الإجزاء

من ویکي‌وحدت

الإجزاء إصطلاحٌ اصولي یراد به کفایة الحکم الظاهري عن الحکم الواقعي کالتیمّم الذي هو حکم ظاهري ثانوني يجب في حالة الإضطرار بدل الوضوء الذي هو حکم واقعي أوليّ. واختلف الاصوليون في هذا المجال هل أن الحکم الظاهري یجزئ عن الحکم الواقعي أو لا؟

التعريف اللغوي للإجزاء

أجزأني الشيء، مهموز، أي: كفاني. وتجزّأت بكذا، واجتزأت به، أي: اكتفيت به. [١] يجزئ هذا من هذا: أي كلُّ واحد منهما يقوم مقام صاحبه، وجَزَأ بالشيء وتجزّأ: قنع واكتفى به، وأجزأه الشيء: كفاه. [٢]. وقال ابن الأعرابي: جزئ به لغةً، أي اكتفى. [٣]

التعريف الإصطلاحي للإجزاء

ذكر معنيان للإجزاء: الأول: كون الإتيان بالمأمور به كافٍ في سقوط الأمر[٤]، أو امتثال الأمر على الوجه الذي أمر به[٥]، أو ما أمر به[٦]، أو كون الفعل مسقطا للتعبُّد[٧]، أو الاكتفاء بالفعل في سقوط الأمر[٨]، أو موافقة الأمر. [٩] الثاني: سقوط القضاء. [١٠]

الإجزاء مسألة لفظية أم عقلية؟

اختلف في عدّ الإجزاء من بحوث الألفاظ أو الملازمات العقلية[١١]، المتقدِّمون عدّوا مسألة الإجزاء من مباحث الألفاظ[١٢]، ورأوا أنَّ الدلالة على الإجزاء وعدمه من شؤون اللفظ، لكنَّ الكثير من المتأخرين عدّوها من بحوث الملازمات العقلية[١٣]؛ وذلك باعتبار أنَّ المراد من الاقتضاء هنا هو التأثير والعلّية، أي اللزوم العقلي، لا ممَّا يستفاد من اللفظ ذاته. [١٤] ويرى بعض أنَّ المسألة في بعض وجوهها عقلية، و بعض وجوهها الأخرى لفظية تبتني على مثل الظهور. [١٥] هذا الاختلاف انعكس على عنونة المسألة، فقد عنونها بعض بالسؤال التالي: (الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء إذا أتى بالمأمور به على وجهه، أم لا؟)[١٦]، وبعض آخر استخدم العنوان التالي: (الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء، أم لا؟).[١٧] ويبدو أنَّ التعبير الأوَّل إشارة إلى كونها مسألة لفظية، والتعبير الثاني إشارة إلى كونها مسألة عقلية. [١٨]

الألفاظ ذات الصلة

1 ـ الصحة

يرى الكثير من الفقهاء كون الصحة عبارة عن تمامية العبادة من حيث الإجزاء والشرائط، ومن لوازم هذا المعنى موافقة الشريعة وسقوط القضاء. [١٩] وذكر في التفريق بينها وبين الإجزاء أنَّ موارد الصحة أعمّ من موارد الإجزاء، ويختص الإجزاء بالعبادات، ولا معنى له في المعاملات[٢٠]، بل يختص بالعبادة التي يحتمل وقوعها وجهين: ترتُّب الأثر وعدم ترتُّبه، كالصلاة والصيام، فأمَّا ما يقع على وجه واحد فلا يوصف به، كمعرفة اللّه‏، وردّ الوديعة، ويختص أيضا بالمطلوب أعمّ من الواجب والمندوب. وقيل: يختص بالواجب، وهو مخالف لقوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: (أربع لا تجزئ في الضحايا) [٢١] مع أنَّ الضحايا مستحبة. [٢٢]

