أصول الفقه

أصول الفقه: والمراد به هو العلم بالقواعد الممهّدة التي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلّتها التفصيلية.

تعريف أصول الفقه

عُرّف علم أصول الفقه من ناحيتين:
الأولى: باعتبار كونه مركّبا إضافيا، ومعنى كونه مركبا اضافيا أنّه مركّب من كلمتين «أصول» و«فقه». فالأصل لغةً: هو أسفل الشيء[١]، أو ما يبنى عليه غيره. [٢] وقد ذكر له الفقهاء عدّة معان مثل «الراجح» و«الدليل» و«القاعدة» و«الأصل العملي» و«الأصل» الذي هو أحد أركان القياس الفقهي. [٣] والفقه لغة: هو الفهم والفطنة[٤]، ومنه قوله تعالى: «مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ»[٥] لكن عندما يضاف إليه الأصول، ويقال: «أصول الفقه» فيراد منه معناه الاصطلاحي وهو: «العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية»[٦] أو هو: «العلم الحاصل بجملة من الأحكام الفرعية بالنظر والاستدلال».[٧] وقد وقع البحث في المراد بالأصل عندما يضاف إلى الفقه، فقد ذهب التفتازاني إلى أنّ المراد هو: معناه اللغوي؛ أي اساس الفقه، وما يبني عليه الفقه؛ لأنّ مخالفة الأصل اللغوي لا يصار إليها إلاّ عند الضرورة. [٨] بينما يذهب كلّ من المرتضى[٩] والطوسي[١٠] والآمدي[١١] والنسفي[١٢] والطوفي[١٣] والإصفهاني[١٤] وغيرهم إلى أنّ المعنى الأقرب له هو الدليل، فيكون معناه مضافا إلى الفقه هو أدلّة الفقه.
الثانية: باعتبار كونه علما.
عرّف علم الأصول بعدّة تعريفات:
فقد عرّفه المشهور بأنّه: «العلم بالقواعد الممهدة التي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلّتها التفصيلية». أو ما هو قريب منه[١٥] أو تعريفه بأنّه عبارة عن: «أدلّة الأحكام ومعرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة لا من حيث التفصيل». وما هو قريب منه. [١٦] وأهمّ إشكال يوجّه إلى مثل هذه التعريفات أنّها لا تشمل الأصول العملية. العلم بالقواعد الممهدة التي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلّتها التفصيلية. [١٧] ولذا عرفه الآخوند الخراساني بأنّه: «صناعة يُعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهى إليها في مقام العمل».[١٨]
وأسلم تعريف له هو ما ذكره السيّد الصدر بأنّه: «العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصّة التي يستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلّي».[١٩]
ومن مميزات هذا التعريف أنّه يضع للمسألة الأصولية عدّة خصائص. [٢٠]
الأولى: أن تكون عنصرا مشتركا يمكن استخدامها في جميع أبواب الفقه ولا تختصّ بباب دون باب.
الثانية: أن يكون هذا العنصر من عناصر الاستدلال الفقهي الذي يقوم به الفقيه لتحديد الوظيفة تجاه الجعل الشرعي، فإذا لم يدخل هذا العنصر في الاستدلال الفقهي الذي يستفاد منه الجعل الشرعي لا تنطبق عليه ضابطة المسألة الأصولية.
الثالثة: أن يكون هذا العنصر الدخيل في الاستدلال الفقهي دليلاً على الجعل الشرعي الكلّي سواء كان لفظيا أو عقليا أو شرعيا.

