الصحيح والأعم

الصحيح والأعم: اصطلاحان في علم أصول الفقه والمراد بالصحيح هو مطابقة المأتيّ به للمأموربه مع تمام الأجزاء والشرائط، فالصلاة الصحيحة هي الصلاة التي واجدة لجميع الأجزاء والشرائط. والمراد بالأعم أعمّ من ذلک. وأما البحث هنا في أن ألفاظ العبادات کالصلاة والصوم والحج وألفاظ المعاملات کالبيع والإجارة هل وضعت للمعنی الصحيح بمعنی تام الأجزاء والشرائط أو وضعت للأعم من الصحيح والفاسد؟ مثلاً حينما نری لفظ «الصلاة» في القرآن والحديث ماذا يريد الشارع بهذا اللفظ؟ هل يريد معنی الصحيح أو أراد معنی الأعم؟ وثمرة النزاع في هذا البحث أنّه إذا شكّ في جزئية شئ أو شرطيته فبناءً علی وضع هذه الألفاظ للأعم يصح للأعمي الرجوع إلى إطلاق اللفظ لإثبات عدم جزئيته وعدم شرطيته (فيما إذا كان المطلق في مقام البيان)، ولا يجوز الرجوع إلى إطلاق اللفظ لنفي الجزئية والشرطية بناءً على رأي الصحيحي؛ لأنّ الشكّ هنا شكّ في صدق عنوان العبادة، ويبقى الخطاب مجملاً عندئذٍ.

تعريف الصحيح والأعم لغةً

الصحيح من الصحّة ضدّ السقم[١]. الصح بالضم، والصحّة بالكسر، والصحاح بالفتحة: ذهاب المرض والبراءة من كلّ عيب[٢]. والصحيح من الشعر: ما سلم من النقص[٣].
والأعم صيغة تفضيل لعام. وعمت القوم بالشيء أعمّهم عمّا إذا سويت بينهم، والعم: الجمع الكثير[٤]. وعمّ الشيء عموما: شمل الجماعة[٥]. ومعنى العموم إذا اقتضاه اللفظ ترك التفصيل إلى الإجمال[٦].

تعريف الصحيح والأعم اصطلاحاً

الصحيح والأعم عنوان مسألة طرحها الأصوليون ترجع إلى السؤال التالي: هل ألفاظ العبادات (وكذلك المعاملات) المستخدمة في النصوص الشرعية أسامٍ للصحيح أو تشمل الفاسد منها كذلك؟[٧] أي أنّ النقاش فيما وضعت أو استعملت هذه الألفاظ (للصحيح أم للأعم). ويبدو أنّها من مختصّات أصول فقه الشيعة برغم أنّه قد نجد عباراتٍ يبدو منها الإشارة لهذا الموضوع في بعض مصادر أهل السنّة القديمة، حيث أشار المحقّق الخراساني في تصوير محلّ النزاع، وقال: وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع على ما نسب إلى الباقلاني...الخ. [٨].
أمّا التعريف الاصطلاحي للصحيح والأعم اللذين هما وصفان للألفاظ المستخدمة شرعا، مثل: صلاة، وصوم، فيختلف الأصوليون في تعريفهما. مع العلم أنّ الصحّة وردت في قبال الفساد و البطلان وقد يراد منها أكثر من معنى مثل الإجزاء عن القضاء.
أمّا هنا فقد عرّف الكثير الصحّة بموافقة المأتي به للمطلوب شرعا من الأجزاء والشروط، أو كون المأتي به تامّا من حيث الشروط والأجزاء، والأعم هو ما يشمل الفاسد، وهو ما لم يوافق المأتي به الشريعة من حيث الشروط والأجزاء أو غير التامّ من حيث الأجزاء والشروط[٩].
وهناك من ذهب إلى أنّ المراد من الصحّة هنا هو وجدان المأتي به للحيثية المرغوب فيها من وراء ذلك الشيء. ولجأ إلى هذا التعريف، باعتبار أنّ بعض ما يطلبه الشارع قد لا يكون مركّبا من أجزاء ولا شرائط[١٠].
وفصّل البعض في موضوع الصحّة فخرّج الشروط من الصحّة واعتبرها والفساد موردين خاصّين بالأجزاء فقط دون الشروط؛ لأنّ الشروط ليست من قبيل الأجزاء، والأخيرة هي التي تحدّد الماهية بينما الشرائط ليست كذلك، ورتبة الشرائط متأخّرة عن رتبة الأجزاء التي تتحقّق بها ماهية الشيء[١١].
وفصّل المحقّق النائيني من حيث إنّه أدخل في محلّ النزاع الشروط التي تلحظ في مرحلة الجعل وتعيين المسمّى فقط دون غيرها؛ مستدلاًّ على ذلك باعتبارات عقلية، مثل: تقديم ما هو متأخّر، إذ ينسب إليه القول: إنّ الشرائط الجائية من قبل الأمر ومن قبل المزاحمات متأخّرة عن الطلب، وهو متأخّر عن المسمّى، فما يكون متأخّرا عن المسمّى برتبتين لا يعقل أخذه في المسمّى، بل لا يمكن أخذ ما يكون في مرتبة الطلب أيضا فضلاً عمّا يكون مأخوذا في المسمّى...[١٢].
وردّه المحقّق العراقي: بأنّ الموضوع هو نفس الأجزاء المقترنة بالشرائط وليس الأجزاء مجرّدة، ولا يلزم حينئذٍ منه إشكال تقدّم ما هو متأخّر[١٣].
كما نوقش رأي المحقّق العراقي ووردت نقاشات جزئية وكثيرة ذيل هذا الموضوع[١٤].
وبالجملة لا يراد من الصحّة هنا وفي هذا البحث بالخصوص الصحّة الفعلية ومن جميع الجهات التي يعتبر فيها عدّة اُمور قد تكون متأخّرة عن المسمّى مثل عدم النهي عنها وعدم المزاحم وقصد القربة وما شابه، بل المراد هو التمامية من حيث الشروط والأجزاء فقط. ولذلك لم يرد عن أحد تعريف الصحّة هنا بهذا النحو، بل صرّحوا بأنّ المراد هو التمامية من حيث الشرائط والأجزاء[١٥].
وهناك اصطلاحان ذوا صلة، وهما الصحيحي والأعمي، ويطلق الأوّل على القائل باختصاص الألفاظ الشرعية بالصحيح منها، ويُطلق الثاني على القائل بإطلاقها على الأعم من الصحيح[١٦]، أي يشمل الفاسد منها.

