التعارض المستقر
التعارض المستقر: التعارض اصطلاح أصولي بمعني تنافي الدليلين في مقام الجعل والتشريع؛ والتعارض قد يکون مستقراً وقد يکون غير مستقر، والمراد بالمستقر هو التعارض الثابت الذي يحتاج إلی علاج. وفيما يلي نبحث عن علاج التعارض المستقر.
التعارض المستقر
هناك أصلان يحكمان التعارض المستقر، هما: الأصل الأوّلي والأصل الثانوي، وفي كلٍّ منهما نقاشات وبحوث.
الأصل الأوّلي في التعارض المستقر
النقاش المطروح هنا هو ماهية الأصل الأوّلي، أي علاج التعارض مع غضّ النظر عمّا ورد من أدلّة كالروايات الواردة في هذا المجال.
وقد طرحت شبهة هنا، وهي الثمرة المتوخاة من هكذا أصل مع وجود أدلّة عالجت التعارض، إلاّ أنّ البعض ذكر لهذا الأصل ثمرة تظهر في تعارض غير الأخبار، كالتعارض بين آيتين من حيث الدلالة أو بين الخبرين المتواترين من حيث الدلالة كذلك، وكذا تعارض الأمارات في الشبهات الموضوعية، كالتعارض بين بيّنتين أو فردين من قاعدة اليد، كالمال الواقع تحت استيلاء مدعيين[١].
وفي هذا المجال يوجد أكثر من رأي.
أحدها: الجمع بين الدليلين، من باب قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح. ذهب إلى هذا ابن أبي جمهور الإحسائي[٢] والشيخ الطوسي، باعتبار أنّ هذا هو منهجه في (تهذيب الأحكام) وغيره، والشهيد الثاني[٣] والسيّد اليزدي[٤].
ثانيها: ما ذهب إليه المحقّق العراقي من التفصيل بين ما إذا كان هناك تنافٍ بين مدلول الخبرين فيحكم بالتساقط المطلق، وبين ما إذا لم يكن تنافٍ بين مدلوليهما وإمكانية صدقهما وإمكانية كذب أحد الراويين، بأن علم بكذب أحدهما المستلزم لدلالة كلٍّ منهما ـ ملازمة ـ على كذب الآخر، فيحكم بالحجّية وتنجيز مدلولهما على المكلّف.
واستدلّ على رأيه بأنّه في الفرض الثاني وإن كان كلٌّ منهما يكذّب الآخر بالالتزام، إلاّ أنّه لا يدلّ على عدم مطابقة مدلوله للواقع، فقد يكون المدلول ثابتا في الشرع ومرادا له، ما يعني عدم ترتّب أثر عملي على هذه الدلالة الالتزامية[٥].
لكن رُدّ هذا الرأي بأكثر من رد، من قبيل انتقاض دليله بموارد التكاذب بين الأمارتين صريحا بحسب مدلولهما المطابقتين، كما إذا أخبرت أحدهما بصدور كلام معيّن من المعصوم ونفت الاُخرى صدور الكلام ذاته عن المعصوم، فمن الواضح ارتكازا وعقلائيا هنا وجود تعارض بينهما، بينما يثبت هذا الرأي الحجّية لهما[٦].
ثالثها: التساقط، وهو مذهب مشهور أصوليي الشيعة[٧].
استدلّ على هذا الرأي بالنحو التالي: إذا كان التعارض بين دليلين ثبتت حجّيتهما ببناء العقلاء، كما في تعارض ظاهر آيتين أو خبرين متواترين، فمن الواضح أنّ بناء العقلاء لم ينعقد على العمل بظاهر كلام يعارضه كلام آخر، وإن كان دليل حجّية الدليلين المتعارضين دليلاً لفظيا ـ كما في البينة - فالاحتمالات المتصوّرة بالتصوّر الأوّلي للدليل أربعة:
1 ـ أن يشمل دليل الحجّية كلا المتعارضين.
2 ـ ألاّ يشملهما أصلاً.
3 ـ أن يشمل أحدهما بعينه دون الآخر.
