عمل أهل المدينة

من ویکي‌وحدت

عمل أهل المدينة: عمل أهل المدينة من الحجج المختلف في حجّيّتها، وقد عرف لدى أتباع المذاهب باسمين: أحدهما: إجماع أهل المدينة، وهي تسمية أكثر رواجا لدى غير المالكية للإشارة إلى هذا الأصل. ثانيهما: عمل أهل المدينة، وهو الاصطلاح الذي يكثر استعماله من قبل علماء المالكية. وسبب الثنائية في التسمية هو تعابير مالك، حيث استعمل أحيانا عبارة «المجتمع عليه عندنا» واستعمل أحيانا اُخرى: «أجمع عليه أهل العلم ببلدنا» وتارة ثالثة يستعمل : «على هذا العمل» أو «ليس عليه العمل».

المراد من عمل أهل المدينة

هناك من يذهب إلى أنّ متقدّمي شيوخ المالكية كانوا يعدّون عملهم إجماعا، لكن متأخّريهم يعدّونه من باب نقل التواتر[١].
وهناك من يرى أنّ عمل أهل المدينة: هو عبارة عن أقاويل أهل العلم بالمدينة[٢].
وهناك من يفرّق بين مصطلح إجماع أهل المدينة وعمل أهل المدينة، وأنّ الأوّل يشير إلى ما ذهب إليه مالك من عدم حجّيّة إجماع إلاّ إجماع أهل المدينة، وأنّ الثاني يشير إلى ما درج من عمل أهل المدينة من الصحابة و التابعين، لكنّ البعض يرى أنّهما يشيران إلى معنى واحد.
والدارج لدى الجمهور أنّ عمل أهل المدينة هو ذاته إجماع أهل المدينة، وقد درج لديهم أن يتكلّموا عن عمل أهل المدينة في باب الإجماع، وذلك لـ الترادف بينهما من وجهة نظر الجمهور[٣].
وفسّر البعض عمل أهل المدينة بتفسيرين:
1 ـ سنن اختصّ بها أهل المدينة دون غيرهم من البلدان الاُخرى. وذلك من قبيل: الصاع والمُدّ، حيث كانت الزكاة تؤخذ بهما، باعتبار أنّ غير المدينة كانت تأخذ بغيرهما، أو من قبيل: دفع زكاة على الخضروات، فنقلوا هذا العمل وأخذ غيرهم بهذا بناءً على هذا النقل.
2 ـ العمل الذي مارسه صحابة الرسول، وهو ناشى‏ء عن توافر أدلّة باعتبار قربهم من الرسول ومشاهدتهم قرائن الأحوال[٤].
لكنّ بعضا آخر (يبدو أنّهم من المالكية) ذهب إلى التفريق بين إجماع وعمل أهل المدينة، فالإجماع أصل، وهو اتّفاق كلّ المجتهدين، بينما عمل أهل المدينة أصل آخر، وهو اتّفاقهم على نقل سنن شاهدوها [٥].
واستدلّ بعض المتأخّرين على كون مالك قد فرّق بين عمل أهل المدينة وإجماعهم بعدّة شواهد:
منها: لم يروَ عن مالك أيّ قول يصرّح فيه بأنّ إجماع أهل المدينة وحدهم كافٍ لانعقاد إجماع الأمّة ولا عبرة بموافقة أو مخالفة غيرهم.
ومنها: أنّه نقل مالك فى (الموطأ) ما يزيد عن ثلاثمئة مسألة ممّا اتّفق عليه أهل المدينة وجرى به العمل عندهم، ولم يقل في واحد منها أنّه إجماع المسلمين عامّة.
ومنها: أنّ العلماء والمحقّقين وخاصة أتباع مذهبه من الذين استخلصوا منهجه واُصول مذهبه ذكروا مصادر فقهه، وهي: الكتاب و السنة و الإجماع وعمل أهل المدينة وغيرها. ما يعني أنّهما مصدران مختلفان.
ومنها: أنّه ذكر فى بعض مسائله اتّفاق أهل المدينة فيها وخالفهم لدليل يراه أرجح من عملهم، ولو كان عمل أهل المدينة من الإجماع لما وسعه مخالفته[٦].
ولأجل هذه الثنائية وهذا الإبهام من جانب، وانقسام العمل إلى اجتهادي ومنقول من جانب آخر، وقع اختلاف فى محلّ بحثه في أصول الفقه، فبحثه بعض تحت عنوان الإجماع، وبحثه آخر تحت عنوان السنّة أو الأدلّة المختلف فيها. وقد أشار ابن خلدون إلى هذا الموضوع وأبدى رأيه فيه وقال: «ولو ذكرت المسألة في باب فعل النبي(ص) أو تقريره أو مع الأدلّة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي وشرع من قبلنا و الاستصحاب لكان أليق»[٧].
لقد عرّف عمل أهل المدينة بتعاريف مختلفة.
منها: ما اتّفق عليه أهل المدينة من الصحابة و التابعين وعملوا به، سواء كان توقيفيا أو رأيا واستدلالاً لهم[٨].
ومنها: عرْف تسلسل العمل به عبر الأجيال تبعا لا اجتهادا حتّى ينتهي إلى عصر النبي(ص)[٩].
عرّفه بعض بقوله: ما نقله أهل المدينة من سنن نقلاً مستمرّا عن زمن النبي(ص) أو ما كان رأيا واستدلالاً لهم[١٠].
وعدّه بعض آخر من ضمن السنّة كقول الشيخ أبو زهرة عند بيانه لـ أصول المذهب المالكي: «ويدخل في السنة عنده (أي الإمام مالك) أحاديث الرسول(ص) و فتاوى الصحابة وأقضيتهم وعمل أهل المدينة...»[١١]. لكنّ البعض الآخر خصّ السنّة المعنيّة بالمتواترة أو اليقينية دون غيرها [١٢].