تصوير الجامع الصحيحي والأعمي

هناك نقاش بين الاُصوليين في تصوّر الجامع بين الأفراد سواء على رأي القائلين بوضع الألفاظ الشرعية للصحيح منها أو القائلين بوضعها للأعم؛ وذلك لأنّ تصوّر جميع الأفراد ووضع اللفظ بإزائها أمر غير ممكن؛ لكونها أفرادا غير متناهية، فلا بدّ من تصوّر جامع بينها لوضع اللفظ بإزائها.
ويبدو أنّ هذا البحث افتراضي قد يخلو من فائدة، ويزيد من التشويش الملحوظ في كلمات الأصوليين في هذا المجال؛ باعتبار أنّ البحث غير مخصص لحالة الوضع والقول بـ الحقيقة الشرعية، وكونه شاملاً لحالة استخدام هذه الأسماء مجازا في معانيها الشرعية إلاّ أنّ نقول بكون استعمال المتشرعة لها وبهذه الكثرة جعلها حقيقة في معانيها.
ولأجل هذا قال المحقّق النائيني بعدم الحاجة لتصوير جامع، وذلك من خلال القول بأنّ الأسماء موضوعة للمرتبة العليا لكلّ من العبادات، فالصلاة موضوعة للمرتبة العليا منها، وهي صلاة المختار، لكنّها تستخدم في المرتبة الدنيا كذلك، وادّعاء القائل بالوضع للصحيحة هو أنّها تستعمل للمراتب الدنيا من باب تنزيلها منزلة العليا. وادّعاء الأعمي أنّها تستعمل في المراتب الدنيا من باب الاشتراك في الأثر. واستثنى من الأسماء القصر والتمام؛ باعتبارها في عرض واحد ولا يوجد بينهما مراتب عليا ودنيا.
ورتّب على هذا بطلان الفائدة التي تذكر لهذا البحث أصلاً، من صحّة الالتزام بـ الإطلاق أو عدم صحّته[١٧]. وعلى أي حال، فقد صدرت عدّة محاولات في هذا المجال.