2 ـ التصويب

التصويب الباطل هو الذي يدور التكليف معه مدار قيام الأمارة، أو كون الأمارة توجب انقلاب الواقع، وهذا المعنى غير ملازم للإجزاء؛ لأنَّه بالإمكان القول بالإجزاء حتَّى بمناط المفوتية أو الوفاء بتمام الغرض. [٢٣] القول بالتصويب يستلزم القول بحدوث المصلحة في متعلّق الأمارة عند قيامها وإنشائها الحكم حتَّى لو كان مخالفا للحكم الواقعي، بحيث يوجب تقييد الأحكام الأوَّلية أو صرفها إلى مؤدّيات الطرق والأمارات، ولايستلزم هذا ـ بناءً على المخطئة ـ القول بالإجزاء، فإنَّ حال الطرق والأمارات حال العلم، والفرق في أنَّ العلم طريق عقلي وطريقيَّته ذاتية، والأمارات طرق شرعية وطريقيّتها مجعولة بجعل شرعي، فكأنَّما جعلها من أفراد العلم جعلاً تشريعياً لا تكوينياً. [٢٤] كما أنَّه لا ملازمة بين القول بطريقيَّة الأمارات بمختلف آرائها والقول بالإجزاء، أمَّا القول بسببيَّة الأمارات فيثبت الإجزاء على بعض تفسيراتها دون بعض. [٢٥]

3 ـ المرة والتكرار

المراد بالإجزاء أنَّ المأتي به في الخارج، واحدا كان أو دفعة واحدة، يفي بما اقتضاه الأمر، والمراد من عدم الإجزاء عدم وفاء المأتي به بالمأمور به بحيث يسقطه. والمراد بالمرَّة أنَّ وجودا واحدا من الطبيعة أو دفعة واحدة منها مطلوب، ولازمه عقلاً أنَّ غيره من الوجودات والدفعات غير مطلوب بهذا الطلب، والمراد من التكرار مطلوبية وجودات أو دفعات بنفس الأمر. [٢٦] وبتعبيرٍ آخر: إنَّ البحث في المرَّة والتكرار بحث عمَّا يقتضيه ظهور إطلاق الأمر من تحديد المأمور به، وإنّه مطلق الماهية أو المقيّد منها بالمرَّة أو التكرار، بينما البحث في الإجزاء يتمُّ بعد فرض تحديده بإطلاق الأمر أو غيره. ومن هنا كان البحث في المرة والتكرار إثباتيا موضوعه ظهور الأمر، وهنا ثبوتيا موضوعه فعل المأمور به، وتلك المسألة لفظية وهذه عقلية في بعض وجوهها. [٢٧] لكنَّ الميرزا القمي يبني مسألة الإجزاء بمعنى القضاء على مسألة المرَّة والتكرار، وأنَّه إذا قيل بعدم وجوب التكرار لزم القول بسقوط القضاء (الإجزاء بمعناه الثاني). [٢٨]

تحریر محل البحث

توجد جهتان للبحث:

الجهة الأولى: الإجزاء بمعناه الأول

دار البحث في المعنى الأول للإجزاء في موردين:

المورد الأول: إجزاء الأمر عن نفسه

وفي هذا المجال يبدو اتفاق الكلّ على أنَّ الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به يكون مجزئا، بمعنى كونه امتثالاً للأمر، وذلك ممَّا لا خلاف فيه[٢٩]، سواء أكان الأمر اختياريا واقعيا، أو اضطراريا، أو ظاهريا. [٣٠]. كما لا شك ولا خلاف في أنَّ هذا الامتثال يجزيء ويكتفى به عن امتثال آخر. [٣١]. لكن خالف بعض كأبي هاشم الجبائي وأتباعه في ذلك، وقالوا بأنَّ الإجزاء لايثبت إلاَّ بقرينة. [٣٢]. وأرجع بعض اختلافه مع باقي الأصوليين في المعنى الثاني (سقوط القضاء) لا الأول. [٣٣]

