الشيعة في تونس
الشيعة في تونس نظرًا لأن غالبية مسلمي تونس من حيث "العقيدة" مغرمون بشدة بأهل البيت (عليهم السلام) ولكن من حيث "الممارسة" يتبعون المذهب المالكي، يمكن اعتبار الكثير من سكان تونس شيعة لا يعرفون عن تشيعهم! وفي تونس كما في جميع دول إفريقيا، هناك أيضًا ثلاثة أنواع من شيعة أهل البيت (عليهم السلام): الشيعة القدامى، والشيعة الجدد (المستبصرون)؛ والمحبون والموالون لأهل البيت (عليهم السلام) من بين أهل السنة، وتنقسم المجموعة الثانية من شيعة تونس (أي المستبصرون والشيعة الجدد) إلى مجموعتين: "الشيعة الدينيون" و"الشيعة السياسيون". المقصود بالشيعة السياسيون هم أولئك الذين جعلتهم التيارات السياسية يميلون إلى المذهب الشيعي. أما الشيعة الدينيون فهم أولئك الذين اعتنقوا المذهب الشيعي عن طريق الدراسة والبحث. ويعيش عدد كبير من الشيعة التونسيين في أوروبا وآسيا، وفقًا لإحصاءات جمعية الدين والحياة الاجتماعية الأمريكية "معهد PEW" في عام 2009م، من إجمالي سكان تونس البالغ 10,102,000 نسمة في ذلك العام، هناك حوالي 102,000 شيعي.وكذلك مع الدكتور التيجاني السماوي والذي لُقّب بأب التشيع المعاصر في تونس، وقد وثّق الدكتور محمد التيجاني السماوي رحلته مع المذهب الشيعي في كتابٍ أسماه “ثم إهتديت…”، وفي مقابلة أكّد، أنه بمجرد عودته إلى تونس بعد رحلته إلى العراق ومن ثم الحج بدأ بالدعوة للتشيع، خاصة بين أقرانه الذين كان أغلبهم من المنخرطينَ في “حركة الاتجاه الإسلامي” وعندما لاقى الرفض، انسلخ عن انتمائه للحركة.
الوجود الشيعي في تونس
إنّ المقصود بالوجود الشيعي هو مناطق استقرار الشيعة على الجغرافية التونسيّة وعددهم. وإذا كان الحديث إليهم أو استجوابهم صعباً، فكيف سيكون الأمر عند التدقيق في أماكن توزّعهم وأعدادهم؟ والإجابة يحملها السؤال طبعاً. ليس من اليسير أو المتاح أن تظفر بالمعلومة المطلوبة حول خارطة التشيّع في تونس بسبب الحذر المبالغ فيه أحيانا من قبل المنتمين إلى هذا المذهب، وإن كان يجوز القول بممارستهم التقيّة في هذه الحالة التزاماً بمبادئ المذهب، فإنّ معرفتنا بعدد غير قليل منهم يؤكّد أنّ هذا السلوك يرتبط بالشخصيّة التونسيّة غير المغامرة بالاستقرار الفردي والجمعي أكثر منه التزاماً بالمبادئ الفقهيّة للمذهب. والثابت هو أنّ التونسيين الشّيعة تحركهم المعطيات الموضوعيّة قبل العقائديّة. ونستند في تقييمنا هذا إلى معطيات واقعيّة منها ما تعلّق بالجانب التطبيقي للشعائر والطقوس الشيعيّة في تونس، ومنها ما ارتبط بالمواقف السياسيّة المعلنة.