محاولات القائلين بالوضع للصحيح في تصوير الجامع

1 ـ ما صدر من المحقّق الخراساني من أنّ الجامع هو الأثر البسيط والمشترك المترتّب على الصلاة، وهو النهي عن الفحشاء والمنكر أو كونها عمود الدين مثلاً[١٨].
2 ـ ما ورد عن المحقّق العراقي من تصوير الجامع لا من حيث ماهية العبادة، بل من حيث وجودها، فإنّ وجودها هو الجامع، واللفظ موضوع بإزاء ذلك الوجود. وفي توضيح هذا الرأي ورد في تقرير بحثه:
«بأن يؤخذ من كلّ مقولة من تلك المقولات المتعددة جهة وجودها بإلغاء الحدودات الخاصّة المقومة لخصوصيات المقولات، مع تحديد الوجود المزبور أيضا بألاّ يخرج عن دائرة أفعال الصلاة وأجزائها على اختلافها حسب اختلاف حالات المكلّفين، ثُمّ جعله أيضا من التشكيكيات الصادقة على الزائد والناقص وعلى القليل والكثير، فيقال في مقام شرح حقيقة الصلاة بأنّها عبارة عن رتبة خاصّة من الوجود المحدود بكونها من الدائرة المزبورة مع اشتمالها أيضا على الأركان ولولا بوصف مقوليتها، بل بجهة وجودها الساري فيها ـ نظير تحديد مفهوم الكلمة مثلاً الملتئمة من حرفين فصاعدا بكونها مشتملة على الحرف أو حرفين من حروف التهجي ـ وجعلها من طرف غير الأركان من الأفعال والأذكار مبهما محضا وعلى نحو اللابشرط كي تصدق على ذي أجزاء خمسة وذي أجزاء سبعة فصاعدا، بحيث يشار إليها في مقام الإشارة الإجمالية بما هو معراج المؤمن وما هو قربان كلّ تقي وما هو ناه عن الفحشاء والمنكر...»[١٩].
3 ـ ما ورد عن الشيخ الإصفهاني من كون الألفاظ موضوعة لشيء مبهم من جميع الجهات إلاّ الاتّصاف ببعض العوارض والخصوصيات، فمثل الصلاة موضوعة لعبادة مبهمة إلاّ من حيث كونها مطلوبا إقامتها في بعض الأوقات المحدّدة. ويقول في شرح رأيه: «بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظ الصلاة إلاّ إلى سنخ عمل خاصّ مبهم إلاّ من حيث كونه مطلوبا في الأوقات الخاصّة»[٢٠].
وباعتبار أنّ هذا البحث افتراضي، ومجرّد عملية تصوير وافتراض لجامع، فلم نجد ولانتوقّع أن يورد أصحاب الآراء أدلّة عليها. ومن جانب آخر، فإنّ جميع الآراء لم تخلو من النقاشات الوافرة، بلغت مستوى أنّ البعض يرى تصوير الجامع على رأي الصحيحي غير معقول أو معقول، لكن لم يوضع اللفظ بإزائه[٢١].

محاولات القائلين بالوضع للأعم في تصوير الجامع

وتقس المحاولات التي حصلت في الوضع للصحيح حصلت للوضع للأعم كذلك.
منها: أنّ الجامع الصحيحي نفسه يمكن أن يكون جامعا على رأي الأعمي. وهو للشيخ الإصفهاني، الذي ذهب إلى أنّ الجامع هو العمل المبهم من جميع الجهات إلاّ من حيثية كونه مطلوبا في أوقات خاصّة[٢٢].
ومنها: كون المسمّى لهذه الألفاظ هو الأركان وبقية الأجزاء والشرائط الدخيلة في المأمور به ليست الموضوع له. وهو يبدو من كلمات المحقّق القمي[٢٣].
ومنها: الجامع هو كون اللفظ موضوعا لمعظم أجزاء العمل المطلوب ويدور مدار التسمية عرفا، فأينما صدق ذلك الاسم عرفا كشف عن وجود المسمّى[٢٤].
وباعتبار أنّها افتراضات عقلية فقد ورد في كلّ من الآراء نقاشات وبحوث مطوّلة خرج البعض منها بنتيجة عدم إمكان تصوير الجامع على رأي الأعمي، كما هو الحال على رأي الصحيحي[٢٥].