ضابط المسألة الأصولية

يختلف علم الأصول عن الفقه في ضابط المسألة الأصولية التي تمتاز عن المسألة و القاعدة الفقهية، فقد ذكرت عدّة فروق في ذلك:
الأوّل: أنّ المسألة الأصولية لا تنتج إلاّ حكما كلّيا، بخلاف القاعدة الفقهية، فإنّها قد تنتج الحكم الجزئي، وانتاجها للحكم الكلّي في بعض الموارد لا يخرجها عن كونها مسألة فقهية.[٢١] وهذا ما تشير إليه كلمات الأصوليين من أنّ وظيفة الأصولي هي معرفة الحكم الكلّي لا معرفة الحكم الجزئي الفرعي من حيث كونه أصوليا، ووظيفة الفقيه هي معرفة الجزئي ولا معرفة له بالكلّي من حيث هو فقيه. [٢٢] يقول السبكي: «الأدلّة الإجمالية هي الكلّية سمّيت بذلك؛ لأنّها تعلم من حيث الجملة لا من حيث التفصيل وهي توصله بذلك إلى حكم إجمالي مثل كون كلّ ما يؤمر به واجبا وكلّ منهي عنه حراما ونحو ذلك، وهذا لا يسمّى فقها في الاصطلاح ولا توصل إلى الفقه بالتفصيل، وهو معرفة سنية الوتر أو وجوبه والنهي عن بطلان بيع الغائب أو صحّته».[٢٣]
الثاني: أنّ نتيجة المسألة الأصولية لاتتصل بعمل العامي مباشرة، وأنّ إعمالها وتطبيقها على جزئياتها من وظيفة الفقيه والمجتهد، بخلاف المسألة والقاعدة الفقهية، فإنّها من وظيفة العامي وتتعلّق بعمله مباشرة فيمكن له تطبيقها على جزئياتها بعد أخذها من الفقيه والمجتهد. [٢٤]
الثالث: أنّ المسألة الأصولية لا يتوقّف استنتاجها على قاعدة ومسألة فقهية دائما وإن توقّفت على مسألة فقهية في بعض الأحيان، بخلاف القاعدة و المسألة الفقهية فإنّها تتوقّف على القاعدة والمسألة الأصولية دائما؛ لأنّها وليدة قياس استنباط كبراه قاعدة ومسألة أصولية. [٢٥]

ضرورة وجود موضوعٍ لكلّ علم

وقع البحث بين الأصوليين في ضرورة وجود موضوع لكلّ علم، فقد استدلّ لوجود الموضوع بدليلين:
الأوّل: أنّ الغرض من أي علم أمر واحد، فالغرض من علم الأصول هو الاقتدار على استنباط الحكم الشرعي، والغرض من علم النحو صون اللسان عن الخطأ في النطق، وهذا الغرض الوحداني يبتني على مجموع المسائل التي تبحث في العلم، وهذه المسائل متباينة في الموضوعات والمحمولات، فلابدّ وأن تكون هذه المسائل تشترك في أمر واحد تصب في تكوين هذا الغرض الوحداني، وإلاّ لزم تأثير الكثير بما هو كثير في الواحد بما هو واحد، وهو محال؛ لأن الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد، كما هو مطروح في الفلسفة، فإذا تبيّن أنّ المؤثر في تكوّن الغرض من كلّ علم هو واحد فلابدّ أن يكون هو الموضوع. [٢٦]
الثاني: أنّ تمايز العلوم إنّما يكون بتمايز الموضوعات، فلابدّ أن يكون لكلّ علم موضوع حتّى يتميّز به عن غيره. [٢٧] وفي مقابل ذلك ذهب جماعة إلى عدم ضرورة وجود موضوع لكلّ علم. [٢٨] ويذهب السيّد محمّد باقر الصدر إلى أنّ الباعث لإنكارهم ضرورة وجود موضوع لكلّ علم هو عدم إمكانهم تصوير موضوع لعلم الأصول. [٢٩]

