المصالح المرسلة

المصالح المرسلة: اصطلاح بين الأصوليين يتمسکون بها في مقام الاجتهاد و الاستنباط، وهي المصلحة المطلقة من كلّ قيّد إلاّ قيّد النفع العامّ، وههنا مباحث طويلة حول هذا الاصطلاح من بيان أقسامها وشروطها وأحکامها والاستدلال علی حجيتها أو عدم حجيتها. کل هذه المباحث نقدمها للقارئ الکريم.

تعريف المصالح المرسلة لغةً

الصلاح: نقيض الطلاح[١]، والصلح: ضدّ الفساد والمصلحه: الصلاح والمصلحه واحدة المصالح، والاستصلاح: نقيض الاستفساد[٢].
أرسل الشيء يرسله: أطلقه وأهمله[٣]. أرسلت الكلام إرسالاً: أطلقته من غير تقييد[٤].

تعريف المصالح المرسلة اصطلاحاً

هنا بعض التعاريف الواردة في هذا المضمار، والتي صنّفناها إلى أصناف:

الصنف الأوّل من التعريف الاصطلاحي

التعاريف التي تفرض المصالح المرسلة آلية اُصولية وتعرّفها بمعزل عن أي آلية أو دليل آخر، مثل:
- المصلحة المرسلة: هي المصلحة المطلقة من كلّ قيّد إلاّ قيّد النفع العامّ[٥].
ـ ترتيب الحكم الشرعي على المصلحة المرسلة، بحيث يحقّقها على المطلوب[٦].

الصنف الثاني من التعريف الاصطلاحي

التعاريف التي تفرض المصالح المرسلة هي ذاتها المناسبة التي تستخدم كأحد مسالك العلّة في القياس، مثل:
ـ إنَّها المصالح التي يرجع معناها إلى اعتبار أمر مناسب لا يشهد له أصل معين من الشارع[٧]. ومن خلال التعبير بالأمر المناسب يبدو إرجاع المصالح المرسلة إلى المناسبة. والاختلاف بينهما هو في الاصطلاح فقط.
وفي هذا المجال يقال: هي عند التحقيق في جميع المذاهب؛ لأنّهم يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار، ولا نعني بالمصالح المرسلة إلاّ ذلك[٨].
ـ الوصف المناسب الذي لم يكن له من الشرع شاهد بالاعتبار ولا بالإلغاء[٩].
وضمن هذا الصنف يدخل ما ورد عن الزركشي، فقد عرّف المرسلة بقوله: «مرسلة أي لم تعتبر ولم تُلغَ»[١٠].

الصنف الثالث من التعريف الاصطلاحي

التعاريف التي تعرّف المصالح المرسلة ضمن المقاصد الشرعية، مثل الموارد التالية:
عرّف البوطي المصلحة بقوله: «المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم، طبق ترتيب معيّن فيما بينها»[١١]. فهو هنا يساوق بين المصلحة والمقاصد.
ثُمَّ عرّف الإرسال كالتالي: «وهو الوصف المناسب الذي لم يكن له من الشرع شاهد بالاعتبار ولا بالإلغاء».
وفي محلٍّ آخر يعرِّف المصالح المرسلة مجموعة كالتالي: «كلّ منفعة داخلة في مقاصد الشارع دون أن يكون لها أو لجنسها القريب شاهد بالاعتبار أو الإلغاء»[١٢].
أو المصالح الملائمة لمقاصد الشارع ولا يشهد لها أصل خاصّ بالاعتبار أو الالغاء[١٣].
أو كلّ مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب والسنّة والإجماع ليس خارجا من هذه الاُصول، لكنّه لا يسمّى قياسا بل مصلحة مرسلة[١٤].
أو هي المصالح التي سكت عنها الشارع ولم ينصّ على اعتبارها أو إلغائها، فهي من صميم المقاصد، لكن الفرق بينهما في أنّ المقاصد أعم من حيث إنّها تثبت بالمصالح التي نصّ عليها أو أجمع عليها كما تثبت من غير نصّ أو إجماع[١٥].
أو هي المصالح الملائمة لمقاصد الشريعة الإسلامية، ولا يشهد لها أصل خاصّ بالاعتبار أو الإلغاء. وإن كان يشهد لها أصل خاصّ، دخلت في عموم القياس. وقد مثّل لها الفقهاء بأنّ الجماعة إذا اشتركوا في قتل واحد، فإنّهم به يقتلون. ووجه المصلحة هو: أنّ القتيل معصوم الدم. وقد قتل عمدا. فإهدار دمه، داع إلى منع القصاص؛ لأنّه يكفي أن يذهب الدم هدرا باشتراك اثنين في قتله...[١٦].

الاضطراب في التسمية

تعددت تسميات هذا الاصطلاح، فقد استخدم الاُصوليون أكثر من اصطلاح للإشارة إليه، أهمّها: المصالح المرسلة والاستصلاح[١٧]، وهناك من استخدم اصطلاحين آخرين غير مشهورين في الاستخدام بهذا المعنى، هما: المناسب المرسل[١٨]، والاستدلال المرسل[١٩]، لكن الاصطلاح المشهور والدارج أكثر في هذا المجال هو المصالح المرسلة، وقد استخدمه المتقدّمون، وخاصة المتأخّرون منهم.
وقد برَّر الدكتور محمّد سعيد البوطي تعدد التسمية بقوله:
«إنّ كلّ حكم يقوم على أساس المصلحة يمكن أن ينظر إليه من ثلاثة جوانب، أحدها: جانب المصلحة المترتّبة عليه، ثانيها: جانب الوصف المناسب الذي يستوجب ترتيب الحكم عليه تحقيق تلك المصلحة، ثالثها: بناء الحكم على الوصف المناسب أو المصلحة، أي المعنى المصدري.
فمن نظر إلى الجانب الأوّل عبر بالمصالح المرسلة، وهي التسمية الشائعة، ومن نظر إلى الجانب الثاني عبر بالمناسب المرسل، كابن الحاجب وكالغزالي في كتابه شفاء الغليل، ومن نظر إلى الجانب الثالث عبَّر بالاستصلاح أو بالاستدلال، وقد عبَّر بالاُوّل الغزالي في المستصفى وعبَّر بالثاني إمام الحرمين في كتابه البرهان، وجعل بعضهم اسم الاستدلال شاملاً لما عدا دليل الكتاب والسنة والاجماع والقياس، كـ الاستحسان و الاستصحاب، فعبَّر هؤلاء عن المصالح المرسلة بالاستدلال المرسل، ومنهم الإمام الزركشى في كتابه البحر المحيط»[٢٠].
وقد انعكس هذا الاضطراب على محلّ بحث المصالح المرسلة، فقد طرحت بحوث هذه الآلية في مكانين، أحدهما: القياس، حيث الكلام عن أقسام الوصف المناسب، وثانيهما: عند الحديث عن الاستدلال وأقسامه[٢١].