4 ـ أن تقيّد حجّية كلٍّ منهما بالأخذ به، ونتيجة ذلك التخيير وجواز الأخذ بأيٍّ منهما شاء المكلّف.
لا يمكن الأخذ بالاحتمال الأوّل لعدم إمكان التعبُّد بالمتعارضين، فالتعبُّد بهما يرجع إلى التعبُّد بالمتناقضين، وهو غير معقول.
ولا يمكن الأخذ بالاحتمال الثالث لبطلان الترجيح بلا مرجّح.
ولا يمكن الأخذ بالاحتمال الرابع؛ لأنّ لازمه ألاّ يكون شيء من المتعارضين حجّة في فرض عدم الأخذ بهما أصلاً، فيكون المكلّف مطلق العنان بالنسبة إلى الواقع، فيتمسّك بالأصول اللفظية أو العملية. وهذا ما لا يلتزم به القائل بالتخيير كذلك.
فيبقى الاحتمال الثاني، أي عدم شموله لكلّيهما دون إشكال[٨].
لكن اختلف في هذا الدليل، فذكر الشيخ الأنصاري[٩] وتبعه بعض المتأخّرين[١٠] أنّ هذا مبني على القول بالطريقية في حجّية الأمارات (كما هو رأي المشهور) أمّا على القول بالسببية والموضوعية فإنّ التعارض هنا يدخل في باب التزاحم، فينبغي ترجيح أحدهما أو التخيير بينهما.
وفصّل المحقّق الخراساني بنحو آخر[١١]، وذهب المحقّق النائيني إلى أنّ هذا واضح بناءً على السببية الموافقة للتصويب إذا كان التعارض لأجل تضادّ المتعلّقين أمّا إذا كان لأجل اتّحاد المتعلّقين فممنوع[١٢].
إلاّ أنّ البعض الآخر ذهب إلى عدم الفرق هنا بين ما إذا فسّرنا الحجّية بالطريقية المحضة أو السببية بمختلف أنحائها حتّى المنسوبة إلى الأشاعرة[١٣]، بل عدّ دخول التعارض هنا في التزاحم مستحيلاً؛ إذ التزاحم عبارة عن كون المكلّف عاجزا في مقام الامتثال مع صحّة كلّ واحد من التكليفين في مقام الجعل، واجتماع التكليفين في المقام محال؛ لأنّ ذلك يستلزم اجتماع المصلحة وعدمها في شيء واحد، سواء عجز المكلّف عن الامتثال أم لم يعجز[١٤].
يردّ الشهيد الصدر الدليل المزبور ويذهب إلى إمكانية الالتزام بالاحتمال الرابع دون لزوم محذور[١٥]، وبرغم أنّه يذهب إلى كون الأصل الأوّلي هنا هو التساقط لكنّ طريقة استدلاله تختلف، إذ يذهب إلى إمكانية التخيير والترجيح أو التساقط حسب اختلاف فروض التعارض، وبعد تفصيلات وتفريعات كثيرة[١٦]، يخرج بالنتيجة التالية: دليل الحجّية العام إن كان لفظيا تعبّديّا وكان التنافي بين الدليلين بنحو التناقض فيكون الحكم التساقط، وإذا كان التنافي بينهما بنحوالتضاد فالحكم عندئذٍ هو حجّية الدليلين في الجملة، وينتج عن ذلك نفي دليل ثالث، أمّا إذا كان التعارض بينهما عرضيا فالحكم هو إعمال كلا الدليلين في مدلوليهما المطابقيين في خصوص ما إذا علم بصدق أحدهما وكانا إلزاميين...[١٧]
لكن عمليا يذهب في مجال الأدلّة الظنّية، مثل الخبرين، إلى أنّ دليل حجّيتهما العام ليس لفظيا تعبّديا، بل لبيّا مثل السيرة العقلائية، فالأصل الأوّلي في التعارض عندئذٍ هو التساقط دون شيء آخر؛ لأنّ هذا مقتضاهما عند التعارض، ولم تنعقد الحجّية ولم تبنَ على ارتكاز يقتضي الحجّية في حالة التعارض[١٨].