الاصطلاحات التي استخدمت للإشارة إلى هذا الأصل

استخدم مالك اصطلاحات عديدة للإشارة إلى هذا المبدأ والأصل، وهي من قبيل: «الأمر عندنا»[١٣] و«الأمر المجتمع عليه»[١٤] هذا إضافة إلى استخدام اصطلاح عمل أهل المدينة في موارد محدودة[١٥]. وكذلك عبارات اُخرى أشار بها إلى هذا الأصل[١٦].

الذين يتحقّق عمل أهل المدينة بهم

اختلف في المراد من الأهل، ففسّره البعض بالصحابة والتابعين، وبعض آخر فسّره بالاُمة في المدينة[١٧]. ونسب الغزالي إلى مالك قوله بإجماع الفقهاء السبعة[١٨]، إلاّ أنّ بعضا آخر ينفي هذه النسبة ويذهب إلى أنّ المروي عنه هو مطلق الصحابة والتابعين[١٩].
ويجمل بعض المتأخّرين الروايات الواردة هنا بالنحو التالي:
الاُولى: ابن عبد البر والقاضي عياض، عن الداروردي قال: إذا قال مالك: وعليه أدركت أهل العلم ببلدنا، والأمر المجتمع عليه عندنا، فإنّه يريد ربيعة بن عبد الرحمن وابن هرمز.
الثانية: عياض عن أحمد بن عبد الله الكوفي أنّه ذكر في تاريخه أنّ كلّ ما قال فيه مالك في موطئه: الأمر المجتمع عليه عندنا، فهو قضاء سليمان بن بلال.
الثالثة: الباجي وعياض وغيرهما، عن إسماعيل بن أبي أويس ينقلون عن مالك قوله: «أمّا أكثر ما في الكتاب فرأي فلعمري ما هو برأيي، ولكن سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المقتدى بهم الذين أخذت عنهم، وهم الذين كانوا يتّقون اللّه‏، فكثر علي فقلت رأيي، وذلك إذا كان رأيهم مثل رأي الصحابة أدركوهم عليه وأدركتهم أنا على ذلك، فهذا وراثة توارثوها قرنا عن قرن إلى زماننا.
وما كان أرى فهو رأي جماعة من تقدّم من الأئمة.
وما كان فيه من الأمر المجتمع عليه، فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه.
وما قلت: الأمر عندنا، فهو ما عمل الناس به عندنا، وجرت به الأحكام، وعرفه الجاهل والعالم، كذلك ما قلت: ببلدنا.
وما قلت فيه: بعض أهل العلم، فهو شيء أستحسنه في قول العلماء.
وأمّا ما لم أسمعه منهم فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته حتّى وقع ذلك موقع الحقّ أو قريب منه، حتّى لا يخرج من مذهب أهل المدينة وآرائهم.
وإن لم أسمع ذلك بعينه فنسبت الرأي بعد الاجتهاد مع السنّة وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم، والأمر المعمول به عندنا من لدن رسول اللّه‏(ص) والأئمة الراشدين مع من لقيت، فذلك رأيهم ما خرجت إلى غيرهم»[٢٠].
وقد تفاوتت مواقف المعاصرين تجاه هذه الروايات، فبعض رفضها؛ باعتبار ضعفها وفقدانها السند وإشكالات من هذا القبيل[٢١]. وبعض رجّح بعضها دون اُخرى[٢٢].

