
ويردُّ السابع: بأنَّه من الجائز عقلاً أن يتعبّدنا اللّه بالعمل بخبر الفاسق [٤].
القول الثاني: يجوز التعبد به عقلاً لكن لم يرد شرعا التعبد به
ذهب إلى هذا الرأي السيد المرتضى، [٥] ونسب إلى القاشاني وأبي بكر بن داوود وما يدعو منها بـ الرافضة [٦].
كما ذهب إليه القاضي ابن البراج [٧]، وابن زهرة [٨]، وابن إدريس [٩]، كما حكي عن الطبرسي [١٠].
وقد استدلَّ السيّد المرتضى على هذا الرأي بعدم وجود الدليل الشرعي عليه، ورفض الآيات والروايات التي استدلّ بها على حجّية العمل بخبر الواحد [١١].
كما استدلَّ ابن زهرة الحلبي على عدم حجّية خبر الواحد بعدم الدليل على حجّيته، وردّ الاستدلالات عن القائلين بالحجّية [١٢].
كما استدلَّ لهم باُمور اُخرى [١٣].
لكن ذكر البعض [١٤] إمكانية الاستدلال لهذا الرأي بالاُمور الآتية:
أوّلاً: الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم، من قبيل: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» [١٥]. و «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ... مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ...» [١٦].
وآيات اُخرى تنهى بنحو ما عن اتّباع الظنّ [١٧].
ثانيا: الروايات الدالّة على ردّ ما لم يعلم أنّه قول المعصومين عليهمالسلام والمشكوك فيه أو غير الموافق للقرآن، من قبيل الرواية التالية:
... عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: وحدّثني الحسين بن أبي يعفور العلا أنَّه حضر بن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبداللّه عليهالسلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به، قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب أو من قول رسول اللّه(ص) وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به» [١٨].
ثالثا: الإجماع الذي حكاه السيّد المرتضى عن علماء الشيعة [١٩].
ردَّت هذه الأدلّة بما يلي:
بالنسبة إلى الآيات فإنّ الظاهر منها هو اتّباع غير العلم في الأصول الاعتقادية لا الفروع، ولو سلّم شمولها للفروع كذلك فهي مخصّصة بأدلّة حجّية خبر الآحاد.
وبالنسبة إلى الروايات فإنّها أخبار آحاد، ولا يمكن الاستدلال بها على رأي الرافضين لحجّية الخبر. وإن كان هناك تواتر إجمالي بصدور بعضها إلاّ أنّ التواتر حجّة فيما اتّفقت فيه، وهو غير مفيد في إثبات عدم حجّية خبر الواحد بنحو كلّي.
وبالنسبة إلى الإجماع فإنّه غير حاصل، ولا حجّية للمنقول فيه، مع أنّه معارض بمثله، وضعيف بذهاب المشهور على خلافه [٢٠].
وذهب المحقّق النائيني إلى أنَّ اصطلاح الخبر الواحد يطلق على معنيين، أحدهما: الخبر غير القطعي وما لا يكون محفوفا بالقرينة القطعية وما بحكمها، ثانيهما: الخبر الذي لا يعتمد عليه ويكون راويه غير ثقة، أي الخبر الضعيف، وقد يكون المراد من الإجماع على عدم حجّية خبر الآحاد الوارد على لسان السيّد المرتضى وغيره هو المعنى الثاني لا الأوّل الذي هو موضع بحثنا [٢١].
وهناك ردود اُخرى وردت في هذا المضمار، وخاصّة الإجماع المدّعى [٢٢].
القول الثالث: حجيّة خبر الواحد
ذهب أكثر الأصوليين [٢٣] إلى حجّية خبر الواحد.
وقد استدلَّ أصحاب هذا الرأي بالكتاب والسنّة والإجماع وحكم العقل [٢٤]:
الاستدلال بالكتاب
استدلّ بعدّة آيات في هذا المجال:
الآية الاُولى: آية النبأ
وهي قوله تعالى: «إن جاءكم فاسِق بنبأ فتبيّنوا أن تُصيبوا قوما بجهالةٍ فتُصبحوا على ما فعَلتُم نَادِمينَ»[٢٥].
استدلّ بها أصوليو أهل السنّة [٢٦] كما استدلّ بها أصوليو الشيعة مع تفاصيل ونقاشات كثيرة نذكر نماذج منها.
يستدلُّ بها بنحوين:
النحو الأوّل: بلحاظ مفهوم الوصف، وهذا يتمّ من خلال أحد الاعتبارات أو الوجوه التالية:
1 ـ كون مفهوم الوصف حجّة، ولا بدّ أن يكون هنا كذلك.
2 ـ كون الآية تنيط وجوب التبيُّن بعنوان خبر الفاسق، وهو يدلُّ بقانون احترازية القيود على انتفاء شخص الحكم بانتفاء الوصف، وهو مساوق في المقام مع انتفاء سنخ الحكم بوجوب التبيُّن عن خبر العادل، ما يعنى حجّيته [٢٧].
3 ـ كون علّة وجوب التبيُّن إمّا أن تكون وصف الفسق في المخبر أو أصل الخبرية، والأوّل وصف عرفي والثاني ذاتي، فإذا كانت العلّة هي الوصف العرفي فمعناه أنّ الخبر لولا وصف الفسق في المخبر لم يجب التبيُّن، وهو المطلوب، وإن كانت العلّة هي الخبرية، فهو خلاف ظاهر الآية [٢٨].
وهناك اعتبارات اُخرى كذلك [٢٩].
لكن ردّ الاستدلال بمفهوم الوصف بوجوه غير قليلة:
منها: أنَّه لا مفهوم للوصف بالنحو الذي يثبت للشرط.