الشعة تونسيين يعيشون في حالة الحذر والخوف
ترتبط حالة الحذر والخوف لدى التونسيين الشيعة - حسبما بلغنا- بمعطيات موضوعيّة تتعلّق بطبيعة الواقعين السياسي والاجتماعي بعد حراك 2010م. فقد أفرزت هذه المرحلة من تاريخ تونس مظاهر غير مألوفة في المستوى الاجتماعي والأمني؛ منها ظهور جماعات دينيّة متشدّدة مثل السلفيّة بفرعيها العلمي والجهادي، ومنها جماعة أنصار الشريعة وكتيبة عقبة بن نافع وغيرهم. وتجمع هذه الجماعات، رغم تمايزها وتضاربها أحياناً، على خطورة الوجود الشيعي وتمدّده في تونس والمنطقة. وتتفق على أهميّة مقاومته والتصدّي له ومحاصرته وضربه إن لزم الأمر. وقد عبّر الداعية التونسي البشير بن حسين المصنّف ضمن السلفيّة العلميّة عن هذا المعطى في حواره مع الصحفي زهير لطيف. وأكّد أنّه لا يوجد مذهب شيعي بالمعنى العلمي، وأنّ ما يروّجه الإيرانيون وأتباعهم من عقائد هو فتنة تعود إلى اليهودي عبد الله بن سبأ [١]. وأصر البشير بن حسين في حواره على ضرورة التصدي لهذه الظاهرة ومنعها إن لزم الأمر بالقوّة. واقترح على المتمسّكين بتشيّعهم الفارسي المغادرة إلى إيران، وردّد أكثر من مرّة عبارة «والله لن نتركهم... والله لن نتركهم». ويبدو أنّه يميّز من خلال هذا الحوار بين تشيّع علوي وتشيّع صفوي دون أن يفصل في الأمر. ويوحي خطابه أنّ أتباعه يمكن أن يتفهموا تشيّعاً وجدانيّاً لآل البيت ليس فيه مسّ بالصحابة أو قول بإمامة العلويين الإلهيّة أو طقوس على الطريقة المشرقيّة [٢].
أثر الثورة الجمهورية الإسلامية
خصّص مؤلف كتاب (التشيع في البلاد التونسية، بحث في النشأة والتحولات) الدكتور صلاح الدين العامري، في الفصل الثالث من الكتاب للتشيع بالمعنى الفكري المذهبي الاثني عشري. وكانت بداياته في الستينيات، مع التيجاني السماوي، بشكل فردي، بيد أنّه ارتأى أنّ البداية الفعلية كانت مع نجاح الثورة الإيرانية العام 1979م. فقد استهوت الثورة وقائدها جانباً من الإسلاميين في تونس، فاندفعوا وراءها بشكلين: الشكل الأوّل بالمدح والثناء إلى حدّ البيعة من قبل بعض رموز الفكر السنّي. والشكل الثاني تمّ بإعلان الانسلاخ عن المذهب السنّي، واعتناق المذهب الشيعي، من قبل عدد من أبناء الاتجاه الإسلامي، مثل: امبارك بعداش، ومحمّد الرصافي المِقداد، وعماد الدين الحمروني وغيرهم. ويتابع العامري بملاحظة أنّ التشيّع الاثني عشري في البلاد التونسية شهد تراجعاً سريعاً، رغم جهود جماعة "المسلمون السائرون على خطّ الإمام"، بسبب عدم التجاوب الاجتماعي والتضييق السياسي المشدّد من قبل السلطة على التيارات الإسلامية كافّة، في ثمانينيات القرن الماضي. ولكنّه عاد ليظهر من جديد بعد الإنجازات العسكرية لحزب الله اللبناني مع العام 2000م، وبتأثير مباشر من شخصية أمينه العام السيد حسن نصر الله [٣].