أقسام المصالح

وردت أقسام عديدة للمصالح، فتارة قسّمت إلى عامّة وخاصّة؛ باعتبار صلتها بالمجتمع أو بالفرد، فإذا كانت ذات صلة بالمجتمع عُدَّت عامّة وإلاّ عُدَّت خاصّة، والمصالح العامّة أو الاجتماعية من قبيل الاُمور التي تخصُّ الدولة والقانون والمصالح الخاصّة أو الشخصية من قبيل الاُمور التي تخصّ شؤون العائلة الداخلية وكلّ فرد منها.
كما قسمت المصالح إلى الحقيقية والوهمية والظنّية والمشكوكة؛ وذلك باعتبار التأكُّد أو عدم التأكّد من صحّتها، فالحقيقية هي التي لا شكّ في صحّتها وفي كونها ممَّا يُطلق عليها مصلحة، أمَّا الوهمية فهي التي تأكّدنا من عدم كونها مصلحة، وبنفس الاعتبار يمكن تقسيمها إلى ظنّية ومشكوكة، فإنّ بعض المصالح قد لا نجزم بكونها مصلحة فقد تكون مفسدة أو نظنّ بكونها كذلك أو نشكّ بكونها كذلك.
كما قسمت إلى الضرورية والحاجية والتحسينية؛ وذلك باعتبار أولويتها ومستوى الحاجة إليها [٢٢].
وتقسيمها إلى معتبرة وملغاة ومرسلة؛ باعتبار الأخذ بنظر الاعتبار حكم الشارع فيها، والمعتبرة هي التي دلَّ دليل شرعي على اعتبارها شرعا، وقد مثّلوا لذلك بالمصالح التي شُرِّع لأجلها القصاص والجهاد.
والملغاة هي التي دلَّ دليل شرعي على إلغائها ولا تنسجم مع أهدافه ومقاصده، سواء رفضها بنصّ أو أنّها تخالف بنحو غير مباشر إحدى مقاصد الشريعة، ومثَّلوا لذلك بزيادة التكاليف على المسلمين وإيصال الصوم بدعوى تعميق مبدأ الامتثال وانصياع النفس وخضوعها لخالقها [٢٣].
والمرسلة هي التي لم يدلّ دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، وهي موضع بحثنا هنا.

رأي الشيعة

لم يقل بالمصالح المرسلة أيٌّ من فقهاء الشيعة لا القدماء منهم ولا المتقدّمون. و الشيخ المفيد و الطوسي و السيّد المرتضى لم يتعرّضوا لهذا الموضوع أصلاً. برغم أنّ هذا يدعو للتأمّل؛ باعتبار تعرّضهم لمثل القياس ولا يعرف دليل عدم تعرّضهم لمثل المصالح المرسلة.
أمّا من تأخّر عنهم مثل المحقق الحلي فقد تعرّض لها ورفضها [٢٤]، وكذلك فعل الأمين الإسترابادي[٢٥]، والمحقّق الميرزا القمّي[٢٦].
أمّا المعاصرون منهم فبعض مثل: الشيخ هادي معرفة يبدو منه القول بحجّيّتها؛ وذلك اعتمادا على قبوله نظرية ولاية الفقيه. لكن رأيه في هذا المجال مبهم ولم ترد عنه التفاصيل اللازمة؛ باعتبار أنّ رأيه ورد في كتاب غير اُصولي، ولم يتعرّض للموضوع بنحو مباشر[٢٧].
وبعض آخر مثل الشيخ مكارم، حيث يذهب إلى أنّها إذا رجعت المصالح إلى المستقلات العقلية وإدراكات العقل القطعية التي يحرز فيها عدم المانع فتكون معتبرة وفقا لقاعدة [[الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وإذا رجعت إلى إدراكات العقل غير القطعية فلا تكون حجّة، وحجّيّتها بحاجة إلى دليل شرعي[٢٨].
ويقول السيّد محمد تقي الحكيم في بيانه لنتيجة بحثه في المصالح المرسلة:
«وبهذا يتّضح أنّ الشيعة لا يقولون بالمصالح المرسلة إلاّ ما رجع منها إلى العقل على سبيل الجزم، كما هو مقتضى مبناهم الذي عرضناه في دليل العقل، وما عداه فهو ليس حجّة»[٢٩].

رأي أهل السنّة

يمكن تقسيم آراء أهل السنة إلى قسمين، فالمعاصرون منهم ممّن كتب في هذا المجال لا يبدو وجود اختلاف بينهم في الأخذ بها، والكتب المنشورة في العقود الأخيرة تحكي هذا الأمر. أمّا القدماء والمتقدّمون منهم فقد اختلفوا بين قائل بها وبين رافض وبين مفصِّل بين أقسامها، فرفض أقساما وقبل أقساما اُخرى، ويمكن تلخيص الأقوال لديهم في الطائفتين التاليتين:

الطائفة الاُولى

منع التمسّك بها مطلقا، وهو المذهب المنسوب إلى الأكثرين أو الجمهور[٣٠]، بل يذهب الآمدي إلى اتّفاق الفقهاء من الشافعية و الحنفية وغيرهم على هذا القول، وحتّى مالك قال بها في خصوص المصالح الضرورية فقط[٣١]. لكن يدّعي متأخّرو الشافعية أنّ إمامهم لم يقل بالمصالح المرسلة، برغم سرد بعضهم فتاوى وردت عن الشافعي يبدو اعتمادها المصالح المرسلة كدليل لها. وهي مثل جواز اتلاف الحيوان الذي يقاتل عليه الكفّار، واتلاف أشجارهم ونباتاتهم لأجل الظفر بهم...[٣٢].

