الحبيب المستاوي
الاسم | الحبيب المستاوي |
---|---|
الاسم الکامل | الحبيب بن محمّد المستاوي |
تاريخ الولادة | 1342ه/1923م |
محل الولادة | تطاوین/ تونس |
تاريخ الوفاة | 1395ه/1975م |
المهنة | فقيه ومصلح تونسي معروف. |
الأساتید | |
الآثار | «ديوان مع اللَّه»، و «تفسير أجزاء من الكتاب العزيز»، و «مجموعة أحاديث الإذاعة». |
المذهب | سنی |
الحبيب بن محمّد المستاوي: فقيه ومصلح تونسي معروف.
ولد بالرقبة بولاية مدنين بالجنوب التونسي سنة 1923 م (1342 ه)، والتحق بجامع الزيتونة، وحصل منه على الشهادة العالمية في الآداب.
عمل في التجارة، ثمّ باشر التدريس بالفرع الزيتوني ببلدته، وتقلّب في وظائف التعليم، ومارس عدداً من النشاطات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
سافر إلى طرابلس الغرب، فعلّم بها، ثمّ عاد أُستاذاً للشريعة وأُصول الدين في الزيتونة.
وهو عضو اللجنة المركزية للحزب الحرّ الدستوري في مؤتمر المنستير، والأمين العامّ للجمعية القومية للمحافظة على القرآن الكريم.
أصدر مجلّة «جوهر الإسلام» سنة 1968 م، وتولّى رئاسة تحريرها وإدارتها حتّى وفاته سنة 1975 م (1395 ه).
له: «ديوان مع اللَّه»، و «تفسير أجزاء من الكتاب العزيز»، و «مجموعة أحاديث الإذاعة».
يقول ابنه الشيخ صلاح الدين المستاوي واصفاً والده: «مناسبة من يجري بينه وبينهم حديث عن بعض جوانب عطاءات الشيخ الوالد الحبيب المستاوي رحمه الله العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية في داخل البلاد وخارجها في عمره الذي لم يتجاوز
الثانية والخمسين، إذ في شهر رمضان المبارك وفي فجر يوم الخميس الثاني عشر وبعد الإمساك والقيام للصلاة وفي الركعة الثانية التحقت روحه ببارئها راضية مرضية، حيث كان مبيته ليلة الجمعة في قبره الذي نسأل اللَّه أن يكون روضة من رياض الجنّة، كان ذلك يوم 12 رمضان الموافق ل 18 سبتمبر سنة 1975 م، أكثر من ثلاثين سنة مضت وكأنّ الرجل مات من سنوات قريبة، ولا يرجع هذا الحضور التلقائي الربّاني المتواصل إلّالإخلاصه فيما بذل من جهود وما قام به من أعمال (وما كان للَّهدام واتّصل)، فالرجل لم يقم له إلّاأربعينية محتشمة في مقرّ جمعية المحافظة على القرآن الكريم بمبادرة من بعض إخوانه وأصدقائه لم تنل حتّى جزءاً- ولو قليلًا- من التغطية الإعلامية، اللهمّ إلّاذلك العدد الخاصّ من مجلّته «جوهر الإسلام» التي أسّسها وبذل في سبيلها الغالي والنفيس من صحّته وممّا يحصل عليه من دخله الذي لهم يتجاوز راتبه الذي بارك اللَّه له فيه، فأنفق منه على أُسرته وأقربائه وأكرم به أصدقاءه وأحبابه وإخوانه من علماء الأُمّة الإسلامية الذين كانوا لا يمرّون بتونس دون أن يأكلوا وحتّى يقيموا في بيته المتواضع بمقرين.
إنّ كلّ من تقول لهم: إنّ الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله توفّي في عمر الخمسين يستغربون ولا يصدّقون، فيقولون: أكلّ تلك الصولات والجولات بالقلم واللسان في أغلب مدن تونس وقراها مدرّساً ومحاضراً على منابر اللجان الثقافية في المناسبات الدينية في ذكريات المولد والهجرة والإسراء والمعراج وغزوة بدر وفتح مكّة وليلة القدر، فقد كان رحمه الله لا يتأخّر عن دعوة توجّه إليه، يركب سيّارته يسوقها بنفسه أو بمساعدة من يكون بجانبه من أصدقائه وتلاميذه، وما أكثرهم، وما أشدّ عطفه عليهم، وما أصدق تعلّقهم به، فقد كان لهم أُستاذاً وأباً شفوقاً لا يبخل عليهم بما بين يديه من قليل ما يملك ولكنّه كثير يباركه اللَّه.
