النكاح: النكاح مستحب مؤكد لمن يمكنه فعله، ولا يخاف بتركه الوقوع في محرم وإلا وجب. قال الله تعالى: «فانكحوا ما طاب لكم من النساء» [١]؛ «وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم»[٢]. وأقل مراتب الأمر الاستحباب، وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «من رغب عن سنتي فليس مني، وإن من سنتي النكاح».[٣] فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) بطريق أهل البيت (عليهم السلام) أنه قال: «ما استفاد امرء مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله».[٤] وللنكاح في الفقه الإسلامي شروط و أحكام سنذکرها تطبیقاً علی فقه الإمامية و الشافعية و الحنفية.

كتاب النكاح

نحتاج أولا أن نبين من يحرم نكاحه، ثم نبين أقسام النكاح المباح وشروطه، والأسباب الموجبة لتحريم الوطئ بعد صحة العقد، وما يتعلق بذلك كله من الأحكام، فنقول: من يحرم العقد عليهن على ضربين: أحدهما يحرم على كل حال، والثاني يحرم في حال دون حال.

المحرمات بالنسب والرضاع

فالضرب الأول المحرمات بالنسب. وهنّ ست: الأم وإن علت، والبنت وإن نزلت، والأخت، وبنت الأخ والأخت وإن نزلتا، والعمة والخالة وإن علتا، بلا خلاف.
والمحرمات بالرضاع، وهن ست أيضا كالمحرمات بالنسب، إلا أن الراضع من لبن المرأة يحرم عليه كل من ينتسب إلى بعلها بالولادة والرضاع، ولا يحرم من ينتسب إلى المرأة إلا بالولادة دون الرضاع. ولا يقتضي التحريم الرضاع إلا بشروط: منها: أن يكون سن الراضع والمرتضع من لبنه دون الحولين. [٥]
إذا حصل الرضاع المحرم، لم يحل للفحل نكاح أخت هذا المولود المرتضع بلبنه، ولا لأحد من أولاده من غير المرضعة ومنها، لأن الإخوة والأخوات بمنزلة أولاده. وخالف جميع الفقهاء في ذلك. [٦]