الطائفة الثانية

الأخذ بالمصالح المرسلة، وأتباع هذه الطائفة انقسموا على عدّة آراء، هي:
الرأي الأوّل: الأخذ بها إذا كانت ملائمة لأصل من اُصول الشرع، كما هو المذهب المحكي عن الشافعي[٣٣]. وردّ ما حكي عنه من عدم أخذه بالمصالح أصلاً من خلال سرد مجموعة من الأحكام المأثورة عن الشافعي لا يمكن الاستدلال عليها إلاّ من خلال الأخذ بالمصلحة كمصدر تشريع ممّا يعني أخذه بها [٣٤].
الرأي الثاني: إطلاق الأخذ بها، كما هو مذهب مالك. ويعتبر الإمام مالك وأتباعه روّاد الأخذ بهذا المصدر التشريعي[٣٥]، واعتبر الإمام الجويني ـ الذي استخدم اصطلاح الاستدلال مكان الاصطلاح الرائج ـ مالكا قد أفرط في القول بهذا الأصل، ورده بردود عنيفة، وحكى عن البعض نقلهم مقولة عن مالك قال فيها: «أقتل ثلث الاُمة للاستبقاء على ثلثيها» وذلك في إشارة منه إلى خطورة القول بالمصالح المرسلة[٣٦]. ويذهب بعض إلى أنّ المصالح التي أخذ بها مالك، ناشئة عن نصّ وارد فيها، ولم يأخذ بالمصالح على الإطلاق، ولذلك نفى البعض عن مالك الأخذ بالمصالح، ومراده المصالح التي لم يجد سندا لها في النصوص أو كانت عن تشهي وقولاً بالرأي[٣٧].
الرأي الثالث: الأخذ بها إن كانت قطعية وضرورية، أي كونها من الضروريات الخمس وكلّية، أي تعم فائدتها المسلمين وهو مذهب الغزالي[٣٨] وكثير غيره[٣٩].
وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى الأخذ بها، لكن مع عدم اعتبارها أصلاً مستقلاًّ وقسيما لـ الكتاب و السنة، بل كان يعدّها من معاني القياس[٤٠].
أمَّا الإمام أبو حنيفة فلم يؤثّر عنه شيء في هذا المجال، ورأيه مكتنف بالغموض[٤١]، لكن اُثر عنه الكلام التالي: «آخذ بكتاب اللّه‏ فما لم أجد فبسنّة رسول اللّه‏(ص)، فإن لم أجد في كتاب اللّه‏ ولا سنّة رسول اللّه‏(ص) أخذت بقول أصحابه»[٤٢].
وظاهر هذا أنَّه يرفض المصالح كأصل، كما يمكن القول بأنّه سكت عن هذا الموضوع، ولم تتضح دلالة السكوت هنا ما إذا كانت القبول أو الأعم منه، لكن الدكتور وهبة الزحيلي يرى أنّ القواعد المأثورة عن الحنفية تتسع للقول بالمصالح المرسلة، وتعني عمليا الذهاب إلى اعتمادها وإن لم يصرحوا بذلك[٤٣].
وقد يندرج تحت كلّ طائفة من الطوائف الثلاث عدد من الفقهاء الذين يختلفون في بعض الجزئيات، ولذلك قد يتشعّب الاختلاف جراء هذا ولو جزئيا، ليصبح الخلاف ذات وجوه عديدة. من هنا قام البعض بمحاولة توحيدية بين رؤى علماء أهل السنّة في هذه القضية، فقال باتّفاق العلماء على قبول المصالح المرسلة وأنّ الاختلاف ناشئ عن اُمور مثل الاضطراب في التعابير أو في اُمور جزئية وما شابه ذلك من التبريرات ووجوه الجمع[٤٤].

أدلّه القائلين بالمصالح المرسله

إنّ بعضا ممَّن كتب في هذا الموضوع استغنى عن ذكر دليل على المصالح المرسلة، واكتفى بالاستدلال على وجود عنصر المصلحة في الشريعة وأنَّ الاحكام الشرعية و الفتاوى في مدوّنات الفقه وخاصّة تلك المنسوبة إلى أئمة المذاهب، ملحوظ فيها المصالح البشرية بمختلف أنواعها المتقدّمة[٤٥]. وهذا يعني أنّ القول بالمصلحة في الشريعة يعدّ دليلاً كافيا على إثبات كلّ ما يعود إلى إعمال المصلحة في التشريع، ومنها: المصالح المرسلة، كما أنّ الذين استدلوا على حجية المصالح المرسلة جاؤوا بنفس الأدلّة التي استدلّ بها على إعمال المصلحة في التشريع الإسلامي غالبا. ومجمل الأدلّة التي وردت في حجّيّة المصالح المرسلة هي:

الدليل الأوّل

لقد روعي جنس مصالح الناس في جملة الأحكام، وذلك للأدلّة التالية:
أ ـ قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِـينَ»[٤٦]. ومقتضى الرحمة تحقيق مصالح الناس، ولو خلت الأحكام من المصلحة لكان الإرسال لغير رحمة.
ب ـ قوله تعالى: «وَما جَعَلَ عَلَيْـكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»[٤٧] وقوله تعالى: «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ»[٤٨]، وهي آيات تحكي ابتناء الأحكام الشرعية على اليسر ورفع الحرج أو رعاية وتحقيق مصالح الناس.
ج ـ قوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لاِّءِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِـيمٌ»[٤٩]. فمضمون الآية يدلّ على جواز مخالفة بعض الأحكام الشرعية لأجل رعاية مصالح المكلّفين بسبب اضطرارهم للمخالفة، وهو تعبير آخر عن رعاية مصالحهم.
د ـ قوله(ص): لا ضرر ولا ضرار، ونفي الضرر تعبير آخر عن كون رعاية المصالح أمرا مشروعا.
وقد أكّد الطوفي الاستدلال بهذا الحديث بقوله: «ثم إنّ قول النبي(ص): لا ضرر ولا ضرار يقتضي رعاية المصالح إثباتا، والمفاسد نفيا؛ إذ الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع، لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة لأنّهما نقيضان لا واسطة بينهما»[٥٠].

