أحكام المياه

أحكام المياه: الماء هو الجسم السيّال الطاهر لذاته والمطهّر لغيره، قال الله تعالی: «وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً»، وللماء في الفقه الإسلامي أحکام يختص به نذکرها في هذا المقال. ومنهجنا في هذا المجال طرح آراء الإمامية اولاً ثم نأتي بآراء فقهاء الحنفية و الشافعية.

أحكام المياه

الماء على ضربين جار وراكد وكلاهما طاهر ومطهر ما لم تخالطه نجاسة بلا خلاف، فإن خالطته وهو جار ولم يتغير أحد أوصافه بها، فهو طهور، فإن غيرته فالمقدار المتغير نجس، وإذا لم يتغير وليس للنجاسة أثر فهو طاهر لقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [١]
وهذا ما لم يخرجه مخالطة النجاسة عن إطلاق اسم الماء. [٢] فيجب أن يكون طاهرا، ولأن النجاسة لا تستقر مع جريان الماء.
والراكد على ضربين ماء البئر وغير البئر. وغير البئر على ضربين قليل وكثير، فالقليل ينجس بما لاقاه من النجاسة وأما الكثير فلا ينجس إلا إذا تغير أحد أوصافه من لون أو طعم أو رائحة، خلافا لأبي حنيفة فإنه ينجس عنده وإن لم يتغير أحد أوصافه قليلا كان الماء أو كثيرا.
والغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر إذا وقعت فيه نجاسة جاز الوضوء عنده من الجانب الآخر. [٣]
لنا قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [٤] واختلاط النجاسة به إذا لم يتغير لم يخرجه عن إطلاق اسم الماء عليه كما قلنا، وإذا كان كذلك وجب العمل بالظاهر، وقوله ( عليه السلام ): إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا له قوله ( عليه السلام ): لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة ، فالأمر بحفظ الماء دل على تأثر الماء به. قلنا: هذا الأمر على سبيل الندب لا على الوجوب إذا كان الماء كثيرا، ويحمل على الوجوب إذا كان قليلا.
وحد الكثير ما بلغ كرا أو زاد عليه وحد الكر وزنا ألف ومئتا رطل، خلافا للشافعي فإن الكثير عنده ما بلغ قلتين[٥]، والقلتان خمسمئة رطل برطل العراق.
لنا أنه لا خلاف في طهارة ما قلناه من الكثير فله أن يدل على طهارة ما نقص منه.
وظاهر قوله: {ويحرم عليهم الخبائث} [٦] يقتضي تحريم استعمال الماء المخالط بالنجاسة مطلقا، من غير اعتبار بالكثرة وتغير الأوصاف، وإنما يخرج من ذلك ما أخرجه دليل قاطع. [٧]
وأما ماء البئر فإنه ينجس بكل ما يقع فيها من النجاسة، قليلا كان ماؤها أو كثيرا[٨] خلافا للشافعي في الكثير. [٩]
لنا أنه قد خالطته نجاسة وكل ما خالطته نجاسة فهو نجس والتحرز عن النجاسة واجب فيجب التحرز عنه وأيضا فلا خلاف من الصحابة والتابعين في أن ماء البئر يطهر بنزح بعضه، وهذا يدل على حكمهم بنجاسته على كل حال من غير اعتبار بمقداره.
والواقع في البئر إن غير أحد أو صاف الماء ولم يكن على نزحه نص وجب نزح جميع الماء وإن كان على نزحه نص نزح إلى أن يبلغ النص، فإن زال التغير حكم بطهارته، وإن لم يزل نزح إلى أن يزول، وإن لم يغير أحد أوصافه فهو على ضربين: ما يوجب نزح الجميع أو تراوح أربعة رجال من أول النهار إلى آخره وذلك [ إذا كان له مادة يتعذر معها نزح الجميع، والضرب الآخر يوجب نزح بعضه، فما يوجب نزح الجميع أو المراوحة ] عشرة أشياء: الخمر، وكل شراب مسكر، والفقاع، والمني، ودم الحيض، والاستحاضة، والنفاس، وموت البعير فيه، وكل نجاسة غيرت أحد أوصافه ولم يزل التغير قبل نزح الجميع، وما لا نص عليه في مقدار النزح، أما الفقاع والمني فقد ذكرنا أنهما نجسان والباقي لا خلاف في نجاسته، وإذا وقع منها شئ في البئر فالنجاسة فيها معلومة ولا علم بزوالها إلا بعد نزح جميع ماء البئر.
وما يوجب نزح البعض على ضروب:
منه ما يوجب نزح كر، وهو موت الخيل فيها أو ما ماثلها في مقدار الجسم. ومنه ما يوجب نزح سبعين دلوا بالدلو المألوف وهو موت الإنسان. [١٠]
خلافا للحنفية فإنه ينزح منه جميع الماء. [١١]
ومنه ما يوجب نزح خمسين، وهو كثير الدم المخالف للدماء الثلاثة، والعذرة الرطبة أو اليابسة المتقطعة.
ومنه: ما يوجب نزح أربعين، وهو موت الشاة، أو الكلب، أو الخنزير، أو السنور، أو ما كان مثل ذلك في قدر الجسم، وبول الإنسان البالغ. [١٢] ، وعند الحنفية ينزح من الشاة والكلب جميع الماء، ومن السنور والحمامة والدجاجة ما بين أربعين إلى ستين. [١٣]
ومنه ما يوجب نزح عشر، وهو قليل الدم المخالف للدماء الثلاثة، والعذرة اليابسة غير المتقطعة.