نشر حرمة الرضاع

وتنتشر حرمة الرضاع إلى أم المرضعة والفحل، فيصير الفحل بالمرضع، وأبوه جده، وأمه جدته وأخته عمته، وأخوه عمه وكل ولد له فهم إخوة لهذا المرضع، وبه قال علي (عليه السلام)، وابن عباس، وفي الفقهاء مالك و أبو حنيفة و الشافعي وأحمد، وذهب قوم إلى أن لبن الفحل لا ينشر الحرمة، ولا يكون من الرضاع أب، ولا عم، ولا عمة، ولا جد، ولا أخ لأب. ولهذا الفحل أن يتزوج التي أرضعتها زوجته وهم ابن عمر وابن الزبير وربيعة بن أبي عبد الرحمن[٧] أستاد مالك، وحماد بن أبي سليمان[٨] أستاد أبي حنيفة، وابن علية[٩] وهو أستاد الأصم، وأهل الظاهر وهم داود وشيعته.
لنا مضافا إلى إجماع الإمامية ما روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: يا رسول الله هل لك في ابنة عمك بنت حمزة فإنها أجمل فتاة في قريش؟ فقال (عليه السلام): أما علمت أن حمزة[١٠] أخي من الرضاعة، وأن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب.
وما روي عن عائشة، أنها قالت: دخل علي أفلح أخو أبي القعيس[١١] فاستترت منه، فقال: تستترين مني وأنا عمك؟ فقلت: من أين؟ فقال: أرضعتك امرأة أخي قلت: إنما أرضعتني امرأة ولم يرضعني الرجل، فدخلت على رسول الله فحدثته، فقال: إنه عمك فليلج عليك. وهذا نص في المسألة، فإنه أثبت الاسم و الحکم. [١٢]
والرضاع إنما ينشر الحرمة إذا كان الولد صغيرا، وإن كان كبيرا لم ينشر الحرمة، وبه قال عمرو بن العاص[١٣] و ابن عباس و ابن مسعود و أبو حنيفة و الشافعي ومالك وغيرهم. وقالت عائشة: رضاع الكبير يحرم كما يحرم رضاع الصغير، وبه قال أهل الظاهر. [١٤]
لنا على ما قلنا من أن سن الراضع والمرتضع من لبنه يجب أن يكون دون الحولين، بعد إجماع الإمامية قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [١٥] لأن المراد إثبات الرضاع الشرعي، الذي يتعلق به الحرمة، بدليل أنه لا يجوز أن يريد الرضاع اللغوي، لأنه ينطلق على ما يحصل بعد الحولين وقبل تمامهما، ولا يريد نفي جوازه دونهما، أو بعدهما، لأن ذلك جائز بلا خلاف، ولا نفي الكفاية بدونها، لأن الكفاية قبل تمامها قد تحصل بلا شبهة، فلم يبق إلا ما قلناه.
ومن شروط تحريم الرضاع: أن يكون لبن ولادة لا درّ[١٦] خلافا لـ الشافعية و الحنفية فإن في الخلاصة أن الصغيرة إذا خرج من ثديها وسنها دون سن الحيض لا يتعلق به الحرمة وإن بلغت سن الحيض فنزل لها لبن تعلقت به الحرمة وإن لم تسبق ولادة.
وفي البداية: وإذا نزل للبكر لبن فأرضعته صبيا تعلق به التحريم. [١٧]
لنا بعد إجماع الإمامية قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن}[١٨] ومن لا ولد لها من النساء لا يطلق عليها اسم الوالدة فلا يتعلق برضاعها ولبنها حكم.
ومنها أن يكون مما ينبت اللحم ويشد العظم، بأن يكون يوما وليلة، أو عشر رضعات متواليات، عند بعض أصحابنا، وعند بعضهم خمس عشرة رضعة، والأول أحوط، كل رضعة منها تروي الصبي لا يفصل بينهما برضاع امرأة أخرى، بلا خلاف بين أصحابنا، ولا يثبت الرضاع بقول المرضعة، بل يفتقر ثبوته إلى بينة عادلة. [١٩]
القدر المعتبر في الرضاع أن يكون في مدة الحولين، فإن وقع بعضه خارجا عنها لم يعتبر. وقال الشافعي: إن وقع أربع رضعات في الحولين والخامسة بعدهما لم ينشر الحرمة. وبه قال أبو يوسف ومحمد. والمدة عند مالك حولان وشهر، وعند أبي حنيفة حولان ونصف: ثلاثون شهرا. وقال زفر ثلاثة أحوال. [٢٠]
وأما عدد الرضعات، فاختار الشيخ خمس عشرة رضعة. وقال الشافعي لا يحرم إلا خمس رضعات مفترقات، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن الرضعة الواحدة أو المصة الواحدة ولو كان قطرة تنشر الحرمة، وبه قال مالك.
لنا ما روي عن النبي (عليه السلام) الرضاعة من المجاعة، يعني ما سد الجوع. وقال (عليه السلام): الرضاع ما أنبت وشد العظم. [٢١]
والرضعة ما يشربه الصبي حتى يروي ولا تعتبر المصة. وقال الشافعي: المعتبر في الرضعة العادة فما يسمى رضعة اعتبر، ولم يعتبر أيضا أن لا يدخل بينهما رضاع امرأة أخرى، بل قال: لا فرق بين أن يدخل بينهما ذلك وأن لا يدخل. [٢٢]
إذا أوجر اللبن في حلقه، ووصل إلى جوفه، لم يحرم. وكذا إذا سعط باللبن حتى يخرج إلى جوفه لم ينشر الحرمة وفاقا لداود وعطاء في المسألتين وخلافا للشافعي ولباقي الفقهاء. وكذا إذا حقن المولود باللبن. وللشافعي فيه قولان: أحدهما ما قلناه وهو قول أبي حنيفة، والآخر أنه ينشر. وبه قال محمد. وكذا إذا شيب اللبن بغيره ثم سقي، غالبا كان اللبن أو مغلوبا، وشيب بجامد أو مايع، مستهلك، كان أو غير مستهلكا بدلالة قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}[٢٣] وهذه ما أرضعت.
وقال الشافعي: إنما ينشر الحرمة إذا تحقق وصوله إلى جوفه، مثل أن حلبت في قدح وصب عليه الماء، واستهلك فيه، فشرب كالماء نشر الحرمة، لأنا تحققنا وصوله إلى جوفه، وإن وقعت قطرة في جب من الماء فإنه إذا شرب بعض الماء لم ينشر الحرمة، لأنا لا نتحقق وصوله إلى جوفه إلا بشرب الماء كله. قال أبو حنيفة: إن كان مشوبا بجامد لم ينشر الحرمة، سواء كان غالبا أو مغلوبا وإن كان مشوبا بمايع نشر الحرمة إن كان غالبا، ولم ينشرها مغلوبا.
وقال أبو يوسف ومحمد: ينشر إن كان غالبا نشرها ولم ينشرها إن كان مغلوبا مستهلكا، والجامد والمائع سواء.
قالوا: فإن شيب بلبن امرأة أخرى، فالمولود عند أبي يوسف وأبي حنيفة ابن لمن غلب لبنها. وقال محمد: هو ابنهما معا. [٢٤]
ولو ارتضع بعض الرضعات حال حياتها وتمامها بعد مماتها لا ينشر الحرمة لأنه لا دليل عليه وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك: لبنها كما هو في حال حياتها. [٢٥]
إذا كانت له زوجة مرتضعة، فأرضعتها من يحرم عليه بنتها انفسخ النكاح بلا خلاف، ولا يلزمه شئ من المهر إذا لم يكن بأمره ولأنه لا دليل عليه. وقال الشافعي: يلزمه نصف المهر قياسا على المطلقة. [٢٦]
إذا كانت له زوجة كبيرة لها لبن من غيره، وله ثلاث زوجات صغار لهن دون الحولين، فأرضعت منهن واحدة بعد واحدة، فإذا أرضعت الأولى الرضاع المحرم، انفسخ نكاحها ونكاح الكبيرة، فإذا أرضعت الثانية، فإن كان دخل بالكبيرة انفسخ نكاح الثانية، وإن لم يكن دخل بها فنكاحها بحاله، لأنها بنت من لم يدخل بها، فإذا أرضعت بعد ذلك الثالثة، صارت الثالثة أخت الثانية، من رضاع، وانفسخ نكاحها ونكاح الثانية، وبه قال أبو حنيفة و الشافعي في القديم. وقال في الأم: ينفسخ نكاح الثالثة وحدها، لأن نكاح الثانية كان صحيحا بحاله، وإنما تم الجمع بينهما وبين الثانية بفعل الثالثة، فوجب أن ينفسخ نكاحها. يدل على المسألة قوله (عليه السلام): يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. [٢٧]
ولا تقبل شهادة النساء عند الإمامية إلا ما استثني. وقال أبو حنيفة لا تقبل منفردة إلا في الولادة. وقال الشافعي: تقبل على الانفراد في أربعة مواضع: الولادة والاستهلال و الرضاع والعيوب تحت الثياب. [٢٨]