التشيع المعاصر في تونس
يكتب احد كتاب تيونسيين صابرين الجلاصي في مقالته (الشيعة في تونس...): بعد الاستكانة التاريخية التي جاوزت أكثر من ألف سنة عاد المذهب الشيعي للانتشار في سبعينات القرن الماضي مع الدكتور التيجاني السماوي والذي لُقّب بأب التشيع المعاصر في تونس، لكن هذه المرة ليس التشيع الإسماعيلي وإنما التشيع الاثني عشري، وقد وثّق الدكتور محمد التيجاني السماوي رحلته مع المذهب الشيعي في كتابٍ أسماه “ثم إهتديت…”، وفي مقابلة أجريناها معه أكّد، أنه بمجرد عودته إلى تونس بعد رحلته إلى العراق ومن ثم الحج بدأ بالدعوة للتشيع، خاصة بين أقرانه الذين كان أغلبهم من المنخرطينَ في “حركة الاتجاه الإسلامي” وعندما لاقى الرفض، انسلخ عن انتمائه للحركة، في المقابل وفي أواخر السبعينات أعلن “مبارك بعداش” اعتناقه للمذهب الشيعي الجعفري، وهو يُعد من أوائل المؤسسين لـ”حركة الاتجاه الإسلامي” بتونس كما أنه الصديق الحميم لراشد الغنوشي زعيم “حركة النهضة” الإسلاموية، ثم تشيّع قيادي آخر والمسمى بـ “مقداد الرصافي” وهو صاحب كتاب “نعم تشيعت وهذا السبب”، وربما بدأ انتشار المذهب الشيعي آنذاك تأثّراً بالثورة الإيرانية وانتصارها للقومية والهوية الإسلامية على حسب اعتقادهم، ونظراً للأوضاع السياسية حينها فقد اقتصرت دعواتهم على عوائلهم وأصدقائهم [٤].
مراحل التي مرّبها التشيع في تونس
صدر للأكاديمي التونسي صلاح الدين العامري مؤلفه الذي جاء تحت عنوان " التشيع في البلاد التونسية، بحث في النشأة والتحولات"، الكتاب صدر عن دار نشر مؤمنون بلا حدود، وقدّم له الدكتور بسام الجمل، أستاذ التعليم العالي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية.وذهب الجمل في مقدمته نحو القول إنّ المؤلف صلاح الدين العامري أقام البرهان في كتابه على أنّ التشيع في تونس مر بمراحل (3)؛ هي: "التشيع الوجداني والسياسي" أوّلاً، و"التشيع الاجتماعي" ثانياً، و"التشيع الاثنا عشري" ثالثاً[٥].
لم يتحوّل الشيعة في تونس طائفةً
و يكتب احد كتاب تيونسيين سالم لبيض في مقالته (هذا السجال حول التشيّع في تونس): تتالت المواقف والتدوينات والكتابات والمداخلات المصوّرة، والصفحات المعادية للظهور الشيعي في تونس، بالطريقة العلنية والاستعراضية التي أبرزتها مقاطع الفيديو في مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها مقطع يصوّر زيارة مجموعة من التونسيات مدينة كربلاء العراقية مرقد الإمام الحسين، مطلع الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) يلبسن العباءات السوداء، ويحملن الراية التونسية، يسرن على أقدامهن إحياءً للاربعينية في التنقّل من مختلف المدن العراقية، مشياً على الأرجل "مواساة لأهل بيت الحسين، الذين ساروا لمسافات طويلة بعد عودتهم من الشام"، واستعادة التجربة للوقوف على حجم المأساة.