من تاريخ القول بعمل أهل المدينة

بناءً على رأي الكثير من الاُصوليين و الفقهاء في أنّ القائل بعمل أهل المدينة كأصل من أصول الفقه هو الإمام مالك، فإنّ هذا القول يعنى بدء العمل به كمبدأ بدأ في عهد ذلك الإمام، أي من القرن الثاني من الهجرة، لكنّ هناك من ينفي هذه النسبة إليه من الأساس[٢٣]. وينقل عن القاضي عياض قوله: «وممّا ذكر المخالفون عن مالك أنّه يقول: إنّ المؤمنين الذين أمر الله تعالى باتّباعهم هم أهل المدينة، ومالك لا يقول هذا، وكيف يقوله وهو يرى أنّ الإجماع حجّة»[٢٤].
ومن الناسبين حجّيّة هذا المنهج إلى مالك هناك من يذهب إلى أنّ مالكا قد اتّبع غيره من الصحابة في هذا المجال، وأنّ بعض الصحابة كانوا قد اعتبروا عمل أهل المدينة أصلاً [٢٥]. وبرغم أنّه لم يحدّد التاريخ بالضبط إلاّ أنّه يعني القول بهذا المبدأ قد تقدّم على مالك، ويكون مبدأ القول به هو عهد الصحابة، أي القرن الأوّل أو النصف الأوّل من القرن الثاني.
وهناك من قال بأنّ الاحتجاج بعمل أهل المدينة قد اعتمده شيوخ مالك، وقد سبقوه بهذا الأصل، وحدّد بعض هؤلاء الشيوخ بمثل سعيد بن المسيب وشهاب الزهري[٢٦].
وهناك من ينسبه إلى الكثير من التابعين وحتّى إمام الشيعة الباقر(ع)[٢٧]، لكنّ هذا لم يرد عن أيّ من علماء الشيعة إلاّ أن يُراد من ذلك أخذ الشيعة وأئمتهم بعمل أهل المدينة في المقاييس مثل المكيال. فهذا وارد، وقد ورد أنّ المكيال مكيال أهل المدينة[٢٨]. أمّا غير هذه الموارد فهناك روايات تدلّ على مخالفة آراء أهل المدينة، من قبيل: ما ورد عن نجل الإمام الباقر في هذه الرواية: ... عن أبي الحسن الرضا(ع) قال: سألته عن رجل يبيع جارية كان يعزل عنها، هل عليه منها استبراء؟ قال: نعم، وعن أدنى ما يجزي من الاستبراء للمشتري والمبتاع؟ قال: «أهل المدينة يقولون: حيضة، وجعفر(ع) يقول: حيضتان». وسألته عن أدنى استبراء البكر، فقال: «أهل المدينة يقولون حيضة، وكان جعفر(ع) يقول: حيضتان»[٢٩].