الأصل الثانوي في التعارض المستقر
يتأتّى الأصل الثانوي بعد حالة حصول علم خارجي لدينا بعدم تساقط الدليلين أو بحجّية أحدهما.
وأهمّ الآراء في هذا المجال هي:
الرأي الأوّل: الترجيح وفق أحد المرجّحات وإن فقدت فيُعمل التخيير. وهو رأي المشهور.
استدلّ على هذا الرأي باُمور:
1 ـ الإجماع وسيرة العلماء في العمل وفق المرجّحات عند حصول التعارض، ونسب إلى الصحابة والسلف[١٩].
لكن ردّ هذا الدليل بأنّ الكثير من العلماء لم يتعرّضوا لهذا البحث، فلا يمكن القول بحصول الإجماع هنا ، أو كون الإجماع مدركيا، مدركه الأخبار، فلا يكون حجّة.
2 ـ الدليل العقلي، وقد بيّن بأنحاء:
منها: إذا تعارض الظنّان وكان أحدهما أرجح من الآخر يتعيّن العمل بالراجح عرفا، فكذا شرعا.
منها: لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح، مع أنّه يقبح العمل بالمرجوح.
3 ـ تقرير النبي(ص) معاذا لمّا بعثه قاضيا إلى اليمن في ترتيب الأدلة وتقديم بعضها على بعض[٢٠].
4 ـ الروايات الكثيرة التي لا تخلو من نقاشات[٢١]، نذكر نموذجين منها:
النموذج الأوّل: مقبولة عمر بن حنظلة والتي جاء فيها: قال: سألت أبا عبداللّه عليهالسلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في ديْن أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلُّ ذلك؟ قال(ص): «مَن تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت...» قلتُ: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران مَن كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإنّي جعلتُه عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ...» قلتُ: فإن كان كلّ واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يُلتفت إلى ما يحكم به الآخر». قال: فقلتُ: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال: فقال: «يُنظر إلى ما كان من روايتيهما عنّا في ذلك الذي حكما به المُجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حُكمنا ويُترك الشاذُ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة أمر بيّن رُشده فيتّبع وأمرٌ بيّن غيّه فيُجتنب وأمرٌ مشكل يُردّ حُكمه إلى اللّه. قال رسول اللّه(ص): حلالٌ بيّن وحرامٌ بيّن وشبهات بيْن ذلك، فمَن ترك الشبهات نجا...» قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاتُ عنكم؟ قال: «يُنظر فما وافق حُكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويُترك ما خالف حُكمه حُكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة». قلت: جُعلت فداك، إن رأيت أن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: «ما خالف العامّة ففيه الرشاد». فقلتُ: جعلتُ فداك، فإن وافقهما الخبران جميعا؟ فقال: «يُنظر إلى ما هُم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيُترك ويؤخذ بالآخر» قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات»[٢٢].
وهي ظاهرة في وجوب الترجيح.
لكن أشكل على الاستدلال بها في موارد:
الأوّل: كون سندها ساقطا لعدم ورود توثيق لعمر بن حنظلة.
وردّ هذا الإشكال بأنّ المشهور عمل بها فيجبر ضعف سندها، أو أنّه يمكن توثيق من نقل عنه بعض العدول مثل صفوان بن يحيى، حيث إنّه نقل عن عمر بن حنظلة، وقد تكون هناك وجوه اُخرى لتصحيح السند.
الثاني: كون موردها اختلاف الحكمين في مستند حكمهما، ولا تشمل تعارض الروايات في مقام الفتوى.
ردّ هذا الإشكال بردود:
منها: إنّ التخيير والترجيح مطروح في المسائل الأصولية، والأخير (الترجيح) يعني اعتبار الراجح حجّة شرعية وطريقا محرزا إلى الواقع، وبهذا لا يفرّق بين باب الحكومة وباب الفتوى.
