الحکمة

من ویکي‌وحدت

الحكمة: وهي علة العلة وهي التي لأجلها صار الوصف علّة لجلب المصلحة ودفع المفسدة، فالسرقة مثلاً علة لوجوب الحد ولکن الحکمة التي توجب ذلک هو حفظ المال. ومثلاً الزنا علة لوجوب إقامة الحدّ علی الزاني ولکن الحکمة في ذلک هو حفظ النسب.

تعريف الحکمة لغةً

الحكمة وردت في اللغة بعدّة معان: كالعلم، والفقه، والعدل، والاتقان [١].

تعريف الحکمة اصطلاحاً

الحكمة: هي التي لأجلها صار الوصف علّة أي الغاية المطلوبة من التعليل وهي جلب المصلحة ودفع المفسدة، كحفظ المال والعقل والنسب الذي جعل وصف السرقة أو السكر أو الزنا علّة لوجوب الحد على من ارتكب ذلك [٢]. فالحكمة: هي علّة العلّة ولولاها لما أصبح الوصف علّة.
ويبدو أن أقرب تلك المعاني اللغوية إلى المعنى الاصطلاحي هو الاتقان، فإنّ اتقان الشيء وضعه على المصلحة والفائدة المقصودة منه، ومقتضى الاتقان في شرائعه تعالى هو وجود المصالح والمفاسد فيها، بحيث تكون هي التي اقتضت تشريع ووضع تلك الأحكام.

الألفاظ ذات الصلة

العلّة

وهي الجامع بين الأصل والفرع، وهي الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم [٣].
وبعبارة اُخرى إنّ العلّة هي الوصف الذي اُنيط به الحكم، مثل: وصف الإسكار فإنّه العلّة لحرمة الخمر، وفي كلّ مورد يوجد فيه وصف الإسكار يوجد فيه الحكم وهو الحرمة.
والفرق بين العلة والحكمة: إنّ الحكمة هي علّة العلّة ولولا الحكمة لما كان الوصف علّة، فالحكمة متقدّمة رتبة على وصف العلّية، وإنَّ الحكمة غير منضبطة في أكثر الأحيان، بخلاف العلة فإنّها وصف ظاهر منضبط، ولذلك تعامل الشارع مع الأوصاف واعتبرها عللاً للأحكام ولم يتعامل مع الحِكَم ولم يجعلها عللاً لها، فأناط الشارع القصرَ بالسفر؛ لأنّه وصف محدد منضبط ولم ينطه بوصف المشقّة والتعب الذي يلازم السفر غالبا لكونه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال [٤].
وعلى هذا الأساس فرق النائيني: «بين علل التشريع وعلل الأحكام، والذي يضرّ تخلّفه ولايدور الحكم مداره هو الأوّل؛ لأنّها تكون حكمة لتشريع الأحكام، فيمكن أن يكون تحقّق الحكمة في مورد علّة لتشريع حكم كلّي، وأمّا علّة الحكم فالحكم يدور مدارها ولايمكن أن يتخلف عنها» [٥].
وقال السيد الخوئي: «الميزان في الحكمة والعلّة هو فهم العرف، ففي كلّ مورد فهم العرف من الكلام دوران الحكم مدار التعليل فهو علّة، وإلاّ فهو حكمة» [٦].

أقسام الحکمة

تنقسم الحكمة باعتبار دلالة الوصف عليها إلى ثلاثة أنحاء [٧]:
النحو الأوّل: أن يكون الوصف منشأ للحكمة، مثل كون وصف السفر منشأ للمشقّة المبيحة للترخيص ووجوب القصر، وكون وصف القتل منشأ لمفسدة وهي تفويت النفس وإزهاق الروح، ووصف الزنا منشأ لمفسدة تضييع الأنساب، فكلّ هذه الأوصاف كالسفر والقتل والزنا ظاهرة في كونها منشأ للحكمة الباعثة لتشريع حكم وجوب القصر، ووجوب القصاص، ووجوب الحدّ.
النحو الثاني: أن يكون الوصف معرّفا للحكمة ودليلاً عليها، مثل: وصف البيع معرّف للحكمة الباعثة إلى تشريعه وهي حاجة الناس وانتفاعهم بالمبيع.
النحو الثالث: ألاّ يكون الوصف منشأ لثبوت الحكمة ولا هو دالّ عليها، مثل: وصف الغنى في الزكاة، فإنّه ملازم لحكمة تشريع الزكاة وهي الزيادة في النعمة والمدلول عليها بقوله تعالى:«لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ». فإنّ وجوب الزكاة نوع من الشكر لما فيه من إظهار النعمة الذي يعدّ في العرف شكرا، فزيادة النعمة التي هي حكمة لتشريع الزكاة بوجه من الوجوه ملازمة لوصف الغنى، لكنّها ليست ناشئة من وصف الغنى ولا هو دالّ عليها.