ومنها: كون وجوب التبيُّن في الآية وجوبا إرشاديا لا مولويا، أي أنَّه يرشد إلى عدم حجّية خبر الفاسق، وهو ساكت عن خبر غير الفاسق.
النحو الثاني: لحاظ مفهوم الشرط، و البيان الابتدائي له أنَّ الشرط يدلُّ على انتفاء الحكم عن الموضوع بانتفاء الشرط، والموضوع في المقام هو النبأ، والحكم هو وجوب التبيُّن عنه، والشرط مجيء الفاسق به، فتدلُّ الجملة الشرطية على انتفاء وجوب التبيُّن عن النبأ لو لم يكن الجائي به فاسقا أي كان عادلاً، وهو المطلوب [٣٠].
وعلى العموم فقد اعترض على الاستدلال بالآية ونوقش في مجمل الوجوه المذكورة من قبل الكثير من أصوليي الشيعة.
وتعود بعض الاعتراضات على الاستدلال بالآية إلى إنكار أصل الظهور الاقتضائي للآية على المفهوم، وبعضها دعوى وجود مانع عنه بعد افتراض وجوده بنحو القرينة المتّصلة الرافعة لفعليته، وبعضها إلى دعوى عدم حجّيته بعد افتراض فعلية ظهوره في المفهوم لوجود مانع، وهنا نورد النماذج التالية:
1 ـ إنَّ الشرط في الآية مسوق لبيان الموضوع، وهي من قبيل: إن رزقت ولدا فاختنه. فإنَّ الولد إذا انتفى ينتفي الختان لانتقاء موضوعه، وكذا في المقام فإنَّ انتفاء وجوب التبيُّن عن الخبر عند انتفاء مجيء الفاسق به إنّما هو لانتفاء موضوعه لا للمفهوم، إذ مع عدم مجيء الفاسق بالخبر لا خبر هناك ليجب التبيُّن عنه أو لا يجب.
لكن ردّ هذا الإشكال بأنّ الموضوع في القضية هو النبأ ومجيء الفاسق به شرط لوجوب التبيُّن، فلا تكون القضية مسوقة لبيان تحقّق الموضوع، ويلزم كونها مسوقة لبيان تحقّق الموضوع فيما إذا كان الجزاء متوقّفا على الشرط عقلاً، بينما التوقُّف هنا غير عقلي بل شرعي، فالشرع هوالذي فرض التبيُّن لا العقل.
2 ـ هناك قرينة في الآية تنفي ثبوت المفهوم، وهي: «أَن تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ» فهي تعليل وتعني كون العمل بخبر الفاسق عرضة للوقوع في المفسدة، وهذه العلّة تقتضي التبيُّن حتّى في خبر العادل؛ لاحتمال غفلته وخطئه، فخبره عرضة للمفسدة كذلك كما هو حال خبر الفاسق، ونتيجة ذلك عدم جواز العمل بكلّ خبر لا يفيد العلم، سواء جاء به عادل أو فاسق، فلا مفهوم للآية، وهي مجملة من هذه الناحية.
وردّ هذا الإشكال باُمور:
أ ـ كونه مبنيا على أنّ المراد من الجهالة في الآية هو عدم العلم، مع أنّ الظاهر منها كون المراد هو السفاهة، ومن الواضح أنّ العمل بخبر العادل لا يستلزم سفاهة، كما أنّ كبار الصحابة كان يعمل وفقه، ولو كان فيه سفاهة لما عمل به هؤلاء.
ب ـ على فرض كون الجهالة هنا تعني عدم العلم إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من حصول المفهوم، والأخير يكون حاكما على عموم التعليل؛ لأنّ خبر العادل يكون علما تعبُّديا، بناءً على أنّ مفاد دليل حجّية الطرق والأمارات هو تتميم الكشف وجعل غير العلم علما بالاعتبار، فيكون خبر العادل خارجا عن عموم التعليل موضوعا.
وهناك الكثير من المناقشات ينقلها أصوليو الشيعة وخاصّة الشهيد الصدر والفياض [٣١].
ثُمّ إنّه على فرض تمامية الاستدلال بالآية بمجمل وجوهها نوقش في ما إذا كان الاستدلال بها يتمُّ بنحو الاستقلال أو بحاجة إلى ضمِّ مقدّمة خارجية اُخرى هي عدم أسوئية خبر العادل عن الفاسق؛ إذ يحتمل عدم وجوب التبيُّن بمعنى طرحه رأسا وإهماله؟ هناك رأيان، والأصوليون منقسمون في الموضوع [٣٢].
معنى الفسق والوثوق
اختلف في تحديد مفهوم ومعنى الفاسق الوارد في آية النبأ، فبعض فسّره بما يقابل العادل [٣٣]؛ لأنَّه هو الثقة شرعا، وخالف بعض آخر ورآه من تسكن النفس إليه ويُطمئنّ بقوله [٣٤]، وبناءً على هذا يكون المراد من الفسق في الآية هو الفسق الخبري، أي الكذب والوضع في الحديث لا الشرعي الذي يقابل العدالة.
وبرّر أصحاب الرأي الثاني مسلكهم في تفسير الفسق بأنّ إرادة ما يقابل العادل الدارج لدى الأصوليين حاليا غير صحيح؛ لأنَّ العادل بمعناه الأخير شاع مؤخّرا، والمعنى المنسجم مع الآية هو الشائع في الاستعمالات وخاصّة الكتاب، أي ما يقابل المؤمن، فيعمُّ الكافر والمنافق. وقد ورد في بعض الروايات النهي عن إطلاق الفاسق على المؤمن العاصي وأنّه فاسق العمل، مع أنّه لا دليل على اعتبار عدالة المخبر، كما أنّه يلزم ضعف أكثر الأحاديث؛ لعدم العلم بعدالة أحد منهم إلاّ نادرا [٣٥].