منها: كون صدر الرواية «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا» مطلق وكأنّه بصدد بيان الوظيفة الكلّية عند تعارض الأخبار.
الثالث: ذيل الرواية «إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك» ظاهر في كون الترجيح يختصّ بزمن الحضور، فلا دليل على لزوم الترجيح في زمن الغيبة.
وردّ هذا بأنّ اختصاص التوقّف وعدم العمل بهما في زمن الحضور لا يعني اختصاص الترجيح بكلّ أصنافه في عهد الحضور.
الرابع: كونها معارضة برواية سماعة بن مهران التي جاء فيها: قلتُ لأبي عبد الله عليهالسلام يرد علينا حديثان، واحد يأمرنا بالأخذ به، والآخر ينهانا؟ قال عليهالسلام: «لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأل». قلت: لا بدّ أن يعمل بواحد منهما، قال: «خذ بما فيه خلاف العامّة»[٢٣].
ووجه المعارضة أنّ المقبولة تأمر بالتوقّف بعد فقد المرجّحات، بينما الأخيرة تأمر بالترجيح بعد عدم إمكان التوقّف، لحضور وقت العمل أو ما شابه.
ردّ هذا الإشكال بأنّ الأصحاب تركوا العمل بروايه سماعة وأعرضوا عنها، وإعراضهم يضعّفها، بينما تقوى المقبولة بعملهم وفقها[٢٤].
النموذج الثاني: مرفوعة زرارة التي رواها ابن أبي الجمهور الإحسائي في (غوالي اللئالئ) عن العلاّمة مرفوعا إلى زرارة قال: سألتُ أبا جعفر عليهالسلام فقُلتُ له: جُعلت فداك، يأتي عنكم الخبران والحديثان المعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال: «يا زرارة، خُذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر». فقلت: يا سيّدي، إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال: «خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك». فقلت: إنّهما معا عدلان مرضيان موثّقان؟ فقال: «أنظر ما وافق منهما العامّة فاتركه وخذ بما خالف، فإنّ الحقّ فيما خالفهم». قلت: رُبّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال: «إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر». قلتُ: إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال: «إذا فتخيّر أحدهما فتأخذُ به ودع الآخر»[٢٥].
وهي كسابقتها ظاهرة في الترجيح.
لكن أشكل عليها بعدّة إشكالات:
منها: كون السند ضعيفا ساقطا عن الاعتبار بسبب الرفع، ومع أنّ صاحب (غوالي اللئالئ) نقلها عن العلاّمة إلاّ أنّها غير موجودة في كتبه حسب تتبّع البعض.
ولذلك أسقطها البعض مثل الشهيد الصدر عن الاعتبار، بينما سعى البعض الآخر لتبرير صحّة العمل بها؛ باعتبار كونها موافقة لسيرة العلماء.
منها: العمل بالمرفوعة يقتضي عدم العمل بها، حيث إنّها معارضة بالمقبولة من حيث تقديمها الشهرة على صفات الراوي، مع أنّ المقبولة تقدّم الصفات على الشهرة، وبناءً على هذه المرفوعة ينبغي تقديم المقبولة على المرفوعة؛ لأنّها المشهورة في هذا الباب.
لكن ردّ الإشكال الأخير بأنّه لا تعارض بين الروايتين؛ باعتبار كون صدر المقبولة ورد في باب الحكم والفتوى لا الخبرين المتعارضين، والمتعلّق بباب تعارض الخبرين هو: «ينظر إلى ما كان من روايتيهما المجمع عليه...» وأوّل المرجّحات في هذا المقطع هو الشهرة كما هو الحال في المرفوعة، ولأجل هذا اعتبرها المحقّق النائيني مؤيّدة للمقبولة[٢٦].
وهناك روايات اُخرى وردت في هذا الباب، تأتي ذيل بحث الترجيح، استدلّ بها على هذا الرأي.
