السياق

السياق: لا يوجد لهذه المفردة تعريف منسجم، إلا أنه قال بعضهم: السياق والقرائن الدالّة على مراد المتكلّم فهي المرشدة إلى بيان المجملات. فالسياق هو كلّ ما يكشف اللفظ الذي نريد فهمه من دوالّ اُخرى سواء كانت لفظية كالكلمات التي تشكّل مع اللفظ الذي نريد فهمه كلاما متّحدا مترابطا، أو حالية كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع.

تعريف السياق لغةً

السياق من مادّة السوق، وقد وردت بعدّة معان:
منها: مهر المرأة.
ومنها: انتزاع الروح، ومعانٍ اُخرى[١].
والاتساق: الانضمام والاستواء، كاتساق القمر إذا تمّ وامتلأ فاستوى[٢].
انساقت وتساوقت الإبل تساوقا إذا تتابعت ... والمساوقة: المتابعة، إذا كان بعضها يسوق بعض[٣].

تعريف السياق اصطلاحاً

استخدمت مفردة السياق ومادتها بتصاريفها المختلفة في كلمات القدماء والمتقدّمين من الأصوليين ومنذ بداية التدوين في أصول الفقه[٤]، وازداد استخدامها في كلمات المتأخّرين، رغم ذلك لم نأثر عنهم تعريفا لها إلاّ موارد نادرة جدّا مثل ما ورد عن الشهيد الصدر، حيث عرّفه بقوله: «كلّ ما يكشف اللفظ الذي نريد فهمه من دوالّ اُخرى سواء كانت لفظية كالكلمات التي تشكّل مع اللفظ الذي نريد فهمه كلاما متّحدا مترابطا، أو حالية كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع»[٥].
لكن ما ورد عنهم من إشارات وكلمات حول هذه المفردة يكشف عن ملامح مرادهم منها.
فقد ورد عن البعض استخدامه للمفردة للكشف عن قصد المتكلّم ومراده الجدي فيقال مثلاً ورد هذا السؤال في سياق الاستنكار[٦]، أي قصد منه الاستنكار. أو يبدو مرادفتهم بين قصد المتكلّم والسياق، حيث ورد عن الغزالي: «... الضرب الرابع: فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده»[٧]. وكما نلاحظ كأنّه يرادف بين مفردة السياق والمقصود. ولوّح السرخسي إلى كون السياق يكشف عن الغرض في مثل قوله: «السياق والقرائن الدالّة على مراد المتكلّم فهي المرشدة إلى بيان المجملات»[٨].
ويبدو من البعض التلويح والإشارة إلى أنّ السياق يكشف عن قصد المتكلّم ومدلول كلامه الجدي، معتبرين السياق أو دلالته كلّ ما يوصل القارئ أو السامع إلى المراد الجدي للمتكلّم، بحيث يشمل الدلالة اللفظية للكلام والحالية للمتكلّم؛ لأنّها أدلّة تستخدم لأجل الكشف عن المراد الجدي للمتكلّم.
وفي هذا الإطار يدخل كلام الزركشي الذي وصف هذه الدلالة بقوله: «ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام وتقييد المطلق. وتنوّع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالّة على مراد المتكلّم»[٩].
ويبدو من البعض التلويح إلى كون السياق كاشفا عن المجملات إضافة إلى استخدامه الأساس وهو بيان مراد المتكلّم[١٠].
ويبدو لي أنّ كلماتهم غير متنافية فكلّ منهم يشير إلى زاوية أو زوايا خاصّة من السياق، والكلّ يذهب إلى نفس المذهب في اعتبار هذه الدلالة تضمّ جميع الدلالات المقالية والمقامية.
ومن مجمل كلمات الأصوليين يمكن القول: بأنّ المراد من مفردة السياق هو مجموع القرائن المقالية والمقامية والحالية المتقدّمة على الكلام واللاحقة له المبيّنة لمراد المتكلّم وغرضه. أو أنّ دلالة السياق هي النظر إلى مجموع القرائن نظرة شمولية لا نظرة إلى كلّ منها على حدّة.
هذا مضافا إلى ترك الأصوليين بحث السياق ضمن البحوث اللفظية وعدم تناوله من حيث الحجّية ومستوى دلالته وزوايا البحث ذات الصلة بالأدلّة اللفظية، وهي غير قليلة.