و السيد الخوئي اشترط حصول الوثوق النوعي بوثاقة الراوي، بمعنى كونه محترزا عن الكذب، ولا يعتبر الوثوق النوعي بصدقه ومطابقته للواقع ولو بسبب عمل المشهور [٣٦].
وبعض آخر نفى اشتراط كون المخبر ثقة أو عادلاً واشترط حصول الوثوق بالخبر نفسه، بحيث لو حصل وثوق به بسبب عمل الأصحاب وفقه كان حجّة ولو كان رواته غير ثقات؛ لأنّه لا موضوعية للعادل أو الثقة [٣٧].
الآية الثانية: آية النفر
وهي: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» [٣٨]. آية النفر
استدلَّ بها أصوليو أهل السنة و الشيعة، وقد بالغ البعض في اعتبارها أوضح الآيات دلالة على حجّية خبر الواحد، بينما جعلها البعض بمثابة حديث: «من حفظ على اُمتي أربعين حديثا ينتفعون بها بعثه اللّه تعالى يوم القيامة عالما فقيها» [٣٩] في عدم الدلالة على حجّية خبر الواحد [٤٠]؛ باعتبار أنَّ الاستدلال بالحديث المزبور على حجّية الخبر ضعيف جدّا كما يتّضح ممّا يلي [٤١].
يتوقّف الاستدلال بها على اُمور:
الأوّل: أن يكون المراد إنذار كلّ واحد من النافرين لا إنذار مجموع النافرين، بحيث لا يستلزم العلم من إخبارهم؛ لأنّ المجموع إذا أخبر قد يفيد إخباره العلم، أمّا الفرد فلا يفيد عادة.
الثاني: أن يكون المراد من الحذر هو التحفّظ والتجنّب العلمي لا مجرّد الخوف النفساني، والظاهر من الآية هو ذلك، ولا يراد منها الخوف النفساني فقط.
الثالث: أن يكون الحذر والتجنّب العملي واجبا عند إنذار المنذر، وهذا هو الظاهر من الآية، فإنّ التحذّر غاية للواجب (الإنذار) وغاية الواجب واجبة، ولو لم يكن واجبا لزم أن يكون لغوا.
وأورد على الاستدلال بها اُمور نورد نماذج منها:
1 ـ كلمة لعلّ تدلُّ على ترقّب الحذر، وهو الخوف من العقاب، ولا تدلُّ على حصوله بالفعل، فالترقّب هو مفادها عرفا، فهي لا تدلُّ على كون إنذار المنذر حجّة، ولو كان حجّة لحصل لهم الحذر فعلاً.
2 ـ بالنسبة إلى قاعدة غاية الواجب واجبة خاصّة بما إذا كانت قابلة لئن يتعلّق بها التكليف مباشرة، من قبيل أمر المولى بالدخول في المسجد للصلاة فيه، فإنّ الغاية (الصلاة) متعلّقة للتكليف مباشرة. أمّا إذا كانت الغاية فعل شخص آخر خارجا عن اختيار الشخص المأمور بذيها فلا يمكن القول بأنّ غاية الواجب أولى بالوجوب، ولا يمكن تطبيق القاعدة في المقام، فإنّها تنطبق فيما إذا كانت الغاية مقدورة له ولو بالواسطة، أمّا الغاية في مورد الآية المباركة وهي الحذر، حيث إنّها فعل المنذرين (بالفتح) فهي خارجة عن اختيار المنذرين (بالكسر) فلا يمكن تطبيقها، فلا تدلّ الآية على وجوب التحذّر عند إنذارالمنذرين.
3 ـ نوقش في الملازمة المفروضة في الاعتبارات المتقدّمة بين وجوب التحذّر والقبول من جهة وحجّية الخبر من جهة اُخرى، وأنّه إذا كانت هناك ملازمة فهي تختصُّ في حالة الشكّ في التكليف الذي يكون مجرى للبراءة والتأمين عقلاً أو شرعا، ولا يشمل حالة الشكّ في التكليف الذي يكون في نفسه مجرى لأصالة الاشتغال وعدم العذر، من قبيل: الشبهة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي؛ وذلك لأنَّ التنجيز هنا يكون لنفس الشكّ لا لقيام الحجّة على الإلزام، بينما هناك قرينة تفيد كون الآية ناظرة إلى الحالة الثانية لا الاُولى، وهي تعليل وجوب الإنذار بالتحذّر في قوله تعالى: «لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ». فإنَّ تعليل الأمر بشيء بعلّة ظاهر في أنَّ تحقّق ذلك الشيء المأمور به ليس شرطا في مطلوبية تلك العلّة وليس من مقدّمات وجوبه، بل شرط في وجوده ومن مقدّمات وجوده.
وعليه، فالتحذُّر مطلوب في نفسه بقطع النظر عن الإنذار، وأنَّ الإنذار ليس هو سبب التنجيز ووجوب التحذّر، والأمر به محرك وحافز للمكلّفين.
4 ـ نوقش أيضا من حيث إنَّ التحذّر رتّب على إنذار المخبر لا إخباره، والإنذار هو الإخبار الموجب للخوف، والظاهر من الآية الاختصاص بالإنذار من العقاب الناجم عن تنجُّز التكليف لا مخالفة الحكم الشرعي ولو لم يكن فيه عقاب، وذلك بحسب المتفاهم العرفي، وإذا لم تكن ظاهرة في هذا المعنى فلا أقلّ كونها غير ظاهرة في المعنى الآخر، وهو يوجب الإجمال وعدم صحّة الاستدلال بها.