الرأي الثاني: عدم لزوم الترجيح وجواز التخيير في اختيار أيّهما شاء. نسب إلى القاضي وأبي علي وأبي هاشم[٢٧]، كما نسب إلى الجبائيين من المعتزلة وحكي عن أهل الظاهر وغيرهم[٢٨]، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني[٢٩].
استدلّ على هذا الرأي بأدلّة نقلية وباعتبارات كذلك:
منها: الآية: «فاعتبروا يا أولى الأبصار»[٣٠] وذلك من باب أنّ الأمر بالاعتبار مطلق ويشمل العمل بالمرجوح، فإنّه اعتبار كذلك، أي أنّه يجب أن يعتدَّ به في الاستدلال على الحكم.
رُدّ هذا بأنّ الاعتبار نظر، والنظر والتأمُّل يفيد العمل بالراجح.
منها: الأمارات لا تزيد على البيّنات شيئا، والترجيح غير معتبر فيها، فكذلك في الأمارات.
وردّ هذا بأنّا لا نسلّم عدم الترجيح في البيّنات[٣١].
واستدلّ عليه المحقّق الخراساني بتقسيم روايات الباب إلى أربعة:
1 ـ ما دلّ على التخيير مطلقا.
2 ـ ما دلّ على التوقّف مطلقا.
3 ـ ما دلّ على الأخذ بما هو الأحوط منهما.
4 ـ ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجّحات منصوصة.
ورفض دلالة هذه الروايات على لزوم الترجيح، وقال بدلالتها على تمييز الحجّة عن اللاحجّة من الروايات وليست في مقام بيان الترجيح بشهادة قوله: «إنّه زخرف وباطل أو لم نقله أو اضربوه على الجدار». مضافا إلى ضعف سند أهمّ روايات هذا الباب، وهما مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة، فتُحمل على استحباب الترجيح.
كما رفض دليل الإجماع على الترجيح بانخرامه بذهاب الكليني إلى التخيير، من خلال ما رود في ديباجته في كتاب (الكافي)[٣٢].
كما رفض الدليل العقلي الذي أورده المشهور بأنّ وجوب الترجيح خاصّ بما إذا كانت هناك مزية توجب تأكيد الملاك في نظر الشارع[٣٣].
نسب إلى المشهور رفض استدلالات المحقّق الخراساني المزبورة، فالسيّد الخوئي يقسّم الروايات الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب والسنّة إلى طائفتين:
الاُولى: التي ورد فيها تعابير من قبيل «اضربوه على الجدار أو باطل». والمراد من المخالفة هنا بنحو لا يمكن الجمع بينها وبين الكتاب والسنّة بجمع عرفي، بأن كان بينها تباين أو عموم وخصوص من وجه، أي أنّ المخالفة ليست من قبيل المخالفة في التخصيص والتقييد، وإلاّ فإنّ الكثير من الآيات مخصّصة بالروايات، وتفاصيل الكثير من أحكام القرآن نتلقّاها من السنّة.
الثانية: التي وردت في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر، وورد فيها تعابير من قبيل: «فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه...». وقد وردت هذه الطائفة لترجيح أحد الخبرين على الآخر لا لبيان الحجّة عن اللاحجّة، ولأجل ذلك قدّم الإمام الترجيح بالشهرة في المقبولة على الترجيح بموافقة الكتاب، وإلاّ لم يكن وجه للتقديم ولكان الخبر المشهور المخالف لعموم الكتاب غير حجّة في نفسه، فكيف يقدّمه الإمام على الشاذ الموافق لعموم الكتاب، كما هو مقتضى اطلاق المقبولة. فالمراد من المخالفة هنا المخالفة بنحو التخصيص والتقييد.
كما أنّ المحقّق الخراساني ركّز في ردّه على المقبولة والمرفوعة، بينما روايات الترجيح غير مقتصرة على هذين الاثنين.
كما رفض ذهاب الكليني إلى التخيير؛ لأنّه يبدو من ظاهر عبارته غير ما فهمه المحقّق الخراساني[٣٤].