تصوّر الصفحات ومواقع التواصل الاجتماعي ذات الخلفية السُّنّية، الأنشطة الشيعية (على محدوديتها) غزواً شيعياً إيرانيا لتونس، الأمر الذي أدّى إلى انتشار الفتاوى المكفّرة للشيعة واتهامهم بالشرك وتأليه علي بن أبي طالب وعبادة ابنه الحسين، وتواترت التصريحات المذكّرة بسبّ السيدة عائشة زوجة النبي (ص) والخلفاء الراشدين الثلاثة الأول، وعادت إلى الواجهة نقاشات قديمة حول الأحقية بالخلافة والفتنة الكبرى، وغيرها من قضايا السلطة ومعاركها، التي دارت في القرن الأول للهجرة. وانخرط في هذه النقاشات عوام التونسيين في صفحاتهم وبروفايلاتهم الفيسبوكية التي تُعدّ بالملايين. ورغم ذلك، لوحظ غياب أيّ موقف أو تصريح من المؤسّسات الرسمية الدينية التونسية، مثل وزارة الشؤون الدينية ومؤسّسة الإفتاء، ومفتي الديار التونسية، والحال أن لديهم مواقف وفتاوى في قضايا أقلّ شأناً وأهميةً، مقارنة بالسجال الديني السُّنّي الشيعي، الذي بلغ أحياناً درجة التكفير. وينطبق هذا الصمت على مؤسّسة رئاسة الجمهورية والرئيس قيّس سعيّد، الذي ضمّن دستوره لسنة 2022، في الفصل الخامس: "تونس جزء من الأمّة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل في ظلّ نظام ديمقراطي على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية"، والفصل 27: "تضمن الدولة حرية المعتقد وحرية الضمير"، ما يجعله مطالباً بالعمل على الحيلولة دون تحوّل السجالات المذهبية معاركَ مذهبيةً دينيةً قاتلةً، خاصّة أنه لم يتأخّر بالخوض في القضايا الدينية في مناسباتٍ سابقة، وكثيراً ما كان يزور جامع الزيتونة أو جامع عقبة بن نافع للتعبير عن موقفه من قضيّة ما، [٦]، تاريخ النشر: 12 يوليو 2025 ، وتاريخ المشاهدة: 2025/09،04م.
المناطق التي تقطن فيها الشيعة
يقول الباحث صلاح الدين العامري : ورغم ما رصدناه من حذر مفرط، فإنّه بالإمكان تأكيد انتشار التشيّع في عدد من مناطق البلاد التونسيّة استناداً إلى ما ذكرته شخصيات شيعيّة نعرفها أو تعرّفنا إليها من خلال الكتابات أو التصريحات في الإعلام المرئي أو المكتوب. والثابت أيضاً أنّ الوجود الشيعي في تونس ينحصر في الإماميّة الاثني عشريّة. وأنّه لا صحّة للأرقام المتداولة حول أعدادهم، ومهما كانت مصادرها مطلعة فهي تبقى مجرّد إحصائيات تقريبيّة لا أكثر. ويتوزّع الشيعة حسب الكثافة التي تحتاج إلى تأكيد باعتبار أنّ مصادرنا شفويّة وغير موثقة، على أهم المناطق التالية:
تونس الكبرى:
ويقطنها عدد مهمّ من الشّيعة المنحدرين من مناطق مختلفة من البلاد. وينتمي شيعة العاصمة إلى قطاعات مختلفة مثل الرياضة والفنّ والتربية والصحّة.
سوسة:
مدينة ساحليّة ينشط فيها الإسلاميون خفية قبل 2011 وظهروا بأعداد محترمة بعده. ويتقلّد عدد من أبنائها مراكز متقدّمة في قيادة التنظيم. ومن بينهم حمّادي الجبالي الذي شغل منصب الأمانة العامة لحركة النهضة وترأس الحكومة بعد 2011م. ومثّل وجود التيار الإسلامي أرضيّة للوجود الشيعي بالمدينة وأحوازها. ويتركّز الوجود الشيعي بمدينة مساكن، رغم قوّة الجماعة السلفيّة ونفوذها فيها. وتمثل مدينة مساكن أحد أهم الأماكن لتجمّع الأشراف في تونس. ولا نستبعد أن يكون للتجاور بين سوسة والمهدية عاصمة الفاطميين دور في الوجود الشيعي اللافت للنظر في المدينة.
المهديّة:
احتضنت هذه المدينة الساحليّة المنشأ التاريخي الثاني للشيعة في تونس، باعتبار أنّ مدينة تالة ونفطة هما المهد الأول لهم. واحتضنت المهديّة ميلاد أكبر دولة شيعيّة، لعبت دوراً سياسيّاً وثقافيّاً مهما في شمال إفريقيا باعتبارها عاصمة الدولة الفاطميّة. ومع ذلك، فإنّ عدد الشيعة فيها قليل مقارنة بأحوازها مثل كركر والشابّة ورجيش.