5 ـ نوقش في إطلاق الآية وشمولها لصورة عدم حصول العلم من الإنذار؛ وذلك لكونها ليست في مقام البيان من ناحية وجوب التحذّر، فهي في مقام وجوب النفر والإنذار فقط، ومع هذا لا دلالة لها على الإطلاق.
وغير هذا الكثير من النقاشات والردود [٤٢].
الآية الثالثة: آية الكتمان
وهي: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ» [٤٣]. آية الکتمان
ويستدلُّ بهذه الآية من خلال ادّعاء أنَّ تحريم الكتمان ووجوب الإظهار يستلزم وجوب القبول وإلاَّ كان لغوا، فبدلالة الاقتضاء يثبت وجوب القبول، وبمقتضى الإطلاق ثبت وجوبه حتّى في صورة عدم حصول العلم من الإظهار، فتثبت حجّية خبر الواحد.
وإذا أشكل عليه بأنَّ الكتمان لا يصدق مع عدم وجود مقتضٍ للأخبار، كالسؤال ونحوه، فيجاب: بأنَّ هذا لا يقدح بالاستدلال، من حيث إنَّا لو استفدنا الحجّية في الإخبار المسبوق بالسؤال تثبت في مطلق الإخبار؛ لعدم احتمال دخل خصوصية السؤال في حجّية الخبر المبتنية على الكاشفية.
وقد يشكل في أنَّ الكتمان يعني حجب الحقيقة عن الظهور مع توفّر مقتضيات ظهورها، بحيث لو لم يكتم لظهرت الحقيقة، وهذا الكتمان لا يصدق حالة عدم حصول العلم من الإخبار، فلا تدلّ الآية على حجّية خبر الواحد.
ويردُّ بأنَّ الكتمان هو إخفاء الحقيقة نسبيا لا على نحو الإطلاق، فمن لا يكون قوله مفيدا للعلم لعدم وثاقته مثلاً يصدق الكتمان على إخفائه الحقيقة كذلك.
ويشكل على الاستدلال بالآية أيضا بأنّه قد يكون المراد من «الكتاب» هو القرآن لا التوراة و الإنجيل، والآية ناظرة إلى العالمين بالعهدين الذين يعلمون بنبوّة الرسول وفقا للبشائر التي وردت في العهدين رغم ذلك يكتمون الحقيقة، وهو من أعظم المحرّمات. وعليه تكون الآية أجنبية عن المطلوب.
وهناك إشكالات اُخرى وردت على الاستدلال بهذه الآية [٤٤].
الآية الرابعة: آية الذكر
وهي: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» [٤٥]. آية السؤال
ويستدلُّ بها من باب استفادة وجوب القبول بالملازمة من وجوب السؤال، وتثبت حجّية خبر الواحد بإطلاق وجوب القبول وشموله لصورة عدم حصول العلم من الجواب.
وفسِّر أهل الذكر بأهل العلم والاطّلاع، وهو صادق على الرواة؛ باعتبارهم أهل اطّلاع وعلم من طائفة المجتهدين.
وقد أشكل على الاستدلال بالآية هنا باُمور:
منها: عدم وجود ملازمة تعبّدية بين وجوب السؤال ووجوب القبول.
ومنها: سياق الآية يثبت كونها واردة في مقام مخاصمة منكري رسالة النبي(ص) بدعوى أنَّه إنسان كسائر البشر في متطلّباته الطبيعية، وهو أمر لا ينسجم مع كونه مبعوثا إلهيا، فأكّدت هذه الآية وغيرها بأنَّ الرسالات كانت منذ البداية بأيدي بشر، وتحيل المنكرين إلى أهل الذكر من أهل الكتب السابقة لكي يطلعوا المنكرين على هذا الأمر. وهذا أمر غريب عن واقع جعل الحجّية لخبر الواحد.
ويدلُّ على هذا كون متعلّق السؤال في الآية محذوفا ولكنّه غير مطلق؛ وذلك بقرينة التفريع، فالمفهوم من التفريع أنّ السؤال عن بشرية الأنبياء في الرسالات، وهو من حقائق أصول الدين ولا علاقة له بالتعبُّد فيما نحن فيه [٤٦].
وهناك آيات اُخرى استدلّ بها على المطلوب لكن رفضها جلّ الأصوليين، بل حتّى لم يدرجوها ضمن الأدلّة، مثل آية الأذن، وهي قوله تعالى: «وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» [٤٧]. ومثل قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ...» [٤٨]. وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ» [٤٩]. وغيرها من الآيات [٥٠].
الاستدلال بالسنّة
استدلَّ بالكثير من الروايات لإثبات حجّية خبر الواحد، وقد بلغت الطوائف لدى البعض خمسة عشر طائفة [٥١]، واختصرها السيّد محمد تقي الحكيم [٥٢] بالطوائف التالية:
الاُولى: الروايات التي أرجع الأئمة أصحابهم إلى بعضهم الآخر كإرجاعه إلى زرارة بقوله: «إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس وأشار إلى زرارة» [٥٣].
الثانية: الروايات الدالّة على وجوب الرجوع إلى الرواة، كخبر الاحتجاج: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلىرواة حديثنا، فانّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اللّه عليهم» [٥٤].
الثالثة: الروايات الحاثّة على كتابة الحديث وإبلاغه، كقوله(ص): «من حفظ على اُمتي أربعين حديثا بعثه اللّه فقيها عالما يوم القيامة» [٥٥].
الرابعة: الروايات الذامّة الكذب عليهم والتحذير من الكذابين، مثل الحديث المتواتر عن النبي(ص): «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار» [٥٦].
