التجرّي
التجرّي: وهو اصطلاحٌ أصوليٌ مقابل الانقياد، والمراد به العمل بالشئ باعتقاد أنّه حرامٌ ولکنه ليس بحرام في الواقع، أو هو ترک الشئ باعتقاد أنّه واجبٌ والحال أنّه ليس بواجب. کما إذا تيقّن بأنّ هذا المايع خمرٌ فشربها وانکشف أنّه ليس بخمر. وللتجرّي أحکام وأقسام نبحث عنها في هذا المقال.
تعريف التجرّي لغةً
التجرّي مأخوذ من: «جرأ»، وهو الإقدام على الشيء بشجاعة وعدم اكتراث، والجريء: المقدام، وقوم جرآء، أي متسلطين غير هائبين[١].
تعريف التجرّي اصطلاحاً
وهو مخالفة الحجّة غير المصادفة للواقع[٢]. أو هو: مخالفة القطع بالحكم حال كونه مخالفا للواقع[٣].
والتعريف الأوّل أبين في إفادة المطلوب، حيث يشمل جميع موارد قيام الحجّة سواء كانت بالقطع أو الظنّ المعتبر أو الأصول العملية المنجزة[٤]، ولايختصّ بالقطع كما هو ظاهر التعريف الثاني، وقد يكون ذكر القطع فيه من باب كونه أظهر أفراد الحجّة.
ويمثّل للتجرّي بمن يشرب سائلاً ما يعتقده خمرا، ثُمّ يتبيّن كونه ماء في الواقع[٥]، أو الذي يقتل إنسانا يعتقده معصوم الدم، ثُمّ يتبيّن كونه مهدوره[٦]. فإنّ المتجرّي في الفروض المذكورة قد تجرّى على الشارع لارتكابه ما يعتقده حراما وإن لم يكن هو كذلك في الواقع.
وكذلك لو قامت الحجّة عنده مِنْ ظنّ معتبر أو أصل عملي على كون المائع المذكور خمرا أو كون الإنسان المعيّن معصوم الدم وأقدم على ذلك وتبيّن عدم مطابقة الحجّة الشرعية للواقع، وأنّه لم يكن مرتكبا للحرام؛ فإنّه بذلك يكون قد تجرّى على مولاه وخالقه بمخالفة الحجّة الفعلية في حقّه، بل التجرّي يشمل حتّى صورة احتمال وجود التكليف.
والتجرّي عنوان لمصطلح أصولي استخرجه الأصوليون من مجموعة من الفروع الفقهية التي يذكرها الفقهاء[٧]:
منها: ما إذا أخّر الصلاة مع ظنّ ضيق الوقت، ثُمّ تبيّن بقاؤه.
منها: ما إذا سلك الطريق الذي يظنّ بوجود الضرر فيه، وانكشف عدم وجود الضرر أساسا.
منها: ما إذا قتل إنسانا يعتقد أنّه معصوم الدم، ثُمّ ظهر أنّه مهدوره.
منها: ما إذا وطئ امرأةً يعتقدها اجنبية وأنّها محرّمة عليه، ثُمّ ظهر أنّها زوجته أو أمته.
منها: ما إذا أكل مالاً يعتقده للغير فظهر أنّه ملكه.
وغير ذلك من الفروع والتطبيقات التي يعتقد الفاعل فيها أنّه مرتكب لمعصية ومخالفة، ثُمّ ينكشف الواقع بخلاف ذلك.
الألفاظ ذات الصلة
العصيان
وهو مخالفة الحجّة المصادفة للواقع[٨].
التجرّي بحسب اللغة أعم من العصيان، وبحسب الاصطلاح الأصولي مباين له[٩]، و الفرق بين العصيان والتجرّي مع اشتراكهما في كون كلّ منهما يعتقد مخالفته لأحكام الشارع هو أنّ العصيان مخالفة لأحكام الشارع الثابتة واقعا فهو يشرب ما يعتقد كونه خمرا ويصادف فعله هذا الخمر واقعا، بينما التجرّي مخالفة لما يعتقد كونه من أحكام الشارع مع عدم ثبوته واقعا، فهو يشرب السائل الذي يعتقده خمرا ويظهر عدم كونه خمرا في الواقع.