ولم يقتصر هذا الحضور للشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله على الداخل، بل تجاوزه إلى خارج البلاد، فقد كان عنصراً بارزاً في بعثة تعليمية أُرسلت إلى الشقيقة ليبيا، فكان المدرّس بمعهد أحمد باشا بطرابلس، وكان المعدّ للحصص الدينية في الإذاعة الليبية، يكتب الحديث الديني ويلقيه بصوته الجهوري المجلجل، ويحرّر المسرحية الهادفة، وكان
المحيي للمناسبات الدينية بغرر القصائد العصماء التي تحي الذكريات المجيدة التي يستلهم منها الدروس والعبر لاستنهاض الأُمّة كي تغيّر ما بها.
كما كان الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله عضواً لأكثر من مرّة في الوفد الرسمي للحجيج التونسيّين، فكان المرشد والموجّه لجموع الحجيج، وكان المستلهم بأشعاره الروحية المشرقة لنفحات الحجّ وإشراقات البقاع المقدّسة، وكان الداعي صاحب الضراعات المبكية المؤثّرة على جموع الحجيج، يستوقف أشقّاءهم من حجيج بيت اللَّه الحرام استغراق الشيخ الكبير، فتكبر الحلقة الملتفّة حوله رحمه الله، يشهد على ذلك ويصوّر روعة تلك المشاهد كلّ من حجّوا مع الشيخ رحمه الله.
وفي الجزائر كان الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله نجم ملتقيات الفكر الإسلامي التي كان يدعوه إليها صديقه الأُستاذ مولود قاسم وزير التعليم الأصلي والشؤون الدينية رحمه الله، فقد كانا (رحمهما اللَّه) يشتركان في صفات عديدة، منها وفي طليعتها الصدق والجرأة في قول كلمة الحقّ وتسمية الأُمور بمسمّياتها تحريكاً للسواكن وسعياً صادقاً منهما لتغيير ما بالأُمّة من سكون وخمول. والقصيد الطويل (في مائتي بيت) الذي تضمّنه ديوان «مع اللَّه» الذي نشر بعد وفاته، وعنوانه «إلى اللَّه أشكو»، أصدق دليل على ما أقول.
وفي المغرب الأقصى كانت للشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله علاقات علمية واسعة، حيث درّس وحاضر في أغلب مدن المغرب، واتّصل بكبار علماء المغرب ومفكّريه، وفي المغرب نظم قصيداً مطوّلًا حول تاريخ المغرب، سجّل فيه كما لو أنّه ممّن عاش طويلًا في المغرب أمجاد المغرب وعرّف برجالاته علماء وقادة تاريخيّين، وقد تناقلت هذا القصيد الموجود في الديوان عديد المجلّات والجرائد المغربية وبثّته الإذاعة والتلفزة المغربية.
وكلّ هذه الصلات بالبلدان الشقيقة (ليبيا والجزائر والمغرب والمملكة العربية السعودية) بالزيارة أو تلك الصلات بواسطة المراسلة والمكاتبة قوّتها وجعلت منها جانباً ثرياً من حياة الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله مجلّة «جوهر الإسلام» التي أسّسها سنة 1968 م، وكانت بذلك أوّل مجلّة ثقافية إسلامية تصدر بعد الاستقلال، وما كان لهذه المجلّة
لتصدر في تلك الفترة الصعبة لولا ما يتوفّر عليه الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله من رصيد نضالي وطني جعل منه محلّ الاحترام والتقدير، فقد كان الشيخ متعفّفاً لم يتهافت على العروض الدنيوية، ولو رغب فيها لنالها بدون طلب، ولكن الرجل كان مسكوناً بحبّ الوطن والدفاع عنه والمساهمة في كلّ ما يمكن أن يحصّنه ويحقّق مناعته وإشعاعه... لأجل ذلك وبعد أن استقرّ به المقام في تونس بعد أن عمل في عديد جهات البلاد (مدنين- قفصة- تطاوين- قابس) في فروع الجامع الأعظم التي ما كان يكتفي فيها بالتدريس، بل كان يقوم بحملات التوعية وتحريك السواكن لتحرير البلاد واستقلالها، وكان ذلك يسبّب له المتاعب المتوالية التي كان يتحمّلها بشجاعة وصبر كبيرين.