الدليل الثاني

تغيّر الزمان وأنماط الحياة وتنوّعها جعل من الصعب الاقتصار على الأحكام المنصوصة؛ لأنّ الاقتصار عليها يعطّل الكثير من مصالح الناس ويمنع من مواكبة التشريع لتطوّرات الزمان، وهو ممّا يتنافى مع المقاصد الشرعية. فكان من الضروري إصدار أحكام جديدة تتلاءم مع المقاصد الشرعية للحؤول دون الوقوع في تلك المحاذير[٥١].

الدليل الثالث

إنّ موقف المجتهد تجاه المصلحة المرسلة لا يخلو عن ثلاثة، إمّا أن يرى كونها خالية من حكم اللّه، وهذا خطأ؛ لأنّه ما من واقعة إلاّ وللّه فيها حكم باتّفاق المسلمين. وإمّا أن يعتبرها ويرتّب عليها حكما يلائمها. وإمّا أن يلغيها ويرتّب حكما على إلغائها. والأخيرين أخذ بما لا دليل عليه، فلا يوجد نصّ أو قياس يدلّ على الأخذ أو الإلغاء، والميل إلى أحد هذين القولين يعدّ ترجيحا بلا مرجّح. فنعود إلى عمومات الأدلّة في المصالح المرسلة، وهي تدلّ على دخولها في مقاصد الشارع والحكم وفق المقاصد الشرعية[٥٢].

الدليل الرابع

استقراء اجتهادات الصحابة و التابعين يحكي إفتاءهم وفق المصالح الراجحة، مع أنّه لم يرد ولا يستنكر عملهم، وكأنّه بمثابة الإجماع الذي يجب العمل به[٥٣]، بل سار التابعون على نهج أساتذتهم من الصحابة، وقد عملوا بالمصالح المرسلة، كما عمل بها الصحابة[٥٤] وهكذا أئمة المذاهب الأربعة مع اختلاف في التسمية فقد يطلقون على المصالح المرسلة استحسانا [٥٥]. يبدو أنّ أهمّ دليل تمسّك به القائلون بحجّيّة المصالح المرسلة هو هذا الدليل، أي سيرة الصحابة. وفي هذا المجال أوردوا نماذج من سيرتهم في موارد خاصّة اعتبروها دليلاً على قولهم بالمصالح المرسلة، بل قالوا بعمل الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة بها بالاتّفاق و الإجماع[٥٦].
نورد نماذج منها:
1 ـ دفن الرسول داخل المدينة دار الهجرة دون دار الدعوى في مكّة اجتهادا من الصحابة.
2 ـ جمع القرآن عهد أبي بكر، وذلك رعاية لمصلحة الإسلام والمسلمين وخوفا من تحريف الآيات والسور وتشتتها وضياعها.
3 ـ تولية عمر الخلافة بعد أبي بكر.
4 ـ قتل الجماعة بالواحد، وشرِّع ذلك عهد عمر.
5 ـ اتّخاذ السجون وسيلة للتعزير والتأديب عهد عمر.
6 ـ وضع الخراج وتدوين الدواوين عهد عمر، وهو قد استفاد ذلك من حضارات اُخرى.
7 ـ منع عمر الصحابة مغادرة المدينة لتشريكهم في اتّخاذ القرارات.
8 ـ منع الأنساب والأقارب من كثرة التزاور لكيلا تشتدّ الأواصر إلى درجة تزيل الحياء والاحترام وبلورة المشاكل والتوترات.
9 ـ منع الولاة من خلط أموالهم الخاصّة بالأموال العامّة.
10 ـ إراقة اللبن المغشوش بالماء تأديبا للغشاش وحفظا لحقوق المشترين.
11 ـ تولية المفضول مع وجود الفاضل إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك.
12 ـ منع عمر الصحابة التزاوج بالكتابيات خوفا من الإعراض عن زواج المسلمات.
13 ـ منع عمر المسلمين أكل اللحوم يومين متواليين.
14 ـ إمضاء الخليفة الثاني للطلاق الثلاث بلفظ واحد طلاقا ثلاثا، لتأديب الناس المتعجلين في أمر كانت لهم فيه أناة. وغيرها من الموارد[٥٧].
وألحق التابعون بـ الصحابة كذلك، واستدلّ بسيرتهم على المصالح المرسلة على غرار الاستدلال بسيرة الصحابة. وقد أوردوا نماذج لها:
منها: عمل عمر بن عبد العزيز بما دون البيّنة الشرعية لردّ المظالم، باعتبار أنّ البحث عن البيّنة الشرعية يوجب ضياع معظم الوقت في هذا المجال، ويمنع من وصول أصحاب الحقوق إلى حقوقهم لعدم إمكان تحصيل البينة لهم.
ومنها: أمره الولاة بإقامة الخانات بطريق خراسان لتؤدّي الخدمة للمسافرين في ذلك الطريق برغم أنّ هذا ممّا لم يُعهد عمله عهد الرسول(ص).
ومنها: منع تشييد المباني في منى توفيرا لراحة الحجيج.
ومنها: جمع الحديث وتدوينه واعتماد علم الجرح والتعديل في هذا المضمار.
ومنها: معاقبة الشاهدين إذا اختلفت شهادتهما.
ومنها: تجويز شهادة الصبيان على بعضهم الآخر أثناء اللعب وقبل رجوعهم إلى بيوتهم.
ومنها: ما ذهب إليه شريح من تضمين الصنّاع، للحاجة إلى ذلك وكثرة الصنّاع بعد النبي(ص).
ومنها: ما روي عن شريح و ابن أبي ليلى من جواز إعارة الأرض لأجل البناء دون تحديد زمن للإعارة وجواز إخراجه بعد إتمام البناء مع إعطائه قيمة البناء[٥٨].

