قبح العقاب بلا بيان
قبح العقاب بلا بيان: قاعدة في أصول الفقه يتمسک بها علی نفی التکليف، فهو دليل لـ البرائة العقلية.
تعريف القاعدة
قبح العقاب بلا بيان قاعدة تخصُّ مورد ما إذا احتملنا التكليف ولم نحصل على بيان فيه، فذهب الكثير من الاُصوليين إلى براءة ذمّة المكلّف من التكليف، واستدلّوا على البرائة المذكورة بعدّة أدلّة منها: دليل العقل، وقالوا بأنّ العقل يدرك قاعدة تستفاد في هذا المجال، وهي قبح العقاب بلا بيان، أي أنَّ العقل يحكم بالبراءة في هذا المورد، ويستقبح معاقبة المكلّف في الظرف المذكور في هذه القاعدة؛ باعتبار أنّا لو لم نقل بالبراءة لزم الظلم، وهو منفي عن الباري تعالى[١].
فهي مبنية على القول بـ التحسين والتقبيح العقليين[٢]. وفي حقيقتها دليل عقلي على أصالة البرائة العقلية، ثُمّ أصبحت تدريجيا قاعدة يستفاد منها ويستدلّ بها وتوظّف في سبيل إثبات براءة ذمّة المكلّف ممّا لا نصّ فيه. برغم أنّ فيها مناقشات غير قليلة وردت عليها. وهذا قد لا يحصل دائما في الأدلّة العقلية ولا تتحوّل إلى قاعدة.
لم تبحث هذه القاعدة بنحو مستقلّ، بل تناولها الاُصوليون بنحو استطرادي وتناثرت بحوثها في مدوّنات الاُصول، لكن تناولوها في أصل البراءة أكثر من أيّ محلّ آخر.
المراد من البيان في القاعدة
أشار البعض إلى أنّ المراد من البيان في هذه القاعدة هو البيان الواقعي؛ وذلك بناء على عدم ترتّب العقاب على الأحكام الظاهرية. وما يترتّب على هذا الرأي هو ترتّب العقاب على مخالفة أصل البيان سواء وصل إلى المكلّف أم لم يصل[٣].
بينما يذهب بعض آخر إلى أنّ البيان في هذه القاعدة عامّ وشامل للحكم الواقعي والظاهري، والحكم اليقيني والظنّي والاحتمالي، والتفصيلي والإجمالي، أي كونه شاملاً لـ الحكم الشرعي المستفادة من الأدلّة الكاشفة عنه، وكذلك الوظيفية العملية التي تنشأ من تحديد وظيفة المكلّف بواسطة أصل البراءة و الاحتياط والبراءة، والعقل يستقلّ بهذا الحکم[٤].
ويعود هذا الاختلاف إلى أنّ موضوع القاعدة (وهو عدم البيان) هو الشك أو كلّ ما لا يكون حجّة، فإذا كان موضوعه الشك فلا تجري القاعدة حيث يكون الدليل الظنّي حاصلاً، وإذا كان موضوعه ما لا يكون حجّة فيدخل فيه كلّ دليل غير حجّة سواء كان ظنّيا أم غير ظنّي[٥].
من جانب آخر، فإنّ البعض ذهب إلى كون المراد من البيان هو الواصل منه فقط لا الواقعي؛ لأنّه لا تأثير للواقعي ما لم يصل إلى العبد. ولا يمكن استفادة عموم البيان من القاعدة؛ لأنّ القاعدة عقلية وليست لفظية لكي يستفاد منها العموم أو الإطلاق. وملاك الدليل العقلي هنا هو قصور الإرادة الواقعية عن تحريك العبد تجاه التكليف غير الواصل، ولا دخل للعبد في عدم تحصيل مراد المولى[٦].