كانت تلك المرحلة التي سبقت الاستقرار في تونس مليئة بالعطاء الحزبي، وهو المناضل الذي نشأ وترعرع في الحزب الدستوري وناضل من خلاله قبل الاستقلال وبعده، وكانت للشيخ أنشطة اجتماعية ونقابية فضلًا عن الأنشطة العلمية والثقافية، وكان يحرّر في عديد الصحف والمجلّات التي كانت تصدر في تلك الفترة.
عندما استقرّ الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله بتونس في ضاحية مقرين التي أحبّها وأحبّ أهلها، فكان إمام جامعهم الكبير الذي أصبح بجهود الشيخ مجموعة من الجوامع والمساجد التي أُلحقت بها كتاتيب عصرية، وكان رئيس الشعبة مقرين التي ترعى مناضليها ومواطنيها وتساهم في تشييد الأحياء السكنية والمرافق العمومية وتنجز البنية الأساسية.
وإلى جانب هذا النشاط المحلّي الديني والاجتماعي والسياسي للشيخ كانت له أنشطة تعليمية مكثّفة، فهو العنصر البارز والفاعل في القسم الذي أسّسه سماحة الشيخ الإمام محمّد الفاضل ابن عاشور رحمه الله في الكلّية الزيتونية للشريعة وأُصول الدين، أعني به قسم الوعظ والإرشاد الذي تخرّج منه خيرة وعّاظ تونس الذين اتّصل بهم سند الإرشاد الديني الصحيح؛ لأنّهم تكوّنوا على أيدي خيرة شيوخ الزيتونة، من أمثال: الشيخ الفاضل ابن عاشور، والشيخ الشاذلي النيفر، والشيخ أحمد بن ميلاد، والشيخ العربي العنّابي، والشيخ اللقاني السائح، والشيخ محمّد المختار بن محمود، والشيخ الشاذلي بلقاضي، والشيخ محمّد الهادي بلقاضي، والشيخ محمّد الأُخوّة، وغيرهم (رحمهم اللَّه وأجزل مثوبتهم)، والبقية الباقية منهم، أمثال: الشيخ محمّد الحبيب بلخوجة، والشيخ كمال جعيط، والأُستاذ البشير العريبي.
وكان الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله لا يكتفي بالتكوين النظري الأكاديمي، بل يكمل تكوين الوعّاظ بالجانب التطبيقي الخطابي في الجامع الكبير الذي يتولّى الخطابة فيه بمقرين، كما كان الشيخ رحمه الله وراء التوصية خيراً بمن أرادوا من خرّيجي قسم الوعظ والإرشاد أن يواصلوا دراستهم بالشرق العربي في ليبيا ومصر والعراق والسعودية، وقد تبوّأ بعض هؤلاء أرفع المواقع العلمية والإدارية بعد عودتهم إلى تونس.
ودرّس الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله لسنوات طويلة في الأكاديمية العسكرية بفندق الجديد، وكان أوّل من أفسح له المجال للقيام بالتكوين الروحي والمعنوي لطلّاب الأكاديمية الذين تخرّجوا بأرفع الرتب، ولا يزالون يحفظون للشيخ رحمه الله أطيّب الذكريات.
ولم يكن الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله يكتفي بهذا النوع من التعليم النظامي، بل كان حريصاً إلى جانب المحاضرات والمسامرات التي يلقيها في المناسبات الدينية على التواصل مع روّاد بيوت اللَّه في أكثر من درس أُسبوعي تطوّعي تلقائي في جامع سبحان اللَّه بباب سويقة كلّ يوم أحد وبجامع الزيتونة كلّ يوم خميس ليلة جمعة وكذلك بجوامع الزراعية وباب الجزيرة (سيدي البشير) جامع الهواء سبّاحة معقل الزعيم فضلًا عن الجامع الكبير بمقرين.