عدم اختصاص البحث بالقائلين بالحقيقة الشرعية

لا إشكال في جريان هذا البحث بناءً على القول بـ الحقيقة الشرعية، بل عدّ البعض هذا البحث من ملحقات ذلك البحث[٢٦]. لكن يقال بعدم اختصاصه بالقول بالحقيقة الشرعية؛ من عدّة وجوه:
الوجه الأوّل: إنّه قد تبلورت حاليا معاني حقيقية لهذه الألفاظ، لكن ليس شرعيا بل متشرعيا، فالمتشرعة باعتبار كثرة استخدامهم لهذه الألفاظ تحوّل معناها الدارج إلى حقيقة على مستوى المتشرعة وإن استعملت في لسان الشرع على نحو المجاز وليس الحقيقة.
الوجه الثاني: كون هذا البحث لا يختصّ بالوضع لهذه الألفاظ، بل يشمل استعمالها مجازا كذلك[٢٧].
وقد تكون هناك تبريرات اُخرى لعدم اختصاص هذا البحث بالقول بالحقيقة الشرعية[٢٨].
ولأجل التبرير الأخير (كون البحث شاملاً للاستعمال المجازي لهذه المفردات) أشكل البعض في عنوان هذا البحث واقترح أكثر من بديل مثل: (ما هو الأصل في استعمالات الشارع لألفاظ العبادات والمعاملات؟) وذلك لأنّ البحث هنا ليس في الوضع والمعنى الحقيقي للألفاظ الشرعية فحسب، بل يشمل ما إذا كان استعمال هذه الألفاظ من قبل الشارع استعمالاً مجازيا كذلك[٢٩].

عدم اختصاص البحث بألفاظ العبادات

للأصوليين في هذا المجال نقاش في أنّ موضوع البحث خصوص ألفاظ العبادات أو يشمل ألفاظ المعاملات كذلك؟
نشأ هذا النقاش من أنّ أسماء المعاملات ليست من قبيل العبادات، فالمعاملات أسماء عرفية لسلوكيات وبناءات عرفية أمضاها الشارع أو لم يمضها، فلا دور للشارع في وضع معنى لها أصلاً.
وبناءً على عدم القول بالحقيقة الشرعية في المعاملات يشكل دخول هذه الألفاظ في هذا البحث؛ لكونها باقية على معانيها العرفية، ويكون ما اعتبر في صحّتها شرعا من الشرائط قيودا لاحقة غير مستبطنة في حاق اللفظ وذاته.
وردّ البعض الرأي القائل بأنّ المعاملات من إبداعات العرف ولا دور للشارع فيها بأنّ هناك أنواعا من البيوع التي خالف فيها الشرع العرف، مثل بيع المنابذة[٣٠].
واستند كلّ من القائلين بدخول المعاملات في هذا البحث والقائلين بخروجه منه إلى مثل العرف والتبادر، واختلفوا في الاعتبارات العقلية. فقيل في الاستدلال على خروج ألفاظ المعاملات من هذا البحث كون معاني العبادات مركّبة فتقبل صفة الصحيح والفاسد، بينما معاني المعاملات بسيطة، والتركيب يقبل الوصفين (الصحّة والفساد) بينما البساطة لا تقبلهما.
ورفض المخالفون لهذا الرأي باعتبارات اُخرى، مثل أنّ بساطة المعاملة لا تمنع من انقسامها إلى الصحيح والفاسد عرفا وشرعا [٣١].
وهناك من يفرّق بين ما إذا كانت أسماء المعاملات موضوعة للأسباب فقط أم للأسباب والمسببات، فيرى البعض أنّ في مثل: «أحل اللّه‏ البيع»[٣٢]، و«النكاح سنّتي»[٣٣] ليس المراد صرف قول «أنكحت» أو «بعت» كأسباب، بل المراد ما يترتب من آثار عليهما، ولذلك قد يقال بشمول هذه الألفاظ للمسببات كذلك[٣٤].
وبناءً على هذا فقد يرى البعض أنّ المعاملات إذا كانت أسامي موضوعة للمسببات، فلا مجال لبحث كونها موضوعة للصحيح أو الأعم؛ لعدم اتّصاف المسببات بذلك، وما توصف به المسببات هو الوجود والعدم لا الصحّة والفساد. والنزاع هنا خاصّ فيما إذا كانت موضوعة للأسباب فقط[٣٥].
ويبدو من البعض تخريجهم المعاملات من هذا البحث من حيث انتفاء الثمرة، كما سيأتي في ثمرة النزاع [٣٦] .

أقسام الصحيح والأعم

الصحيح الاقتضائي والصحيح الفعلي

الصحيح الاقتضائي: هو كون المعنى الموضوع له اللفظ أو المستعمل فيه تامّا في المؤثرية في مرحلة الاقتضاء، أي أنّه يشتمل على جميع الشروط والأجزاء في هذه المرحلة، ومن شأنه أن يؤثّر لكنّه لا يؤثّر فعلاً[٣٧]. ولذلك يُدعى الصحيح الشأني[٣٨]. ويقابله الصحيح الفعلي: ويراد منه كون المعنى الموضوع له اللفظ أو المستعمل فيه تامّا فعلاً، أي يشتمل على جميع الشروط والأجزاء في مرحلة الفعلية[٣٩].