نبذة تاريخية عن القاعدة
وباعتبار أنّا لم نأثر شيئا عنها كقاعدة في مصادر الاُصوليين القدماء والمتقدّمين، فهي إذا من مستحدثات الاُصوليين المتأخّرين في القرنين الأخيرين، وأوّل استخدام مثبّت لهذه القاعدة يعود إلى مدوّنات القرن الثالث عشر[٧]، حيث استخدم السيّد الطباطبائي مفردات هذه القاعدة مثل: قبح العقاب، ومفردة النص كبديل لمفردة البيان، واستخدم إلى جانبها تركيبا مأثورا عن أهل السنة يبدو أنّ فيه إشارات إلى ما في هذه القاعدة، وهو: (الأصل براءة الذمّة). لكن لم يستخدمها بهذا التركيب وأورد مضمونها فقط، واستخدمت بالتركيب المتعارف حاليا في القرن الرابع عشر[٨]. وإن كان يبدو أنّ مفهومها حاضر في المدوّنات الاُصولية المأثورة عن المتقدّمين ولو بنحو جزئي. وذلك مثل قول الرازي: «أنّه لما كان الأصل براءة الذمّة امتنع الحكم بكونها مشغولة إلاّ بدليل سمعي... »[٩]. والدليل السمعي تعبير آخر عن البيان، لكن لم يتناول موضوع العقاب في حالة عدم الدليل السمعي.
وفي تاريخ هذه القاعدة يذهب الشهيد الصدر إلى أنّه لم يكن لها أثر في أصول الفقه الشيعي في عهد الشيخ الطوسي، وبدأت تتبلور تدريجيا حتّى اكتملت في عهد الوحيد البهبهاني لتصبح من القواعد المجمع عليها لديهم[١٠].
أدلّة القاعدة
لقد اعتبرت هذه القاعدة من المسلّمات بين العقلاء[١١]، والاُصوليين والأخباريين[١٢]، وكادت أن تكون إجماعية منذ عهد الوحيد البهبهاني[١٣]، لكن ردّ الإجماع بأنّه إجماع على أمر عقلي، وهو ليس من الإجماع الاصطلاحي المنظور لدى الاُصوليين[١٤].
واستدلّ عليها باعتبارات عقلائية وعرفية وكذلك عقلية اختلف في بيانها وصياغاتها، يوردها الشهيد الصدر بالنحو التالي:
البيان الأوّل: الإحالة إلى الوجدان، فالوجدان العرفي والعقلائي يقضي في المولويات العقلائية بعدم المؤاخذة على مخالفة التكليف الواقعي في موارد الجهل بالحكم الواقعي والظاهري الإلزامي. وذلك يعني كون هذه القاعدة من المرتكزات العقلائية وكونها ممّا يقرّ بها العقل.
البيان الثاني: ما ينسب إلى مدرسة المحقّق النائيني من أنّ مرجع هذه القاعدة هو قبح العقاب على ترك التحرّك عندما لا يكون هناك موجب للتحرّك، وهي قضية مسلّمة وقياساتها معها، والتكليف إذا لم يصل إلى المكلّف فمن الطبيعي ألاّ يكون محرّكا.
البيان الثالث: ما يبدو من كلمات المحقّق الإصفهاني من أنّ هذه القاعدة هي فرد من أفراد قاعدة الحسن والقبح العقليين التي تعود إلى حسن العدل وقبح الظلم. وبناء على هذا فإنّ مخالفة تكليف تمّت عليه الحجة خروج عن زيّ العبودية، بينما مخالفة تكليف لم تتمّ عليه الحجّة ليس ظلما ولا يستحقّ فاعله العقاب واللوم.
البيان الرابع: ما يُذكر عن المحقّق الإصفهاني كذلك في باب الحکم والتكليف، حيث قسّم الحکم إلى إنشائي وحقيقي، والأوّل لا يفرض فيه داعي البعث والتحريك، بينما الثاني يحصل بالجعل بداعي التحريك والبعث، والأخير هو الحكم الحقيقي. ومن الواضح أنّ الخطاب لا يعقل أن يكون باعثا إلاّ أن يصل إلى المكلّف. وعليه لا يكون الحكم حقيقيا إلاّ إذا وصل إلى المكلّف، ودون الوصول لا يكون الحكم حقيقيا، ويقبح العقاب على تركه؛ لأنّه لا وجود له أصلاً وحقيقة.