الانقياد
وهو موافقة الحجّة غير المصادفة للواقع والعمل على طبقها[١٠].
كما لو قامت الحجة الشرعية عنده على وجوب أو استحباب عمل ما وأتى بهذا العمل قاصدا امتثال أمر الشارع وظهر عدم وجوبه أو استحبابه في واقع الأمر.
و الفرق بين الانقياد والتجرّي مع اشتراكهما في عدم المطابقة للواقع هو أنّه في الانقياد يُعتقد الموافقة للواقع، وفي التجرّي يُعتقد المخالفة للواقع.
أقسام التجرّي
ذكروا أقساما عديدة للتجرّي، لكن يمكن إرجاعها إلى ثلاثة أقسام رئيسة[١١]:
القسم الأوّل: مجرّد القصد إلى فعل المعصية من دون الشروع بمقدّماته.
القسم الثاني: القصد إلى فعل المعصية الواقعية مع الشروع ببعض مقدّماته، لكن صَرَفه صارف عن ارتكاب نفس المعصية، كأن أراد أن يشرب الخمر واشتراه من السوق، لكنّه تلف عنده ولم يشربه.
القسم الثالث: القصد إلى المعصية مع التلبس بما يعتقده معصية، مع عدم كونه كذلك واقعا، كأن أراد أن يشرب الخمر فشرب ما يعتقده خمرا، فتبيّن أنّه خل أو ماء.
والقسم الأوّل خارج عن محلّ النزاع؛ لأنّ مجرّد القصد والنية إلى المعصية لا أثر لها عقابا أو ذمّا[١٢]، وإنّما الكلام في القسم الثاني والثالث.
أحکام التجرّي
لا إشكال في حرمة واستحقاق العقاب على مخالفة أحكام الشارع مع مطابقة الحجّة للواقع وكون ما خالفه من أحكامه الثابتة في الواقع، لكن البحث فيما إذا خالف المكلّف ما يعتقد كونه من أحكام الشارع، مع عدم كونه كذلك في واقع الأمر.
والبحث في التجرّي تارة يقع في الحرمة والإثم شرعا، وثانية في القبح العقلي وحكم العقل في مورده، وثالثة في استحقاق المتجرّي للعقاب، ولكلّ ملاكه الخاصّ به، فالبحث يقع في ثلاثة محاور:
حرمة التجرّي والإثم عليه شرعا
والبحث في حرمة التجرّي مركزه حكم الشارع بحرمة التجرّي سواء كان بملاك الأحكام الأولية أم بملاك حكم العقل بـ قبح التجرّي وحرمته بناءً على ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. ويقال: إنّ البحث في ذلك مسألة فقهية.
وقع البحث في أنّ المتجرّي هل ارتكب حراما بتجرّيه على مولاه أو لا؟ أقوال في ذلك:
القول الأوّل: الحرمة
وهو اختيار جماعة كالرازي[١٣] والشهيد الثاني[١٤]،
والسبكي[١٥]، وابن عبد السلام[١٦]، والإصفهانيين[١٧]، والشيخ محمّد حسن النجفي[١٨]، واُدعي عليه الإجماع[١٩].
ويمكن أن يستدلّ لهذا القول بعدّة وجوه:
الدليل الأوّل
إنّ الشارع أناط أحكامه بالظنّ والاعتقاد، ويكون الحكم في حقّ المكلّف هو ما ظنّه واعتقده وإن لم يكن ثابتا في الواقع؛ لأنّ الشارع أناط الأحكام بظواهرها، فالذي يرتكب ما يعتقده حراما يكون عاصيا بذلك[٢٠].
الدليل الثاني
شمول أدلّة الأحكام الأوّلية للتجرّي، بحيث تكون أدلّة الحكم الشرعي شاملة لمورد قيام الحجّة، من غير فرق بين كون الحجّة موافقة أو مخالفة له.
وهذا الوجه ذكر له تقريبان:
التقريب الأوّل: ما ذكره النائيني وهو يرجع إلى ثلاث مقدّمات[٢١]:
المقدّمة الاُولى: إنّ متعلّق التكليف لابدّ وأن يكون مقدورا حتّى يصحّ تعلّق التكليف به.