الصحيح الشخصي والصحيح النوعي

الصحيح الشخصي: هو الفرد الخاصّ والصحيح من أفراد المسمّى أو المعنى الصحيح الذي يبحث عنه في مسألة الصحيح والأعم، مثل: الصلاة الصحيحة الصادرة من شخص خاصّ وفي ظروف خاصّة.
والصحيح النوعي: هو الذي لم ينظر فيه الى فرد خاصّ من أفراد المسمّى أو المعنى، بل الى النوع على العموم، بأن ينظر الى الصلاة ككلّي بما هي حاوية للشرائط والأجزاء لا إلى فرد خاصّ منها[٤٠].

أحکام الصحيح والأعم

يمكن تصوير موضوعين هنا كأحكام مترتبة على هذا الموضوع:

1 ـ وضع الألفاظ للصحيح أم للأعم؟

وردت عدّة أقوال في هذه المسألة:

القول الأوّل: كون الألفاظ موضوعة للصحيح

أي كون الألفاظ موضوعة للماهية الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في الصحّة، أي الوضع للصحيح فقط.
استدلّ على هذا الرأي باُمور:
1. التبادر، فإنّ التبادر لدى عرف المتشرعة عند قولهم: صليت الصبح وتوضأت وحججت هو الجامع، ويلحق بهذا الاستعمال المتشرعي استعمال الشارع؛ باعتبار أنّ المعاني الثابتة عند المتشرعة هي التي وصلت إليهم من الشارع.
لكن ردّ هذا باُمور:
أوّلاً: رفض الملازمة بين استعمالات المتشرعة واستعمال الشارع للألفاظ.
ثانيا: بالنقض في المعاملات، فإنّ العرف يستخدم البيع في الفاسد كذلك، فيقول: بعت داري حتّى عندما يكون البيع فاسدا.
ثالثا: بالحل، وهو أنّ تبادر الصحيحة من الأخبار بواسطة الألفاظ هو لأجل كون العادة صدور الفعل صحيحا، ولشهادة العقل والاعتبار على أنّ العقلاء لا يقدمون على الأفعال الباطلة، وذلك قرينة على أنّ اللفظ اُريد منه الصحيح وإن كان الواقع يحتمل البطلان.
2. صحّة السلب عن الفاسدة مع العلم بالفساد في عرف المتشرعة.
لكن يردّ عليه بصحّة إطلاق الصلاة على صلاة اليهود وغيرهم ممن يعتقد بفساد صلاتهم.
3. ظواهر الآيات والأخبار الدالّة على فوائد وفضائل الصلاة مثل كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكونها قربان كلّ تقي، مع العلم أنّ هذه الفوائد لا تترتّب على الفاسدة منها.
ويردّ هذا بأنّ الظواهر المزبورة وردت على نحو القضية المهملة ولا يمكن استفادة الإطلاق منها، فهي تريد بيان الفوائد مع غضّ النظر عن أي صلاة اُريد منها.
4. ما ورد في الشرع من نفي حقائق العبادات لفقد شرط، مثل قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» أو «لا صلاة إلاّ بطهور» فظاهر نفي العبادة الحقيقية بانتفاء شرط من شروطها. ويرد عليه اُمور:
أوّلاً: إنّ التمسّك بـ أصالة الحقيقة ممكن فيما إذا احتمل نصب قرينة، فننفيها بهذه الأصالة ولا نتمسّك بأصالة الحقيقة لتحديد المراد. فأصالة الحقيقة لا تحدد المراد، بل تحدد الحقيقة والمجاز فقط.
ثانيا: إنّ الأمر هنا دائر مدار المجاز و التخصيص، ولا ترجيح للتخصيص على المجاز هنا على أقلّ تقدير إذا لم نقل دائما؛ لأنّ استعمال «لا» لنفي الصحّة من المجازات الشائعة في لسان الشرع بل قد يرجح المجاز هنا لكثرته.
5. كون العبادات توقيفية دون المعاملات، وهذا لا يتمّ إلاّ على القول بوضعها للصحيح، ولو كانت موضوعة للأعمّ لكان الرجوع إلى عرف المتشرعة كافيا في معرفة تفاصيل معاني العبادات، مع أنّه لا يمكن معرفتها إلاّ من خلال الرجوع إلى النصوص الشرعية.
ويردّ عليه كون الملازمة المزبورة مرفوضة، فإنّ القول بعدم التوقيفية لا يعني الاستغناء عن الرجوع إلى النصوص الشرعية والأدلّة.
6. كون طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامّة، وبرغم استعمالها أحيانا في الناقص، لكن استعمالها هناك مسامحة وتنزيلاً لها منزلة التامّ. والشارع غير خارج عن طريقة الواضعين هذه.
ويردّ بأنّه غير بعيد، لكنّه لا يوجب القطع بل أقصاه الظنّ، وهو لا يغني عن الحقّ شيئا، مضافا إلى التشكيك بأصل كون ديدن الواضعين هو الوضع للصحيح، فهم يضعون للمجمل الأعم من الصحيح[٤١].