وقد ناقش الشهيد الصدر هذه البيانات ورفضها. وعلى العموم فإنّ مناقشة الشهيد الصدر لهذه القاعدة؛ مبنيّة على مسلكه المسمّى مسلك حق الطاعة، إذ ذهب إلى أنّ هذه القاعدة صادقة في المولى العرفي دون المولى الحقيقي، فالعقل العملي يدرك في حقّ المولى كفاية احتمال التكليف ويراه بمثابة بيان، ويذهب إلى لزوم الاحتياط في حقّ المولى وتكاليفه، ولا ينتظر العقل البيان الذي يبلغ مستوى العلم لكي يحكم بقبح المخالفة، بل يكتفي بالاحتمال فيحتاط[١٥].
وبعد ما يذكر إيراداته على هذه المحاولة ينتهي إلى أنّه لا أساس لهذه القاعدة[١٦].
مناقشات في القاعدة
يرى الأخباريون أدلّة الاحتياط نوع بيان، فلا تطبّق (قبح العقاب بلا بيان) في موارد الاحتياط، فيدّعون أنَّ موارد الشبهة تندرج تحت قاعدة (وجوب دفع الضرر للعلم الإجمالي بالتكليف) بدعوى وجود بيان على التكليف المشتبه به من جهة العلم الإجمالي وأنّ هذه القاعدة هي صغرى لقاعدة دفع الضرر المحتمل جراء وجود تكاليف قد لا نعلمها بالتفصيل، ممّا يستلزم الاحتياط. أو بدعوى وجود أخبار تدعو إلى الاحتياط وهي تصلح لئن تكون بيانا على التكليف الواقعي، والقاعدة في حقيقتها ليست عقلية، بل ورد ذكرها في السنة[١٧].
وبتعبير آخر: هناك توهّم بتعارض قاعدة قبح العقاب بلا بيان مع قاعدة دفع الضرر المحتمل، والأخيرة تكون واردة على الاُولى؛ لكونها رافعة لموضوع القبح.
لكن ردّ هذا التوهّم باعتبار عقلي، وهو أنّ بيان قاعدة (دفع الضرر المحتمل) منوط بتطبيق حكم الشارع بوجوب دفع الضرر، وهذا فرع وجود موضوع الضرر في الخارج، فمن المستحيل مجيء الموضوع ونشأته من قِبَل حكمه، ومعه لا مجال لاحتمال الضرر من قبل هذا الوجوب، مع فرض عدم وجود بيان آخر غيره، فلا يبقى مجال لاحتمال الضرر إلاّ احتماله في ظرف انعدام البيان. وهذا الاحتمال منفي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فتكون القاعدة الأخيرة واردة على قاعدة الضرر لا العكس[١٨].
ويذهب البعض إلى عدم اختلاف الاُصوليين و الأخباريين في أصل القاعدة، بل اختلافهم في مثل صغرياتها أو تطبيقاتها أو كونها ذات منشأ شرعي وليس عقليا [١٩].
إضافة إلى ما تقدّم فإنّ عددا من الاُصوليين ناقش في القاعدة من جوانب مختلفة، منهم: السيّد الداماد، حيث قال باختصاص القاعدة بالموارد التي يتمكّن الشارع فيها من البيان، أمّا في موارد مثل التقية فهي غير شاملة لها [٢٠].
كما نوقش في ما إذا كانت هذه القاعدة تختصّ بـ الشبهات الحكمية أو تشمل الشبهات الموضوعية كذلك. يبدو الاتّفاق وعدم وجود نقاش في شمولها للشبهات الحكمية؛ لأنّ وظيفة الشارع تحديد أحكام المواضيع، وهو شأن مولوي، أمّا الشبهات الموضوعية ففيها رأيان:
الرأي الأوّل: كون المواضيع ليست من شأن الشارع، والقضية تكوينية، وعلى المكلّف أن يسعى لإزالة الشكّ والشبهة الواردة في المواضيع، فواجب الشارع تحديد حرمة أو حلّية الخمر، وليس من شأنه تحديد السائل ما إذا كان خمرا أم لا؟ ولأجل هذا قيل: باختصاص هذه القاعدة في الشبهات الحكمية فقط، أمّا الشبهات الموضوعية فيجري فيها مثل قاعدة الاشتغال والاحتياط لغرض تفريغ الذمّة من التكليف.
