الفرق بين المراجعتين لصفحة: «التزاحم»
Abolhoseini (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب''''التزاحم:''' اصطلاحٌ أصوليٌ وهو حالة التنافي بين الأحكام في مقام الامتثال إيّاها، بأن يتوج...') |
(لا فرق)
|
مراجعة ٠٣:٢٣، ٢٠ يونيو ٢٠٢١
التزاحم: اصطلاحٌ أصوليٌ وهو حالة التنافي بين الأحكام في مقام الامتثال إيّاها، بأن يتوجّه تكليفان إلى المكلّف، وهو لا يقدر على الجمع بينهما، مثل توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في الأرض المغصوبة.
تعريف التزاحم لغةً
التزاحم من الزحم، والزحم معروف، يقال: ازدحم الناس[١].
الزحم: مصدر زحمتُ الرجل أزحمه زحما، إذا دفعته في مضيق أو حاككته فيه[٢].
وزحم القوم بعضهم بعضا يزحمونهم زَحما وزِحاما: ضايقوهم... والأمواج تزدحم وتتزاحم: تلتطم[٣].
تعريف التزاحم اصطلاحاً
ذكر معنيان للتزاحم:
أحدهما: تزاحم الملاكات: وهو الذي أشار إليه بعض الأصوليين بقوله: صورة الجزم بوجود الملاكين والغرضين في المورد مع ضيق خناق المولى من تحصيلهما[٤].
وهو من قبيل أن تكون للفعل جهتان، أحدهما: مصلحة تقتضي إيجابه، واُخرى: مفسدة تقتضى تحريمه. والأمر في هذا الصنف من التزاحم بيد المولى ويعود إليه، وليس للعبد ملاحظة المفسدة أو المصلحة هنا، بل عليه الامتثال فحسب.
وبهذا الاعتبار ترك البحث فيه وعُدَّ غير مفيد، هذا مع أنّه خاص بمذهب العدلية القائلين بـ تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها أو في ذات أحكامها، ولا يتأتّى على مذهب الأشاعرة القائلين بعدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.
ثانيهما: هو حالة التنافي بين الأحكام: في مقام امتثال المكلّف إيّاها، بأن يتوجّه تكليفان إلى المكلّف، وهو لا يقدر على الجمع بينهما، مثل توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في الأرض المغصوبة.
لم يرد للتزاحم بمعناه الثاني تعريف محدّد، لكن وردت عبارات عن بعض الأصوليين تبدو أو تصلح أن تكون تعريفا، وقد لا تكون إلاّ تعابير مختلفة من الموضوع فحسب من قبيل:
التنافي بين الحكمين أو التشريعين في مقام الامتثال بعد فرض ضيق قدرة المكلّف من امتثالهما معا[٥].
أو التنافي بين الحكمين بسبب عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما في عالم الامتثال[٦].
وهذا المعنى هو المقصود في بحث الأصوليين عن التزاحم.
سابقة البحث
اصطلاح التزاحم من إبداعات متأخّري أصوليي الشيعة، لكنّ المذاهب الاسلامية ليست حديثة العهد بالبحث الذي يدرج تحت هذا الاصطلاح، فبحوثه تدرج غالبا تحت عنوان التعارض أو التعادل والتراجيح. ونجد متقدّمي علماء الشيعة وفقهاء وعلماء المذاهب الإسلامية الاُخرى قد تعرّضوا لجوانبه النظرية كقواعد خاصّة به، وكذا لجوانبه العملية ذات الصلة بالفقه وأفعال المكلّفين، في أصول الفقه وفي القواعد الفقهية وفي بحوثهم الفقهية كذلك.
بل يذهب البعض إلى أنّ التزاحم بين التعاليم الموجّهة للمكلّفين غير خاصّ بمذهب، بل هو أمر يفرضه الواقع الخارجي على جميع الأديان والمذاهب، ولا مفرّ منه[٧]. لكن الملحوظ أنّ متأخّري الشيعة قد طوّروا بحوثه النظرية بعد ما وضعوا اصطلاحا خاصّا له.
الفرق بين التعارض والتزاحم
ذكر الكثير من الأصوليين الفرق بين التعارض والتزاحم وقالوا بفوارق محدّدة بين التزاحم و التعارض.