حدود موضوع كلّ علم

وبناء على ضرورة وجود الموضوع لكلّ علم، وقع البحث في تحديد وتوصيف هذا الموضوع، وأطالوا كثيرا في ذلك، وذكر النائيني أنّه: «ربّما كتب بعضٌ في ذلك ما يقرب من ألف بيت أو أكثر».[٣٠] وقد أطلق المشهور قول أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية[٣١]، واختلف في المراد من العرض الذاتي الذي هو قبال العرض الغريب على أقوال:
الأوّل: أنّ المراد به هو ما يعرض الشيء لذاته، أي بلا واسطة في العروض ولا واسطة في الثبوت، بل ما كان يقتضيه نفس الذات ومنتزعا من مقام الهوية. [٣٢] والمراد بالواسطة في العروض: هو عروض المحمول على الموضوع بواسطة أمر خارج، مثل: نسبة الحركة إلى الجالس في السفينة، فإنّ الحركة تعرض الجالس فيها بواسطة السفينة لا من ذاته، فحركة السفينة واسطة في عروض الحركة على الجالس فيها. [٣٣] والمراد بالواسطة في الثبوت: هو ثبوت المحمول للموضوع بواسطة أمر خارج عن ذات وماهية الشيء، مثل: ثبوت الضحك للإنسان بواسطة إدراكه الكلّيات، وثبوت الحرارة للماء بواسطة مجاورته للنار. فمرادهم من العرض الذاتي هو: ما يعرض ذات الشيء من دون واسطة في الثبوت أو العروض. والإشكال الذي يتوجّه من قبل المتأخّرين على هذا التفسير للعرض الذاتي هو خروج معظم مسائل العلم عن الموضوع، فقولنا: «الفاعل مرفوع»، الرفع انما يعرض الفاعل بواسطة ثبوت الرفع له من قبل اللسان العربي ولا يقتضيه هو بذاته، وكذلك قولنا: «خبر الواحد حجّة» فإنَّ الحجّية إنّما تثبت للخبر بواسطة جعل الشارع لها لا ما يقتضيه هو بنفسه. [٣٤]
الثاني: فسّره الخراساني [٣٥] والنائيني[٣٦] بما يعرض نفس الذات بلا واسطة في العروض وإن كان لأمر لا يقتضيه نفس الذات، فعمموا الذاتي إلى كلّ ما لم تكن فيه واسطة عروضية سواء كانت هناك واسطة في الثبوت أو لا، والسبب في هذا التعميم هو الحيلولة دون خروج معظم مسائل العلم عنه، فإنَّ القول بكون «خبر الواحد حجّة» الحجّية فيه لم تعرض لذات الخبر في نفسه، بل بتوسّط الجعل الشرعي، فهناك واسطة في الثبوت، أي ثبوت الحجّية للخبر، وهذه الواسطة هي الجعل الشرعي. ويذهب كلّ من السيّد الخوئي[٣٧] و السيّد محمّد تقي الحكيم [٣٨] إلى توسعة موضوع العلم إلى ما يشمل حتّى الأعراض الغريبة لعدم وجود ضرورة تقتضي حصره بخصوص ما كان من أعراضه الذاتية مع أنّ الحاجة تقتضي توسعة موضوع العلم إلى كلّ عوارضه سواء كانت غريبة أو ذاتية.