أدلّة الإجزاء

باعتبار أنَّ الإجزاء بمعنى الامتثال موضع اتفاق، اعتبر الآمدي الاستدلال على الإجزاء بهذا المعنى استدلالاً على محلّ الوفاق[٣٤]، بل عُدَّ من البديهيات، باعتبار أنّ طلبه ثانيا مع حصول متعلّقه يكون تحصيل حاصل[٣٥]، رغم ذلك استدلّ عليه بعض بالأدلّة التالية: الأول: المكلّف جاء بما عليه من التكليف على الوجه المطلوب، فكان كافيا[٣٦]، ووجب أن يخرج عن عهدته؛ لأنَّه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي إمَّا متناولاً لذلك المأتي به أو لغيره، والأوّل باطل؛ لأنَّ الحاصل لايمكن تحصيله، والثاني باطل؛ لأنَّه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولاً لغير ذلك الذي وقع مأتيا به، ولو كان كذلك لما كان المأتي به تمام متعلَّق الأمر، وقد فرضناه كذلك، وهذا خلف[٣٧] الثاني: أنَّه لا يخلو إمَّا أنَّه يجب عليه فعله ثانيا وثالثا، أو ينقضي عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم، والأوّل باطل؛ لأنَّ الأمر لايفيد التكرار، والثاني هو المطلوب؛ لأنَّه لا معنى للإجزاء إلاَّ كونه كافيا في الخروج عن عهدة الأمر[٣٨]. وإذا وجب فعله ثانيا وثالثا لزم التكليف بما ليس في الوسع. [٣٩] الثالث: لو لم يقتضِ الإجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده: (افعل، وإذا فعلت لايجزيء عنك) ولو قال ذلك لعدَّ متناقضا. [٤٠] الرابع: طبيعة الأمر بالشيء كونه علَّة تامة لسقوط غرض الداعي دون قيد، ولو كان هناك لما أطلق الأمر، ومع امتثاله يسقط غرض الداعي. [٤١]

المورد الثاني: إجزاء الأمر عن غيره

وبهذا المعنى وقع البحث في مقامين:

=المقام الأول: إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الأولي=

لا شكَّ في أنَّ الاضطرار ترتفع به فعلية التكليف؛ لأنَّ اللّه‏ تعالى لايكلّف نفسا إلاَّ وسعها. وقد ورد في الحديث النبوي المشهور الصحيح «رفع عن أمتي تسعة... وما اضطروا إليه».[٤٢] والكلام فيما لو ارتفعت تلك الحالة الاضطرارية الثانوية، وتمكَّن المكلَّف من أداء ما كان عليه واجبا في الحالة الاعتيادية والاختيار، أي قبل حصول الاضطرار ، فهل يجزئه ما كان قد أتى به حال الاضطرار ، أم لايجزئه ، وعليه إعادة الفعل أداءً قبل انتهاء الوقت ، وقضاءً بعد انتهاء الوقت؟[٤٣] أطبق علماء الشيعة على الإجزاء هنا[٤٤]، وذلك للأدلَّة التالية: الأول: الأحكام الواردة حال الاضطرار للتخفيف والتكليف بالقضاء أو الأداء ثانيا يناقض التخفيف. الثاني: أكثر الأدلَّة الواردة في التكاليف الاضطرارية مثل: «فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً»[٤٥] مطلقة، والإطلاق يقتضي الاكتفاء بالأمر دون حاجة إلى أداء أو قضاء، وإلاَّ وجب البيان. [٤٦] الثالث: القضاء يجب فيما إذا صدق الفوت، وفي المقام لايصدق الفوت؛ لأنَّ القضاء يفرض فيما إذا استمرَّت الضرورة طوال وقت الأداء، وعلى هذا التقدير لا أمر في الوقت، فلا فريضة، وفي النتيجة لايصدق الفوت. والأداء يفرض فيما يجوز البدار، وإذا ثبتت الرخصة في البدار فذلك يعني مسامحة الشارع في تحصيل الفعل الكامل عند التمكّن، وإلاَّ لأوجب الانتظار. الرابع: نشك في وجوب الأداء والقضاء، ولم يُنفَ وجوبهما بإطلاق ونحوه، فيكون شكا في أصل التكليف، وفي مثله تجري أصالة البراءة عن وجوبهما. [٤٧]