الخامسة: أخبار معالجة التعارض بالأخذ بالمرجحات، كالأعدلية والأصدقية و الشهرة والقول بـ التخيير عند التساوي [٥٧]، فإنّه مع عدم فرض حجّية أخبار الآحاد لا يتصوّر فرض التعارض في أخبار المعصومين.
السادسة: الأخبار الواردة في تسويغ الرجوع إلى كتب الشلمغاني وبني فضّال والأخذ بروايتها وترك آرائهم [٥٨].
استدلَّ بها بعض أصوليي الشيعة بناءً على وجود تواتر إجمالي يفيد في النتيجة حجية خبر الثقة [٥٩].
وقد استدلّ اُصوليو أهل السنة بطوائف من الروايات مثل ما يقال من تواتر النقل بإنفاذ الرسول(ص) سعاته إلى القبائل والمدن، لأخذ الزكوات وتعليم الأحكام، من قبيل: إنفاذه معاذا إلى اليمن ليفقّههم في دينهم ويقبض زكواتهم، وكثير من هذه الإنفاذات مع أنّ الرسول ما كان ينفذ لهم جماعة توجب التواتر، بل آحادا يوجب إخبارهم الظنّ فحسب.. [٦٠]. وروايات اُخرى تأتي في دليل الإجماع و السيرة.
والمورد الأخير (إنفاذ الرسول سعاته) يمكن أن يعود إلى سيرة المسلمين في اعتمادهم خبر الثقة، أي أنّه يحكي دليل السيرة وليس السنّة، ويمكن أن يقال في الاستدلال به إنَّ العمل بخبر الثقة لا بدّ أن يكون حجّة لدى الرسول ما جعله ينفذ أفرادا لا يفيد خبرهم التواتر، فيعود الدليل إلى دليل السنّة.
لكن ردَّ الكثير من الأصوليين هذه الطوائف بنحو أو آخر، إمّا بالقول بضعف سندها وأنّها روايات آحاد لا يمكن إثبات حجّية أخبار الآحاد بها، أو من قبيل: أنّها وردت في أفراد خاصّين، أي حوالة على أشخاص معينين (كما هو في الطائفة الاُولى)، أو من قبيل: أنّ الاستدلال بها يعتمد القول على الملازمة بين وجوب الحفظ وقبول الحجّية (كما هو في الطائفة الثالثة) [٦١].
وبعض مثل المحقّق الخراساني لم يذكر أيّا من الروايات التي يمكن الاستدلال بها أصلاً، لكنّه يذهب في ذات الوقت إلى وجود تواتر إجمالي بصدور بعضها من المعصومين ممّا يستفاد حجّية الخبر عموما وإن كانمضمون بعضها محددا بأخبار من أشخاص معينين [٦٢].
كما يرى الشهيد الصدر عدم صلاحية جميعها للدلالة على المطلوب [٦٣]، لكن يذهب إلى إمكانية حصول قطع أو اطمئنان شخصي برواية واحدة لخصائص في سندها، من حيث عدم احتمال كذب رواتها، ووردت في (الكافي) الذي يحظى بمقبولية عالية، وتوصف سلسلة الرواة فيها بالذهبية، أو بلحاظ ضمّها إلى روايات اُخرى على أقلّ تقدير. وهي رواية طويلة استدلَّ بالفقرتين التاليتين منها:
الفقرة الاُولى: «العمري ثقتي فما أدّى إليك فعنّي يؤدّي، وما قال لك فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون» [٦٤].
فإنَّ ذيل هذه الفقرة «فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون» بمثابة كبرى كلّية اُشير إليها، وهي أنّ كلّ ثقة مأمون يسمع له، وهذا هو معنى حجّية خبر الثقة.
الفقرة الثانية: «العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقول، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان» [٦٥].
والاستدلال بهذه الفقرة ذات الاستدلال بالفقرة الاُولى، بل الاستدلال بها هنا أوضح؛ لعدم تفريع التعليل فيها على قوله: «ثقتي» بل على قوله: «إنّهما ثقتان» ما يعني أنّ الحكم مبني على الوثاقة العامّة لا الشخصية.
كما يذهب إلى وجود روايات اُخرى تساوق هذه الرواية من حيث السند والمضمون، وهي بالإجمال لا تخلو من نقاشات وردود [٦٦].
الاستدلال بالإجماع
ادّعي إجماع الشيعة على حجّية الخبر الواحد [٦٧]، وادّعى بعض أصوليي أهل السنة إجماع الصحابة على حجّيته، بدليل عملهم بأخبار الآحاد، واعتبروا عملهم بأخبار الآحاد ممّا تواترت الأخبار عليه [٦٨]، وذلك من قبيل: رجوع عمر إلى حديث حمل بن مالك في دية الجنين، حيث ورد فيه: لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره [٦٩]، ورجوع عثمان في السكنى إلى حديث فريعة بنت مالك [٧٠]، وينقل عن علي وعبد اللّه بن عمر عملهم بخبر الواحد، كما يقال برجوع الصحابة إلى خبر عائشة في قضية التقاء الختانين [٧١] وغيرها من الروايات التي يبدو منها العمل بخبر الواحد [٧٢].
ويبدو من الآمدي ترجيحه لهذا الدليل على باقي الأدلّة، حيث اعتبره الأقرب في المسألة [٧٣].