قفصة:
يُنطق اسمها بنقطة ثالثة على القاف (Gafsa). وهي إحدى مدن الجنوب الغربي. وتمثّل فضاء نفوذ للتيّار الإسلامي رغم بروز وجوه يساريّة ونقابيّة من أبنائها، وهيمنتهم على الحراك الاجتماعي فيها. ويوجد فيها عدد من الشيعة. ولا شكّ في أنّ ذلك يرتبط بجهود ابن المدينة التيجاني السماوي. وأكّد لنا صلاح المقراني أحد الوجوه الشيعيّة البارزة في الجهة أنّ الشيعة يوجدون في عدد من المدن والقرى القفصيّة وهذا منتظر للأسباب التي ذكرناها.
قابس:
يُنطق اسمها بنقطة ثالثة على القاف (Gabes)، وهي إحدى مدن الجنوب الشرقي المطلّة على البحر. وتمثّل منطلق الجماعة الإسلاميّة ومسقط رأس زعمائها التاريخيين. وقد سهّل ذلك تحوّل عدد منهم من المذهب السنّي إلى المذهب الشيعي بعد الثورة الإيرانيّة مثلما بيّنا ذلك سابقا. ومن بينهم امبارك بعداش ومحمد الرصافي المقداد وعلي بن رمضان. ويطلق أهلُ قابس على مدينتهم اليوم اسم «قُمْ» مماثلة مع قُمْ الإيرانيّة للوجود الشيعي اللافت للنظر فيها. وتمثّل مدينة الحامّة مركز التشيّع في قابس والمدن الجنوبيّة المحاذية لها بسبب وجود امبارك بعداش.
قبلّي:
يُنطق اسمها بنقطة ثالثة على القاف ولام مشدّدة (Gbelli)، وهي إحدى مدن الجنوب الغربي الصحراويّة. وعُرف سكّانها من قبيلة نفزاوة بتبنّي المذهب الخارجي والإباضي تاريخيّاً بعد خروج بعض القادة على علي بن أبي طالب وهجرة بعضهم إلى تونس [٧]. ومع ذلك تعرف مدن مثل جرسين (مسقط رأس امبارك بعداش) وسوق الأحد وجوداً شيعيّاً بارزاً يماثل حضوره في قابس والحامّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ عدداً من سكانها «استبصر» في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وليس بسبب الأعمال الدعويّة الداخليّة فحسب.
جندوبة:
مدينة فلاحيّة في الشمال الغربي وحاضنة للتيارين اليساري والإسلامي. ومع ذلك يوجد فيها شيعة، وخاصّة بمدينة بوسالم.
بنزرت:
توجد بأقصى الشمال وتطلّ على البحر الأبيض المتوسّط ويحضر فيها التيار الإسلامي بوضوح. وأكّد لنا فاكر الصفاقسي أصيل المدينة أنّ الشيعة يوجدون في عدد من مدن ولاية بنزرت بناء على تواصله معهم أو السماع عنهم. وكان أغلبهم من المناصرين لحركة النهضة أو المتعاطفين معها، ويمكن أن ندرجهم ضمن أصحاب الرأي الثالث الذي ذكرناه سابقا. وتشيّع عدد من أصحاب محدّثنا بعد مواجهتهم بأسئلة فكريّة تتعلّق ببعض المسائل الفقهيّة والأحداث التاريخيّة؛ ومن بينها حديث رزيّة الخميس [٨]. ومسألة الوضوء والعشرة المبشّرين بالجنّة وسلوك معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد وموقف عائشة في حرب الجمل وموقف طلحة والزبير وغيرها.
مدنين:
هي إحدى مدن الجنوب الشرقي المتعاطفة مع التيار الإسلامي، ويوجد الشيعة في عدد المدن التابعة لها. وقد كان عدد منهم من أبناء حركة الاتجاه الإسلامي وحركة النهضة لاحقاً. وأكّد محمد صالح الهنشير ابن المنطقة في الحوار معه أن عدد الشيعة محترم في مسقط رأسه، ولكنّ الانتماء نخبوي في أغلبه. ويوجد الشيعة في جزيرة جربة التي عرفت تاريخيّا باحتضانها اليهود التونسيين والإباضيين، وهي مكان منغلق روحياً باعتبار أن الإباضيين واليهود لا يمارسون العمل الدعوي وينفرون من الأجنبي. ومع ذلك تحوّل عدد من أبناء الجزيرة إلى المذهب الشيعي، واستبصر أغلبهم في أوروبا.