=المقام الثاني: إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الأولي=

المراد من الأمر الظاهري هو الثابت عند الجهل بالحكم الواقعي، سواء ثبت بالأمارات أو بالأصول العملية. [٤٨] والمراد بالإجزاء هنا: إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي فيما لو انكشف مخالفة الظاهري للواقعي في داخل الوقت، فلا يجب الأداء أو خارجه، فلا يجب القضاء. وقد وردت في هذا المقام أقوال هي: 1 ـ الإجزاء مطلقا. 2 ـ عدم الإجزاء مطلقا. 3 ـ التفصيل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني، وما إذا انكشف بعلم تعبدي، فيجزيء على الثاني دون الأول. 4 ـ التفصيل بين القول بالسببيّة والقول بالطريقيّة، فعلى الأوَّل لا مناص من الإجزاء دون الثاني. 5 ـ التفصيل بين أقسام السببيّة بالالتزام بالإجزاء في بعضها، وبعدمه في بعضها الآخر. 6 ـ التفصيل بين الأمارات والأصول بالالتزام بعدم الإجزاء في موارد الأمارات، والإجزاء في موارد الأصول. [٤٩] والمتأخّرون يفرضون للمسألة صورا أربع، ويناقشون كلاًّ منها، وهي: الصورة الأولى: الإجزاء في الأمارة مع انكشاف الخطأ يقينا. المعروف عند الإمامية عدم الإجزاء هنا في الأحكام والموضوعات، أمَّا في الأحكام فلأجل كون المسألة من فروع مسألة التصويب والتخطئة[٥٠]، مع اتفاقهم على مذهب التخطئة، أي أنَّ المجتهد يخطئ ويصيب، ومع انكشاف الواقع لايبقى مجال للعذر، بل يتنجز الواقع في حقّه. والذي يقول بالتصويب، أي أنَّ أحكام اللّه‏ تعالى تابعة لآراء المجتهدين، وأنَّ اللّه‏ ينشيء الحكم وفق رأي المجتهد، يقول بالإجزاء هنا. أمَّا في الموضوعات فلأجل أنَّ الأمارة مأخوذة على نحو الطريقيّة، فإن أخطأت فالواقع على حاله، ولا تحدث بسبب الأمارة مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع. [٥١] الصورة الثانية: الإجزاء في الأصول مع انكشاف الخطأ يقينا. والبحث هنا ينحصر في الأصول الشرعية عدا الاحتياط، ففي الاحتياط لايتصوَّر هذا البحث؛ لأنَّ المفروض فيه العمل بما يحقق امتثال التكليف الواقعي، بحيث لا تفوت معه المصلحة. كما لايتصور هذا البحث في الأصول العقلية ـ كالبراءة ـ لأنَّها لا تتضمَّن حكما ظاهريا، ومضمونها سقوط العقاب والمعذريّة المجردة، ويبقى الواقع على ما كان، فيتنجّز حين العلم به وانكشافه، ولا مصلحة في العمل بالأصل غير رفع الحيرة عند الشك. ولهذا أفتى فقهاء الشيعة بعدم الإجزاء في الأصول العملية لا في الأحكام ولا في الموضوعات، وهي أولى بعدم الإجزاء من الأمارات؛ لكونها تحدّد الوظيفة العملية فحسب، إلاَّ على القول بالتصويب. [٥٢] وخالف في ذلك الآخوند الخراساني[٥٣]، وتلميذه الشيخ محمد حسين الأصفهاني[٥٤]، والإمام الخميني[٥٥] في خصوص الأصول الجارية لتنقيح موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه ـ كقاعدة الطهارة وأصالة الحليّة واستصحابها ـ دون الأصول الجارية في نفس الأحكام، واستدلّوا على ذلك بأنَّ دليل الأصل في موضوعات الأحكام موسِّع لدائرة الشرط أو الجزء المعتبر في موضوع التكليف. وقد ناقش الميرزا النائيني هذا الرأي بعدة نقاشات[٥٦]، وكذلك فعل السيد الخوئي. [٥٧] الصورة الثالثة والرابعة: الإجزاء في الأمارات والأصول مع انكشاف الخطأ بحجّة معتبرة. لا إشكال في الإجزاء في الوقائع التي لايترتب عليها أثر في الزمن اللاحق، وإنَّما الإشكال في الوقائع اللاحقة المرتبطة بالوقائع السابقة، من قبيل انكشاف الخطأ في وقت العبادة ـ اجتهادا أو تقليدا، داخل الوقت أو خارجه ـ بالنسبة إلى الصلاة، وهي ممَّا يُقضى، أو من قبيل العقد على الزوجة بصيغة غير عربية، ثمَّ قامت الحجّة على اعتبار اللفظ العربي ـ اجتهادا أو تقليدا ـ والزوجة لا زالت موجودة. المعروف عدم الإجزاء في الموضوعات. وفي الأحكام قيل بالإجماع على الإجزاء. والقاعدة هنا لا تقتضي الإجزاء؛ لأنَّ التبدُّل الذي طرأ على المورد إمَّا في الحكم الواقعي وإمَّا في الحجّة. والأوّل باطل؛ لأنَّه يستلزم التصويب، وأمَّا الثاني فإن قيل بأنَّ الحجّة الأولى حجّة بالنسبة إلى الأعمال السابقة وبالنظر إلى وقتها فقط، فهذا لاينفع الأعمال اللاحقة والآثار السابقة، وإن قيل بأنَّ الحجّة الأولى حجّة مطلقا لجميع الموارد، فهذا باطل؛ لانكشاف عدم حجّية الحجّة الأولى مطلقا، حتى بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة. ويجب العمل وفق الحجّة الفعلية، وهذا يعني عدم الإجزاء، إلاَّ إذا ثبت الإجماع على موردٍ مّا. [٥٨]