فيذكر المحقّق النائيني الفوارق التالية:
1 ـ كون التنافي بين الدليلين في التعارض في الجعل والتشريع، بينما هو في التزاحم في مقام الفعلية؛ باعتبار أنّ القدرة على المتعلّق مشترطة في فعلية الأحكام الشرعية.
2 ـ كون الحاكم بالترجيح أو التخيير في باب التزاحم هو العقل؛ باعتبار أنّ التنافي في مقام الامتثال، بينما الاُمور السابقة في التعارض من جهة التعبُّد الشرعي.
3 ـ التقديم في باب التعارض يتمّ مع انحفاظ موضوع الدليل الآخر، بينما يرتفع في التزاحم موضوع الدليل الآخر؛ باعتبار أنّ القدرة عليه منتفية.
4 ـ الترجيح في التعارض يتمّ من خلال أقوائية السند أو الدلالة، بينما في التزاحم يتمّ من خلال مرجّحات اُخرى[٨].
ولخّص السيّد الخوئي الفرق بينهما في أنّه لا تنافي بين الدليلين من حيث المدلول أصلاً في التزاحم، بينما التنافي في التعارض حاصل في المدلولين، وكون التنافي في التزاحم في مقام الامتثال فقط[٩].
ولخّص الشيخ مكارم الفوارق بينهما في أمرين:
1 ـ علم المكلّف بكذب أحد الدليلين في باب التعارض مع علمه بصدقهما في باب التزاحم.
2 ـ التعارض يقع بين الدليلين في مقام الإثبات والدلالة أو الكشف عن الواقع، بينما التزاحم يقع بين الحكمين المدلولين الواقعيين من ناحية الامتثال[١٠].
وهناك تقارير اُخرى للفرق بينهما[١١] لا تعدو عن كونها تعابير اُخرى عمّا مضى من فوارق.
تداخل مفهومي التعارض والتزاحم
على الرغم من أنّ بحث التزاحم يدرج تحت عنوان التعارض إلاّ أنّ هناك نقاشا في دخول مفهوم التزاحم في التعارض أو خروجه عنه، فبعض[١٢] أخرجه عنه؛ وذلك باعتبار أنّ في التعارض أحد الدليلين ينفي الحكم عن موضوع الدليل الآخر، بينما لا شيء من الدليلين في حالة التزاحم يدلّ على نفي الحكم عن موضوع الآخر.
لكن يذهب الشهيد الصدر إلى أنّ دخول التزاحم نفيا وإثباتا في مفهوم التعارض الاصطلاحي يعدُّ مسألة اختيار؛ لأنّ مقوّم التعارض الاصطلاحي هو التنافي بين المجعولين في عالم الفعلية، فإن عمّم هذا التنافي إلى التنافي غير المباشر، أي التنافي في مقام الامتثال دخل فيه وإلاّ فلا[١٣].
أسباب حصول التزاحم
أشار البعض مثل المحقّق النائيني إلى أنّ التنافي في مقام الامتثال قد يكون بسبب عدم القدرة على الجمع بين التكليفين في الامتثال، كما هو الغالب، وقد يكون لدليل من الخارج دلّ على عدم وجوب الجمع بينهما، كما في بعض فروع زكاة المواشي، من قبيل أن يكون المكلّف مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستّة أشهر ثُمّ ملك واحدا آخر من الإبل وصارت ستّة وعشرين، فمقتضى أدلّة الزكاة وجوب خمس شياه عند انقضاء حول الخمس والعشرين، ووجوب بنت مخاض عند انقضاء حول الستة والعشرين، لكن قام الدليل على أنّ المال لا يزكّى في العام الواحد مرّتين فيقع تنافٍ بين الأخير وبين أدلّة الزكاة[١٤].
لكن يشكّك البعض في اعتبار المورد الأخير من التزاحم ويعدّه من التعارض[١٥].
وقد ذكرت أسباب اُخرى للتزاحم أيضا[١٦].
ملاك التزاحم
بناءً على الاختلاف الواقع في التفريق بين التعارض والتزاحم والفوارق بينهما، اختلف متأخّرو الأصوليين في تحديد ملاك يميّز التزاحم عن التعارض، فكان هناك رأيان:
الأوّل: كون مناطه تزاحم الملاكين (المصلحة والمفسدة) في عالم التأثير أو في عالم الوجود ومقام فعلية الإرادة والكراهة.
ذهب إلى هذا مثل المحقّق الخراساني[١٧] والمحقّق العراقي[١٨] والسيّد محسن الحكيم[١٩].