ومنه ما يوجب نزح سبع، وهو موت الدجاجة، أو الحمامة، أو ما ماثلهما في مقدار الجسم، والفأر إذا انتفخت أو تفسخت، وبول الطفل الذي أكل الطعام[١٤]، وعندهم إذا ماتت فيها فأرة أو عصفورة أو صعوة أو سام أبرص ينزح من عشرين إلى ثلاثين[١٥]، وعند الشافعية الفأرة إذا تقطعت شعورها فالطريق أن يستقي الماء الموجود في البئر فما يحصل بعد ذلك أن رئي فيه شعر فنجس وإلا فطهور إذ الأصل طهارته. [١٦]
ومنه ما يوجب نزح ثلاث، وهو موت الفأرة إذا لم تنتفخ أو تتفسخ، والحية، والعقرب، والوزغة، وعند أصحابنا فيهما خلاف، وبول الطفل الذي لم يأكل الطعام.
ومنه: ما يوجب نزح دلو واحد وهو موت العصفور، أو ما ماثله من الطير في مقدار الجسم، و الدليل على جميع ذلك إجماع الإمامية وهو حجة لدخول قول المعصوم الذي قوله حجة فيه.
والماء المتغير ببعض الطاهرات يجوز الوضوء به ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء عليه، والمستعمل في الوضوء أو الغسل المندوب طاهر يجوز الوضوء به. [١٧]
وفي المستعمل في الغسل الواجب خلاف بين أصحابنا، وعند الشافعية طاهر غير طهور لا يجوز الوضوء به ولا الغسل، وعند الحنفية نجس حكاه أبو يوسف[١٨] عن أبي حنيفة. [١٩]
لنا قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}[٢٠] ومن ادعى أن الاستعمال يخرجه عن إطلاق اسم الماء عليه يحتاج إلى دليل، وإن من حلف أن لا يشرب ماء فشربه يحنث بلا خلاف[٢١]، ولو لم يطلق عليه اسم الماء لما حنث. ولا يجوز الوضوء بغير الماء من المايعات، نبيذ تمر كان أو ماء ورد، لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا} [٢٢] لأنه يقتضي نقلنا عن الماء إلى التراب من غير واسطة، ومن أجاز الوضوء بغير الماء، فقد جعل بينهما واسطة وزاد في الظاهر ما لا يقتضيه. [٢٣]
وقال أبو حنيفة: يجوز التوضؤ بنبيذ التمر إذا كان مطبوخا عند عدم الماء. [٢٤]
الوضوء بالماء المغصوب لا يرفع الحدث، ولا يبيح الصلاة بـ الإجماع، لأن الوضوء عبادة يستحق بها الثواب، فإذا فعل بالماء المغصوب خرج عن ذلك إلى أنه معصية يستحق بها العقاب، فينبغي أن لا يكون مجزئا، ولأن القربة في النية شرط والتقرب إلى الله تعالى بالمعصية محال.
ولا يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المايعات. [٢٥] خلافا لأبي حنيفة. [٢٦]
لنا أن حظر الصلاة وعدم إجزائها في الثوب الذي أصابته نجاسة، معلوم، فمن ادعى إجزاءها إذا غسل بغير الماء فعليه الدليل، ولا دليل في الشرع يدل عليه، وقوله ( عليه السلام ): لأسماء[٢٧] في دم الحيض يصيب الثوب ( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ) وظاهر الأمر يقتضي الوجوب. [٢٨]
والمختلط بشئ من الطاهرات التي غيرت أحد أوصافه ولم يسلبه إطلاق اسم الماء عليه يجوز التوضؤ به خلافا للشافعي. [٢٩]
لنا قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء} والواجد للماء المتغير واجد للماء. وقال أبو حنيفة: يجوز ما لم يخرجه عن طبعه وجريانه ولم يطبخ به. [٣٠]
إذا كان معه إناءان، طاهر ونجس واشتبها عليه لم يجز استعمالهما وكذلك الثياب.
ولا يجوز التحري خلافا لأبي حنيفة في التحري في الثياب، فأما الأواني فإن كان عدد الطاهر أغلب جاز التحري فيها وإلا فلا. وللشافعي مطلقا. [٣١]
لنا أن المستعمل للماء يجب أن يكون على يقين في طهارته ولا يقين له عند استعمال كل واحد منهما إذا تحرى فلا يجوز له التحري.
وأما إذا كان أحد الإناءين طاهرا والآخر طهور يتوضأ بكل واحد منهما وعند الشافعي يجوز له التحري، وقيل لا يجوز له التحري ولا التوضؤ بهما[٣٢] بمثل ما قلناه في المسألة المتقدمة.
وإذا ولغ الكلب في أحدهما واشتبها فأخبره عدل بتعينه لا يجوز له القبول خلافا للشافعي. [٣٣]
لنا أنه تيقن النجاسة ولم يتيقن الطهارة لقوله بل ظن ولا يترك اليقين بـ الظن.
وإذا ورد على ماء، فأخبره عدل بأنه نجس لا يقبل منه خلافا للشافعي فإنه قال: إذا أخبره بأنه نجس وجب القبول وإن أخبره مطلقا فلا، لنا أن أصل الماء الطهارة و الحكم بنجاسته يحتاج إلى دليل ولا يحصل العلم بقول الواحد فيحكم بطهارته إلى أن يحصل العلم بنجاسته. [٣٤]
ويكره استعمال أواني الذهب والفضة، خلافا للشافعي فإنه قال: يحرم، وأبي حنيفة في الأكل والشرب، وكذلك يكره المفضض خلافا لأبي حنيفة فإنه لا يكره عنده. [٣٥] لنا أن الأصل الإباحة إلى أن يقوم على التحريم دليل.