المقدّمة الثانية: إنّ الباعث للمكلّف نحو الفعل هو القطع بالنفع، والزاجر له عن العمل هو القطع بالضرر، فالشيء بوجوده العلمي هو الباعث للمكلّف نحو ارتكاب الشيء أو الاجتناب عنه لا وجوده الواقعي، فالإنسان يطلب ما يعتقده ماء وإن كان في الواقع سرابا، ويفر عمّا يعتقده أسد وإن كان الواقع ليس كذلك.
المقدّمة الثالثة: إنّ متعلّق التكليف هو إرادة الفعل واختياره لا الفعل المراد والمختار، فمتعلّق الحرمة هو ارادة شرب الخمر واختياره، أمّا مطابقة ذلك للواقع وعدمه فهو خارج عن إرادته واختياره، فلايكون متعلّقا للتكليف، فيكون متعلّقه هو ما اعتقد كونه امتثالاً لأمر الشارع في جانب الامتثال، ومخالفة له في جانب العصيان.
التقريب الثاني: وهو ما ذكره السيّد الصدر من أنّ السبب في كون دليل حرمة الخمر مثلاً شامل لجميع حالاته سواء في ذلك مصادفة الخمر الواقعي أو عدم مصادفته، هو عدم إمكان تضمين قيد المصادفة في دليل الحكم بأن يقال: «لاتشرب الخمر إن صادف الواقع»، لكون الإصابة وعدم الإصابة غير اختياريين حتّى يمكن تضمينهما في دليل الحكم، فلايمكن تعليق الحكم على أمر غير اختياري[٢٢].
الدليل الثالث
إنّ تعلّق القطع أو الظنّ المعتبر بانطباق عنوان ذي مصلحة توجب حصول مصلحة فيه، وأنّ تعلّقهما بعنوان ذي مفسدة يوجب حصول مفسدة فيه، فيكون حراما بمقتضى العنوان الثانوي وإن كان بعنوانه الأوّلي يختلف عمّا هو عليه من عنوانه الثانوي. فالعلم أو الظنّ بالشيء من العناوين الثانوية التي توجب تغيير جهة الشيء من ناحية الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة، فالقطع بخمرية المائع الموجود يوجب حدوث مفسدة وبمقتضى تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد يكون الفعل المتجرّى به حراما[٢٣].
الدليل الرابع
إنّ التجرّي كاشف عن سوء سريرة المتجرّي وخبث باطنه، وهو يوجب بمقتضى حكم العقل قبح الفعل المتجرّى به، وكلّ ما حكم العقل بقبحه حكم الشرع بقبحه فيكون حراما[٢٤].
الدليل الخامس
ما دلّ من الأخبار على أنّ الإنسان يعاقب على قصد المعصية، والمتجرّي قاصد بفعله للمعصية[٢٥]. وكلّ هذه الوجوه وقعت موضع المناقشة وأورد عليها بعدّة إيرادات، وكما يتبيّن ذلك من الوجوه المقامة على القول الثاني[٢٦].
القول الثاني: عدم حرمته شرعا
وهو اختيار العلاّمة الحلّي[٢٧]، والفاضل السيوري[٢٨]، والبهائي[٢٩]، والطباطبائي[٣٠]، وهو اختيار أكثر المتأخّرين[٣١]، وتنظر فيه الشهيد الأوّل[٣٢].
وقد يستدلّ لهذا القول بعدّة وجوه:
الدليل الأوّل
إنّ الظاهر من أدلّة الأحكام الشرعية أنّ الآثار المترتّبة عليها مترتّبة على نفس تلك الاُمور لا على القطع بها، فقوله تعالى: «الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ»[٣٣]. أنّ النهي عن المنكر إنّما هو من آثار نفس الصلاة لا القطع بها، وهذا كما هو حال الشارع الحقيقي حال الشارع العرفي، كذلك فإنّ غرضه إنّما يتعلّق بنفس العمل[٣٤].
الدليل الثاني
إنّ تعلّق القطع أو الظنّ بشيء لايوجب انقلابه عمّا كان عليه من جهة المحبوبية والمبغوضية، فلايكون القطع أو الظنّ بالشيء من الوجوه والاعتبارات التي توجب اتّصاف الفعل المتجرى به بالمبغوضية[٣٥].