الثاني: كون المناط هو التعاند في مقام فعلية الحكمين وتحقّق موضوعهما خارجا.
قد يبدو هذا الرأي من عبارات أكثر المتأخّرين، وذهب إليه بوضوح مثل المحقّق النائيني[٢٠] والشيخ المظفر[٢١].
وقد تترتّب على المناط المعتمد والرأيين الواردين هنا آثارا ومناقشات غير قليلة[٢٢].
أقسام التزاحم
القسم الأول: التزاحم الملاكي والحكمي
التزاحم الملاكي: هو الذي يحصل بين ملاكات ومبادئ الحكمين في مرحلة الجعل، كما في موارد اجتماع الأمر والنهي على القول بامتناع اجتماعهما، كالصلاة في الأرض المغصوبة.
وقد اعتبر بعض الأصوليين مثل المحقّق الخراساني و الشهيد الصدر هذا القسم من التزاحم مندرجا تحت التعارض[٢٣].
والتزاحم الحكمي: هو الذي يحصل بين الحكمين في مرحلة الامتثال.
ويختلف عن التزاحم الملاكي في نقطتين:
الاُولى: كون التزاحم في الملاكي حاصلاً في مرحلة الجعل، بينما هو في الحكمي حاصل في مرحلة الامتثال، وذلك لأسباب من قبيل: عجز المكلّف عن امتثال المتزاحمين.
الثانية: كون الترجيح أو التخيير في التزاحم الحكمي يكون بيد المكلّف، بينما في الملاكي يكون بيد المولى؛ باعتبار أنّه لا طريق للمكلّف إلى الملاكات[٢٤].
والأخير الذي هو موضع بحث الأصوليين هنا يُدعى أو يوصف بكونه أمريا وامتثاليا وحقيقيا كذلك[٢٥].
القسم الثاني: التزاحم الحفظي
وهو نوع تزاحم تعرّض له الشهيد الصدر، وأوضحه بعبارته التالية: «وهو ليس تزاحما ملاكيا، وذلك لتعدُّد الموضوع، ولا امتثاليا؛ لإمكان الجمع بين الغرضين المطلوبين واقعا، بل هو تزاحم في مقام الحفظ التشريعي من قبل المولى عند اشتباه واختلاط موارد أغراضه الإلزامية والترخيصية، أو الوجوبية والتحريمية، كما لو وجب إكرام العدول، وحرم إكرام الفسّاق، واختلط بعض الأفراد خارجا... بمعنى أنّ المولى لا يمكنه أن يتوصَّل إلى اليقين بانحفاظ هذا (غرض أحد الدليلين التشريعيين) وحصوله، وانحفاظ ذاك (غرض التشريع الآخر) وحصولهما معا، لهذا فهو غير ممكن. وهذا يوجب تزاحما بين الغرضين الوجوبي والتحريمي في مقام الحفظ اليقيني...»[٢٦].
وشأن هذا التزاحم شأن التزاحم الملاكي في كونه ليس موضع بحث الأصوليين في باب التزاحم؛ باعتبار أنّ شأنّه خاصّ بالمولى، ولا علاقة للمكلّف به، فلا دور له في الترجيح أو التخيير أو ما شابه.
حكم التزاحم
من الواضح أنّ موقف المكلّف عند حصول التزاحم الحكمي (الامتثالي) هو ترجيح أحدهما على الآخر. من هنا سعى الأصوليون للتقعيد في هذا الباب وطرح ضوابط للترجيح.
ضوابط الترجيح
ورد عن بعض الأصوليين الموارد التالية كمرجّحات وضوابط لباب التزاحم.
الأول: تقديم المضيّق على الموسّع
من قبيل مزاحمة الصلاة في آخر وقتها لإزالة النجاسة عن المسجد. فيقدّم مضيّق الوقت (الصلاة) على إزالة النجاسة؛ لأنّه واجب موسّع.
الثاني: تقديم غير المشروط بالقدرة الشرعية
أي القدرة المأخوذة في لسان الدليل على المشروط بها، من قبيل مزاحمة الحجّ المشروط بالقدرة الشرعية لغيره غير المشروط إلاّ بالقدرة العقلية. والتقديم هنا لأجل كون غير المشروط بالقدرة الشرعية يعتبر تعجيزا مولويا للمشروط، ومع التعجيز المولوي لم تتحقّق شروط وجوب المشروط.