الهوامش

  1. الفرقان: 48.
  2. الغنية 46.
  3. الخلاف: 1 / 189 مسألة 147.
  4. الغنية: 46.
  5. الخلاف: 1 / 193 مسألة 148.
  6. الأعراف: 157.
  7. الغنية: 46.
  8. الغنية: 47.
  9. الوجيز: 1 / 5.
  10. الغنية: 47 - 48
  11. اللباب في شرح الكتاب: 1 / 26.
  12. الغنية 48.
  13. اللباب في شرح الكتاب: 1 / 26.
  14. الغنية 49.
  15. اللباب في شرح الكتاب: 1 / 25.
  16. الوجيز: 1 / 8.
  17. الغنية 49.
  18. القاضي، صاحب أبي حنيفة، يعقوب بن إبراهيم، كان من أهل الكوفة، تولي القضاء ببغداد، من المهدي وابنه الهادي، وهارون الرشيد، ولد سنة ( 113 ه‍ ) وتوفي سنة ببغداد ( 182 ). وفيات الأعيان: 6 / 376 رقم 824.
  19. الخلاف: 1 / 172 مسألة 126.
  20. الفرقان: 48.
  21. الغنية: 50.
  22. النساء: 43.
  23. الغنية 50.
  24. الخلاف: 1 / 55 مسألة 6.
  25. الغنية 50.
  26. اللباب في شرح الكتاب: 1 / 50.
  27. بنت أبي بكر، زوج الزبير بن العوام، وهي ذات النطاقين، ولدت قبل التاريخ بسبع وعشرين سنة، وماتت سنة ( 70 ه‍ ) أسد الغابة: 6 / 9 رقم 6698.
  28. الغنية: 51.
  29. الخلاف: 1 / 57 مسألة 7.
  30. الخلاف: 1 / 57 مسألة 7.
  31. الخلاف: 1 / 196 مسألة 153.
  32. الخلاف: 1 / 199 مسألة 158.
  33. الخلاف: 1 / 200 مسألة 160.
  34. الخلاف: 1 / 200 مسألة 161.
  35. الخلاف: 1 / 69 مسألة 15.