موضوع علم الأصول

اشتهر قديما عند الشيعة الإمامية بأنّ موضوع علم الأصول هو الأدلّة الأربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.[٣٩] بينما يذهب أكثر أهل السنّة إلى أنّ أصول الفقه هي: الكتاب والسنّة والإجماع والقياس[٤٠]، وهي ـ ما عدا القياس ـ قطعية الدليلية عندهم، وربّما أضافوا أدلّة وأصولاً أخرى، مثل: الاستحسان، و المصالح المرسلة، و سد الذرائع، والعرف، و شَرعُ مَن قَبلَنا، ومذهب الصحابي. وذكروا فيها: إنّها ترجع إلى الأصول الأربعة المذكورة عندهم. [٤١] لكن تحديد الموضوع بذلك يوجب خروج أكثر مباحث علم الأصول منه، فإنّ البحث في خبر الواحد مثلاً ليس بحثا عن أحوال السنّة، بل عن ثبوت السنّة به، وهو ليس بحثا عن عوارض الموضوع، بل عن ثبوت الموضوع وهو خروج عن الموضوع. [٤٢] ولذلك التزم جماعة أخيرا بأنّ: «موضوعه هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة لا خصوص الأدلّة الأربعة»[٤٣]، أو هو: «كلّ ما كان عوارضه واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي أو ما ينتهي إليه العمل»[٤٤]، أو هو: «ما تقع نتيجة البحث عنه في طريق الاستنباط»[٤٥] أو هو: «الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي».[٤٦]
فتشمل التحديدات المذكورة لموضوع علم الأصول جميع أبحاثه ومسائله من أدلّة قطعية وظنّية، حتّى التي تعالج مرحلة الشكّ في الحكم الواقعي وعدم وجدان الدليل المعتبر والتي تعرف بالأصول العملية كالاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير عند دوران الأمر بين المحذورين. ويذهب النائيني إلى أنّه لا يلزم معرفة الموضوع بحقيقته واسمه، بل يكفي معرفة لوازمه وخواصّه. [٤٧]

غاية علم الأصول

يذكر أنّ غاية علم الأصول هي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مداركها[٤٨]، وعبّر عنها الآمدي بقوله: «بأنّها الوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية»[٤٩] فإنهّ من دون معرفة طرق وأدوات الاستنباط التي يدرسها علم الأصول لا يمكن استنباط ومعرفة الحكم الشرعي، فعلم الأصول يؤمّن لنا الآلية الصحيحة لاستخراج الأحكام الشرعية من مداركها الأصلية.
وبعبارة أخرى: «إنّ الغاية لعلم الأصول هي العلم بالوظيفة الفعلية بقول مطلق وتحصيل المؤمّن من العقاب المحتمل، سواء كان العلم بالوظيفة للعلم الوجداني بالحكم الشرعي أو للعلم التعبّدي به أو للعلم بالوظيفة المجعولة شرعا... ، أو للعلم بالوظيفة الفعلية بحكم العقل».[٥٠]

أهمّية علم الأصول

يكتسب علم الأصول أهمّيته بسبب كونه يؤمّن الوسائل والآليات لاستكشاف واستنباط الحكم الشرعي، ومن دون الاستعانة بعلم الأصول لا يمكن للفقيه أن يستنبط حكما شرعيا. [٥١]