هذا برغم ما يقال من تفاوت بين الصحابة في طريق إثبات السنّة بخبر الواحد، فكان أبو بكر وعمر لا يقبلان الحديث إلاّ بشهادة اثنين على سماعه، أمّا علي فكان يكتفي باستحلاف الراوي على سماع الحديث من الرسول، كما كان الصحابة يرفضون بعض الأحاديث لضعف الثقة بالراوي أو لعلمه بنسخ الحديث أو ما شابه ذلك، وأحيانا يتوقّفون في العمل وفق الحديث، لاُمور اقتضت ذلك.ويُذكر لهذا شواهد عدّة [٧٤].
وادّعى بعض وجود إجماع بين التابعين كذلك على حجّية خبر الواحد [٧٥].
وذهب البعض الآخر إلى أنَّ الاُمّة توارثت قبول قول الوكلاء والاُجراء وقول الناس في بيع الأملاك وإجاراتها ورهنها، وكذلك قبول الشهادات في عامّة الأحكام خصوصا الحدود والقصاص مع احتمال الكذب؛ وذلك لرجحان الصدق بسبب عدالة المخبر [٧٦].
لكن رفض الشيخ الطوسي الإجماع المستدلّ به لاُمور:
منها: إنّ هذه الأخبار التي يبدو منها إثبات عمل الصحابة كلّها أخبار آحاد، مع أنّه يراد منها إثبات حجّية أخبار الآحاد.
ومنها: لو سلّمنا عمل الصحابة بهذه الأخبار فمن غير المسلّم به كونهم عملوا بها من باب كونها أخبار آحاد، فقد يكون هناك دليل أو قرينة تثبت لهم حجّية ما ورد في هذه الأخبار.
ومنها: على فرض تسليم عمل الصحابة بها لأجل كونها أخبار آحاد، فإنّ هذا لا يثبت إجماع الصحابة على العمل بها، فإنّ الفرض المسلّم به هنا هو عمل بعض الصحابة بها دون جميعهم [٧٧].
كما نوقش في الإجماع المزبور بأنَّ المحصَّل منه غير حاصل، والمنقول لا يمكن الاستدلال به، مع أنَّه معارض بذهاب المشهور على خلافه [٧٨].
لكن همَّ الشيخ الأنصاري وغيره بتقريب الإجماع بوجوه، وتفصيل الكلام في الموضوع، وردّ بعض الوجوه وقبول الاُخرى.
بعض الوجوه يعود إلى الإجماع المحصَّل أو المنقول، من خلال تتبُّع كلمات العلماء في مجال خبر الآحاد ما إذا كانوا يقولون بحجّيته أم لا؟ أو يحكون الإجماع عن عموم العلماء، وبعضها يعود إلى الإجماع العملي، أي عمل المجتهدين في هذه المسألة الأصولية، وبعضها يعود إلى سيرة المتشرعة والعقلاء، والتقريب الأخير للإجماع موضع قبول أكثر الأصوليين بينما رفض جلّ الأصوليين وجود إجماع محصَّل [٧٩].
الاستدلال بالسيرة
جلّ من تعرّض إلى دليل السيرة أدرجه ضمن دليل الإجماع ولم يفرد له عنوانا مستقلاً عن الإجماع؛ ويبدو ذلك لاعتباره دليلاً أو شاهدا على وجود إجماع على العمل بخبر الواحد أو كأحد الوجوه التقريبية لوجود الإجماع المفروض [٨٠].
والأفضل التفريق بين السيرة والإجماع؛ باعتبار أنَّ الإجماع غير ثابت لدى الأكثر بينما السيرة يثبتها أكثر الأصوليين بنحو ما، فبعض يقول بعمل الصحابة بخبر الواحد، وبعض آخر يقول بعمل التابعين أو العلماء بخبر الواحد أو شيئا من هذا القبيل.
وتُصوَّر السيرة بنحوين:
الأوّل: السيرة العقلائية، أي عمل العقلاء بخبر الثقة في مقام تشخيص الوظيفة العملية، مع غضّ النظر عن منشأ سيرتهم ما إذا كانت عادة تصدر منهم أو بناءهم على حجّية خبر الثقة. ولو كانت هذه العادة مخالفة للشرع لكان عليه أن يردع عنها، وعدم الردع دليل على الصحّة والموافقة مع الشرع وعدم تفويت الأغراض بها [٨١].
الثاني: سيرة المتشرّعة، أي عمل صحابة الرسول وأصحاب الأئمة المعصومين عليهمالسلام وكذلك علماء الإسلام بأخبار الثقة، ولم يرد ردع عن الشارع تجاه هذه السيرة، مع أنّها كانت سيرة مستحكمة ومعتمدة من قبل جميع المسلمين وبمجمل مذاهبهم الفقهية، فمن المسلَّم به أنّ المسلمين صدر الإسلام لم يتلقّوا جميعهم الأحكام عن الرسول والأئمة مباشرة، بل عن ثقات سمعوها عن المعصوم، ويمكن أن تكون الروايات والأخبار التي يبدو منها جواز العمل بخبر الثقة إمضاءات من الشارع [٨٢].
الاستدلال بالعقل
استدلَّ بالعقل على حجّية خبر الواحد بأنحاء مختلفة:
منها: إنّا نقطع ببقاء التكاليف إلى يوم القيامة، سيّما بالأصول الضرورية كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والمتاجر، والأنكحة ونحوها مع أنَّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها وما يتعلّق بها يثبت بالخبر غير القطعي، بحيث نقطع بخروج هذه الأعمال عن حقائقها إذا تركنا الأجزاء والشرائط المزبورة الثابتة بأخبار الآحاد إذا ما تركنا العمل بهذه الأخبار [٨٣].
أورد عليه اُمور نورد بعضها:
1 ـ إنَّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، فلازمه إمّا الاحتياط أو العمل بكلّ ما ظنّ صدوره ممّا دلّ على جزئية أو شرطية شيء.