الدليل الثالث
إنّ الذي يتّصف بالوجوب أو الحرمة لا بّد أن يكون اختياريا، فإنّ الفعل المتجرّى به بعنوان كونه شربا للخمر الواقعي لايكون محرما لعدم وقوعه منه خارجا، وبعنوان كونه مقطوع الخمرية ليس اختياريا حتّى يتّصف بالحرمة؛ لأنّه إنّما أراد شرب الخمر الواقعي لاشرب مقطوع الخمرية فلا يتّصف بالحرمة[٣٦].
الدليل الرابع
إنّ الذي يتّصف بالوجوب أو الحرمة لا بدّ أن يكون ملتفتا إليه، فإنّ الفعل المتجرى به بعنوان كونه شربا للخمر الواقعي لايكون حراما؛ لأنّه لم يقع منه خارجا، وبعنوان كونه مقطوع الخمرية لايكون ملتفتا إليه غالبا حتّى يقع تحت إرادته؛ لأنّه إنّما قصد مقطوع الخمرية، باعتبار كون القطع آلة وكاشفا عن متعلقه لا بما هو مقطوع في نفسه، فالقطع المذكور غير ملتفت إليه حتّى يقع تحت الإرادة والاختيار فلايتّصف بالحرمة[٣٧].
القول الثالث: التفصيل بين القصد إلى فعل المعصية والشروع في مقدّماتها
وهذا القول هو التفصيل بين القسم الثاني وهو القصد إلى فعل المعصية والشروع في مقدّماتها، لكن صرفه صارف عن ارتكابها وبين القسم الثالث، وهو القصد إلى فعل المعصية مع ارتكاب ما يعتقده كذلك، ويتبيّن أنّ الأمر ليس كذلك، فذهب النائيني إلى الحرمة في القسم الثاني وعدمها في القسم الثالث[٣٨].
قبح التجري عقلاً
والبحث في القبح العقلي للتجرّي يرتكز على اثبات حكم العقل بـ قبح التجرّي بغض النظر عن حرمته شرعا. هناك تقريرات عدّة ذكرت لـ قبح التجرّي عقلاً:
التقرير الأوّل
إنّ قبح التجرّي إنّما هو بملاك عدم احترام المولى والتعدّي على حقوقه في الطاعة، فإنّ هذا لايفرّق فيه بين مخالفة الحكم الثابت في الواقع وبين الحكم الثابت في اعتقاد المكلّف وتقديره وإن لم يكن ثابتا في الواقع[٣٩].
ومفاد هذا التصوير أنّ مركز القبح ليس هو الفعل ولا الفاعل، بل مركزه الفعل المضاف إلى الفاعل المتجرّي به[٤٠].
التقرير الثاني
إنّ قبح التجرّي بملاك القبح الفاعلي مع عدم القبح الفعلي له، باعتبار أنّ المتجرّي لم يصدر منه فعل قبيح، بل إنّ صدور الفعل من الفاعل هو القبيح، باعتبار تجريه وتمرّده على مولاه وكونه بصدد العصيان[٤١].
والتقريران المذكوران يشتركان في كون قبح التجرّي ذاتيا.
وفي المقابل ذهب الاصفهاني إلى عدم قبح التجرّي ذاتا، بل إنّ قبحه يختلف بالوجوه والاعتبارات، فمرّة يصادف الفعل المتجرى به للمعصية الواقعية، فيكون فيه ملاك قبح التجرّي وملاك المعصية ويتداخل العقابان، واُخرى يصادف الفعل المتجرى به المكروه الواقعي، فيكون قبحه أقلّ، وثالثة يصادف الفعل المتجرى به المباح الواقعي وهو أقلّ قبحا من الذي قبله، ورابعة يصادف الواجب الواقعي، فهنا يقع التزاحم بين ملاك الوجوب وملاك قبح التجرّي[٤٢].
وذهب الشيخ الأنصاري إلى عدم قبح التجرّي عقلاً ـ فعليا أو فاعليا ـ باعتبار أنّه لايكشف إلاّ عن سوء السريرة وخبث الباطن وهو لايستتبع إلاّ اللوم والذم، كما في البخل والحسد[٤٣].