الثالث: تقديم ما لا بدل له عند الاضطرار
على الذي له بدل، من قبيل مزاحمة الطهارة المائية واجبا آخر لا بدل له؛ لأنّ كلّ مورد ثبت فيه البدل شرعا لواجب فلا محالة يكون ذلك الواجب مقيّدا بالقدرة والتمكّن، ولازمه تقييد الواجب بصورة التمكّن والقدرة، سواء صرّح بذلك الدليل كما في مثل: «فَلَم تَجِدُوا مَاءً...»[٢٧]، أو لم يصرّح به.
الرابع: تقديم الذي ظرف امتثاله
مقدّم على الذي ظرف امتثاله غير مقدّم، كما إذا وجب فعل شيء معيّن في وقت خاصّ مشروط بالقدرة الشرعية وصادف توجّه واجب آخر مشروط بالقدرة الشرعية في ذلك الوقت، فإنّه يقدّم الأوّل لمكان سبق خطابه، فيكون خطاب السابق قد شغل ذلك الوقت، فلم يبق موقع للواجب الآخر.
الخامس: تقديم الأهمّ على المهمّ
وفي تبرير تقديم الأهمّ يقال: بأنّ الأمر الأهمّ يكون بمثابة معجِّز مولوي عن غيره. هذا مع أنّ مسألة الأهمّية تختلف باختلاف ما يستفاد من الأدلّة ومناسبة الحكم والموضوع، فما كان لحفظ بيضة الإسلام يقدّم على كلّ شيء، وما كان لحقوق الناس يقدَّم على غيره[٢٨].
وعبّر البعض عن الأهمّية بالأولوية، أي كون أحد الواجبين أولى بالإتيان لدى الشارع، من قبيل الواجبات التي تتعلّق بحفظ بيضة الإسلام[٢٩].
الترجيح بالأهمّية
لا تخلو المرجّحات المزبورة عن بحوث ونقاشات تناولها بعض من تعرّض لها[٣٠]، وذهب البعض إلى أنّ المرجّح الوحيد في باب التزاحم هو الأهمّية برغم كون المرجّحات المزبورة مقبولة بحدّ ذاتها.
بالنسبة إلى الترجيح بين الموسّع والمضيّق فإنّ موردهما ممّا يمكن الجمع فيه بين الواجبين، ولا تزاحم بينهما.
وبالنسبة إلى الحجّ مثلاً، كواجب مشروط، لا يكون متزاحما مع الواجب المطلق، فإنّ المشروط يصير واجبا إذا لم يكن هناك واجب آخر، و الاستطاعة لا تتحقّق إذا أدّى إتيان الحجّ إلى ترك واجب أو فعل حرام.
وبالنسبة إلى الذي له بدل، فبدله إمّا أن يكون في عرضه أو في طوله، فإن كان في عرضه كان واجبا تخييريا، وعندئذٍ لا تعارض بينهما، وإن كان في طوله فلا إشكال في أنّ مثل الوضوء مقدَّم على التيمّم؛ لكونه أقوى ملاكا، فلا يجوز تفويته، فتدخل المسألة في باب الأهمّ والمهمّ.
وبالنسبة إلى تقديم الأسبق زمانا فليس من باب التزاحم كذلك؛ لأنّه متفرّع على فعلية وجوب كلا الحكمين في عرض واحد، مع أنّ الذي وقته متأخّر ليس فعليا قطعيا لكي يزاحم الذي حلّ وقته[٣١].
كما وسّع بعض متأخّري الأصوليين النقاش في هذا المرجِّح، فذكر مثل الشهيد الصدر ثلاث صور هنا، هي:
الاُولى: ترجيح معلوم الأهمّية.
الثانية: ترجيح محتمل الأهمّية.
الثالثة: الترجيح بقوّة احتمال الأهمّية.
الصورة الاُولى: ترجيح معلوم الأهمّية
وقد استدلّ على الصورة الاُولى بتقريبين:
أحدهما: وجود قيد لبّي عقلي عام في الخطابات الشرعية يقتضي عدم الاشتغال بضدّ واجب لا يقلّ أهمّية عن المتعلّق. وبناءً على هذا القيد يكون الواجب الأهمّ رافعا لموضوع الواجب المهمّ دون العكس، أي لا يكون المهمّ رافعا لموضوع الأهمّ.