مبادئ أصول الفقه

يحتوي علم الأصول على جملة مسائل تتبع علوما أخرى لكونها دخيلة في قياس الاستنباط الذي ينتج الحكم الشرعي، وهذه المسائل يصطلح عليها بمبادئ علم الأصول، ويذكر النائيني أنّ هذه المبادئ ليست من مباحث العلم إلاّ أنّه جرت سيرة أرباب العلوم على ذكر مبادئ كلّ علم في ذلك العلم. [٥٢]
ولذلك يذكر أنّ علم أصول الفقه يستمد من علوم أخرى كالكلام والعربية والفقه؛ أمّا وجه استمداده من علم الكلام فلتوقف معرفة الحكم الشرعي على معرفة اللّه‏ وصفاته ومعرفة رسوله وغير ذلك من مسائل علم الكلام.
وأمّا وجه استمداده من علوم العربية فلتوقّف معرفة الأدلّة اللفظية من الكتاب والسنّة على معرفة اللغة من جهة الحقيقة والمجاز و العموم والخصوص و المنطوق والمفهوم وغير ذلك.
وأمّا وجه استمداده من الفقه باعتباره مدلول الدليل وناتجا لعلم الأصول ولا يتصوّر درك الدليل من دون درك المدلول، مضافا إلى أنّ علم الأصول يحتاج إلى مزيد من الامثلة والتطبيقات في مختلف الابواب الأصولية مأخوذة من الفقه. [٥٣] إلى غير ذلك من المبادئ التي يتوقّف عليها علم الأصول والتي ترجع إلى علم الرجال والفلسفة والمنطق. واستمدَّ علم الأصول في القرون المتأخّرة من الفلسفة كثيرا، مثل: مبحث «الواحد لايصدر إلاّ من واحد»، ومبحث «أصالة الماهية»، ومبحث «أنحاء الوجود»، وغير ذلك من الأبحاث الفلسفية التي أعملت في مباحث أصولية كثيرة.
ويختلف الأصوليون في طريقة تعاملهم مع هذه المبادئ فبعض القدماء كانوا يتطرقون إلى المبادئ الكلامية وطرق الاستدلال كالطوسي[٥٤] والغزالي[٥٥] والآمدي[٥٦]، إلاّ أنّ السيّد المرتضى لم يرتض ذلك واعتبر الكلام فيها خارجا عن علم الأصول أصلاً. [٥٧]
ومع ذلك درجوا على ذكر مباحث الألفاظ، بل التوسّع فيها إلى نظريات ومباحث لم تكن موجودة في علوم اللغة أصلاً.
ويذكر السيّد محمّد تقي الحكيم أنّ هذه المبادئ التي تقع موقع الصغرى في قياس الاستنباط ليست من علم الأصول؛ لأنّ المسألة الأصولية هي خصوص الكبرى، وأمّا الصغرى فهي خارجة عن علم الأصول ، ولذا يجب الاقتصار فيها إلى مقدار ما تمس الحاجة وعدم التوسّع فيها. [٥٨]
وجود هذه المبادئ في علم الأصول إنّما هو لأجل كونها مفيدة في قياس الاستنباط، ولذا يذكر الشاطبي أنّه: «كلّ مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية، والذي يوضّح ذلك أنّ هذا العلم لم يختصّ بإضافته إلى الفقه إلاّ لكونه مفيدا له ومحقّقا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك فليس بأصل له، ولا يلزم على هذا أن يكون كلّ ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه وإلاّ أدّى ذلك أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه كعلم النحو واللغة والاشتقاق والتصريف والمعاني والبيان والعدد والمساحة والحديث وغير ذلك من العلوم التي يتوقّف عليها تحقيق الفقه وينبني عليها من مسائله، وليس كذلك، فليس كلّ ما يفتقر إليه الفقه يعدُّ من أُصوله، وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل تكلّم عنها المتأخّرون وادخلوها فيها، كمسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا؟ ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي(ص) متعبدا بشرع أم لا؟ ومسألة لا تكليف إلاّ بفعل، كما أنّه لا ينبغي أن يعدّ منها ما ليس منها ثُمّ البحث فيه في علمه وإن انبنى عليه الفقه، كفصول كثيرة من النحو، نحو معاني الحروف، وتقاسيم الاسم والفعل والحرف، والكلام على الحقيقة والمجاز، وعلى المشترك والمترادف والمشتقّ وشبه ذلك».[٥٩]