وحدة السياق

هناك اصطلاح آخر ذو صلة باصطلاح السياق يستخدم أحيانا مع السياق، وهو اصطلاح وحدة السياق، ويراد منه كون معنى اللفظ والألفاظ المتكررة في الكلام واحدا، أي اتّحاد العبارات والألفاظ المستخدمة في الكلام في المعاني والمداليل والمراد الاستعمالي الجدّي[١١].

ندرة الدراسات حول السياق

برغم أنّ موضوع السياق تناوله علماء الدين في بحوث علوم القرآن، لكن من الواضح أنّ الدراسات المنصبة على السياق ذات الصلة بـ أصول الفقه نادرة في الأزمنة الماضية، وقليلة في الأوقات الحالية. وقد أشار ابن دقيق العيد وهو من أعلام القرن الثامن إلى عدم تناول الأصوليين هذه الدراسة بالبحث والنقاش رغم مضي قرون على بدءالتدوين في أصول الفقه، حيث قال: «فإنّ السياق طريق إلى بيان المجملات وتنزل الكلام على المقصود منه، وفهم ذلك قاعدة من قواعد أصول الفقه، ولم أر من تعرّض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلاّ بعض المتأخّرين ممّن أدركنا أصحابهم...»[١٢].
ورغم مضي قرون على نقد ابن دقيق للأصوليين على عدم تناولهم هذه الدلالة إلاّ أنّا ما زلنا نشهد عدم اهتمامهم بها. وقد يكون ذلك لوضوح قبولها أو عدم استبطانها بحوثا مهمّة، لكن بدأ الاهتمام يزداد في هذا القرن، وشهدنا عدّة دراسات وكتبا ومقالات ورسائل تخرّج تناولت هذا الموضوع.
وهناك الكثير من البحوث يمكن درجها تحت عنوان السياق لكنّا نجد افتقاد الكتب الأصولية لها، وهي من قبيل:
السياق قرينة أم دليل؟ وأهمّية هذا البحث تنشأ عن ما يترتّب على السياق من اعتباره أدلّة ودرجه ضمن أصول المذاهب المعتمدة التي يمكن أن يستنبط منها أحكام. وكذلك تحديد موقعه من التعارض الذي يمكن أن يحصل لها بالقياس مع باقي الدلالات.
ومنها: دلالة السياق ظنّية أم قطعية؟ وهو بحث يترتّب عليه الكثير من الاُمور فيما يخصّ التعارض بين النصوص، كما في موضوع تعارضه مع النصوص والظواهر.
وهذه من ضمن البحوث التي يجدر دراستها ونفتقدها في أصول الفقه التقليدي.

أهمّية بحث السياق

إنّ شأن هذه الدلالة شأن باقي الدلالات التي يمكن إثبات مراد المتكلّم بها وبيان المجمل وإيضاحه من خلالها، فأهمّيتها لا تقل عن أهمّية باقي الدلالات.
يذهب ابن القيم الجوزية إلى أنّ أهمّية بحث السياق تنشأ من الاجتناب عن الوقوع في الغلط و المغالطة، إذ يقول: «فائدة: السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد، و تخصيص العام و تقييد المطلق وتنوّع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالّة على مراد المتكلّم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته...»[١٣].
بل يعدّ الشاطبي الكلام دون لحاظ السياق ضحكة وهزءة، حيث يقول: «كلام العرب على الإطلاق لابدّ فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلاّ صار ضحكة وهزءة... فما ظنّك بكلام اللّه‏ وكلام رسوله»[١٤].