الجهة الثانية: الإجزاء بمعناه الثاني

لا نزاع في أنَّ الفعل المأمور به إذا جيء به مع خلل لايجزيء عن القضاء، أي لايسقطه، والنزاع فيه فيما إذا جاء بالأمر الاضطراري واستمرَّ العارض حتَّى انتهاء الوقت، وقد نوقش تحت عنوان إجزاء الأمر الاضطراري. كما وقع النزاع فيما إذا جاء به المكلَّف دون نقص أو خلل[٥٩]، فقد اختلف الأصوليون في سقوط القضاء عن هذا المورد، فالجمهور يقولون: إنَّه يدلّ على أنَّه لايجب قضاؤه، إلاَّ أنَّ أبا هاشم الجبائي والقاضي عبد الجبار وأتباعهما يقولون: إنَّه لايمتنع الأمر بالقضاء أيضا مع فعله. [٦٠] الميرزا القمي يرى أنَّه إذا قيل بحصول الامتثال وتحقق الإجزاء، فسقوط القضاء يكون من باب عدم الدليل على وجوبه، لأنَّ إيجابه تارة أخرى يعدُّ تشريعا جديدا. [٦١] أبو الحسين البصري أورد إشكالاً على أصل تفسير الإجزاء بسقوط القضاء ، فقال : لو أمر بالصلاة مع الطهارة فأتى بها من غير طهارة ومات عقيب الصلاة، فلا يكون فعله مجزئا وإن كان القضاء ساقطا. [٦٢] وزاد بعض: لأنَّا نعلِّل وجوب القضاء بكون الفعل الأوّل لم يكن مجزئا، والعلّة لا بدَّ وأن تكون مغايرة للمعلول، كما أنَّ القضاء يجب بأمر متجدّد. [٦٣] ردَّ قول أبي الحسين البصري: بأنَّ الإجزاء ليس نفس سقوط القضاء مطلقا ليلزم ما قيل، بل سقوط القضاء بالفعل في حق من يتصوَّر في حقِّه وجوب القضاء، وذلك غير متصوّر في حق الميّت. وردَّ مازاده بعض: بأنَّ علّة صحة وجوب القضاء إنَّما هو استدراك ما فات من مصلحة أصل العبادة أو صفتها، أو مصلحة ما انعقد بسبب وجوبه، ولم يجب لمانع، لا ما قيل. [٦٤] وردَّ القول بوجوب القضاء بأمر متجدّد: بأنَّه إذا ثبت أنَّ القضاء يجب بأمر متجدّد، وأنَّه مثل الواجب الأوّل، فالأمر بالشيء لايمنع إيجاب مثله بعد الامتثال، وهذا لا شكَّ فيه، ولكنّ ذلك المثل إنَّما يسمى قضاءً إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها، وإن لم يكن فوات وخلل استحال تسميته قضاءً. [٦٥]