وكان الشيخ رحمه الله المحاضر على منابر الجمعيات والمنظّمات ديوان تعليم الكبار (محو الأُمّية) والاتّحاد النسائي ومنظّمات الشباب وحتّى السجون والثكنات والمبيتات الطالبية وغيرها.
وكان يعدّ للإذاعة الوطنية حصّتين كلّ أُسبوع، إحداهما في التفسير، وأُخرى في حديث الصباح، فضلًا عن الحصص الرمضانية والمنابر الحوارية.
وكان المساهم البارز في ما كانت تعقده لجنة الدراسات الاشتراكية بالحزب
الاشتراكي الدستوري من جلسات، لا سيّما الموضوع الذي امتدّ الحوار فيه لمدّة عام كامل «الإسلام وتحدّيات العصر»، فكان الواقف بجسارة وجرأة ملفتة للانتباه في وجه من تحدّثه نفسه بالتطاول على الثوابت.
إنّها مواقف احتسبها الفقيد لوجه اللَّه وإيماناً منه بالتلازم الوثيق بين الإيمان الراسخ والحبّ الصادق للوطن (فحبّ الوطن من الإيمان)، وهو ما رسّخ لديه القناعة بأنّ الإصلاح وتحسين المردود والإخلاص للوطن وللقيادة يقتضي النصح بالكلمة الطيّبة وبالحكمة، وهو ما لم ينقطع عن القيام به إلى آخر أيّام عمره، لا يبالي بما يلحقه من أذى وابتلاء... والدليل على ذلك ما خطّه قلمه إبّان وقفة التأمّل سنة 1970 م في بيان قدّمه إلى اللجنة العليا للحزب، يقف على صحّة ما أقول، وكذلك من حضر معه مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1971 م الذي انعقد بمدينة المنستير، والذي انتخب فيه عضواً باللجنة المركزية في ترتيب متقدّم جدّاً، والذي جاء على إثر خطاب ألقاه وضع فيه النقاط على الأحرف فيما يتعلّق بالقضايا المصيرية وبالخصوص قضايا الأصالة والهوية. لقد احتسب الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله ما ناله وتعرّض له بعد ذلك عند اللَّه، فانقطع إليه وتوجّه إليه صادقاً خاشعاً مستغرقاً في سبحات ومناجاة تمتدّ إلى طلوع الفجر، ليس معه فيها إلّاربّه الذي تذوّق حلاوة مناجاته، فلم يعبأ معها بآلام أخذت تفتك بجسمه الذي لم يرأف به ولم يعطه في أيّ يوم من الأيّام حقّه في الراحة والاستجمام، فقد كان الشيخ رحمه الله على عجل من أمره، ولا أذكر أنّني في يوم من الأيّام قمت في الصباح ووجدته في المنزل، فقليلًا ما يقع ذلك، ولا أذكر ولا يذكر إخوتي وأخواتي أنّ الوالد رجع إلى المنزل ونحن أيقاظ إلّانادراً... لقد كان في كلّ حياته في عمل لا يتوقّف: عمل للدين وللناس، كلّ الناس، الأقارب والأباعد... لقد كان رجل المواقف والوقوف بجانب المصابين المبتلين يتأثّر لأحوالهم ويهب لنجدتهم، وكان المشفق العطوف حتّى على أصحاب المحن ممّن يضعفون أمام أنفسهم، يبتغي لهم الأعذار ويدعو لهم بالهداية والغفران. لم يعبأ الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله بمن تنكّروا وأساؤوا وأعرضوا بعد أن كانوا مقبلين عليه يملؤون عليه بيته
ووقته، لقد أقبل بكلّيته على ربّه وعجّل بلقائه، فلكأنّه رحمه الله أحسّ بقرب الرحيل، فعجّل إلى ربّه راضياً مرضياً قرير العين مطمئناً تمام الاطمئنان على من تركهم من خلفه من أبناء وبنات صغار خلفه فيهم ربّه أحسن خلافة، فسلام على الشيخ يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً».