وجوه الاستدلال علی عدم قبح التجرّي عقلاً
واستدلّ الآخوند الخراساني على عدم قبح التجرّي عقلاً بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل
إنّ تعلّق القطع أو الظنّ المعتبر بشيء لايوجب انقلابه عمّا كان عليه من جهة الحسن والقبح، فالفعل المتجرّى به يبقى عمّا هو عليه من الحسن والقبح، فإنّ القطع بالحسن والقبح ليس من الوجوه والاعتبارات التي توجب اتّصاف الفعل بالحسن والقبح، والشاهد على ذلك الوجدان، فإنّه حاكم بقبح قتل ابن المولى ولو كان معتقدا بكونه عدوّه، وإن قتل عدو المولى حسن ولو كان معتقدا أنّه ابنه، فالقطع المذكور في كلّ الأحوال لايغيّر جهة الحسن والقبح في الفعل[٤٤].
الوجه الثاني
إنّ الذي يتّصف بالحسن والقبح لابدّ أن يكون فعلاً اختياريا، فإنّ الفعل المتجرى به بعنوان كونه شربا للخمر الواقعي لايكون قبيحا لعدم وقوعه منه خارجا، وبعنوان كونه مقطوع الخمرية ليس اختياريا حتّى يتّصف بالحسن والقبح؛ لأنّه إنّما أراد شرب الخمر الواقعي لاشرب مقطوع الخمرية بما هو مقطوع الخمرية فلايتّصف بالحسن والقبح[٤٥].
الوجه الثالث
إنّ الذي يتّصف بالحسن والقبح لابدّ أن يكون ملتفتا إليه، فإنّ الفعل المتجرّى به بعنوان كونه شربا للخمر الواقعي لايكون قبيحا لعدم وقوعه منه خارجا، وبعنوان كونه مقطوع الخمرية لايكن ملتفتا إليه غالبا حتّى يقع تحت إرادته؛ لأنّه إنّما يقصد مقطوع الخمرية باعتبار كون القطع آلة وكاشفا عن مقطوعه لا بما هو مقطوع في نفسه، فالقطع المذكور غير ملتفت إليه أصلاً حتّى يقع تحت الارادة والاختيار متّصفا بحسن ولا قبح[٤٦].
وذكر جماعة: إنّ حكم العقل بقبح العصيان والتجرّي لايستتبع جعل حكم شرعي مولوي، بل لايمكن جعل حكم في مورده، كما هو الحال في أوامر الطاعة[٤٧].
استحقاق العقاب الأخروي
والكلام في هذا المحور يرتكز على أنّ المتجرّي على مولاه يستحقّ العقاب بحكم وملاك العقل حتّى لو لم نقل بالحرمة شرعا، باعتبار أنّ الحكم العقلي لا يستتبع الحكم الشرعي. والبحث في ذلك مسألة كلامية.
فوقع البحث في أنّ المتجرّي بتجرّيه على مولاه هل يستحق العقاب على ذلك أو لا؟ وقد ذكرت عدّة وجوه
لإثبات استحقاقه العقاب:
الوجه الأوّل في استحقاق العقاب في التجرّي
إنّ الملاك في استحقاق العقاب في التجرّي والعصيان واحد وهو سلب المولى حقّه والتجرّي عليه والخروج عن رسم العبودية، فيكون المتجرّي مستحقّا للعقاب بنفس الملاك الذي يستحقّ به العاصي للعقاب[٤٨].
وذهب السيّد الصدر إنّ ذلك بناءً على مسلك حقّ الطاعة وأوضح قائلاً: «لأنّ حقّ الطاعة ينشأ من لزوم احترام المولى عقلاً ورعاية حرمته، ولا شكّ في أنّه من الناحية الاحترامية ورعاية الحرمة لا فرق بين التحدّي الذي يقع من العاصي والتحدّي الذي يقع من المتجرّي، فالمتجرّي إذن يستحقّ العقاب كالعاصي»[٤٩].