الألفاظ ذات الصلة

1 ـ إجماع

وردت عدّة تعاريف للإجماع وهي من قبيل:
1 ـ اتّفاق المجتهدين أو العلماء من هذه الاُمة في عصر من الأعصار على أمر شرعي[٣٠].
2 ـ اتّفاق أمة محمّد(ص) خاصّة على أمر من الاُمور[٣١].
3 ـ اتّفاق خصوص الصحابة[٣٢].
وبناء على هذه التعاريف فإنّ الاختلاف الحاصل في تعريف أهل المدينة، ما إذا كانوا الصحابة أم عموم أهل البيت جارٍ في الإجماع كذلك، ويضاف إليه أنّ عمل أهل المدينة يخصّ أهل المدينة من عموم الناس أو خصوص الصحابة، لكن يبدو اتّفاق الاصطلاحين في أنّ المراد منهما نوع اتّفاق.

2 ـ سيرة

عرّفت بتعاريف مختلفة، مثل:
1 ـ استمرار عادة الناس وتباينهم العملي على فعل شيء أو ترك شيء[٣٣].
2 ـ ميل عام عند العقلاء نحو سلوك معيّن دون أن يكون للشرع دور في تكوين هذا الميل[٣٤]، أمّا سيرة المتشرعة فهي السلوك العام للمتدينين في عصر التشريع[٣٥].
وبناءً على تعريف عمل أهل المدينة بالممارسة العملية لأهل المدينة وإرادة الصحابة من أهلها، فإنّ معنى أهل المدينة عندئذٍ يصبح شبه مرادف لسيرة المتشرعة، لكنّها سيرة خاصّة بجغرافيا محددة، وهي المدينة.

أقسام عمل أهل المدينة

تناول البعض موضوع أقسام عمل أهل المدينة، وهي في الحقيقة مصادر عملهم، واستعمل البعض عنوان مراتب أعمالهم، وحدّدها بالنحو التالي:
المرتبة الاُولى: العمل المنقول عن النبي(ص) مثل نقلهم لمقدار الصاع والمدّ. وهو حجّة باتّفاق علماء المالكية و الشافعية و الحنبلية و أبي حنيفة وأصحابه.
المرتبة الثانية: العمل القديم، وهو العمل الذي كان دارجا في المدينة بعد وفاة الرسول وقبل مقتل عثمان.
المرتبة الثالثة: العمل الذي يكون مقياسا للترجيح بين دليلين كحديثين أو قياسين جهل الراجح منهما.
المرتبة الرابعة: العمل المتأخّر، أي العمل بعد مقتل عثمان وبعد انتشار الصحابة في أمصار متعدّدة[٣٦].
وينقل الزركشي عن أبي الحسن الأبياري بأنّه جعل المراتب خمس:
الاُولى: الأعمال المنقولة عن أهل المدينة بالاستفاضة.
الثانية: أن يرووا أخبارا ويخالفوها.
الثالثة: ألاّ ينقلوا خبرا، لكن يصادف خبر على نقيض حكمهم.
الرابعة: ألاّ ينقل خبر على خلاف قضائهم، ولكن القياس على غير ذلك.
الخامس: أن يصادف قضاؤهم على خلاف خبر منقول عنهم أو عن غيرهم[٣٧].
وقسّم ابن قيم الجوزية مراتب عمل أهل المدينة إلى ما نقل عن النبي، وإلى الاجتهادي، وقسّم الأوّل إلى فعل وقول وتقرير وترك، ويرى النزاع في الاجتهادي منه[٣٨].
وحدّدها بعض المتأخّرين بنحو آخر:
الأوّل: سنن منقولة عن النبي(ص).
الثاني: رأي أو استدلال مأثور عن الصحابة.
الثالث: رأي أو استدلال مأثور عن التابعين[٣٩].
وحصر بعض القسمين الأخيرين في قسم واحد عنونه بالعمل الاجتهادي[٤٠].
وقد تكون هناك تقسيمات اُخرى كذلك[٤١].