أصول الفقه وأدلّته هل هي قطعية أم ظنيّة؟

يذهب أصوليو الشيعة الإمامية إلى أنّ أصول الفقه وأدلّته يجب إمّا أن تكون قطعية أو مستندة إلى القطع «لأنّ طريقية كلّ شيء لابدّ وأن تنتهي إلى العلم، وطريقيّة العلم لابدّ وأن تكون ذاتية له؛ لأنّ كلّ ما بالغير لابدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات وإلاّ لزم التسلسل».[٦٠]
فكلّ دليل وأصل من أصول الفقه إن لم يكن قطعيا لابدّ أن يقوم الدليل القطعي عليه: «فالعلم إذا هو مصدر الحجج وإليه تنتهي، وكلّ ما لا ينتهي إليه لا يصحّ الاحتجاج به ولا يكون قاطعا للعذر».[٦١]
المقياس في الحجّية وعدمها فيما يتعلَّق بأصول الفقه هو القطع فـ «الدليل إذا كان قطعيا فهو حجّة على أساس حجّية القطع، إذا لم يكن كذلك فإن قام دليل قطعي على حجّيته أخذ به، وأمّا إذا لم يكن قطعيا وشكّ في جعل الحجّية له شرعا مع عدم قيام الدليل على ذلك فالأصل فيه عدم الحجّية».[٦٢] هذا عند الشكّ في الحجية، ولذلك اشتهر عندهم قول: «الشكّ في الحجّية مساوق للقطع بعدم الحجّية»[٦٣] ونحوه. أو قول: «الأصل عند الشكّ في الحجّية عدم الحجّية».[٦٤]
وقد دلّ العقل والنقل على عدم جواز العمل بالظنّ، وأنّ الاعتماد عليه حرام. [٦٥]
أمّا أصوليو أهل السنّة فلحجّية أصول الفقه الظنّية باب واسع عندهم، ولذلك التمسوا حجّية كثير من الظنون، مثل: القياس المستنبط العلّة وبناء الأحكام على المصالح المرسلة أو الاستحسان أو العرف.
نعم، خالف في ذلك الشاطبي[٦٦] فذهب إلى أنّ أصول الفقه وأدلّته قطعية ولا مجال للظنّ فيها، بل لا يجوز الاستناد في الفقه إلى الظنّ، وهذه الأصول مستفادة ومستنبطة من كلّيات الشريعة وهي قطعية؛ أمّا كونها مستنبطة من كلّيات الشريعة فلإمكان استقراء جميع مسائل أصول الفقه؛ لأنّها محصورة وبعد الاستقراء نجد أنّها مبنية على كلّيات الشريعة الثلاث وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وتهدف إلى تحقيق هذا الغرض الشرعي[٦٧] وأمّا كونها قطعية؛ فلأنّ كليات الشريعة الثلاث ترجع إمّا إلى أحكام العقل وهي قطعية لا يشوبها شكّ، وإمّا إلى الاستقراء الكلّي من خلال ملاحظة أحكام الشارع، فإنّها وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، فما ينتج عن ذلك من أصول الفقه وقواعد فقهية تصب في هذا المضمون والمحافظة على كلّيات الشريعة. [٦٨]
وذكر الشاطبي أنّه لا يصحّ أن تكون أصول الفقه ظنيّة؛ لأنّه لا يجوز رجوع الظنّ إلى أمر عقلي ولا يجوز رجوعه إلى كلّيات الشريعة؛ لأنّ تعلّقه بها معناه رجوع الظنّ إلى أصل الشريعة وهو ينافي الحفظ الذي أخبر به تعالى بقوله: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»[٦٩]، وقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»[٧٠]. فالآيات القرآنية تشير إلى حفظ أصول الشريعة التي نصّ عليها الشارع وكلّ ما يتضمّن ذلك.[٧١]
هذا فيما يتعلّق بأصل الكبرى المدعاة في أنّ أصول الفقه حيث يجب أن تكون قطعية ولا يجوز افتراض الظنّ فيها. أمّا فيما يتعلّق بمسلكه إلى إثبات قطعية أصول الفقه، كلّ أصل بمفرده وعلى حدة، فهو يقترح منهج الاستقراء وتجميع الظنون كطريق إلى إثبات قطعية أي أصل من أصول الفقه، فيقول: «وإنّما الأدلّة المعتبرة هنا، المستقرأة من جملة أدلّة ظنّية تضافرت على معنى واحد حتّى أفادت فيه القطع، فإنّ للإجماع من القوّة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل في استقراء أدلّة المسألة مجموعها يفيد العلم فهو الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي، بل هو كالعلم بشجاعة علي رضى‏الله‏عنه، وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما»[٧٢]، فمثلاً الأدلّة الدالّة على حجّية خبر الواحد أو الإجماع أو القياس إذا نظرنا إليها كلّ دليل على حدة وبمفرده فهو دليل ظنّي لا يفيد القطع بحجّية المذكورات، وأمّا إذا نظرنا إلى مجموعها، فإنّه سوف يحصل القطع بحجّيتها. [٧٣]
وعلى ضوء هذا المنهج استشكل في اشكال جماعة على بعض الأدلّة المقامة على بعض الأصول ومناقشتها دليلاً دليلاً، ويذكر أنّه إذا اتبعنا منهج هؤلاء لم يسلم لنا أصل من أصول الفقه ولم يحصل لنا قطع بأي حكم شرعي البتة، بل لابدّ من ملاحظة مجموع الأدلّة لا كلّ دليل على حدة، فإنّه وحده لا يفيد إلاّ الظنّ. [٧٤]
ولذلك استشكل في عدّ جماعة الإجماع من الأدلّة الظنّية باعتبار أنّهم لاحظوا كلّ دليل من الأدلّة المقامة على حجّيته بمفرده ولم يلاحظوا المجموع[٧٥]. وعلى ضوء المنهج المذكور صحّح الشاطبي الرجوع إلى المصالح المرسلة باعتبار رجوعها إلى كلّيات الشريعة وملائمة لتصرّفات الشارع ومأخوذة من معناه وأدلّته، وملاحظة مجموع الأدلّة التي أقيمت على اعتبار تلك المصالح. [٧٦]