مناقشة أدلّة القائلين بالمصالح المرسلة

نوقشت أدلّة القائلين بالمصالح المرسلة بالمناقشات التالية:
1 ـ القول بأنّ الشرع اعتبر جنس المصلحة في أحكامه إدّعاء ينقصه الدليل؛ لعدم وجود دليل من الكتاب و السنة ولا إجماع الصحابة. وأمَّا قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِـينَ»[٥٩]. فليس علّة تشريعية، بل هو توصيف للشريعة ونتيجتها، وليس تأسيساً لأصل شرعي.
2 ـ على فرض اعتبار المصالح في التشريع الإلهي وأنّ هناك مصالح ملغاة ومصالح معتبرة، فإنّ إلحاقها بأحدهما بمثابة إلحاقها بالاُخرى؛ لكونه ترجيحا بلا مرجح، ومع احتمال إلحاقها بأحدهما يبقى احتمال إلحاقها بالاُخرى. ومع وجود الاحتمال يسقط الدليل.
3 ـ النصوص الدالّة على الأحكام الشرعية بيّنت الأحكام فقط، سواء اقترنت بعلّة أو لم تقترن، وفي الموارد التي بيّنت فيها العلل، لا يمكن القول بأنّها بيّنت المصالح كذلك، لكون المصالح والمفاسد تختلف عن العلل، والنصوص لا إشارة فيها للمصالح والمفاسد أصلاً.
والآيات التي يبدو منها التعليل هي مثل:
قوله تعالى: «يا أَ يُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ»[٦٠]. وقوله تعالى: «وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ»[٦١]. والآيتان بيّنتا الحكم الشرعي، ولم تتعرّضان لبيان المصلحة.
ومثل قوله تعالى: «كَىْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِـياءِ مِنْكُمْ»[٦٢] وقوله تعالى: «لِكَىْ لا يَكُونَ عَلَى المُـؤْمِنِـينَ حَرَجٌ فِى أَزْواجِ أَدْعِـيائِـهِمْ»[٦٣]. وقوله تعالى: «وَالمُـؤَ لَّـفَةِ قُلُوبُـهُمْ»[٦٤]، فهذه الآيات بيّنت الأحكام وعللها لكنّها لم تبيّن إن كانت هذه العلّة مصلحة أو مفسدة.
ففي الآية الاُولى بيّنت توزيع المال على الفقراء لأجل منع حصر تداوله بين الأغنياء، وفي الآية الثانية بيّنت علّة تزوّج الرسول(ص) بزينب بنت جحش بأنَّها بيان لحكم زواج زوجة الابن بالتبنّي، وبيّنت الآية الثالثة علّة إعطاء المؤلّفة قلوبهم، وهي حاجة الدولة إلى ذلك.
ولم تشر هذه الآيات إلى علاقة وارتباط العلل المذكورة بالمصالح والمفاسد، لا منطوقا ولا مفهوما.
4 ـ القول بالمصالح المرسلة يؤدّي إلى إبعاد صفة الشرعية عن الأحكام، وكأنّ الأساس في الأحكام هي المصالح، وانعدام الدليل الشرعي يكفي لنفي صفة الشرعية عن موضوعاتها، وفي النتيجة إسقاطها عن الاعتبار، بل يحتّم إسقاطها عن الاعتبار؛ لكون الحكم الشرعي هو مضمون خطاب الشارع المتعلّق بأفعال المكلّفين، وما دامت لم يدل عليها الشارع لا عينا ولا نوعا فهي ليست من الأحكام الشرعية وليست من الشرع أصلاً.
أمّا القول بأنّها تؤخذ من المقاصد الشرعية فهو ادعاء مردود؛ باعتبار أنّ المقاصد ليست أدلّة لفظية ونصوصا لكي يستنبط منها حكم، بل هي بحدّ ذاتها مستنبطة ومستخرجة من النصوص الشرعية الدالّة على تحريم القتل والزنا والسرقة وما شابه، وهي ليست مقاصد، بل أحكام للعباد اُستفيد منها مقاصد.
أمّا إذا اُريد من المقاصد كونها حِكما، فإنّ الحکمة قد تحصل وقد لا تحصل، وهي ليست مثل العلّة التي يتأتّى منها الحكم دائما.
5 ـ إنّ القول بالمصالح المرسلة يؤدّي إلى اختلال التشريع ويجعله عرضة للتغيير وفق تغيّر المصالح باختلاف الأزمان والأماكن والأحوال والأشخاص.
6 ـ كون الآيات القرآنية تناقض المصلحة المرسلة، وذلك مثل قوله تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»[٦٥]. فإنّها تنهى عن الأخذ بغير ما جاء به الرسول أو نهى عنه، والمصالح المرسلة ممّا جاء به العقل وليس الرسول، فنهت الآية هذه عن الأخذ بها.
ومثل قوله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِـيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ»[٦٦]، وقوله تعالى: «وَأَنَّ هـذا صِراطِى مُسْتَقِـيماً فَاتَّبِعُوهُ»[٦٧]، آيتان تأمران باتّباع الرسول بينما المصالح المرسلة تحكيم للعقل لا الشرع.
ومثل قوله تعالى: «اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِـيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً»[٦٨]، حيث الآية تحكي كمال الدين وعدم الحاجة إلى شيء آخر غيره، والقول بالمصالح يستلزم القول بعدم كمال الدين وحاجته للتكميل بالمصالح، وهو ما يتنافى مع الآيات والروايات[٦٩].
أمّا الاستدلال بحديث لا ضرر فيُرد بما يلي:
1 ـ رأي الطوفي بأنّ حديث لا ضرر مخصص يعتمد على إثبات كون نسبة هذا الحديث من الأدلّة الأوّلية نسبة عموم وخصوص مطلق، أي كون الحديث أخصّ مطلقا من الأدلّة الأوّلية، لكن نسبته إلى تلك الأدلّة هي عموم وخصوص من وجه، فالأدلّة تشمل حالة الضرر وغير الضرر، وكذلك حديث لا ضرر، ومادّة الاجتماع هي الضرر، فيحصل تعارض بينهما فيتساقطان، ولا وجه لترجيح أحدهما على الآخر إلاّ أن يقال: بأنّ لسان دليل لا ضرر هو لسان شرح وبيان أنّ الأحكام الضررية مرفوعة، فيكون حاكما، ولا حاجة لملاحظة نسبته مع باقي الأدلّة.
2 ـ يعتقد الطوفي بأنّ النسبة بين الضرر والمصلحة نسبة تناقض، بحيث انتفاء الضرر يثبت المصلحة، مع أنّ الضرر يعني النقص في المال أو العرض أو البدن، وهناك حالة ثالثة بين الضرر والمصلحة، مثل التاجر الذي لم يربح ولم يخسر، فإنّه لم يتضرّر ولم يكتسب مصلحة. وهذا يثبت كون النسبة بينهما التضادّ وليس التناقض. وعليه انتفاء أحدهما لا يثبت الآخر؛ لوجود حالة ثالثة بينهما، وهو هنا المباح الذي لا ضرر فيه ولا مصلحة. ولذلك يقال: حديث لا ضرر رافع للتكليف وليس مشرعا له، فهو هنا يرفع التكليف الذي يستبطن ضررا، ولا يثبت شيئا آخر، والمرجع في إثبات أمر آخر هو الأدلّة الاُخرى[٧٠].
أمّا الاستدلال بـ سيرة الصحابة فقد أوردوا عليه ما يلي:
أوّلاً: لم يثبت كون هذه الأحكام والفتاوى كانت قد صدرت منهم بناءً على عملهم بالمصالح المرسلة، فقد يكون عملهم هنا ناشئا من وجود نصٍّ بلغهم من الرسول لم يبلغنا أو اعتمادهم أدلّة اُخرى من قبيل الاستحسان و القياس، وإرجاع عملهم إلى المصالح هو فهم واستنطاق صدر من الفقهاء، وهو غير حجّة؛ لاحتمال خطأ الفهم والاستنطاق. وإذا نفينا احتمال هذا في بعض الموارد فالاحتمال باقٍ في الموارد الاُخرى.
ثانيا: الصحابة ليسوا معصومين فمن المحتمل ارتكابهم خطأً في إفتائهم بذلك، وحتّى لو كانوا مجتهدين فانّ اجتهادهم حجّة بالنسبة إليهم وإلى من يقلدهم لا بالنسبة إلى المسلمين جميعهم[٧١].
ثالثا: ادّعاء الإجماع في المسائل التي نسبت إلى الصحابة غير صحيح، وهي سيرة أفراد، وعمل البعض لا يعدّ إجماعا [٧٢].
وأورد الشيخ مكارم على الاستدلال بسيرة الصحابة الإيرادات التالية:
1 ـ هذه السيرة لا تصل إلى زمن النبي(ص) ولا يمكن استفادة تقرير الرسول في حقّها.
2 ـ لا تتكوّن السيرة من مجرّد نقل موارد شخصية من أشخاص معدودين.
3 ـ غالب ما نقل من تلك الموارد هي اجتهادات في قبال النص، مثل: إيقاع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة[٧٣].