القول الثاني: كون الألفاظ موضوعة للأعمّ من تامّة الأجزاء والشرائط


وقد استدلّ أصحاب هذا الرأي باُمور:
1. التبادر، وكون المتبادر من لفظ الصلاة أعمّ من الصحيحة. ويرد عليه بأنّ مثل هذه الإطلاقات مؤوّلة إلى مثل صورة الصلاة أو أنّ الاستعمال مجازي.
2. عدم صحّة السلب، فلا يمكن سلب الصلاة عمّن يصلّي صلاة باطلة.
ويردّ عليه بأنّ المتكلّم هناك في مقام الشكّ؛ لأنّ الأمارات والأصول قد تثبت صحّة الصلاة وعدم صحّة السلب؛ لاحتمال الصحّة وعدم اليقين بالبطلان.
3. صحّة التقسيم بأن نقول الصلاة باطلة وصحيحة أو تامّة وناقصة مثلاً. ويردّ بأنّ التقسيم يدلّ على كون المقسم أعمّ وليس إثبات كونه حقيقة وغير مجاز.
4. صحّة الاستثناء بأن يقال: الصلاة صحيحة إلاّ في المكان المغصوب أو عند فقدانها الطهارة. ويردّ بأنّ الاستثناء قد يدلّ على العكس فلولا دخول المستثنى في المستثنى منه لما صحّ استثناؤه، فلا يستثنى ما هو خارج عن المستثنى منه.
5. صحّة التقييد بأن يقال: صلاة اليهود أو النصارى، مع وضوح فساد صلاتهم. ويردّ بأنّ صدق الصلاة عليها حقيقة مصادرة، والظاهر صحة سلب الصلاة عنها.
6. حسن الاستفهام عنها، بأن يقال هل الصلاة دون ركوع صحيحة؟ وهذا يعني أنّ التي تفتقد الركوع تدعى صلاة كذلك.
ويردّ بإمكان صحّة السلب عن هكذا صلاة، فيستبعد أن يكون الإطلاق هنا حقيقة بل مجازا.
7. إطلاق الصلاة على الفاسدة في الأخبار. ويردّ بأنّه من الواضح كون الاستعمال المزبور لا يعني القطع بكونه استعمالاً حقيقة بل قد يكون مجازا.
8. الأمر بإعادة الصلاة بسبب الإخلال بصحّتها وبالشروط وما شابه.
ويردّ بأن المراد بالصلاة هنا هو الأفعال المأتي بها.
واستدلّ بموارد اُخرى كذلك، وقد أطال البعض كثيرا في هذا المجال[٤٢].

القول الثالث: التفصيل بين الأجزاء والشرائط

فالألفاظ في الأجزاء موضوعة للصحيحة فقط، بينما في الشرائط موضوعة للأعمّ.
استدلّ على هذا الرأي بالوجدان وشهادة الرأي القويم في أنّ من أبدع مركبا (يشتمل على شرائط وأجزاء) ووضع له لفظا فإنّه قد وضع اللفظ بإزاء ذلك المركّب بجميع أجزائه من دون ملاحظة تقييدها بالشرائط ووجودها فيها أو عدم وجودها، وحصولها عليها أو عدم حصولها، فعندما يضعها يلاحظ الأجزاء فقط ولا يلاحظ الشرائط. ويتّضح هذا من خلال استقراء الألفاظ المركّبة، وذلك من قبيل: الأدوية فإنّها مركّبة لكن تأثيرها يستدعي حصول شروط، فيطلق عليها دواء دون ملاحظة الشروط التي ينبغي أن تتزامن الحصول مع استعمالها مثل استعمالها في الوقت المحدد أو عدد المرّات وهكذا.
وقد ردّ هذا باُمور:
منها: قد يشكك في كون المركّب يطلق على الأجزاء فقط دون الشرائط.
ومنها: توسّع المستعملين لهذه المفردات، وعدم اقتصارهم على إطلاقها على الأجزاء فقط[٤٣].
ومنها: كون حديث «لا صلاة إلاّ بطهور» نصّا في دخول الشرط في المسمّى[٤٤].