الوجه الثاني في استحقاق العقاب في التجرّي
إنّ موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب أعمّ من القطع المصادف للواقع وغير المصادف له؛ وذلك لعدم إمكان أخذ قيد المصادفة فيه، لوجوب إحراز المصادفة في حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة وإحرازها خارج عن قدرة واختيار المكلّف، ومع وجود احتمال عدم المطابقة لايحرز موضوع حكم العقل، ولأجل ذلك لابدّ من القول بكون موضوع حكم باستحقاق العقاب أعمّ من القطع المصادف وغير المصادف[٥٠].
الوجه الثالث في استحقاق العقاب في التجرّي
بما أنّه لايمكن إناطة العقاب بالقبح الفعلي، فلابدّ من إناطته بالقبح الفاعلي وهو مشترك بين التجرّي والعصيان، أمّا عدم إناطته بالقبح الفعلي؛ فلأنّه في موارد الجهل والشكّ يوجد قبح فعلي مع عدم استحقاق العقاب، فالذي يشرب الخمر جاهلاً به ارتكب قبيحا ومفسدة مع عدم استحقاقه للعقاب بذلك، وإذا ثبت عدم كون القبح الفعلي مناطا للعقاب فلابدّ أن يكون هو القبح الفاعلي وهو موجود في التجرّي[٥١].
الوجه الرابع في استحقاق العقاب في التجرّي
إنّه لا فرق بين العاصي والمتجرّي إلاّ في كون العاصي مصيبا في قطعه، والمتجرّي غير مصيب فيه، وهذا الفارق لايصلح أن يكون فارقا فيما هو الملاك في استحقاق العقاب؛ لكون الإصابة وعدمها خارجة عن اختيار المكلّف، وإذا ثبت عدم الفرق بينهما فأمّا أن يكون كلاهما مستحقّا أو لايكونا، والثاني باطل فيتعين الأوّل[٥٢].
الوجه الخامس في استحقاق العقاب في التجرّي
إنّ الملاك في استحقاق العقاب هو العزم والاختيار وكونه بصدد الطغيان والعصيان لا لنفس الفعل المتجرّى به لعدم كونه قبيحا، ولا مجرّد سوء السريرة؛ لأنّها بمجرّدها لاتوجب الاستحقاق ما لم ينضم إليها العزم والاختيار[٥٣].
وذهب ابن عبد السلام إلى أنّ المتجري يستحقّ العقاب الأخروي، لكن لايعاقب بعقاب الفعل المتجرى به، أي شرب الخمر والزنا والقتل، لكون تلك العقوبات مترتّبة على المفاسد الواقعية، وقصد المعصية لا تأثير له في ذلك، ويعذب عذابا متوسّطا بين مرتكب الكبيرة ومرتكب الصغيرة بجرأته على اللّه بما يعتقد كونه معصية[٥٤].
ثُمّ إنّه هناك مسألة وهي أنّ البعض ذكر: إنّ من الآثار المترتّبة على التجرّي الفسق؛ وذلك لأنّه لتمرده أسقط ملكة العدالة في نفسه وهي الملكة النفسانية التي تبعث صاحبها على التقوى، فيكون المتجرّي فاسقا وإن لم يستحقّ العقاب، ويترتّب على ذلك بطلان أعماله التي ترتّبت على العدالة[٥٥].
هذا كلّه في الحكم التكليفي والعقاب الأخروي، أمّا الحكم الوضعي والعقاب الدنيوي كالحد والقصاص وغيرهما فلا يثبت في حقّ المتجرّي؛ لأنّه لم يترتّب ما يوجبهما؛ لأنّ مثل هذه العقوبات قد رتّبها الشارع على مفاسدها الواقعية المتحقّقة خارجا، والمتجرّي لم يفعل شيئا من ذلك[٥٦].
الهوامش
- ↑ . لسان العرب 1: 564 مادة «جرأ».
- ↑ . القواعد الفقهية البجنوردي 3: 331.
- ↑ . جواهر الأصول الصدر: 45.
- ↑ . أنظر: فوائد الأصول 3: 53، مصباح الأصول 2: 18.
- ↑ . أنظر: مصباح الأصول 2: 18.
- ↑ . أنظر: قواعد الأحكام ابن عبد السلام 1: 33.
- ↑ . أنظر: قواعد الأحكام ابن عبد السلام 1: 33، القواعد والفوائد 1: 107 ـ 108.
- ↑ . منتهى الأصول 2: 31.