الألفاظ ذات الصلة

القرينة

لم يرد عن أكثر الأصوليين تعريف القرينة، لكن ورد عن بعضهم تعريفها بمثل:
بيان لما اُريد باللفظ في عرف الشرع والعادة[١٥].
أمر يشير إلى المطلوب[١٦].
ما يصرف اللفظ عن ظاهره أو يقتصر على بعض ما وضع له كـ تخصيص العموم[١٧].
وفرق السياق عن القرينة أنّ القرينة أعمّ من السياق فهي تشمل جميع أنواع القرائن، ومنها: السياق نوع خاصّ من القرائن، وهو النظر بنحو شمولي إلى مجموع القرائن من المقالية والمقامية لمعرفة مراد المتكلّم وقصده من الكلام.

حجية السياق

الذي يبدو من كلمات الشهيد الصدر أنّ السياق من مصاديق أصالة الظهور، وحجّيته تعود إلى حجية الظهور[١٨]، كما يبدو عدم وجود خلاف في اعتبار وحجّية دلالة السياق ولم ينقل عن أحد أدلّة على رفض هذه الدلالة أو عدم حجّيتها؛ وذلك لكون شأنها شأن أي دلالة أو بيان آخر قد ورد عن العرب وغيرهم ولم يرد عن الشارع ردع عنها، بل ينقل الزركشي عن البعض قولهم بالاتّفاق على حجية السياق، أقصى ما هناك هو وجود من ينكرها، ولم يحدد ذلك البعض، وقد ردّه الزركشي بقوله: من جهل شيئا أنكره[١٩].
ووفقا لما ورد في كلمات بعض الاُصوليين فإنّ ما يمكن ذكره من أدلّة على رفضها أو التشكيك في حجّيتها هو كون الدلالة ذوقية ويصعب إقامة الدليل عليها، فقد ورد عن ابن دقيق العيد: «ودلالة السياق لا يقام عليها دليل، وكذلك لو فهم المقصود من الكلام، وطولب بالدليل لعسر، فالناظر يرجع إلى ذوقه، والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه»[٢٠].
وباستثناء هذه المقولة لم نعثر على ما يدلّ على رفض حجّيتها، أو مناقشة الموضوع أصلاً.

المصادر

  1. . اُنظر: تهذيب اللغة 9: 184 مادّة: «سوق»، القاموس المحيط: 825، مادّة: «سوق».
  2. . كتاب العين 5: 191، مادّة: «سوق».
  3. . لسان العرب 2: 1942، مادّة: «سوق».
  4. . الرسالة: 52، اُصول السرخسي 1: 254، المستصفى 1: 113، 2: 84، الخلاف الطوسي 4: 315، رسائل الشريف المرتضى 2: 164، جامع الخلاف بين الإمامية وبين أئمة الحجاز والعراق: 130، الأقطاب الفقهية (الأحسائي): 64.
  5. . دروس في علم الاُصول 1: 108.
  6. . اُنظر: أجود التقريرات 2: 305، مقالات الاُصول 1: 222، الدروس الحيدري 1: 364.
  7. . المستصفى 2: 84.
  8. . اُصول السرخسي 1: 164.
  9. . البرهان في علوم القرآن 2: 200.
  10. . نيل الأوطار 4: 306، فتح الباري ابن حجر 4: 148.
  11. . الدروس الحيدري 3: 304، بحوث في الفقه المعاصر 7: 86، مباحث الاُصول (الحائري) 3: 165 ـ 166.
  12. . إحكام الأحكام ابن دقيق: 600، ذيل الحديث 338.
  13. . بدائع الفوائد 4: 1314.
  14. . الموافقات 3: 153.
  15. . التمهيد في اُصول الفقه أبو الخطاب الكلوذاني 1: 183.
  16. . التعريفات الجرجاني: مادّة «قاف».
  17. . البحر الزخار ابن المرتضى 1: 200.
  18. . دروس في علم الاُصول 1: 108.
  19. . البحر المحيط 6: 52.
  20. . إحكام الأحكام ابن دقيق: 380، ذيل الحديث 171.