2 ـ ثمرة النزاع

ذكرت ثمرة أو أكثر للنزاع في مسألة الصحيح والأعمّ.
1 ـ إنّه إذا شكّ في أمر ما كونه جزءا من عبادة أو شرطا أو ليس جزءا ولا شرطا هو جواز الرجوع إلى إطلاق اللفظ لإثبات عدم جزئيته وعدم شرطيته (فيما إذا كان المطلق في مقام البيان) بناء على رأي الأعمي، ولا يجوز الرجوع إلى إطلاق اللفظ لنفي الجزئية والشرطية بناءً على رأي الصحيحي؛ لأنّ الشكّ هنا شكّ في صدق عنوان العبادة، ويبقى الخطاب مجملاً عندئذٍ.
2 ـ ظهور الثمرة في النذر، فلو نذر شخص إعطاء درهم لمن صلّى فأعطاه لمن صلّى وعلم بأنّ صلاته كانت باطلة، فإنّ ذمّة الناذر تبرأ على القول بالأعمّ ولا تبرأ على القول الصحيح؛ لأنّه لم يأت بالمسمّى.
لكن تردّ هذه الثمرة بأنّ المفروض بثمرة المسألة الأصولية أن تكون أصولية كذلك وواقعة في طريق استنباط الأحكام الفرعية، وهذه الثمرة ليست كذلك[٤٥].
3 ـ عدم جريان البراءة عند الشكّ في الأجزاء والشرائط بناء على رأي الصحيحي، وجريانها بناء على رأي الأعمي.
وترد هذه الفائدة بجواز الرجوع إلى الأصول العملية عند فقد الأصول اللفظية، فيجوز الرجوع إلى البراءة و الاشتغال عند فقد الأصول اللفظية دون فرق بين ما ذهب إليه كلّ من الصحيحي والأعمي.
لكن هناك من يرى أنّ الحقّ في التفصيل، فبناءً على رأي الصحيحي يؤخذ بـ أصل الاشتغال؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المحصل، و قاعدة الاشتغال تفرض حصول اليقين بتحصيل الصحيح[٤٦].
وفيما يخصّ ثمرة النزاع في المعاملات فهناك نقاش فيما إذا كان ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب فقط أم للمسببات كذلك؟ وتظهر الفائدة فيما إذا كانت موضوعة للأسباب فقط، وذلك لعدم اتّصاف المسببات بـ الصحة والفساد[٤٧].
ويرى بعض آخر: إنّ فائدة التمسّك بالإطلاق رغم عدم اختصاصها بالعبادات إلاّ أنّها نادرة في المعاملات؛ باعتبار أنّ المراد من الصحيح في المعاملات هو الصحيح عند العرف العام لا عند الشارع، فإذا اعتبر الشارع قيّدا كان زائدا على ما يعتبره العرف، فإذا احتمل أنّ هذا القيّد دخيل في صحّة المعاملة عند أهل العرف أنفسهم فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق لدفع الاحتمال بناء على رأي الصحيح (كما هو شأن العبادات)؛ لأنّ الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في صدق عنوان المعاملة، وأمّا على القول بالأعم فيصحّ التمسّك بالإطلاق لدفع الاحتمال. وهذه ثمرة نادرة[٤٨].
بينما يذهب بعض آخر أنّ طرح هذا البحث في المعاملات لا جدوى فيه، وحتّى الصحيحي يتمسّك بإطلاق الخطاب وينفي اعتبار العربية أو اللفظية في صيغة البيع باطلاق قوله تعالى: «أحلّ اللّه‏ البيع»[٤٩] حيث لم يقل البيع العربي أو اللفظي، وذلك باعتبار أنّ المعاملات اُمور عقلائية ويمارسها حتّى الذي لم يلتزم بدين وليست ممّا أسّسها الشارع، فكلّ ما صدق عليه بيع عند العرف أمضاه الشارع بناءً على هذه الآية، ولا فرق هنا بين ما يذهب إليه الأعمي والصحيحي[٥٠].