نابل:
هي عاصمة الوطن القبلي الذي يجمع بين الفلاحة والسياحة. ويوجد الشيعة خاصة في مدن تابعة للولاية مثل منزل بوزلفة ومنزل تميم وسليمان والميدة. وتمثّل قرية دخلة المعاوين أحد أبرز ملامح الذاكرة الشيعيّة في تونس، باعتبارها مدينة الأشراف، وإليها يعود نسب الفقيه الشريف إبراهيم الرياحي. واللافت للنظر في اسم هذه القرية أنّ أشرافها يحملون اسم معاوية أو يلقّبون به، رغم دلالة اسم معاوية بن أبي سفيان في الذاكرة العلويّة. ويرتبط جزء من هذا الانتشار الشيعي بوجود قرى وأسر تؤكّد انتماءها إلى البيت العلوي، ويعتبرون أنفسهم من الأشراف الموجودين في تونس. ومن بين المناطق قرية الشريفات بسليمان، ويرى أهلها أن التسمية تعني الأشراف بمعنى الانتماء إلى آل البيت.
القيروان:
عرفت تاريخيّاً بمدينة الأغالبة تأكيداً لبعدها السنّي المرتبط بالدولة الأغلبيّة السنيّة التي أوجدها العبّاسيون لمواجهة التمدّد الشيعي في بلاد المغرب. ولم تمنع هذه الخصوصيّة إعلان عدد من أبناء المدينة وأحوازها تشيّعهم. وتوجد بالمدينة إحدى أكبر الحسينيات (حسينيّة الرسول الأعظم) وتحتضن في العلن المناسبات الشيعيّة الكبرى، ولكن بأسلوب تونسي يتمايز عمّا يحدث في المشرق من مشاهد دمويّة ومسرحيّة وفولكلوريّة. يكتفي التونسيون الشيعة في هذه المدينة وغيرها بلطميات بسيطة على الصّدور مع ترديد السيرة الحسينيّة والتركيز خاصة على أحداث العشرة الأوائل من شهر محرّم. وتعدّ أسرة العواني من أبرز الأسر الشريفة في القيروان. وذكر ابن الخوجة في هذا السياق أنّه تناهت إلى مسامعه رواية ممن يثق بهم أنّ بيد عائلة العواني «رسماً عتيقاً في ثبوت شرفهم، ممن شهد فيه من علماء القيروان الشيخ أبو محمد عبد الله بن أبي زيد رحمه الله في أواسط القرن الرابع، فلعلّ جدّهم وفد إلى إفريقيّة في زمن العبيديين لأنّهم من الأشراف الحسينيين» [٩].