ثانيهما: العقل يحكم بلزوم تقديم الخطاب معلوم الأهمّية على الآخر؛ باعتبار أنّ تركه تفويت لملاك مولوي منجّز دون عذر؛ لأنّ تحصيل ملاك المهمّ لا يشكّل عذرا لتفويت الزيادة الملاكية الموجودة في الأهمّ بخلاف العكس.
على أنّ هذا التقريب يتوقّف على أن يكون ملاك الأهمّ فعليا على كلّ حال حتّى في حال الاشتغال بالمهمّ، أمّا إذا كان تعليقيا، أي مشروطا بالقدرة الشرعية بالنسبة إلى المهمّ أو احتمل ذلك فلا يكون الإتيان بالمهمّ تفويتا لملاك منجّز.
الصورة الثانية: ترجيح محتمل الأهمّية
ويراد من الصورة الثانية كون احتمال الأهمّية موجودا في حقّ أحد الواجبين المتزاحمين دون الآخر، ويستدلّ على التقديم وفق هذا المرجّح بوجوه:
منها: كون معلوم الأهمّية يسقط إطلاق الآخر ويجعله مشروطا بعدم الإتيان بمتعلّق الأهمّ، وأمّا ما يحتمل أهمّيته فلم يحرز سقوط إطلاقه فلا بدّ من الأخذ به على غرار معلوم الأهمّية.
ومنها: التمسّك بـ أصالة الاشتغال العقلية بتقريب أنّه مع الإتيان بمحتمل الأهمّية يعلم بسقوط الخطاب الآخر؛ لأنّ الآخر مقيّد بعدم الاشتغال بالمساوي أو الأهمّ، ومحتمل الأهمّية لا بدّ وأن يكون أحدهما. وهذا بخلاف الإتيان بغير محتمل الأهمّية، فإنّه لا يعلم بسقوط خطاب محتمل الأهمّية لعدم إحراز كون ما أتي به مساويا، فيكون المورد من موارد الشك في السقوط، فتجري أصالة الاشتغال.
الصورة الثالثة: الترجيح بقوّة احتمال الأهمّية
ويراد من الصورة الثالثة كون احتمال الأهمّية في أحد الواجبين المتزاحمين أقوى منه في الآخر، فيقدّم محتمل الأهمّية على الآخر.
ويستدلّ عليه بنفس ما استدلّ على محتمل الأهمّية بتقريب أنّ القدر المتيقن من القيد اللبّي هنا هو الاشتغال بما يعلم أنّه ليس بأقلّ (أي كونه مساويا أو أهمّ) أو تحتمل فيه الأهمّية احتمالاً مساويا مع احتمال الأهمّية في الآخر أو أقوى.
أمّا صورة الاشتغال بما يكون احتمال الأهمّية فيه أضعف من احتمالها في الخطاب الآخر فلا ضرورة لسقوط اطلاق ذلك الخطاب فيها، إذ لا يلزم منه إلاّ صرف المكلّف عمّا يكون احتمال الأهمّية فيه أضعف إلى ما يكون احتمال أهمّيته أقوى.
على أنّ هذه الموارد لا تخلو من نقاشات وردود[٣٢].
طرق إثبات الأهمّية
يذهب الشيخ المظفر إلى أنّ الأولوية تعرف من خلال الأدلّة أو من مناسبة الحكم للموضوع أو من خلال معرفة ملاكات الأحكام بتوسّط الأدلّة السمعية، ولا يوجد ضابط عام يمكن الرجوع إليه عند الشكّ[٣٣].
ويذكر الشهيد الصدر الموارد التالية كطرق لإثبات الأهمّية برغم أنّه يناقش بعضها:
1 ـ التمسّك بإطلاق الخطاب لصورة الاشتغال بالواجب الآخر الكاشف إنّا عن أهمّية ملاكه فيما إذا كان الدليل الأهمّ لفظيا مطلقا، ودليل الآخر لبّيا لا إطلاق فيه.
2 ـ أن تتكفّل بعض الأدلّة ببيان اهتمام المولى بتكليف على نحو يستفاد منه تقدّمه على غيره، كأن يكون من مبادئ الإسلام.
3 ـ أن يرد التهويل والتشديد على ترك ذلك الواجب، من قبيل التعبير بالكفر عن تارك فريضة الحجّ.