يقول الحبيب المستاوي من رسالة بعثها في صيف عام 1970 م إلى الحزب الحرّ ما نصّه: «وبعد، فشعوراً بواجب النصح الذي جعله اللَّه أمانة في عنق المؤمنين، يجازيهم خير الجزاء إن هم قاموا به لوجهه الكريم، ويحلّ بهم مقته وغضبه إن هم أهملوه أو قاموا به لغير وجهه الكريم أو لما توسوس به النفوس الأمّارة بالسوء من منافع ومطامع. وكلّ هذا قد وضّحه القرن الكريم أعظم توضيح حين قال: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (سورة آل عمران: 104- 105)، وأكّده وقرّره سيّد الكائنات صلى الله عليه و آله حين قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول اللَّه؟ قال: «للَّه و لرسوله و لكتابه و لأئمّة المسلمين وعامّتهم»، وقال أيضاً: «لتأمرنّ بالمعروف و لتنهون عن المنكر، أو ليحلنّ بكم عذاب محتضر».
إنّ الاستجابة لهذه الهتافات السماوية النبوية تحتّم على المخلصين لها أن يقدّموا النصح لمن طلبه ولمن لم يطلبه على حدّ سواء، إنّما المهمّ أن يطبع بالطابع الإسلامي الصميم، ذلك الطابع الذي وضّحه القرآن الكريم أجمل توضيح حين قال: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (سورة النحل: 125). ولا ننسى أنّ تونس قد تمسّك دستورها في فصله الأوّل بعروبتنا وإسلامنا، وعلى هذا الأساس نلفت نظركم إلى ما يلي ممّا نحسّ بأنّ التناقض قد بلغ فيه منتهاه:
1- الإشعاع الروحي.
إنّ شعبنا التونسي الذي هو شعب معروف بأصالته العربية الإسلامية قد وهبه اللَّه من الخصائص ما جعله جديراً بأن يحتلّ مقام القيادة والريادة منذ فجر الإسلام الأوّل؛ إذ قد
استطاع هذا الشعب أن يجعل من بلده مصدر إشعاع لا في الشمال الأفريقي وحسب بل في مجاهل أفريقيا وقلب أوروبّا، ولقد كانت القوّة الروحية هي المطية التي عبر بواسطتها أجدادنا الفيافي والبحار، وحقّقوا لدينهم ولأُمّتهم أعظم انتصار... إنّ الرقعة الأرضية الضيّقة والنسبة العددية لهذا الشعب لم تستطيعا أن ترجعا المدّ التونسي عن غاياته البعيدة، وليس ذلك للفصاحة والذكاء والجاذبية والطيبة التي ميّزنا اللَّه بها فقط، بل مردّه الأوّل والحقيقي إلى جامع عقبة وجامع الزيتونة، فمن هذين المكانين الأقدسين تخرّج الدعاة والفاتحون، وجاؤوا من كلّ صوب وحدب؛ ليغترفوا من معين تونس، وليجعلوها عن اختيار واقتناع وطنهم الثاني إن لم تكن الأوّل... لقد رأينا بأعيننا أنّ تونس الصغيرة استطاعت أن تكون عديلة لمصر الشاسعة الكبيرة، وأن تنازعها عن جدارة زعامة المسلمين، وكثيراً ما تفتكها منها لا بشيء إلّابجامع الزيتونة الذي طاول الجامع الأزهر فطاله، وغالبه فغلبه، ورأينا- وما بالعهد من قدم- أنّ أصدقاء كثيرين تنكّروا لصداقتهم معنا، بل واشتركوا مع من تآمر علينا! ولم نر واحداً من الذين رضعوا ثدي الزيتونة من غير أبناء تونس كفر بنعمتنا أو تنكّر لأُبوّتنا. فهل آن لنا أن نراجع أنفسنا- ونحن أهل المراجعة- «والرجوع إلى الحقّ فضيلة»؟! هل آن لنا أن نعيد تلك القلعة الشامخة البناء إلى سالف عهدها متطوّرة متعصّرة تحتضن فئات من أبنائنا الذين نحن في حاجة إلى خدماتهم المجدية، وفئات من الوافدين علينا ليصبحوا أبناء لنا اليوم وأشقّاء أوفياء لنا غداً؟!
2- إصلاح التعليم.