حكم عمل أهل المدينة

لم ترد عن الإمام مالك استدلالات واضحة على الأخذ بهذا الدليل، ولذلك نفى البعض نسبة القول به إلى مالك، لكن له عبارات تفيد أخذه بها وتعبّر عن وجهة نظره في هذا المجال، من قبيل عبارته التي وردت في رسالته إلى الإمام الليث بن سعد يعترض فيها على إفتائه بما يخالف ما عليه أهل المدينة، حيث يقول فيها: «... فإنّما الناس تبع لأهل المدينة إليها الهجرة...»[٤٢]. وأقدم البعض على تحليل الرسالة وسرد ما يمكن أن يستنبط منها من أدلّة على أخذه بعمل أهل المدينة، وأضاف إليها كذلك ما يمكن أن يستند به من كلمات مالك الواردة في هذا المضمار[٤٣].
وتناول الاُصوليون (سواء من المالكية أو غيرهم) دراسة أقسام عمل أهل المدينة، وتنوّعت آراؤهم هنا.
فيما يخصّ عملهم إذا كان من صنف المنقول فإنّ حجّيّته ناشئة عن حجّيّة السنّة[٤٤]. وينقل هنا أنّ إجماعهم النقلي متّفق على حجّيّته عند المالكية، بل يرون أنّه ملزم لغيرهم. برغم هذا وردت عنهم بعض الاستدلالات هنا [٤٥]. والنقاش المهمّ هو في القسم الآخر، أي إذا كان من صنف الاجتهاد، فقد تنوّعت الآراء فيه. نورد بعض ما أثرناه من آراء فى هذا المضمار.
الرأي الأوّل: ذهب بعض من أصحاب مالك إلى أنّه لا يجوز العمل بالخبر حتّى يصحبه عمل أهل المدينة[٤٦].
وفي هذا السياق ذهب البعض إلى أنّه يرجّح أحد الدليلين بموافقة عمل أهل المدينة[٤٧]. وذهب الغزالي إلى أنّ عمل أهل المدينة يصلح أن يكون حجّة للترجيح بين الأحاديث المتعارضة؛ باعتبار أنّ المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي، فيبعد أن ينطوي على أهلها حديث ضعيف أو غير مسلّم الصدور[٤٨].
بعد ما ينقل ابن حزم هذا الرأي ينفي أي وجه عقلي يمكن أن يتمسّك به في هذا المجال ويورد اعتبارات عقلية على بطلان هكذا رأي، كما يورد نماذج مختلفة فيها ويسهب الكلام في هذا المجال[٤٩].
الرأي الثاني: أنّ المراد من عمل أهل المدينة إجماعهم، واستدلّ على تميّز عملهم وإجماعهم عن الباقي بفضل المدينة وضمّ كبار الصحابة، وكذلك الروايات التي وردت عن الرسول والتي ورد فيها أنّ اللّه‏ نفى عن هذه المدينة الخبث، واعتبارات اُخرى مثل: أنّ أهل المدينة شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل، وهم أعرف بهذه الاُمور من غيرهم.
إلاّ أنّ مجمل هذه الوجوه مردودة بأنّ شرف المدينة وأهلها لا يدلّ على تخصيص حجية الإجماع بإجماع أهل المدينة[٥٠].
الرأي الثالث: أنّه حجّة شرعية ومقدّم على خبر الآحاد والقياس وإن لم يحرم خلافه. واستدلّ على هذا الرأي باُمور:
منها: لأهل المدينة فضل صحبة الرسول ومشاهدة الأسباب والقرائن والأحوال، ولكلٍّ من هذه المزايا دور فى تقوية الاجتهاد وتصويبه.
وقد نوقش هذا الوجه بمثل أنّ هذه الميزات لا تنفي الحقّ عن باقي الصحابة وعمّن كان خارج المدينة، ولا تعني عدم إمكان اتّفاقهم على خطأ.
ومنها: القياس، من حيث إنّه إذا ترجّح تفسير الصحابي للرواية على تفسير غيره لقربه للرسول ومشاهدته و... فلا بدّ أن يكون اجتهاده وإجماعه مقدّم على اجتهاد وإجماع غيره.
وقد نوقش هذا الوجه بأنّه قياس للرواية على الإجماع والإجتهاد، مع أنّه لا تشابه بين هذه الاُمور[٥١].