4 ـ استفادة الأهمّية من الأدلّة الثانوية المتكفّلة لأحكام ذلك الواجب وخصائصه، نظير ما ورد في الصلاة وأنّها لا تترك بحال من الأحوال (المرض والسفر و...).
5 ـ مناسبات الحكم والموضوع المركوزة في الذهن العرفي التي تضفي على دليل الخطاب الشرعي ظهورا عرفيا لتحديد الملاك وتشخيص الأهمّ منها والمهمّ، من قبيل التزاحم بين حرمة الغصب وحفظ النفس، فالعرف يرجّح حفظ النفس على التصرّف بالمغصوب.
6 ـ كثرة التنصيص من الشارع على الحكم، فذلك يكشف عن أهمّيته لدى الشارع فيما إذا لم تكن هناك نكتة اُخرى دعت لكثرة التنصيص، من قبيل كثرة الابتلاء، فإنّه يوجب كثرة التنصيص، أمّا كثرته من دون هذه النكتة فيكشف عن أهمّيته[٣٤].
التزاحم في حالة عدم الترجيح
ناقش الأصوليون حالة ما إذا لم يكن مرجّح لأحد المتزاحمين، وعندئذٍ أثبتوا التخيير عقلاً أو شرعا، ويراد من التخيير العقلي وجود خطابين شرعيين تعيينيين، كلٌّ منها مشروط بعدم امتثال الآخر، فيتخيّر بينهما في مقام الامتثال بحكم العقل. ويراد من التخيير الشرعي وجود خطاب واحد تخييري بدلاً عن خطابين مشروطين.
وقد رتّبوا على هذا البحث ثمرة، وهي تعدّد العقاب أو وحدته عند العصيان، فيدّعى تعدّد العقاب بناءً على كون التخيير عقليا وتركهما المكلّف معا؛ لأنّه قد عصى خطابين شرعيين، وأمّا إذا كان التخيير شرعيا فالعقاب واحد؛ باعتبار أنّه لم يعصِ إلاّ خطابا واحدا.
كما أنّ البعض فصّل بين ما إذا كان الخطابان مشروطين بالقدرة العقلية أو الشرعية، فيحكم بـ التخيير العقلي في الأوّل وبالشرعي في الثاني، وتفاصيل اُخرى وردت في هذا الباب تدخل في باب الأمر الترتّبي[٣٥].
التزاحم بين المستحبّات
من البحوث المطروحة في هذا الباب هو شمول مفهوم التزاحم وضوابطه للمستحبات أو عدم شموله لها. فذهب البعض إلى أنّه لا تزاحم فيها بدليل أنّ الأوامر الاستحبابية لا يلزم من إطلاق أدلّتها لحال التزاحم بين متعلّقاتها محذور التكليف بغير المقدور؛ لجواز ترك المستحبّ على كلّ حال، فلا تنافي بين إطلاقاتها ليفتّش عن مقيّد لبّي يرفع التنافي فيما بينها.
لكن يذهب البعض الآخر إلى أنّ هذا يختلف باختلاف الوجه الذي يستند إليه في المنع عن شمول الأمر للضدّين في عرض واحد، فإذا كان الوجه إخراج المكلّف عن الوقوع في العصيان فهذا خاصّ بالواجبات، وإذا كان الوجه طلب الجمع بين الضدّين، أو كون الوجه تحديد ما هو الصحيح من الخطابات، ففي مثل هذين الوجهين لا فرق فيهما بين أن تكون الخطابات إلزامية أو استحبابية[٣٦].
اجتماع التعارض والتزاحم
ممّا ناقشه الأصوليون في هذا المجال هو إمكانية حصول اجتماع بين التعارض والتزاحم في مورد أو عدم إمكانية حصوله. فذهب البعض إلى أنّ الاجتماع لا يحصل في مورد؛ لأنّ التعارض يكون باعتبار تنافي الحكمين المدلولين للدليلين في مقام الجعل والتشريع، والتزاحم يحصل باعتبار تنافيهما في مقام الامتثال بعد الفراغ عن تشريعهما معا، فمع إحراز جعل وتشريع كلٍّ منهما ينحصر الأمر بالتزاحم، ولا حاجة عندئذٍ لتأسيس أصل يثبت أحدهما عند الشكّ في كون المورد من موارد التزاحم أو التعارض[٣٧].