إنّ تجربتنا النضالية الطويلة المظفّرة أبانت لنا بكلّ وضوح أنّه لن يستبسل ويثبت في أيّة معركة إلّامن كان صادق الإيمان بقيمه ومثله ودينه وتاريخه، فهو الذي يعتزّ بالماضي ويجعله ركيزة المستقبل، ويأبى عليه إيمانه بربّه أن يتوغّل في الشرّ إذا ما انزلق فيه عن غير قصد وروية... لا تمكن أبداً المقارنة بين مؤمن وجاحد، وبين بارّ وعاق، وبين مخلص ومتنكّر، والتجربة الناطقة ماثلة أمام أعيننا توضّح بما لا غموض فيه أنّ من كفر بربّه سهل
عليه أن يمزّق روابطه العائلية والقومية، وسهل عليه أن يتاجر بكلّ شيء؛ لأنّه لا يؤمن إلّا بالمادّة، فأينما رآها جرى خلفها لاهثاً... وإزاء هذه الحقائق المرّة الحلوة يكون لزاماً علينا أن نعيد النظر بكلّ تمحيص ودقّة وصراحة وشجاعة في برنامج تعليمنا من ألفها إلى يائها؛ لأنّنا رأيناها- والحقّ يقال- لا تستطيع أن تخرّج لنا رجالًا نطمئن على مصير أُمّتنا إذا ما أُلقي بين أيديهم، ومن لم يتشبّع بتاريخ أُمّته ولم يقدّس مثلها ولم يتعمّق في لغتها لا يمكن أن يكون معتزّاً بها ولا مخلصاً إليها... إنّنا لسنا من أنصار الانغلاق أو الانعزال، بل نحن من المؤمنين بالتفتّح الذي لا يصل إلى حدّ الذوبان والانسلاخ، لقد أخذ عنّا الغرب العلم والحضارة، إلا أنّهم كرّسوا جهودهم لترجمتها وطبعها بطابعهم حتّى أصبحت مع الأيّام وكأنّها نتاج عبقريتهم وتراث أجدادهم، فلماذا لا نفعل مثلما فعلوا، فنبعد عن أجيالنا الصاعدة الذبذبة والحيرة والتنطّع؟!
إنّ الشباب الذي نريد أن نجعل منه مسلماً صميماً وعربياً صادقاً وتونسياً مخلصاً، لا يمكن أن يتعلّم بالمدرسة لغة أكثر من تعلّمه للغته، وتاريخاً أكثر من تعلّمه لتاريخه، وفلسفة أكثر من تعلّمه لفلسفته... إنّه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون جميع شبابنا المتعلّمين من نوع المهندسين والأطبّاء والذرّيين والفيزيائيّين، بل لا بدّ أن يكون من بينهم الأُدباء والمختصّون في الكتاب والسنّة وحفظة القرآن أيضاً المختصّون في علومه، ممّا يحقّق حاجة المجتمع التونسي المسلم. فأين المدارس القرآنية (الكتاتيب) المنظّمة التي ستحقّق هذا الغرض؟ وأين البرامج التعليمية أيضاً؟ ومتى سنهتمّ بهذا المشكل الخطير؟
3- وسائل الإعلام.
إنّ وسائل الإعلام والثقافة تلعب الدور الأساسي الرئيس في توجيه الشعوب، فتكيّف أذواقها وتقوّم انحرافاتها، فهل إنّ وسائل الإعلام والثقافة لدينا بما فيها من صحافة وتلفزة وإذاعة وتمثيل وسينما ونشريات محلّية أو مستوردة، هل إنّ هذه الوسائل تخدم الغايات الأخلاقية والوطنية والدينية؟ أم هي سائرة في غير هذا الاتّجاه؟ وهل نسمح لأنفسنا أن نتركها تهدم ما نبني، وتعمل على نقيض ما نريد؟!
4- الهياكل الدينية.