المصادر

  1. لسان العرب 1: 106 مادة «أصل».
  2. تاج العروس 14: 18 مادة «أصل».
  3. أنظر: شرح مختصر المنتهى ابن الحاجب 1: 5، الأصول العامة للفقه المقارن: 35.
  4. لسان العرب 3: 3065 مادة «فقه».
  5. هود: 91.
  6. بدائع الأفكار الرشتي: 6.
  7. الإحكام «الآمدي» 1 ـ 2: 8.
  8. التلويح إلى كشف حقائق التنقيح 1: 28.
  9. الذريعة 1: 7.
  10. العدّة في أصول الفقه 1: 7.
  11. الإحكام 1 ـ 2: 8، 10.
  12. كشف الأسرار 1: 9.
  13. شرح مختصر الروضة 1: 111.
  14. الفصول الغروية: 9.
  15. أنظر: منتهى الوصول ابن الحاجب: 3، كشف الأسرار (النسفي) 1: 9، شرح مختصر الروضة 1: 120، شرح مختصر المنتهى 1: 4، زبدة الأصول (البهائي): 41، الفصول الغروية: 9، أصول الفقه (الخضري): 13.
  16. أنظر: المستصفى 1: 9، المحصول 1: 11، روضة الناظر: 4، الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 8، منتهى السول: 8، منهاج الوصول: 210، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 1: 66، الوافية: 59.
  17. أنظر: بحوث في علم الأصول (الهاشمي) 1: 20.
  18. كفاية الأصول: 9.
  19. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1: 31، دروس في علم الأصول 2: 18.
  20. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1: 31 ـ 32.
  21. فوائد الأصول 1 ـ 2: 19 و4: 308.
  22. أنظر: الذريعة 1: 7 ـ 8، العدّة في أصول الفقه الطوسي 1: 7، المحصول (الرازي) 1: 11، الإحكام (الآمدي) 1: 8.
  23. الإبهاج في شرح المنهاج 1: 23.
  24. فوائد الأصول 4: 309، الأصول العامة للفقه المقارن: 39.
  25. التوضيح شرح التنقيح 1: 53، التلويح إلى كشف حقائق التنقيح 1: 53 ـ 55، فوائد الأصول 1 ـ 2: 19، مصباح الأصول 1 ق 1: 20، الأصول العامة للفقه المقارن: 39.
  26. أنظر: مصباح الأصول 1 ق 1: 25، بحوث في علم الأصول الهاشمي 1: 38.
  27. أنظر: بحوث في علم الأصول الهاشمي 1: 40.
  28. مصباح الأصول 1 ق 1: 31، أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 51.
  29. دروس في علم الأصول 2: 19 ـ 21.
  30. فوائد الأصول 1 ـ 2: 20.
  31. الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 8، تيسير التحرير 1: 18، هداية المسترشدين 1: 108، الفصول الغروية: 10، إرشاد الفحول 1: 33، كفاية الأصول: 7، فوائد الأصول 1 ـ 2: 20.