أدلة المخالفين للإجزاء بالمعنى الثاني

أولاً: وجوب المضي في الحج الفاسد مع وجوب قضائه، ومن صلَّى في آخر الوقت على ظن أنَّه توضأ بماء طاهر، ثمَّ ظهر أنَّ الماء نجس فإنَّه يجب عليه القضاء. ولو كان الأمر دالاً على عدم وجوب القضاء لما وجب المضي فيه، ونفس الأمر لايدلّ على عدم الوجوب، وعدمه في الموارد الأخرى مستفاد من الأصل، أي استصحاب عدم انشغال ذمّة الإنسان بالأمر عند الخلق. ثانياً: أنَّ الأمر لايدلّ على غير طلب الفعل، ولا دلالة له على امتناع التكليف بمثل فعل ما أمر به، فلا يكون مقتضيا له. ثالثاً: كون الأمر مثل النهي، باعتبار التشابه في الطلب، فالنهي لايدلّ على الفساد، والصلاة في الدار المغصوبة مجزئة، فكذلك الأمر لايدلّ على سقوط القضاء. [٦٦] رُدّ دليلهم الأول: بأنَّ وجوب القضاء غير مسلَّم فيما إذا صلَّى على ظنِّ الطهارة ثمَّ علم أنَّه لم يكن متطهّرا، وكذلك في مسألة المضي في الحجّ الواجب، وإنَّما كان القضاء فيهما لاستدراك مصلحة ما أمر به أولاً من الصلاة مع الطهارة والحجّ العري عن الفساد. ورُدّ الدليل الثاني: بأنَّا لا نمنع من ورود أمر يدلُّ على مثل ما فعل أولاً. ورُدّ الدليل الثالث: بأنَّ قياس الأمر على النهي في اللغة قياس باطل، وإن سلّم صحته فإنَّا لا نقول بأنَّ الأمر يدلّ على الإجزاء بمعنى امتناع وجوب القضاء، بل امتثال الأمر هو المانع من وجوب القضاء، وفرق بين الأمرين. [٦٧] ومن الشيعة ردّ الشيخ الطوسي أدلتهم وفقا لمبناه، بأنَّ الأمثلة المتقدّمة تدلّ على أنَّ في المثل مصلحة، وجرى ذلك مجرى أن يؤمر بالفعل في وقتين، فإنَّه متى فعل المأمور به فيهما فلا يقول أحد إنَّ ما فعل في الثاني مجزٍ، وما فعل في الأوّل غير مجزٍ، فكذلك ما يفعل بأمر آخر، وقد كانت الإعادة بأمر آخر. وتسميته قضاءً لا اعتبار به. [٦٨] أمَّا كون النهي لايقتضي الفساد فقد ثبت عكسه، أي كونه مقتضيّا للفساد، وإذا كان كذلك فلابدَّ أن يكون الأمر مقتضيّا للإجزاء؛ لأنَّه ضدّه. [٦٩]