الرأي الثالث: التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية. نسب هذا الرأي إلى الفقهاء، واستدلّ عليه باُمور اعتبارية من قبيل: كون التخيير يلزم الترجيح بلا مرجّح، وهو قول بالتشهّي في الدين، كما أنّه يلزم القول بالتخيير للمفتين والحكّام الشرعيين، وعندئذٍ يلزم أن يكون العامي في تخيير وفسحة دائما[٣٥].
وهناك آراء تفصيلة اُخرى وردت في هذا المضمار، من قبيل: القول بالتخيير إن كان التعارض في الواجبات؛ لأنّ التعارض هنا غير ممتنع، ويحكم بالتساقط إن كان التعارض بين الواجب والإباحة أو التحريم.[٣٦]
الهوامش
- ↑ . مصباح الأصول 3: 365.
- ↑ . غوالي اللئالئ 4: 136.
- ↑ . تمهيد القواعد: 283 ـ 284 القاعدة السابعة والتسعون.
- ↑ . كتاب التعارض: 127 ـ 128.
- ↑ . مقالات الأصول 2: 471 ـ 473، فوائد الأصول 4: 755 الهامش 1، بحوث في علم الأصول (الهاشمي) 7: 256.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 257.
- ↑ . كفاية الأصول: 441، مصباح الأصول 3: 365، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 237، المحكم في أصول الفقه 6: 133.
- ↑ . مصباح الأصول 3: 365 ـ 366.
- ↑ . فرائد الأصول 4: 37 ـ 38.
- ↑ . مصباح الأصول 3: 370.
- ↑ . كفاية الأصول 439 ـ 440.
- ↑ . فوائد الأصول 4: 759 ـ 760.
- ↑ . المحكم في أصول الفقه 6: 136 ـ 137.
- ↑ . مصباح الأصول 3: 372.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 238.
- ↑ . المصدر السابق: 238 ـ 255.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 255 ـ 256.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 255 ـ 256.
- ↑ . الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 460.
- ↑ . نهاية الوصول 5: 286 ـ 287، المحصول الرازي 2: 443 ـ 444، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 463 وما بعدها، البحر المحيط 6: 130 ـ 131 ، المحكم في أصول الفقه 6 : 165 ـ 166، أنوار الأصول 3 : 502 ـ 503.
- ↑ . كتاب التعارض: 238 ـ 270، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 315 ـ 392، المحكم في أصول الفقه 6: 167 ـ 173.
- ↑ . وسائل الشيعة 27: 107، كتاب القضاء الباب 9 من أبواب صفات القاضي، باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفية العمل بها ح 1.
- ↑ . وسائل الشيعة 27: 122 كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 42.
- ↑ . فوائد الأصول 4: 771 ـ 773، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 367 ـ 389، أنوار الأصول 3: 486 ـ 491.
- ↑ . غوالي اللئالئ 4: 133، أنوار الأصول 3: 492.
- ↑ . فرائد الأصول 4: 68 ـ 70، فوائد الأصول 4: 773 ـ 774، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 370، أنوار الأصول 3: 492 ـ 493.
- ↑ . الفائق 2: 337.
- ↑ . التعارض والترجيح في الأدلّة الشرعية 2: 219 ـ 220، بحوث في التعارض: 32.
- ↑ . كفاية الأصول: 442 ـ 446.
- ↑ . الحشر: 2.
- ↑ . إرشاد الفحول 2: 375، التعارض والترجيح في الأدلّة الشرعية 2: 220 ـ 222، بحوث في التعارض: 32 ـ 36.
- ↑ . الكافي الكليني 1: 9. حيث يقول بعد ما أورد كلام الإمام «خذوا بالمجمع عليه»: فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، ونحن لا نعرف من ذلك إلاّ أقلّه، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام...
- ↑ . كفاية الأصول: 442 ـ 446.
- ↑ . مصباح الأصول 3: 407 ـ 409، نهاية الدراية في شرح الكفاية 5 ـ 6: 324.
- ↑ . المحصول الرازي 2: 506، الفائق 2: 337.
- ↑ . الإبهاج في شرح المنهاج 3: 214.