ومنها: الروايات التي تنفي الخبث وما شابه عن المدينة مثل الرواية التالية: «إنّما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها»[٥٢]. ومثل هذه الرواية تنفي الخطأ كخبث، وهو في النهاية منفي عن أهلها، وعندئذٍ يكون إجماعهم وعملهم حجّة[٥٣].
وقد نوقش في هذا الحديث وما يندرج تحت طائفته بمناقشات كثيرة من ضمنها أساس الاستدلال، الذي اعتمد هنا، وهو معنى الخبث فقد شكّك في كون المراد منه هنا الخطأ[٥٤].
الرأي الرابع: ليس حجّة بحدّ ذاته، لكنّه مرجّح على اجتهاد غيرهم، واستدلّ عليه باُمور:
منها: أهل المدينة أقرب إلى الصواب؛ باعتبار معاشرتهم الرسول واطّلاعهم على سيرته وحفظهم لها.
ومنها: أنّ أهل المدينة شاهدوا نزول الوحي واستقرار التشريع، فهم مطّلعون على الناسخ والمنسوخ وما شابه، فاجتهادهم أولى من اجتهاد غيرهم.
ومنها: عند تعارض دليلين عقليين في مسألة واحدة أخذ بالذي يحمل مزيّة خاصّة، وأخذ أهل المدينة لأحد الدليلين واتّفاقهم عليه لا بدّ أن يكون ناشئا عن قرينة قوية؛ باعتبار ما عرفوا به من تحرّي وتثبّت وتشاور.
وترد على هذا الوجه نفس الردود التي وردت على الوجوه التي أشارت إلى فضل المدينة وأهلها [٥٥].
الرأي الخامس: أنّه ليس حجّة ولا مرجّح، وهو لـ جمهور الفقهاء وغالبية فقهاء المالكية العراقيين، كما يمكن أن يدرج رأي الشيعة الإمامية ضمن هذا الرأي؛ لأنّه لم نأثرهم عن أحدهم القول أو إبداء رأي قريب من ذلك.
واستدلّوا عليه باُمور:
أ ـ إنّ أهل المدينة بعض الاُمّة، والأدلّة ـ مثل قوله(ص): «إنّ اُمتي لا تجتمع على ضلالة»[٥٦] ـ أثبتت حجّيّة إجماع مجموع الأمّة لا بعضها. ولو جاز أن يخصّ أهل المدينة بهذه الأدلّة لجاز أن يخصّ أهل مكّة والكوفة كذلك[٥٧].
ب ـ الأدلّة العقلية والتي عكسها أصحاب هذا الرأي بأنحاء مختلفة:
منها: العقل لا يمنع وقوع الخطأ من الاُمة، لكن ورد عن الشرع تصويبها وصيانتها من الخطأ، ولم يرد عن الشرع التصويب لأهل المدينة بالخصوص.
ومنها: أنّ عمل أهل المدينة يصحّ أن يكون إجماعا يحتجّ به إذا جمعت المدينة كلّ المجتهدين، وذلك غير مسلّم؛ لأنّها لم تجمع جميع المجتهدين في أي عصر من العصور[٥٨].
ومنها: أنّ الإجماعات التي نقلها مالك نقلت بنحو الخبر الواحد الذي يفيد الظنّ مع أنّ الإجماع دليل قطعي فلا يثبت إلاّ بدليل قطعي كذلك مثل التواتر[٥٩].
وكثير من الاعتبارات الاُخرى التي عدّت أدلّة عقلية على نفي حجّيّة العمل، كما أنّ مناقشات غير قليلة وردت فيها [٦٠].
ج ـ ورد عن الشرع تفضيل الصحابة وتنزيههم، وهناك جماعة منهم خرجوا من المدينة يعدّون أفاضل الصحابة وأعلامهم مثل: الإمام علي، و عمار بن ياسر، و ابن مسعود، وغيرهم، وإجماع هؤلاء حجّة على أهل المدينة كذلك.
د ـ الاجتهاد مفتوح لأهل المدينة وغيرهم، ولا ترجيح لاجتهاد بعض على بعض؛ لعدم الدليل على ذلك.
ه ـ لم يعرف هذا الرأي عن مالك، والموارد التي نقلت عن مالك تنطوي تحت العمل المنقول لا الاجتهادي[٦١].
بعض المخالفين للقول بحجّيّة عمل أهل المدينة رفضوا هذا المبدأ من الأساس وطرحوا وجوها لهذا الرفض.
منها: لا يكون عمل بعض المسلمين حجّة على بعض آخر، وانّما الحجة هو السنة، ولا تترك السنّة لكون عمل بعض المسلمين على خلافها.
ومنها: إذا كان وجه اعتبار عمل أهل المدينة هو تواجد الصحابة، فإنّ الكثير منهم قد غادروها إلى الشام والكوفة والبصرة. وغيرها من الوجوه[٦٢].