سيدي بوزيد:
هي إحدى مدن الوسط الغربي وتركّزت فيها أنشطة التيارات الإسلاميّة منذ عقود. وقد سهّل هذا المعطى تحوّل عدد من أبناء الجهة من التسنّن إلى التشيّع. ويتركّز الوجود الشيعي خاصّة في منطقة سبالة أولاد عسكر التي يغلب على معتقداتها المذهب الإمامي الاثنا عشري. ثبت لدينا وجود الشيعة في عدد من الولايات والمدن والقرى التونسيّة، تأكّد لنا أنّ الحديث عن إحصائيّة دقيقة للتونسيين الشيعة، هو محض زعم لا يمكن القطع به وإن صدر عن أحد الوجوه الشيعيّة البارزة . ويعود الاستنتاج الدقيق إلى أسباب عدّة عرضناها سابقا، وأهمّها تكتّم أغلب المتشيّعين لأسباب أمنيّة واجتماعيّة. وقد روى عبد الحفيظ البناني في لقائنا معه حادثة طريفة تمثّل أنموذجاً حيّاً لصعوبة إحصاء عدد الشيعة. قال محدّثنا إنّ شخصين يقطنان الشارع نفسه في مدينة طبربة من ولاية منوبة، ولكن لا أحد منهما علم بتشيّع الآخر إلّا عند لقاء مشترك في ضيافة البناني. واستناداً إلى هذه المعطيات الواقعيّة يكون حديث بعض الوجوه الشيعيّة مثل التيجاني السماوي عن مئات الآلاف من الشيعة في تونس مجرّد تخمين لا إمكانيّة لإثباته أو اعتماده. وفي المقابل يرجّح عدد ممن التقيناهم أنْ يكون العدد بالآلاف، وهو الأقرب للمنطق في انتظار تأكيد يبدو بعيد المنال. اللافت للنظر بخصوص الوجود الشيعي على جغرافيا البلاد التونسيّة هو غياب مدينتيْ نفطة وتالة اللّتين تمثّلان المهد الأوّل للتشيّع في تونس وبلاد المغرب عامّة. ونرجّح أن يرتبط هذا الغياب بأسباب سياسيّة في المقام الأوّل؛ لأنّ الأنظمة الحاكمة باسم المذهب السنّي بعد خروج الفاطميين إلى مصر ثم سقوط خلافتهم، عملت بحرص واستمرار على إنهاء الحالة الشيعيّة في تونس وشمال إفريقيا بعد التجربة الصعبة التي رافقت دخول الداعية الشيعي وسرعة استجابة الناس له وسهولة سيطرته على المنطقة. ومن الطبيعي أن يتركّز الاهتمام على المدينتين، باعتبارهما التربة الخصبة التي أثمرت فكرة شيعيّة تحوّلت بسرعة إلى خلافة امتدّ نفوذها بين المشرق والمغرب. وقد أصبحت مدينة نفطة المعروفة بالكوفة الصغرى مدينة سنيّة في المستوى الرسمي بعد أن تكفّل أبو علي الحسيني النفطي (ت. 610هــــ/1213م) بإنهاء الوجود الشيعي وتأسيس ذاكرة سنيّة للمدينة الشيعيّة. ويبدو أنّ إلحاق صفة السنّي باسمه كانت جزءاً من المهمة الموكولة إليه.
من المفارقات المتعلّقة بهذه الشخصيّة الاعتبارية لدى النفطيين انتماؤها إلى البيت العلوي الشيعي. وأكّد منير بن تابعي معيزة أحد أحفاد سيدي بوعلي السنّي والمشرف الحالي على مقامه هذا النسب، فقال: «يعود نسب سيدي بوعلي إلى أصل عربي من نسل سيّدنا علي بن أبي طالب (رابع الخلفاء الرّاشدين) كرّم الله وجهه من قريش. وما لقّب بالسنّي إلا لجهاده بالدعوة والفكر والسلاح من أجل تثبيت عقيدة الكتاب والحكمة في نفطة وشمال إفريقيا، وهو ما جعلها تتبوّأ مكانة الكوفة في أرض العراق، كما حارب الإباضيّة والشيعة التي كانت متمركزة في هذا المكان إبّان دولة الموحّدين» [١٠].