إنّ العصر الذي نعيش فيه هو عصر الدعاية والإشهار، وإنّ الحق الواضح إذا لم يقع التعريف به والدعوة إليه بإلحاح يهمل وينسى تماماً، ومن أجل هذا دعا اللَّه نبيّه صلى الله عليه و آله إلى التذكير فقال: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (سورة الذاريات: 55)، وقال: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (سورة ق: 45). ونحن إذا ما أردنا أن نقارن هنا بين ما يقوم به دعاة الدين والأخلاق والفضيلة نرى أنّ سوق الأوّلين أنفق وإمكاناتهم أعظم، وإزاء هذا التكالب من أنصار الضلال والإلحاد نرى أنّه يتعيّن علينا أن نقيم أجهزة عتيدة للدعوة الإسلامية، ونعطيها من الفعّالية والعون ما يجعلها تنطلق في هذه المجالات انطلاقة تعطي للدولة وللحزب ما تعطيه المنظّمات القومية التي ثبتت نجاعتها واستمرّت رسالتها. لقد رأينا جلّ الدول الإسلامية بل جميع الدول الإسلامية تجعل ضمن الهيئات المحترمة مجلساً إسلامياً أعلى أو مجلساً للعلماء، وبجانب ذلك جماعات للدعوة الإسلامية تجد من حكومتها الدعم المادّي والأدبي، ويندرج ضمنها رجال مؤمنون يخلصون النصح ويصدقون فيه، ويمارسونه كعبادة وهواية، يتأثّرون ويؤثّرون، فكم نحن في حاجة أكيدة إلى جمع شتات هؤلاء المؤمنين المخلصين الصادقين الذين يفهمون الإسلام على حقيقته، وإعطائهم الفرص الكافية للعمل؟
5- التشريع.
وكم تتوّج أعمالنا بالنجاح والتوفيق إذا نحن عمّمنا مسألة المراجعة الواعية المتبصّرة حتّى في بعض مسائلنا التشريعية على ضوء التجارب التي عاشها المجتمع التونسي في ظروفه الأخيرة... وكلّ هذه الأشياء أمام أصحاب العزائم الصادقة من روّاد الإصلاح المقدّرين للمسؤولية التاريخية سهلة وميسورة، وإنّها لتعطي للحزب والدولة من القوّة والمناعة ما لا تعطيه الجيوش الجرّارة ولا قوّة البوليس!
6- لغة الإدارة.
لقد جعلنا من أهدافنا القومية المقدّسة مسألة تعريب التعليم والإدارة، وبذلنا في سبيل تحقيق هذه الغاية، ولكنّنا بكلّ أسف وقفنا تماماً عن تطبيق مسألة التعريب عندما أصبحت
أُمورنا بأيدينا؛ إذ أنّ الإدارة ما تزال لغتها فرنسية في مجموعها، والتعليم يخدم الفرنسية أكثر من التعريب، الأمر الذي جعل شبابنا يفضّل التخاطب بالفرنسية حتّى في أُموره العادية، فمتى نأذن لمصالحنا الإدارية باستعمال العربية في مناشيرها وتنابيهها وغير ذلك من كلّ ما هو خارج عن نطاق الفنّيات الضرورية؟!
7- الأخلاق العامّة.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الأُمم تعلو وتنزل بالأخلاق:
فإنّما الأُمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إنّ نبينا صلى الله عليه و آله قال: «الدين الأخلاق»، وقال: «إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق»، وليس هناك من ذوي العقول من يجادل في ثبوت هذه الحقيقة، غير أنّنا- ويا للأسف- نلمس انحداراً أخلاقياً عظيماً يجتاح المعمورة قاطبة، ويصيبنا شرّه هنا بنسبة كبيرة جدّاً، الأمر الذي يوجب علينا أن نقف لصدّ تيّاره الجارف بكلّ ما أُوتينا من قوّة؛ حتّى نجنّب أُمّتنا الانهيار المحقّق إذا تمادى هذا الإهمال والتجاهل لمسألة الأخلاق؛ لأنّه لا علاج لها إلّا بالرجوع إلى الأخلاق الإسلامية الأصيلة.
خاتمة:
وإنّي إذ أُقدّم هذه المقترحات أُقدّمها بدافع الحبّ لهذه الدولة ورجالها والغيرة على الدين والوطن، والإيمان القوي بأنّ الوحدة القومية يجب أن تكون شيئاً مقدّساً، ويجب أن تكون واسعة تستوعب جميع الناس وتحقّق لهم أهدافهم؛ إذ مع بعد النظر وحسن النية لا يمكن أن يوجد تناقض بين المخلصين. أُقدّم لكم كلمتي هذه ورائدي الوحيد النصح للَّه ولرسوله ولكتابه ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، فعسى أن تجد لديكم ما تستحقّه من تأمّل واعتبار، وذلك هو غايتي ومنى نفسي».
المراجع
(انظر ترجمته في: إتمام الأعلام: 110).