الفقه المدني

من التبريرات الواردة لذهاب مالك بحجّيّة عمل أهل المدينة هو الفقه المدني الذي يتمتّع بعدّة خصائص جعلته متميّزا ومرجّحا من قبل مالك على غيره من المدارس الفقهية آنذاك.
وقد ذكرت خصائص كثيرة للمدينة التي احتوت هذا الفقه وقد تقدّم بعضها:
منها: اختصاص المدينة بتشريع معظم الأحكام، فإنّ معظم التشريعات نزلت في المدينة.
ومنها: استقرار معظم الصحابة بالمدينة وخاصّة كبار الصحابة.
ومنها: كثرة وتوافر الأحاديث والآثار المتناقلة في المدينة باعتبار تواجد الصحابة والمقرّبين من الرسول.
ومنها: بُعد المدينة عن الصراع والفتن، فبعد مقتل عثمان ابتلت المدينة بنوع من الاضطراب، وعلى أثره انتقلت الخلافة إلى العراق والشام، وانتقلت الصراعات إلى هناك كذلك، لكن المدينة بقيت بمأمن منها [٦٣].
وذكرت كذلك خصائص للفقه المدني ذاته:
منها: التمسّك بالنصوص.
ومنها: نبذ الرأي إلاّ عند الضرورة.
ومنها: التثبّت والتحرّي في الفتوى وإحالة بعضهم على بعض.
ومنها: عدم افتراض المسائل (أي عدم طرح مسائل افتراضية غير واقعية ولم تحصل).
ومنها: الشورى و الاجتهاد الجماعي[٦٤].