لكن يرفض البعض الآخر هذا ويقول بإمكانية اجتماعهما، كما في فرض إحراز الملاكين بالنحو الخاصّ والعجز عن الجمع بينهما، واستحكام ظهور دليل كلٍّ منهما في فعلية حكمه في فرض العجز المذكور، فيتحقّق التزاحم بلحاظ ثبوت الملاكين والعجز عن الجمع بينهما، كما يتحقّق التعارض بين دليليهما بلحاظ تكاذبهما في فعلية الحكم في المورد المذكور للعلم بعدم فعلية أحدهما[٣٨].
ومثّل لذلك: بنذر الشخص دخول مسجد الكوفة، وبعد ذلك ينهاه والده عن الدخول، فمقتضى أدلّة النذر وجوب الدخول، ومقتضى أدلّة طاعة الوالد حرمة الدخول، ومثّل له كذلك: بنذر زيارة مكان مقدّس في أشهر الحجّ وحصول الاستطاعة في تلك الأشهر، فمقتضى النذر وجوب الزيارة، بينما تقتضي أدلّة وجوب الحجّ إتيان المكلّف به في ذلك الزمان[٣٩].
المصادر
- ↑ . كتاب مجمل اللغة: 340.
- ↑ . ترتيب جمهرة اللغة 2: 118.
- ↑ . لسان العرب 2: 1655.
- ↑ . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 413، و4، ق2: 128.
- ↑ . فوائد الأصول 4: 706.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 26.
- ↑ . نظرية التزاحم الحفظي: 129 ـ 134.
- ↑ . أجود التقريرات 4: 275 ـ 276.
- ↑ . مصباح الأصول 3: 354 ـ 355.
- ↑ . أنوار الأصول 3: 463.
- ↑ . كتاب التعارض: 44 ـ 45، المحكم في أصول الفقه 6: 21 ـ 23، و 6: 38 ـ 41، نظرية التزاحم الحفظي: 140 ـ 143.
- ↑ . كتاب التعارض: 47.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 27.
- ↑ . فوائد الأصول 4: 705 ـ 707.
- ↑ . المحكم في أصول الفقه 6: 23 ـ 24.
- ↑ . فوائد الأصول 1 ـ 2: 320 ـ 321.
- ↑ . كفاية الأصول: 189 و 211.
- ↑ . نهاية الأفكار 1: 436 ـ 437.
- ↑ . حقائق الأصول 1: 407.
- ↑ . فوائد الأصول 1 ـ 2: 317.
- ↑ . أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 384 ـ 388 و3 ـ 4: 214 ـ 216.
- ↑ . أنظر: نظرية التزاحم الحفظي: 145 ـ 147.
- ↑ . كفاية الأصول: 154 ـ 155 و174 ـ 175، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 144 و 151.
- ↑ . كفاية الأصول: 189، المباحث الأصولية 4: 428 ـ 429، المحكم في أصول الفقه 6: 27 ـ 35.
- ↑ . منتهى الدراية 6: 522 ـ 523 و9: 382، الأصول العامة للفقه المقارن: 519، بحوث في علم الأصول عبدالساتر 9: 78، بحوث في علم الأصول (الهاشمي) 7: 142 ـ 143.
- ↑ . بحوث في علم الأصول عبدالساتر 9: 78 ـ 79، نظرية التزاحم الحفظي: 171 فما بعدها.
- ↑ . النساء: 43.
- ↑ . فوائد الأصول 1 ـ 2: 321 ـ 335 و 4: 709، أجود التقريرات 2: 43 و4: 276 ـ 278، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 217 ـ 221.
- ↑ . أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 217 ـ 221.
- ↑ . مصباح الأصول 3: 357 ـ 362، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 68 ـ 103.
- ↑ . أنوار الأصول 3: 464 ـ 465، المحكم في أصول الفقه 6: 278 ـ 283، نظرية التزاحم الحفظي: 162 ـ 165.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 87 ـ 94.
- ↑ . أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 219 ـ 220.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 97 ـ 101.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 104 ـ 108، أنظر: أجود التقريرات 2: 36.
- ↑ . بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 159 ـ 161، وقاية الأذهان: 318 ـ 319.
- ↑ . مصباح الأصول 3: 356 ـ 357.
- ↑ . المحكم في أصول الفقه 6: 23 ـ 24.
- ↑ . فوائد الأصول 1 ـ 2: 330، تحريرات في الأصول 3: 365.