المصادر

  1. العين 6 : 126.
  2. لسان العرب 1 : 593 مادة «جزأ».
  3. تاج العروس 1 : 125 مادة «جزأ».
  4. انظر: المعتمد 1 : 90، المحصول 1 : 322، مبادئ الوصول: 86 .
  5. ميزان الأصول 1 : 252 ، الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 395 ـ 396، إرشاد الفحول 1 : 366 ، الوجيز في أصول التشريع الإسلامي : 147.
  6. المسوّدة : 24.
  7. القوانين المحكمة : 59.
  8. البحر المحيط 1 : 319.
  9. المنخول : 117.
  10. ميزان الأصول 1 : 252، المحصول 1 : 322، الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 396، البحر المحيط 1 : 319.
  11. تهذيب الأصول الخميني 1 : 177.
  12. الذريعة 1 : 121 ـ 122، معارج الأصول : 72 ـ 73.
  13. معالم الدين : 223، كفاية الأصول : 81 ـ 84 ، أجود التقريرات 1 : 193، أصول الفقه المظفر 1 ـ 2 : 303.
  14. نهاية الدراية 1 : 367 ، وسيلة الوصول 1 : 238 ، حقائق الأصول 1 : 192.
  15. المحكم في أصول الفقه 2 : 187 ـ 188.
  16. الفصول الغروية : 116.
  17. هداية المسترشدين 2 : 700 ـ 701، نهاية الأفكار 1 ـ 2 : 222.
  18. انظر : الكاشف عن المحصول 4 : 70 ـ 71، جواهر الأصول الخميني 2 : 275 ـ 276.
  19. وسيلة الوصول 1 : 83 ، حقائق الأصول 1 : 55، المباحث الأصولية 2 : 115.
  20. القوانين المحكمة : 59.
  21. شرح معاني الآثار 4 : 168 كتاب الصيد والذبائح والأضاحي، باب العيوب التي لايجوز الهدايا والضحايا إذا كانت بها، من حديث البراء بن عازب.
  22. البحر المحيط 1 : 319.
  23. نهاية الأفكار 1 ـ 2 : 256 ـ 257.
  24. فوائد الأصول 1 ـ 2 : 247.
  25. المباحث الأصولية 3 : 441.
  26. نهاية الدراية 1 : 371.
  27. جواهر الأصول الخميني 2 : 288 ـ 289، المحكم في أصول الفقه 2 : 187.
  28. القوانين المحكمة : 60 ـ 61.
  29. الذريعة 1 : 123، المعتمد 1 : 90 ـ 91، الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 396، البحر المحيط 1 : 319، الوافية : 102، إرشاد الفحول 1 : 366، كفاية الأصول : 81 .
  30. أصول الفقه المظفر 1 ـ 2 : 301.
  31. المصدر السابق.
  32. الكاشف عن المحصول 4 : 67ـ70.
  33. انظر : الكاشف عن المحصول 4 : 70.
  34. الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 396.
  35. وقاية الأذهان : 196.
  36. انظر : أصول الفقه المظفر 1 ـ 2 : 301.
  37. المحصول الرازي 1 : 323، مبادئ الوصول : 111، إرشاد الفحول 1 : 367.
  38. المحصول الرازي 1 : 323، إرشاد الفحول 1 : 367.
  39. انظر : ميزان الأصول 1 : 253.
  40. المحصول الرازي 1 : 323، إرشاد الفحول 1 : 367.
  41. مقالات الأصول 1 : 263 ـ 264.
  42. وسائل الشيعة 15 : 369 كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 56 جملة ممّا عفي عنه ح1.
  43. انظر : كفاية الأصول : 84 ، أصول الفقه المظفر 1ـ2 : 304.
  44. أصول الفقه المظفر 1ـ2 : 304.
  45. النساء : 43، المائدة : 6.
  46. فوائد الأصول 1 ـ 2 : 245، مقالات الأصول 1 : 274.
  47. انظر : كفاية الأصول : 84 ـ 86 ، وسيلة الوصول 1 : 255 ـ 256، أصول الفقه المظفر 1 ـ 2 : 306، دروس في علم الأصول 2 : 283.
  48. أصول الفقه المظفر 1 ـ 2 : 307.
  49. محاضرات في أصول الفقه 2 : 253، المباحث الأصولية 3 : 459 ـ 460.
  50. أجود التقريرات 1 : 286.
  51. فوائد الأصول 1 ـ 2 : 247 ـ 248، أصول الفقه المظفر 1 ـ 2 : 310، تحريرات في الأصول 2 : 307 ـ 324.
  52. أصول الفقه المظفر 1ـ2 : 311 ـ 312. المباحث الأصولية 3 : 441.
  53. كفاية الأصول : 86 .
  54. نهاية الدراية 1 : 392 ـ 400.
  55. تهذيب الأصول 1 : 191 ـ 197 ، انظر: تحريرات في الأصول 2 : 326.
  56. انظر : فوائد الأصول 1 ـ 2 : 248 ـ 251.
  57. انظر : الهداية في الأصول 3 : 317 ـ 321.
  58. فوائد الأصول 1ـ2 : 251ـ260، انظر : أصول الفقه المظفر 1ـ2 : 313 ـ 315.
  59. انظر : الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 396.
  60. تهذيب شرح الأسنوي 1 : 137.
  61. القوانين المحكمة : 60.
  62. المعتمد 1 : 91.
  63. انظر : المحصول 1 : 323.
  64. الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 396.
  65. المستصفى 2 : 13.
  66. الذريعة 1 : 122 ـ 123، ميزان الأصول 1 : 252 ـ 253، الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 397.
  67. الإحكام الآمدي 1ـ2 : 397.
  68. العدّة في أصول الفقه الطوسي 1 : 213 ـ 214.
  69. المصدر السابق : 214.

کفایة الحکم الظاهري