أدلّة النافين لحجّيّة المصالح المرسلة

تمسك النافون لحجّيّة المصالح المرسلة بعدّة أدلّة عقلية ونقلية، هي:
1 ـ المستفاد من كلمات بعض النافين هو أنّ انعدام الدليل بحدّ ذاته دليل على عدم الحجية. وقد اعتبر الشيخ مكارم هذا الدليل هو أحسن وجوه الاستدلال على عدم حجّيّة المصالح المرسلة.
2 ـ القول بالمصالح أو المناسب المرسل يستلزم المحال؛ لأنّ المصالح إمّا معتبرة من قبل الشارع أو ملغاة، وإلحاق المصالح المرسلة بأحد هذين الاثنين ترجيح بلا مرجح أو أنّ الإلحاق بأحدهما ليس بأولى من الإلحاق بالآخر، فيستحيل الإلحاق[٧٤].
ولا يكفي الاستدلال بأنّ الشرعيات عموما مبنية على المصالح، بحيث إذا كان في شيء ما مصلحة صافية أو راجحة ينبغي أن يكون مشروعا لتعلّق الحکمة به.
فهذا مرفوض؛ باعتبار أنّ الحکمة باعثة لرعاية المصالح فيما إذا قطع بخلوّها عن جميع المفاسد، مع أنّ القطع غير حاصل هنا، والحاصل هو الظنّ، ولا يكفي الظنّ، لكون الظنّ في هذه الحالة ليس من الظنون المعتبرة[٧٥].
3 ـ لو كانت مصالح الناس تحتاج أكثر ممّا شرعه اللّه لبيّنه؛ لقوله تعالى: «أَيَحْسَبُ الإِنْسانُ أَنْ يُتْرَك َ سَدىً»[٧٦]. مع الاعتقاد بشمولية الشريعة وكمالها، ولم يرد بيان في هذا المجال ممّا يعني عدم حجّيّته[٧٧].
4 ـ المصلحة تعود إلى الحفاظ على مقاصد الشريعة، والأخيرة تعرف بـ الكتاب و السنة و الإجماع، وإذا لم تستند إلى هذه الثلاثة فهي غير معتبرة ولا حجّة، بل نستكشف عدم حجّيّتها [٧٨].

شروط الأخذ بالمصالح

لأجل ألاّ تخضع المصالح للأهواء والشهوات، بادر القائلون بالمصالح المرسلة بوضع شروط لها، وقد اختلفوا في هذا المجال.
اشترط البعض ثلاثة شروط للأخذ بالمصالح:
أوّلها: الملاءمة بين المصالح التي تعتبر أصلاً قائما بذاته وبين مقاصد الشارع، ولزوم عدم وجود تنافٍ ولا تعارض بينهما.
ثانيها: أن تكون معقولة في ذاتها جرت على الأوصاف المناسبة المعقولة بحيث، إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول.
ثالثها: أن يكون في الأخذ بها رفع حرج لازم، بحيث لو لم يؤخذ بالمصالح المعقولة في موضعها لكان الناس في حرج، واللّه تعالى يقول: «وَما جَعَلَ عَلَيْـكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»[٧٩]. وذلك لأجل أن لا يقع الناس في حرج[٨٠].
وذكر بعض آخر شروطا اُخرى مستخدما اصطلاح الضوابط فيها بدلاً عن الشروط، وهي:
1 ـ عدم إخلالها بعبودية اللّه تعالى.
2 ـ عدم قصر المصلحة على إحدى الدارين الدنيا والآخرة.
3 ـ عدم معارضتها أو تفويتها للنصّ.
4 ـ عدم معارضتها لأصل مقطوع به.
5 ـ عدم إخلالها بمقاصد الشريعة.
6 ـ عدم تفويتها مصلحة أهمّ منها أو مساوية لها.
ومبررات هذه الشروط والضوابط جميعها يعود إلى لزوم كون المصالح منطقية وغير خاضعة للتشهّي، وللمنع من التلاعب بهذه العناوين العائمة[٨١].