  32. أنظر: فوائد الأصول 1 ـ 2: 20 ـ 21.
  33. أنظر: فوائد الأصول 1 ـ 2: 20.
  34. أنظر: فوائد الأصول 1 ـ 2: 20 ـ 21، منتهى الدراية 1: 17.
  35. كفاية الأصول: 7.
  36. فوائد الأصول 1 ـ 2: 21.
  37. مصباح الأصول 1 ق 1: 34.
  38. الأصول العامة للفقه المقارن: 10 ـ 11.
  39. الفصول الغروية: 11، القوانين المحكمة: 5.
  40. أنظر: كشف الأسرار النسفي 1: 9، شرح مختصر الروضة 1: 123، أصول البزدوي 1: 62.
  41. أنظر: نور الانوار 1: 15 ـ 16.
  42. أنظر: كفاية الأصول: 8.
  43. كفاية الأصول: 8.
  44. فوائد الأصول 1 ـ 2: 28.
  45. مصباح الأصول 1 ق 1: 40. وذكر ابن الهمام أنّ موضوعه هو: «الدليل السمعي الكلّي من حيث يوصل العلم بأحواله إلى قدرة إثبات الأحكام لأفعال المكلّفين»، وعلل الشارح ذلك بكونه مفهوما واحدا وأقرب للضبط، ولم يعلل ذلك بما عليه اليوم متأخّري الأصوليين. تيسير التحرير 1: 18.
  46. بحوث في علم الأصول الهاشمي 1: 52.
  47. فوائد الأصول 1 ـ 2: 29.
  48. فوائد الأصول 1 ـ 2: 20.
  49. الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 9.
  50. مصباح الأصول 1 ق 1: 15.
  51. أنظر: المعالم الجديدة للأصول: 29.
  52. فوائد الأصول 1 ـ 2: 27. وأنظر: شرح مختصر المنتهى العضدي 1 : 3 ـ 4.
  53. أنظر: البرهان في أصول الفقه 1: 7، الإحكام الآمدي 1 ـ 2: 9.
  54. العدّة في أصول الفقه 1: 12 وما بعدها، 42 وما بعدها.
  55. المستصفى 1: 10 وما بعدها.
  56. الإحكام 1 ـ 2: 10 وما بعدها.
  57. الذريعة 1: 1 ـ 4.
  58. الأصول العامة للفقه المقارن: 38.
  59. الموافقات 1: 42 ـ 44.
  60. فوائد الأصول 3: 7.
  61. الأصول العامة للفقه المقارن: 27.
  62. دروس في علم الأصول 2: 59.
  63. أنظر: مصباح الأصول 2: 111، محاضرات في أصول الفقه 3: 276.
  64. دروس في علم الأصول 1: 204.
  65. أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 18، الأصول العامة للفقه المقارن: 29، فرائد الأصول 1: 125 ـ 126.
  66. الموافقات 1: 29 ـ 42.
  67. المصدر السابق: 29.
  68. المصدر نفسه: 29 ـ 30.
  69. الحجر: 9.
  70. المائدة: 3.
  71. الموافقات 1: 30، 32.
  72. المصدر السابق: 36.
  73. الموافقات 1: 37.
  74. المصدر السابق.
  75. المصدر نفسه: 41.
  76. المصدر نفسه: 39.