2 ـ شأن العلم الإجمالي هو الاحتياط بالأخبار المثبتة للأجزاء والشرائط وما شابه فيما لم تقم حجّة معتبرة على النفي من قبيل عموم دليل أو إطلاقه، وليس شأنّه الحجّية بحيث يخصِّص أو يقيِّد بالمثبت من الروايات أو العمل بالنافي في قبال حجّة على الثبوت ولو كان أصلاً [٨٤].
ومنها: إنّا نعلم بكوننا مكلّفين بالرجوع إلى الكتاب والسنّة إلى يوم القيامة، فإن تمكّنا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه فلا بدَّ من الرجوع إليهما كذلك، وإلاّ فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظنّ به في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكّن من القطع بالصدور أو الاعتبار فلا بدَّ من التنزُّل إلى الظنّبأحدهما [٨٥].
وفي ردّ هذا الاستدلال اعتبره الشيخ الأنصاري عبارة اُخرى عن دليل الانسداد، وباشر بنقضه بناءً على ذلك [٨٦].
ومنها: الاستدلال بالعقل من خلال تطبيق قواعد منجزية العلم الإجمالي، بدعوى أنَّ ملاحظة الروايات التي بصدد إثبات حجّية خبر الواحد تؤدّي إلى تكوّن علم إجمالي بمطابقة جملة منها مع الواقع، ومن غير المحتمل كون جميعها خلاف الواقع.
وبعبارة اُخرى: إنّ الكلام في الدليل العقلي ينحصر في مقامين:
الأوّل: أصل تنجيز العلم الإجمالي الناشئ من ملاحظة الروايات والاطمئنان بتطابق بعضها مع الواقع.
والثاني: في أنّ نتيجة هذا التنجيز هي نفس نتيجة الحجّية أم لا؟
لكن هناك نقاش في أصل تنجّز هكذا علم وكذلك في كون نتيجة هذا العلم الإجمالي هو حجّية خبر الواحد، فالشهيد الصدر بعد ما ينقل آراء عدّة من الأصوليين ويبدي ملاحظات على كلا المقامين يذهب في النهاية إلى عدم تمامية الدليل العقلي لإثبات حجّية خبر الواحد [٨٧].
ومنها: يعلم بصدور الكثير من الأخبار التي بأيدينا من المعصومين، بحيث تفي معظم الفقه، ولازم هذا لزوم العمل وفق جميع الأخبار المثبتة للتكاليف وجواز العمل وفق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب بناء على جريان هذا الأصل في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة في بعضها أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه، وإلاَّ لاختصَّ عدم جواز العمل وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.
ويرد عليه: بأنّ هذا الدليل لا يكاد ينهض على حجّية الخبر، بحيث يقدّم تخصيصا أو تقييدا أو ترجيحا على غيره من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم [٨٨].
ومنها: إنَّ الخبر يحتمل الصدق والكذب، ووجود العدالة المشترطة في الراوي يرجّح جانب الصدق، ومن المفروض العمل بما ترجّح صدقه [٨٩].
ومنها: كون عدم العمل بخبر الواحد يستلزم إلحاق الضرر بالمجتمع، فمن قبيل: إرشادات الطبيب ونصائح أهل الخبرة في الطرق وأخبارهم بوجود لصوص فيه وما شابه ذلك تعدُّ أخبار آحاد، وعدم العمل وفقها يستلزم إلحاق الضرر بالمجتمع [٩٠].
وبعض هذه الوجوه تعود إلى دليل الانسداد، وهو دليل ذو مقدّمات مطوّلة ولا يؤمن به أكثر أصوليي الشيعة.
الهوامش
- ↑ . التبصرة: 303، شرح اللمع 2: 583.
- ↑ . الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 285.
- ↑ . الذريعة 2: 522 ـ 524، اُنظر: شرح اللمع 2: 584 ـ 587، الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 300 ـ 303.
- ↑ . الذريعة 2: 524 ـ 528، العدّة الطوسي 1: 103 ـ 105، المستصفى 1: 173 ـ 174.
- ↑ . الذريعة 2: 519 و 528 ـ 554، رسائل الشريف المرتضى 3: 309.
- ↑ . شرح اللمع 2: 587، الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 288، المسودة: 214.
- ↑ . المهذب القاضي 2: 598.
- ↑ . غنية النزوع 2: 356.
- ↑ . السرائر مقدّمة المؤلّف 1: 47.
- ↑ . كفاية الاُصول: 294.
- ↑ . الذريعة 2: 519 و 528 ـ 554، رسائل الشريف المرتضى 3: 309.
- ↑ . غنية النزوع 2: 356 ـ 364.
- ↑ . اُنظر: شرح اللمع 2: 587 ـ 603.
- ↑ . كفاية الاُصول: 294 ـ 295.
- ↑ . الإسراء: 36.
- ↑ . النساء: 157.
- ↑ . الأنعام: 116 و 148، يونس: 36، النجم: 28.
- ↑ . وسائل الشيعة 27: 110، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، حديث 11.
- ↑ . رسائل الشريف المرتضى 1: 24.
- ↑ . كفاية الاُصول: 296.
- ↑ . أجود التقريرات 3: 180.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 242 ـ 253، فوائد الاُصول 3: 160 ـ 164، مصباح الاُصول 2: 173 ـ 179، بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 340 ـ 344.
- ↑ . شرح اللمع 2: 583، ميزان الاُصول 2: 663، المسوّدة: 214، الاُصول العامّة للفقه المقارن: 198.
- ↑ . الاُصول العامّة للفقه المقارن: 198.
- ↑ . الحجرات: 6.