الهوامش

  1. . بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1: 302.
  2. . خبر الواحد فلمبان: 99.
  3. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 187.
  4. . عمل أهل المدينة نورسيف: 73 ـ 75.
  5. . المقدّمة ابن خلدون: 447.
  6. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 216 ـ 218.
  7. . المقدّمة ابن خلدون 1: 447.
  8. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 238.
  9. . العرف والعمل فى المذهب المالكي عمر الجيدي: 333 ـ 334، عمل أهل المدينة (إسماعيل): 279.
  10. . عمل أهل المدينة نورسيف: 317.
  11. . تاريخ المذاهب الإسلامية: 423.
  12. . تيسير علم اُصول الفقه: 137 ـ 138، مقاصد الشريعة الإسلامية ابن عاشور: 19.
  13. . الموطأ 1 ـ 2: 22 و60 و86.
  14. . المصدر السابق: 518 و611 و613.
  15. . المصدر السابق: 748.
  16. . اُنظر: خبر الواحد فلمبان: 136 ـ 141.
  17. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 210 ـ 213.
  18. . المنخول: 314، البحر المحيط 4: 484، إرشاد الفحول 1: 291.
  19. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 214 ـ 215.
  20. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 224 ـ 226.
  21. . عمل أهل المدينة نورسيف: 301 ـ 302.
  22. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 227 ـ 230.
  23. . اُنظر: البرهان 1: 279.
  24. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 216، ترتيب المدارك 1: 55.
  25. . عمل أهل المدينة سالم: 48 ـ 50.
  26. . عمل أهل المدينة اسماعيل: 159 ـ 173.
  27. . خبر الواحد فلمبان: 57 ـ 58.
  28. . المبسوط الطوسي 2: 90.
  29. . الاستبصار 3: 359، كتاب النكاح، باب 209 من اشترى جارية، ح 10.
  30. . اللمع: 179، روضة الناظر: 67، منتهى الوصول: 52.
  31. . المستصفى 1: 204.
  32. . الإحكام ابن حزم 1 ـ 4: 47 و539.
  33. . اُصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 176.
  34. . المعالم الجديدة للاُصول: 209 ـ 210.
  35. . المعالم الجديدة للاُصول : 210 ـ 211 ، دروس في علم الاُصول 1 : 270.
  36. . مجموع فتاوى ابن تيمية 20: 308 ـ 311، عمل أهل المدينة إسماعيل: 329.
  37. . البحر المحيط 4: 487 ـ 488.
  38. . أعلام الموقعين 2: 385 ـ 386.
  39. . عمل أهل المدينة نورسيف: 317.
  40. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 289.
  41. . إرشاد الفحول 1: 292، المسائل التي بناها الإمام مالك 1: 72 ـ 77.
  42. . تاريخ ابن معين الدوري 2: 378.
  43. . خبر الواحد فلمبان: 83 ـ 88.
  44. . عمل أهل المدينة نورسيف: 305 ـ 309.
  45. . خبر الواحد فلمبان: 73 ـ 75.
  46. . الإحكام ابن حزم 1 ـ 4: 222.
  47. . شرح الكوكب المنير: 446.
  48. . المستصفى 2: 247.
  49. . الإحكام ابن حزم 1 ـ 4: 222 ـ 244.
  50. . التحبير شرح التحرير 4 : 1581 ، عمل أهل المدينة نورسيف  : 76 ـ 80 .
  51. . ترتيب المدارك 1: 51، عمل أهل المدينة إسماعيل: 314 ـ 315 و410 ـ 422.
  52. . الموطّأ 1 ـ 2: 886، صحيح البخاري 6: 6783 و2670.
  53. . نهاية السول 3: 264، كشف الأسرار البخاري 3: 446.
  54. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 386 ـ 409.
  55. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 315 ـ 317، المسائل التي بناها الإمام مالك 1: 82 ـ 83.
  56. . سنن النسائي 7: 151.
  57. . الفصول في الاُصول 3: 322، كشف الأسرار النسفي 2: 185، التقرير والتحبير 3: 101.
  58. . المنخول: 315.
  59. . الإحكام ابن حزم 1 ـ 4: 591.
  60. . اُنظر: التحبير شرح التحرير 4: 1581 ـ 1587، اُصول الفقه الزحيلي 1: 507 ـ 512، عمل أهل المدينة (إسماعيل): 423 ـ 445.
  61. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 310 ـ 314.
  62. . أعلام الموقعين 2: 380 ـ 385، واُنظر: كتاب الأم 7: 274 ـ 280، خبر الواحد فلمبان: 79 ـ 82.
  63. . عمل أهل المدينة إسماعيل: 133 ـ 145.
  64. . المصدر السابق: 145 ـ 158.