المصادر

  1. النساء : الآية 3.
  2. النور : الآية 32.
  3. ابن قدامة، المغني ج 6 كتاب النكاح ص 480.
  4. حر عاملي، وسائل الشيعة، كتاب النكاح، باب 9، الحديث 10
  5. الغنية 335.
  6. الخلاف: 5 / 93 مسألة 1، من كتاب الرضاع.
  7. ابن أبي عبد الرحمان، القرشي التيمي أبو عثمان، ويقال: أبو عبد الرحمن المدني المعروف بربيعة الرأي روى عن: إسماعيل بن عمرو بن قيس، وأنس بن مالك، وبشير بن يسار وغيرهم. وروى عنه: إسماعيل بن أمية القرشي، وإسماعيل بن جعفر المدني، وغيرهما. توفي سنة (136) بالمدينة وقيل بالأنبار. تهذيب الكمال: 9 / 123 رقم 1881.
  8. واسمه مسلم الأشعري، أبو إسماعيل الكوفي الفقيه روى عن: إبراهيم النخعي، وأنس بن مالك، والحسن البصري، وروى عنه: جرير بن أيوب البجلي، وحفص بن عمر، قاضي حلب وغيرهما توفي (120). تهذيب الكمال: 7 / 269 رقم 1483.
  9. إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، أبو بشر الأسدي الكوفي ولي المظالم ببغداد في أيام هارون الرشيد ولد سنة (110) ومات (193) ودفن ببغداد. طبقات الحنابلة: 1 / 99 رقم 108.
  10. بن عبد المطلب، أبو يعلى، سيد الشهداء، عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخوه من الرضاعة، أسلم في السنة الثانية من المبعث، هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا وقتل في أحد في شوال سنة (3) وكان عمره (75) سنة. أسد الغابة: 1 / 528 رقم 1251.
  11. عم عائشة من الرضاعة. ويقال: أفلح بن أبي القعيس. أنظر الإصابة: 1 / 99 رقم 227.
  12. الخلاف: 5 / 93 مسألة 2.
  13. أبو عبد الله وأبو محمد، أسلم عام خيبر واستعمله رسول الله على عمان وسيره أبو بكر أميرا إلى الشام ثم سيره عمر في جيش إلى مصر وشهد صفين مع معاوية وهو أحد الحكمين واستعمله معاوية على مصر مات بها سنة (43). أسد الغابة: 3 / 741 رقم 3965.
  14. الخلاف: 5 / 98 مسألة 4.
  15. البقرة: 233.
  16. الغنية 336.
  17. الهداية في شرح البداية 1 / 219.
  18. البقرة: 233.
  19. الغنية 336.
  20. الخلاف: 5 / 99 مسألة 5.
  21. الخلاف: 5 / 95 مسألة 3.
  22. الخلاف: 5 / 100 مسألة 7.
  23. النساء: 23.
  24. الخلاف: 5 / 100 مسألة 8 - 11.
  25. الخلاف 5 / 104 مسألة 14.
  26. الخلاف: 5 / 104 مسألة 15.
  27. الخلاف: 5 / 105 مسألة 18.
  28. الخلاف: 5 / 105 مسألة 19.