فالأغرب من مفارقة الجدّ تفسير الحفيد «العلوي» لطبيعة أعمال جدّه وأهدافها. فما ذكره التابعي حول كفاح أبي علي السنّي يبدو متطابقا مع طبيعة المهمة الموكولة إليه والدور الذي قُدّر له أن يلعبه من أجل تركيز المذهب السنّي على أنقاض المذهبين الإباضي والشيعي. ولا نستبعد أن يكون هذا العلوي قد استُدْرج وأُقنع بخطر التشيّع الإسماعيلي وزيفه ليتحرّك بمشروعيّة النسب التي تميّزه، ولكن جرى توظيفه ضدّ الوجود الشيعي عامّة. ولا نستبعد أيضاً أن تكون مقاومته للوجود الشيعي طوعية، وتحكّمت فيها مكاسب ماديّة وسلطويّة أغرته وجعلته يتحرّك ضد الشيعة. حوّلت السلط السياسيّة المتحالفة مع القوى القبليّة النافذة في الجهة أبا علي السنّي إلى رمز روحي وتاريخي واجتماعي بفضل كثرة الزيارات إلى مقامه والتوسّل به عند كل حاجة وبواسطة الذبائح والقرابين المتنوّعة وبالمساعدات الاجتماعيّة للفقراء والمحتاجين. يقول الحفيد المشرف على المقام: «المقام اكتسب طيلة القرون الماضيّة دوراً اجتماعيّاً مهمّاً، ومثّل النواة التي تدور حولها مبادئ التكافل الاجتماعي في مدينة نفطة». وذكر منير بن تابعي في حديثه مع وكالة الأناضول التركيّة أنّ المقام يقدّم مساعدات للفقراء والمرضى والمحتاجين والطلّاب في إتمام دراستهم الجامعيّة من خلال التبرّعات التي تقدّم من المحسنين [١١]. لم تقتصر مقاومة الإرث الشيعي في منطقة الجريد على الجانب الاجتماعي للمقام، بل عمد المشرفون على هذا المشروع إلى تكريس سلطة روحيّة لأبي علي السنّي تتجاوز حدود منطقة الجريد لتشمل مناطق بعيدة تزيد من نفوذه ومشروعيته. وقال المشرف على المقام في هذا السياق: «المقام الذي يعد عشرات الزّوايا التابعة له في ليبيا والجزائر ومالي والمغرب والسودان وموريتانيا، يمثل شاهداً على العبق العلمي الزاخر للشيخ ومزاراً للتبرّك بعلمه الفاضل بعيدا عن كلّ أشكال الشعوذة والنوبات والذّبح على الأضرحة في كثير من الزوايا الصوفيّة» [١٢].
وصلات خارجية
الهوامش
- ↑ زهير لطيف، برنامج في الصميم، قناة التونسيّة، 25/02/2012م، يمكن مشاهدة هذا الوثائقي على اليوتيوب (youtube) على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=ZZ_DGR8k29E.
- ↑ زهير لطيف، برنامج في الصميم
- ↑ التشيع في البلاد التونسية مقتبس من موقع حفريات
- ↑ مقتبس من موقع الحدّ
- ↑ التشيع في البلاد التونسية مقتبس من موقع حفريات
- ↑ هذا السجال حول التشيّع في تونس، مقتبس من موقع العربي الجديد
- ↑ ابن حوقل: كتاب صورة الأرض، ج1، ص95.
- ↑ ابن حوقل: كتاب صورة الأرض، ج2، ص319 صحيح مسلم: كتاب الوصيّة، ح. 22 - (1637)
- ↑ محمد بن الخوجة: صفحات من تاريخ تونس، ص148
- ↑ جريدة الصريح التونسيّة، بتاريخ 25/05/2015م، ص8 (نقلا عن وكالة الأناضول التركيّة)
- ↑ جريدة الصريح التونسيّة، بتاريخ 25/05/2015م، ص8
- ↑ الوجود الشيعي في تونس ، موقع المومنون بلا حدود
المصادر
- هذا السجال حول التشيّع في تونس، مقتبس من موقع العربي الجديد، تاريخ النشر: 12 يوليو 2025 ، وتاريخ المشاهدة: 2025/09،04م.
- مقتبس من موقع الحدّ، تاريخ النشر: 22 يناير 2024، وتاريخ المشاهدة: 2025//09:04م.
- التشيع في البلاد التونسية مقتبس من موقع حفريات، تاريخ النشر: 10/07/2025 وتاريخ المشاهدة: 2025//09:04م.
- الوجود الشيعي في تونس ، موقع المومنون بلا حدود، تاريخ النشر:11 سبتمبر 2024، وتاريخ المشاهدة: 2025//09:04م.