مجال العمل بالمصالح المرسلة

بناءً على الرأي القائل بالمصالح المرسلة والذي يعتبرها دليلاً لاستنباط الأحكام، فإنَّ مجال العمل بها خاصّ بالمعاملات والقوانين القضائية والاجتماعية والسياسية والحكومية عموما دون مثل العبادات، وذلك ممَّا تقتضيه أدلّة المصالح المرسلة.
الأدلّة التي استدلّ بها على المصالح واضحة الدلالة في اختصاصها بالأحكام غير العبادية، فانّ مثل سيرة الصحابة والامثلة التي ذكرت في هذا المجال لا تتعدّى كونها ذات بعد سياسي أو اجتماعي عام، أمّا الدليل العقلي، فمضمونه كون مصالح الإنسان متغيّرة بتغيّر الزمان، ولذلك قد تعدُّ بعض الاُمور المستحسنة سابقا قبيحة حاليا أو قد تُستحدث معاملات جديدة لم تكن من ذي قبل، كما هو واضح في المعاملات، والاقتصار على المعاملات التي كانت موجودة في عهد الرسول(ص) فقط يسلب الإنسان المعاصر الكثير من المصالح والفوائد التي يمكن أن تعود إليه بالنفع وتدرُّ عليه بخيرات كثيرة.
أمَّا العبادات والتعبّديات مثل: الصلاة فواضح عدم جريان دليل المصلحة فيها؛ وذلك لوجود النصوص في كونها توقيفية أوّلاً، ثُمَّ لعدم شمول الدليل العقلي، وكذا عمل الصحابة لها [٨٢].
مضافا إلى هذا كلّه، فإنّه لا أحد ممّن قال بالمصالح المرسلة قال بحجّيّتها في العبادات والاُمور التوقيفية[٨٣]، بل يبدو عدم وجود خلاف هنا [٨٤] وجريانه في العبادات بدعة.
وإذا ثبت عن بعض الشيعة ما يبدو منهم من القول بالمصالح المرسلة فلا بدّ من حمله على ما ورد من أهل السنة من تخصيص العمل بالمصالح المرسلة في غير التعبديات والتوقيفيات، أي في الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العامّة ذات الطابع الحكومي لا الفردي أو العبادي، ولم يصدر منهم ما يدلّ على إعمال هذه الآلية في العبادات؛ فانّهم طرحوها ضمن بحوث ولاية الفقيه وعدّوها من المصادر التي يمكن أن يعتمدها الفقيه الحاكم في مجال تشريع الأحكام ذات الطابع العامّ، أمّا العبادات فهي اُمور توقيفية صرفة.