الهوامش

  1. . ترتيب جمهرة اللغة 2: 341، مادّة: «صحح»، كتاب مجمل اللغة: 408 مادّة: «صح».
  2. . القاموس المحيط: 221، مادّة «صحح».
  3. . لسان العرب 2: 2154 مادّة: «صحح».
  4. . ترتيب جمهرة اللغة 2: 604، مادّة: «عمم».
  5. . القاموس المحيط: 1052، مادّة: «عمم».
  6. . المصباح المنير 1: 430، مادّة: «عمم».
  7. . اُنظر: مطارح الأنظار 1: 29، تقريرات المجدد الشيرازي 1: 314، تعليقة على معالم الاُصول 2: 297.
  8. اُنظر: كفاية الاُصول: 23. والباقلاني اُصولي ومتكلّم من أعلام القرن الرابع. اُنظر: هدية العارفين 2: 59، الكنى والألقاب 2: 63 ـ 64، معجم المطبوعات العربية 1: 520.
  9. . فوائد الاُصول 1 ـ 2: 60 و460، مصباح الاُصول 3: 85 ـ 86، اُصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 85، محاضرات في اُصول الفقه 1: 152.
  10. . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 1: 189.
  11. . جواهر الاُصول 1: 272.
  12. . جواهر الاُصول 1: 273، واُنظر فوائد الاُصول 1 ـ 2: 61.
  13. . جواهر الاُصول 1: 273.
  14. . اُنظر: جواهر الاُصول 1: 273 ـ 280، مجمع الأفكار ومطرح الأنظار 1: 76 ـ 78.
  15. . دراسات في علم الاُصول 1: 71 ـ 82.
  16. . اُنظر: بدائع الأفكار: 151، بحوث في علم الاُصول الهاشمي 1: 211، جواهر الاُصول 1: 279.
  17. . محاضرات في اُصول الفقه 1: 157 ـ 158.
  18. . كفاية الاُصول: 24.
  19. . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 81 ـ 82.
  20. . نهاية الدراية في شرح الكفاية 1: 64.
  21. . محاضرات في اُصول الفقه 1: 174.
  22. . نهاية الدراية في شرح الكفاية 1: 73.
  23. . القوانين المحكمة: 43، واُنظر: كفاية الاُصول: 25.
  24. . كفاية الاُصول: 26.
  25. . دراسات في علم الاُصول 1: 77 ـ 82، محاضرات في اُصول الفقه 1: 157 ـ 183، المحكم في اُصول الفقه 1: 174 ـ 212.
  26. . اُصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 85.
  27. . اُنظر: أجود التقريرات 1: 50 ـ 51، فوائد الاُصول 1 ـ 2: 59 ـ 60، جواهر الاُصول 1: 260.
  28. . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 1: 187 ـ 189.
  29. . تهذيب الاُصول 1: 66 ـ 68.
  30. . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 97 ـ 100.
  31. . بدائع الأفكار: 157 ـ 159.
  32. . البقرة: 275.
  33. . بحار الأنوار 100: 220.
  34. . دراسات في علم الاُصول 1: 91 ـ 96.
  35. . كفاية الاُصول: 32 ـ 33، أجود التقريرات 1: 69، اُصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 88 ـ 90، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 77 ـ 78.
  36. . الهداية في الاُصول 1: 106، كفاية الاُصول: 33.
  37. . المحكم في اُصول الفقه 2: 433، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام 16: 333 و5: 526.
  38. . جواهر الاُصول 1: 278 ـ 279.
  39. . بدائع الأفكار: 131، درر الفوائد 1: 53، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 95، جواهر الاُصول 1: 279، مناهج الوصول الى علم الاُصول الخميني 1: 147.
  40. . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 95، حقائق الاُصول 1: 71، تحقيق الاُصول 1: 270.
  41. . بدائع الأفكار: 145 ـ 147، كفاية الاُصول: 29 ـ 30، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 89 ـ 90، درر الفوائد 1: 54، إفاضة العوائد 1: 59، زبدة الاُصول الروحاني 1: 99.
  42. . بدائع الأفكار: 144 ـ 154، هداية المسترشدين 1: 276، كفاية الاُصول: 30 ـ 32، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 91 ـ 94، بحوث في علم الاُصول 1: 202 ـ 207.
  43. . بدائع الأفكار: 154 ـ 155.
  44. . مطارح الأنظار: 102.
  45. . كفاية الاُصول: 28 ـ 29، أجود التقريرات 1: 65 ـ 70، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 95 ـ 96.
  46. . فوائد الاُصول 1 ـ 2: 78 ـ 79.
  47. . كفاية الاُصول: 32 ـ 33، أجود التقريرات 1: 66، اُصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 88 ـ 90، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 77 ـ 78.
  48. . اُصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 89 ـ 90.
  49. . البقرة: 275.
  50. . الهداية في الاُصول 1: 106.