الرأي الثاني: كون القاعدة شاملة للشبهات الموضوعية كذلك، ولا فرق بين الشبهات الموضوعية والحكمية، ولا ينبغي تخصيص البيان في الحكمية فحسب؛ لعدم الفرق. وهذا هو الذي ذهب إليه المشهور[٢١].
شروط القاعدة
الظاهر من كلمات الاُصوليين أنّ للقاعدة شرطين على أقلّ تقدير، هما:
1 ـ الفحص عن البيان، وبدونه لا يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. واستدلّ على هذا الشرط بتبريرين:
أوّلهما: كون المراد من البيان هو الذي يؤدّي إلى قطع العبد، وهو لا يحصل دون فحص.
وثانيهما: إنّ شأن ومقام مولوية المولى تقتضي اهتمام العبد بالتكاليف والسعي لمعرفتها، لا إهمالها. وتلك الوظائف لا تحصل عادةً إلاّ بالفحص والتتبّع[٢٢].
وأضاف البعض دليلاً آخر هو: أنّ ميزان الوصول المفروض في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو الإيصال المتعارف بحسب اختلاف الموالي والعبيد والأحكام، وبالنسبة إلى المولى الحقيقي فإنّ الميزان هو إبلاغه بواسطة الرسل وتثبيته في رسائلهم مثل القرآن والزبر، لا إيصاله إلى كلّ واحد من المكلّفين. وهذا يتطلّب من العبد أن يفحص لكي يصل إليه[٢٣].
2 ـ اليأس عن الظفر ووجدان بيان، ومجرّد الفحص لا يكفي، بل ينبغي أن يصل إلى مرحلة يشعر بها المكلّف عجزه عن وجدان البيان[٢٤]. ويبدو أنّ اشتراط هذا الشرط من باب كونه نتيجة للشرط الأوّل، ودعوة لئن يبلغ الفحص ذروته، ولا يكتفى بفحص مجمل.
المصادر
- ↑ . تقريرات المجدّد الشيرازي 2: 340 ور4: 55، نهاية النهاية 1: 314، ثلاث رسائل، العوائد والفوائد: 9 ـ 10.
- ↑ . مصباح الاُصول 2: 283.
- ↑ . نهاية النهاية 1: 314، واُنظر: فوائد الاُصول 3: 365.
- ↑ . نهاية النهاية 2: 100، 119 ـ 120، فوائد الاُصول 3: 215 و 3: 365، منتهى الاُصول 2: 195.
- ↑ . أجود التقريرات 3: 220.
- ↑ . فوائد الاُصول 3: 215.
- ↑ . اُنظر: مفاتيح الاُصول 517.
- ↑ . النور الساطع في الفقه النافع 2: 100، تقريرات المجدد الشيرازي 2: 340 و 3: 351.
- ↑ . المحصول الرازي 2: 576.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الشاهرودي 5: 25 ـ 26.
- ↑ . تنقيح الاُصول العراقي: 48، نهاية الأفكار 3: 199، تسديد الاُصول 2: 123.
- ↑ . الهداية في الاُصول الصافي 3: 293، مصباح الاُصول 2: 283.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الشاهرودي 5: 23.
- ↑ . الهداية في الاُصول الصافي 3: 293.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الشاهرودي 4: 186 و 5: 24، دروس في علم الاُصول 2: 333 ـ 336.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الشاهرودي 5: 26 ـ 28.
- ↑ . نهاية الأفكار 3: 199 ـ 200، منتهى الاُصول 2: 164، تنقيح الاُصول: 48، نهاية الأفكار 3: 235، وسيلة الوصول إلى حقائق الاُصول: 591، مجمع الأفكار ومطرح الأنظار 3: 246 ـ 247.
- ↑ . مقالات الاُصول 2: 176.
- ↑ . اُنظر: مقالات الاُصول 2: 150 و 176.
- ↑ . تحريرات في الاُصول 7: 130.
- ↑ . تحريرات في الاُصول 7: 130، فوائد الاُصول 3: 389 ـ 390 و396.
- ↑ . بحوث في الاُصول الاصفهاني: 193.
- ↑ . أنوار الهداية 2: 411 ـ 412.
- ↑ . كفاية الاُصول : 343 ، نهاية الأفكار 3 : 165 ، فوائد الاُصول 3 : 365.