- ↑ . المصدر السابق: 30.
- ↑ . المصدر السابق: 31.
- ↑ . أنظر: فرائد الأصول 1: 48 ـ 49، فوائد الأصول 3: 50 ـ 51، نهاية الأفكار 3: 41، حقائق الأصول 2: 14.
- ↑ . القواعد والفوائد 1: 107.
- ↑ . المحصول 1: 287.
- ↑ . مسالك الإفهام 7: 202.
- ↑ . الإبهاج في شرح المنهاج 1: 80.
- ↑ . قواعد الأحكام 1: 33.
- ↑ . الفصول الغروية: 87، هداية المسترشدين 2: 86، 359.
- ↑ . جواهر الكلام 29: 243 ـ 244.
- ↑ . أنظر: فرائد الأصول 1: 37.
- ↑ . شرح مختصر الروضة 1: 327، المحصول 1: 287.
- ↑ . فوائد الأصول 3: 37 ـ 39 أنظر: مصباح الأصول الخوئي 2: 20 ـ 21، جواهر الأصول (الصدر): 46 ـ 47، أجود التقريرات 3: 43 ـ 45.
- ↑ . جواهر الأصول: 45 ـ 46.
- ↑ . أنظر: فوائد الأصول 3: 41، مصباح الأصول 2: 22.
- ↑ . أنظر: مصباح الأصول 2: 23.
- ↑ . أنظر: مصباح الأصول 2: 29، جواهر الأصول الصدر: 60 ـ 61.
- ↑ . أنظر: فوائد الأصول 3: 37 ـ 53، مصباح الأصول 2: 19 ـ 30، جواهر الأصول الصدر: 45 ـ 63.
- ↑ . تذكرة الفقهاء 2: 391.
- ↑ . نضد القواعد الفقهية: 408.
- ↑ . زبدة الأصول: 73.
- ↑ . مفاتيح الأصول 308.
- ↑ . أنظر: فرائد الأصول 1: 45، كفاية الأصول: 259، نهاية الأفكار 3: 30، مصباح الأصول 2: 27.
- ↑ . القواعد والفوائد 1: 107.
- ↑ . العنكبوت: 45.
- ↑ . مصباح الأصول 2: 21.
- ↑ . كفاية الأصول: 259 ـ 260، أنظر: منتهى الدراية 4: 419 ـ 420.
- ↑ . كفاية الأصول: 260، أنظر: منتهى الدراية 4: 420.
- ↑ . كفاية الأصول: 260، أنظر: منتهى الدراية 4: 420.
- ↑ . فوائد الأصول 3: 52 ـ 53.
- ↑ . أنظر: نهاية الأفكار 3: 30، مصباح الأصول 2: 27 ـ 28، جواهر الأصول الصدر: 65.
- ↑ . جواهر الأصول الصدر: 65.
- ↑ . فوائد الأصول 3: 42.
- ↑ . الفصول الغروية: 432.
- ↑ . فرائد الأصول 1: 45.
- ↑ . كفاية الأصول: 259 ـ 260، أنظر: منتهى الدراية 4: 419 ـ 420.
- ↑ . كفاية الأصول: 260، أنظر: منتهى الدراية 4: 420.
- ↑ . كفاية الأصول: 260، أنظر: منتهى الدراية 4: 420.
- ↑ . نهاية الأفكار 3: 36 ـ 37، مصباح الأصول 2: 27.
- ↑ . أنظر: نهاية الأفكار 3: 30 ـ 31، مصباح الأصول 2: 27 ـ 28، جواهر الأصول الصدر: 75، تهذيب الأصول (السبزواري) 2: 21.
- ↑ . دروس في علم الأصول 1: 177.
- ↑ . أنظر: جواهر الأصول: 76.
- ↑ . أنظر: جواهر الأصول: 78.
- ↑ . فرائد الأصول 1: 38 ـ 39، أنظر: جواهر الأصول: 78.
- ↑ . كفاية الأصول: 259 ـ 260.
- ↑ . قواعد الأحكام 1: 33 ـ 34.
- ↑ . قواعد الأحكام ابن عبد السلام 1: 33، محاضرات في أصول الفقه 2: 385.
- ↑ . شرح مختصر الروضة 1: 327.