حكم الحکمة وجواز التعليل بها

وقع البحث بين الأصوليين في أنّه هل يجوز التعليل بالحكمة المجرّدة ـ غير الظاهرة وغير المضبوطة ـ أو لايجوز؟ أقوال في ذلك:

القول الأوّل: عدم جواز التعليل بالحِكم غير الظاهرة ولا المنضبطة

وهو ما ينسب إلى الأكثر [٨].
واحتجّ للقول الأوّل بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: إنّ الحِكَم المجرّدة إمّا خفية كالرضا في التجارة، وإمّا مضطربة كالمشقّة في السفر، وكلّ ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ويتعذّر تعيين ما هو المناط والعلّة من تلك المراتب، والتكليف به يؤدّي إلى عسر وحرج وهو منفي في الشريعة، ومن عادة الشارع إناطة أحكامه بالأوصاف الجلية والمضبوطة، ولذلك أناط صحّة العقود بإجراء الصيغة فيها، وأناط القصر بوصف ملازم للمشقّة وهو السفر [٩].
الوجه الثاني: قيام الإجماع على صحّة التعليل بالأوصاف الظاهرة المضبوطة المشتملة على الحِكَم، مثل: تعليل وجوب القصر بالسفر، وتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان، وتعليل حرمة الخمر بالإسكار، مع وجود الحكمة في كلّ هذه الاُمور، فإنّ الحكمة من وجوب القصر هي دفع المشقّة عن المسافر، والحكمة من وجوب القصاص هي الزجر والحفاظ على الأمن الاجتماعي، والحكمة من حرمة الخمر الحفاظ على العقول، وغير ذلك من الأحكام التي أناط الشارع الحكم فيها بأوصاف مضبوطة تسمّى بالعلل، ولم ينط ذلك بالحِكَم الباعثة تشريعها، فلو أراد الشارع اعتبار الحكم لما علَّل بالأوصاف المضبوطة ولعلَّل بالحكم [١٠].
فاستقراء أحكام الشارع يدلّ على أنّه أناط الأحكام بأوصافها وعللها المضبوطة ولم ينطها بحكمها والمصالح والمفاسد المرجوّة منها [١١].
الوجه الثالث: إنّ التعليل بالحكم المجرّدة إذا كانت خفية أو مضطربة ممّا يعسر على المكلّفين الاطّلاع والوقوف عليها [١٢].
الوجه الرابع: إنّ الشارع لو أناط أحكامه بالحِكَم، لكان لازم ذلك اعتبار الحكمة وإن تخلف الوصف عنها، وعدم اعتبار الأوصاف إذا تخلفت الحِكَم عنها. وهذا اللازم باطل، فإنّ الشارع أناط وجوب القصر بالسفر وإن تخلفت الحكمة عنه في بعض الموارد، كما في سفر المرفّه الذي لايجد مشقّة في سفره، وكذلك لم يعتبر وجود المشقّة مناطا لوجوب القصر للحاضرين، كما في الحمّالين وأرباب الصنائع الشاقّة [١٣].
قال البحراني: «ومثله كثير من القواعد الشرعية المترتبة على اُمور حكمية تضبط بضوابط كلّية، وإن تخلفت الحكمة في بعض مواردها الجزئية كما جعلوا السفر موجبا للقصر نظرا إلى المشقّة بالاتمام فيه غالبا مع تخلفها في كثير من المسافرين المترفهين ووجودها في كثير من الحاضرين، وكترتّب العيب المجوّز للرد على نقصان الخلقة، نظرا إلى كون ذلك ممّا يوجب نقصان القيمة غالبا، وقد تخلف في مثل: العبد إذا وجد خصيا، فما بقي على القاعدة وإن زادت قيمته أضعافا مضاعفة» [١٤].
وغير ذلك من الوجوه التي يمكن أن تقام للاستدلال علىعدم جواز التعليل بالحِكَم [١٥].

القول الثاني: جواز التعليل بها

اختاره الرازي [١٦] والبيضاوي [١٧] والطوفي [١٨].
واستدلّ للقول الثاني بعدّة وجوه أيضا:
الوجه الأوّل: إنّ الأوصاف إنّما تكون معتبرة لاشتمالها على الحِكَم و المصالح والمفاسد؛ لأنّها علّة العلّة فأولى أن تكون هي العلّة، فإنّ الوصف لايكون مؤثّرا في الحكم إلاّ لكونه جالب نفع أو دافع ضرر، وكلّ علّة لا بدّ أن تكون في هذا الإطار، ولايمكن أن يكون الوصف علّة لو لم يكن مشتملاً على الحكمة، ومن دون التوصّل إلى الحكمة المرجوة من التشريع لايمكن الحكم بعلّية الوصف، وإذا أمكن معرفة الحكمة من خلال الوصف كان إسناد الحكم الى الحكمة أولى من إسناده إلى الوصف؛ لأنّ إسناده ‏المؤثّر أولى من إسناده إلى غير المؤثّر [١٩].
الوجه الثاني: إذا ظنّ استناد الحكم المخصوص في النصّ إلى حكمة معينة، وظنّنا بوجود تلك الحكمة في غير مورد النصّ، فإنّه يجب اتّباع الظنّ في ذلك، والحكم بتعليل غير المنصوص بـ الحكمة المستنبطة من المنصوص [٢٠].