الهوامش

  1. . ترتيب جمهرة اللغة 2: 371، مادّة: «صلح».
  2. . لسان العرب 2: 2221، مادّة: «صلح».
  3. . لسان العرب 2: 1507، مادّة: «رسل».
  4. . المصباح المنير: 226، مادّة: «رسل».
  5. . معالم الشريعة الإسلامية صبحي الصالح: 72.
  6. . ضوابط المصلحة: 364.
  7. . المدخل لدراسة الفقه الإسلامي محمّد يوسف موسى: 200.
  8. . إرشاد الفحول 2: 271.
  9. . ضوابط المصلحة البوطي: 339.
  10. . البحر المحيط 6: 76.
  11. . ضوابط المصلحة البوطي: 37.
  12. . المصدر السابق: 342.
  13. . المصالح المرسلة ومكانتها في التشريع جلال الدين عبدالرحمن: 14 ـ 15، المصلحة عند الحنابلة 1: 11.
  14. . المستصفى 1: 264.
  15. . المقاصد الشرعية وصلتها بالأدلّة الشرعية: 30 ـ 31، المقاصد الشرعية عند ابن قيم: 283 ـ 284.
  16. . الاعتصام الشاطبي 2: 395 ـ 396، اُصول الفقه (أبو زهرة): 261.
  17. . شرح مختصر الروضة 3: 204، روضة الناضر: 86، قواعد الاُصول: 78، المستصفى 1: 257.
  18. . الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 394، المستصفى 1: 257، الاُصول العامّة للفقه المقارن: 299.
  19. . البحر المحيط 6: 76.
  20. . ضوابط المصلحة البوطي: 341 ـ 342 واُنظر: أثر المصلحة في التشريعات (العنبكي): 167 ـ 168.
  21. . ضوابط المصلحة البوطي: 398.
  22. . للمزيد راجع: المختصر الوافي في اُصول الفقه محمّد تقية: 237 ـ 238.
  23. . انظر: شلبي، محمد مصطفى، أصول الفقه الإسلامي، ص 285 ـ 288، أنيس المجتهدين 1: 431 ـ 433، أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 754 ـ 756، و770 ـ 774، البدعة والمصالح المرسلة: 353 ـ 356.
  24. . اُنظر: معارج الاُصول: 221 ـ 222، الفوائد المدنية: 299، وكذلك المتأخّرون مثل الشيخ المظفر اُصول الفقه 3: 197 والسيّد الحكيم (الاُصول العامّة للفقه المقارن: 86) فقد رفضوه
  25. . اُنظر: الفوائد المدنية: 299.
  26. . القوانين المحكمة 3 ـ 4: 208 ـ 209، وكذلك المتأخّرون مثل الشيخ المظفر و السيّد الحكيم فقد رفضوه.
  27. . اُنظر: ولايت فقيه: 169 ـ 174 بالفارسية، وقد نجد آخرين ذهبوا إلى نفس القول من خلال مقالاتهم في ولاية الفقيه. اُنظر: أحكام حكومتي ومصلحت بالفارسية والعربية من منشورات مؤسّسة نشر وتنظيم آثار الإمام الخميني.
  28. . أنوار الاُصول 2: 493.
  29. . الاُصول العامّة للفقه المقارن: 386.
  30. . البحر المحيط 6: 76، إرشاد الفحول 2: 270.
  31. . الإحكام الآمدي 4: 160.
  32. . المصلحة في التشريع الإسلامي: 56.
  33. . البحر المحيط 6: 78.
  34. . البحر المحيط 6: 76 ـ 77، أثر المصلحة في التشريعات: 173 ـ 174، و182 ـ 184.
  35. . اُنظر: الموافقات 1: 29، البدعة والمصالح المرسلة: 255 ـ 258.
  36. . اُنظر: البرهان في اُصول الفقه 2: 161 ـ 168.
  37. . نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي: 50.
  38. . اُنظر: المستصفى 1: 258 ـ 260.
  39. . اُنظر: البحر المحيط 6: 79، إرشاد الفحول 2: 270 ـ 271.
  40. . اُنظر: أحمد بن حنبل أبو زهرة: 351، ضوابط المصلحة (البوطي) 379 ـ 381، البدعة والمصالح المرسلة (الواعي): 258 ـ 264.
  41. . اُنظر: البدعة والمصالح المرسلة الواعي: 272 ـ 275.
  42. . تاريخ بغداد 13: 365.
  43. . اُنظر: اُصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 783 ـ 786.
  44. . اُنظر: ضوابط المصلحة البوطي: 419 ـ 422.
  45. . اُنظر: البحر المحيط 6: 76 ـ 81، إرشاد الفحول 2: 269 ـ 273، وكذلك مدوّنات المعاصرين مثل: أثر المصلحة في التشريعات وضوابط المصلحة ص 379 ـ 381 وغيرها. وإذا وردت في المصادر المتأخّرة استدلالات فهي في أصل اعتبار المصلحة في التشريع الإسلامي وكمقدّمة لدراسة الفقه الإسلامي وليس خصوص المصلحة المرسلة.
  46. . الأنبياء: 107.
  47. . الحجّ: 78.
  48. . البقرة: 185.
  49. . المائدة: 3.
  50. . رسالة الطوفي المطبوعة ضمن كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي: 241، واُنظر: الاُصول العامّة للفقه المقارن: 376 ـ 377.
  51. . محاضرات في اُصول الفقه سمارة : 120 ـ 122 ، واُنظر : اُصول الفقه الإسلامي ( شلبي ) 291 ـ 293 ، اُصول الفقه الإسلامي (الزحيلي) 2: 762 ـ 764، البدعة والمصالح المرسلة (الواعي) : 313 ـ 318.
  52. . ضوابط المصلحة البوطي: 420.
  53. . محاضرات في اُصول الفقه سمارة 120 ـ 122، واُنظر: اُصول الفقه الإسلامي (شلبي): 291 ـ 293، اُصول الفقه الإسلامي (الزحيلي) 2: 762 ـ 764، البدعة والمصلحة المرسلة: 313 ـ 318.
  54. . مصادر التشريع الإسلامي الصالح: 304 ـ 305.
  55. . مصادر التشريع الإسلامي الصالح: 315 ـ 316.
  56. . ضوابط المصلحة البوطي: 419.
  57. . اُنظر: المصلحة المرسلة وضوابط العمل بها 1: 2 ـ 7، المصلحة المرسلة الخادمي: 40 ـ 41، ضوابط المصلحة (البوطي): 365 ـ 372، اُصول الفقه الإسلامي (الزحيلي) 2: 763 ـ 764، اُصول الفقه الإسلامي (شلبي): 291 ـ 292، منهج عمر الخطاب في التشريع (الدكتور محمّد بلتاجي): 103 ـ 429، أثر المصلحة في التشريعات: 175 ـ 181.
  58. . المبسوط السرخسي 16: 136، الاعتصام (الشاطبي) 1 ـ 2: 398 ـ 407، ضوابط المصلحة (البوطي): 372 ـ 378.
  59. . الأنبياء: 107.
  60. . البقرة: 282.
  61. . البقرة: 282.
  62. . الحشر: 7.
  63. . الأحزاب: 37.
  64. . التوبة: 60.
  65. . الحشر: 7.
  66. . النساء: 65.
  67. . الأنعام: 153.
  68. . المائدة: 3.
  69. . محاضرات في اُصول الفقه سمارة: 123 ـ 127، واُنظر: أصول الفقه الإسلامي (الزحيلي) 2: 761 ـ 762، اُصول الفقه الإسلامي (شلبي): 293 ـ 294، الاُصول العامّة للفقه المقارن: 400 ـ 402، محاضرات في المقاصد الشريعة (أحمد ريسوني): 125 ـ 128.
  70. . الاُصول العامّة للفقه المقارن: 376 ـ 377.
  71. . اُنظر: الاُصول العامّة للفقه المقارن: 372 ـ 373.
  72. . محاضرات في اُصول الفقه سمارة: 128، اُنظر: الاُصول العامّة للفقه المقارن: 389 ـ 390، محاضرات في اُصول الفقه (أحمد ريسوني): 125 ـ 128.
  73. . القوانين المحكمة 3 ـ 4: 209، أنوار الاُصول 2: 492.
  74. . أنوار الاُصول 2: 492.
  75. . معارج الاُصول: 222 ـ 224 ، أنيس المجتهدين 1 : 432 ـ 433 ، أنوار الاُصول 2 : 491 ـ 492 ، مقدّمة لدراسة الفقه الإسلامي : 165 ـ 166.
  76. . القيامة: 36.
  77. . الاُصول العامّة للفقه المقارن: 392.
  78. . المستصفى 1: 264.
  79. . الحجّ: 78.
  80. . اُنظر: اُصول الفقه أبو زهرة: 261، واُنظر: البدعة والمصالح المرسلة (الواعي): 361 ـ 362، المصلحة في التشريع الإسلامي: 64 ـ 65، الاعتصام (الشاطبي) 1 ـ 2: 409 ـ 412.
  81. . اُنظر: المصلحة المرسلة الخادمي: 75 ـ 100.
  82. . مقدّمة لدراسة الفقه الإسلامي: 167.
  83. . علم اُصول الفقه الإسلامي إبراهيم عبدالرحمن: 115، اُصول الفقه (البرديسي): 311.
  84. . الاعتصام الشاطبي 2: 410 ـ 414.