- ↑ . المعتمد 2: 116 ـ 117، العدّة أبو يعلى 2: 74، المحصول 2: 179 ـ 180.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 180 ـ 183، مصباح الاُصول 2: 152 ـ 156.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 254، فوائد الاُصول 3: 165 ـ 168.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 344 ـ 363.
- ↑ . كفاية الاُصول: 296 ـ 297، فوائد الاُصول 3: 164 ـ 165.
- ↑ . مصباح الاُصول 2: 153 ـ 156، تهذيب الاُصول 2: 108 ـ 118، المباحث الاُصولية 8: 227 ـ 289، بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 344 ـ 363.
- ↑ . المباحث الاُصولية 8: 256 فما بعدها.
- ↑ . مسالك الأفهام 3: 387.
- ↑ . كفاية الأحكام 2: 370، الحدائق الناضرة 19: 438 و 25: 352، العروة الوثقى 6: 146، وسائل الشيعة 30: 260 ـ 261.
- ↑ . الحدائق الناضرة 19: 438، تحريرات في الاُصول 6: 448 ـ 449.
- ↑ . مصباح الاُصول 2: 240.
- ↑ . أجود التقريرات 3: 191.
- ↑ . التوبة: 122.
- ↑ . كتاب الخصال الصدوق 1 ـ 2: 541 باب الأربعين.
- ↑ . الأربعون حديثا البهائي: 71، ح 1.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 286.
- ↑ . المعتمد 2: 110 ـ 116، المحصول 2: 171 ـ 179، العدّة أبو يعلى 2: 73 ـ 74، فرائد الاُصول 1: 277 ـ 287، كفاية الاُصول: 298 ـ 299، مصباح الاُصول 2: 183 ـ 187، المباحث الاُصولية 8: 311 ـ 345، بحوث في علم الاُصول (الهاشمي) 4: 374 ـ 381.
- ↑ . البقرة: 159.
- ↑ . المعتمد 2: 118، فرائد الاُصول 1: 287 ـ 288، مصباح الاُصول 2: 187 ـ 190، أنوار الاُصول 2: 413 ـ 414، بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 381 ـ 383.
- ↑ . النحل: 43.
- ↑ . مصباح الاُصول 2: 189، المباحث الاُصولية 8: 350 ـ 353، المحكم في اُصول الفقه 3: 253 ـ 255.
- ↑ . التوبة: 61.
- ↑ . البقرة: 143.
- ↑ . النساء: 135.
- ↑ . اُنظر: المعتمد في اُصول الفقه 2: 117 ـ 119، فرائد الاُصول 1: 291 ـ 296، مصباح الاُصول 2: 190 ـ 191.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 385 ـ 395.
- ↑ . الأصول العامّة للفقه المقارن: 202 ـ 203.
- ↑ . وسائل الشيعة 27: 143، باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث، ح19.
- ↑ . كمال الدين وتمام النعمة: 484، باب 45، ح4.
- ↑ . الكافي 1: 49، باب النوادر، ح7.
- ↑ . من لا يحضره الفقيه 4: 264، باب النوادر.
- ↑ . اُنظر: وسائل الشيعة 27: 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، أحاديث الباب.
- ↑ . الغيبة الطوسي: 389 ـ 390، ح 355، وسائل الشيعة 27: 102، باب 8، ح 79.
- ↑ . كفاية الاُصول: 301، المحكم في اُصول الفقه 3: 258 ـ 266، أنوار الاُصول 2: 417 ـ 421.
- ↑ . المعتمد 2: 120 ـ 122، المحصول 2: 180.
- ↑ . مصباح الاُصول 2: 193 ـ 194، المباحث الاُصولية 8: 357 ـ 368.
- ↑ . كفاية الاُصول: 302.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 384 ـ 385.
- ↑ . الكافي كتاب الحجّة باب في تسمية من رآه عليهالسلام 1: 330، ح 1.
- ↑ . الكافي 1: 330، ح 1.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 389 ـ 395.
- ↑ . العدّة الطوسي 1: 126.
- ↑ . البرهان 1 ـ 2: 229، المحصول 2: 180.
- ↑ . سنن أبو داوود 4: 191، ح 4572 و 4573، باب دية الجنين، سنن ابن ماجة 2: 882 كتاب الديات، باب دية الجنين، ح 2641.
- ↑ . سنن أبي داوود 4: 191، كتاب الديات، ح 4572.
- ↑ . كتاب المسند الشافعي: 159.
- ↑ . المعتمد 2: 113 ـ 116، اللمع: 155 ـ 157، التبصرة: 305 ـ 306، المستصفى 1: 175 ـ 176.
- ↑ . الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 297.
- ↑ . البرهان 1: 232 ـ 233، اُصول الفقه الإسلامي الزحيلي 1: 465 ـ 467.
- ↑ . إرشاد الفحول 1: 202 ـ 203.
- ↑ . ميزان الاُصول 2: 665.
- ↑ . العدّة الطوسي 1: 114 ـ 126.
- ↑ . كفاية الاُصول: 302.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 311 ـ 350، فوائد الاُصول 3: 191 ـ 195، مصباح الاُصول 2: 195 ـ 197.
- ↑ . كفاية الاُصول: 302، بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 395.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول 4: 396.
- ↑ . فوائد الاُصول 3: 195.
- ↑ . الوافية: 159.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 360 ـ 361، كفاية الاُصول: 305 ـ 306.
- ↑ . هداية المسترشدين 3: 373.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 363 ـ 366.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 409 ـ 421.
- ↑ . كفاية الاُصول: 305.
- ↑ . اُصول الفقه الإسلامي الزحيلي 1: 469.
- ↑ . المحصول 2: 191، ميزان الاُصول 2: 665 ـ 669.