القول الثالث

التفصيل بين الحِكَم الظاهرة المنضبطة، فيجوز التعليل بها وبين غيرها. ولايجوز، وهو اختيار جماعة كالآمدي [٢١] والسبكي [٢٢] والنراقي [٢٣].
واحتجّ للقول الثالث بأنّ الحكمة إذا كانت ظاهرة منضبطة تكون أولى بالاعتبار من الوصف الذي لايكون علّة إلاّ بسبب وجود الحكمة فيه [٢٤].
قال النراقي: «يجوز تعليل الحكم بالحكمة إذا كانت ظاهرة بنفسها منضبطة، وبمرتبة معينة منها إذا كانت غير منضبطة، لأنّا نعلم أنّها هي المقصودة، واعتبر المظنّة لأجلها لمانع خفائها واضطرابها، وبعد زوال المانع أو إزالتها يجوز اعتبارها قطعا، فيجوز التعليل بها بالنصّ على قواعدنا، وبالاستنباط على قواعد العامّة» [٢٥].
قال السبكي: «العلّة في الحقيقة هي الحكمة والحاجة، فإنّها الغائبة الباعثة للفاعل، ولكنّها لما كانت في الغالب لاتنضبط ولاتتقدر في ذاتها جعل الوصف علّة، بمعنى أنّه يعرّف العلّة بصالحية الوصف للضبط، وتعريف العلّة التي هي الحكمة هي العلّة في جعله علّة... وإذا وضح هذا فالحكمة لاتصلح لئن يعامل معها بما لاينضبط إلاّ بواسطة الوصف؛ لأنّ الشارع أقامه حينئذٍ ضابطا لها ولا مبالاة بوجدانها والحالة هذه دون الوصف، فإنّا نعلم بـ الاستقراء من محاسن الشريعة رد الناس فيما يضطرب ويختلف باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال المظان الواضحة التي يكشف غيهبها ردّا لما تدع العامّة تخبط عشواء، ونفيا للجرع والضراء، لاترى إلى حصر القصر والفطر في مظنته الغالبة وهي السفر وإن كانت الحكمة المشقّة التي قد توجد في حقّ الحاضر وتنعدم في حقّ المسافر» [٢٦]. ثُمّ إنّ أحكامه تعالى أمّا أن تكون واضحة الحكمة ظاهرة في كونها جالبة للمصالح دارئة للمفاسد، وهذه ما يعبّر عنها بالأحكام المعقولة المعنى. وإمّا أن تكون غير واضحة في ذلك وتسمّى بالأحكام التعبّدية [٢٧].

الهوامش

  1. . لسان العرب 1: 900 مادّة «حكم»، تاج العروس 16: 161 مادّة «حكم».
  2. . شرح مختصر الروضة 3: 445.
  3. . مذكرة اُصول الفقه: 243.
  4. . اُنظر: الإبهاج في شرح المنهاج 3: 141، أنيس المجتهدين 1: 493.
  5. . فوائد الاُصول 3: 116.
  6. . مصباح الاُصول 3: 307.
  7. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 246، شرح مختصر الروضة 3: 386 ـ 387.
  8. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 180، الإبهاج في شرح المنهاج 3: 140، مبادئ الوصول: 220، أنيس المجتهدين 1: 493.
  9. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 180 ـ 181، أنيس المجتهدين 1 : 493.
  10. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 181.
  11. . اُنظر: نهاية الوصول العلاّمة الحلّي 4: 250، أنيس المجتهدين 1: 493.
  12. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 181، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 4: 249 ـ 250.
  13. . أنيس المجتهدين 1: 493.
  14. . الحدائق الناضرة 23: 266.
  15. . اُنظر: المحصول الرازي 2: 389 ـ 391، شرح مختصر الروضة 3: 445، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 4: 249 ـ 250.
  16. . المحصول الرازي 2: 388.
  17. . اُنظر: الإبهاج في شرح المنهاج 3: 140 ـ 141.
  18. . شرح مختصر الروضة 3: 446.
  19. . اُنظر: المحصول الرازي 2: 392، الإبهاج في شرح المنهاج 3: 140.
  20. . اُنظر: المحصول الرازي 2: 389.
  21. . الإحكام 3 ـ 4: 180.
  22. . الإبهاج في شرح المنهاج 3: 141.
  23. . أنيس المجتهدين 1: 493.
  24. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 180.
  25. . أنيس المجتهدين 1: 494.
  26. . الإبهاج في شرح المنهاج 3: 141.
  27. . اُنظر: قواعد الأحكام ابن عبدالسلام 1: 18 ـ 19.