علم الخلاف

من ویکي‌وحدت

علم الخلاف: علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبه وقوادح الأدلّة. ونحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى إثارة علم الخلاف مجدّداً على أُسس قويمة سليمة تسمو به إلى غايته المثلى في إحياء آثار السابقين ونشدان وحدة الصفّ الإسلامي إلى وحدة التشريع التي تبلغ نتائجها في وحدة الأُمّة الإسلامية حتّى تواجه خصومها وأعدائها بروح ملؤها الاتّحاد والتضامن.

صورة تعبيرية

مدخل

يعدّ الخلاف الفقهي من أهمّ الموضوعات التي شغلت العلماء قديماً وحديثاً، فخاضوا غمار أبحاثه، وصنّفوا فيه الكتب والرسائل، وسجّلوا المناظرات والسجائل، ووضعوا له القواعد والشروط، وأبدعوا فيه من المسائل، حتّى غدا العلم بخلاف العلماء من سمات الفقيه الأساسية، ممّا دعا بعضهم إلى القول: "من لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم أنفهُ رائحةَ الفقه". ولا عجب أن نقول: إن الترحاب باختلاف العلماء من أعظم ما جاءت به شريعتنا، وإنّ اتساع الصدور له من روائع ما عُرفت به حضارتنا. وما أجمل أن يخلع المرء عن نفسه ربقة التقليد والتنطّع والجمود، وأن يغترف من بحر الشريعة الإسلامية الغرّاء، وما أوسعه لو اتّسع الأفق الفكري والخلقي له. ولا يزال موضوع فقه الخلاف على تكرّره يفي بالجديد، إن في إطاره النظري، وإن في كثيرٍ من تطبيقاته، وذلك إذا ما أخلص أهل العلم له، وأجهدوا قرائحهم في فسيح مجالاته. ومن القواعد التي وضعها العلماء في هذا الصدد: استحباب الخروج من الخلاف، وجواز مراعاة الخلاف بشروط خاصّة.

تعريف علم الخلاف

الخلاف هو إحدى شعب علم الفقه الإسلامي، وقد عرّف بعدّة تعاريف:

(منها): أنّه جمع الآراء الفقهية المختلفة وتقييمها والموازنة بينها بالتماس أدلّتها وترجيح بعضها على بعض.

و(منها): أنّه علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبه وقوادح الأدلّة.

و(منها): أنّه علم باحث عن وجوه الاستنباطات المختلفة من الأدلّة الإجمالية أو التفصيلية الذاهب إلى كلّ منها طائفة من العلماء.

ضرورة وضع نظرية كلّية لإدارة الخلاف الفقهي

طالب مشاركون في "مؤتمر الإفتاء العالمي" المنعقد بالقاهرة بضرورة وضع نظرية كلّية لإدارة الخلاف الفقهي، الذي يعدّ نمطاً جديداً من أنماط تجديد الخطاب الديني.

وقال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء المسلمين ومفتي مصر السابق: "إنّ الاهتمام بوضع نظرية كلّية لإدارة الخلاف الفقهي يعدّ نمطاً جديداً من أنماط التجديد الذي نسعى له جميعاً".

وأضاف: "رغم توجه الفقه المعاصر توجّهاً حسناً نحو صياغة نظريات فقهية حديثة، فإنّ قضايا الخلاف الفقهي لم تحظَ حتّى الآن بنظرية كلّية عامّة".

وأضاف جمعة في كلمته بالمؤتمر العالمي للإفتاء: "نحتاج إلى صياغة هذه النظرية؛ نظراً لكثرة التلاعب والتخبّط الذي شاب ممارسات الجماعات المتشدّدة المعاصرة في قضايا الخلاف؛ لأنّهم لم يتربّوا في بيئة علمية محترمة كالأزهر الشريف، ولم يتلقّوا العلم على أيدي العلماء الربّانيّين، ولم يتبرّكوا بحديث الرحمة المسلسل بالأوّلية، فقست قلوبهم وحوّلوا الخلاف- والذي هو في حقيقته مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية بالأمّة المحمّدية وسبب من أسباب السعة والمرونة- إلى سبب من أسباب الشقاق وسوء الأخلاق".

وحدّد عضو هيئة كبار العلماء المسلمين عدّة ضوابط للتجديد الفقهي، منها: الالتزام بالأدلّة القطعية، والالتزام باللغة العربية، والالتزام بالإجماع، ومراعاة المآلات واعتبارها، ومراعاة المصالح والمقاصد.

ولفت إلى أنّ الخلاف من الأحكام الكونية، فلا يزال الخلاف بين بني آدم من زمن نوح (عليه السلام)، ولم تسلم منه أمّة من الأمم.

وأردف مفتي مصر السابق قائلاً: "ينبغي أن نقرّر أنّ الاختلاف منحصر في الفروع الفقهية وبعض مسائل أصول الدين، مع الاتّفاق الكامل على الأصول الدينية التي تمثّل هوية الإسلام، وهو من حفظ الله تعالى وكفالته لهذا الدين، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ولذا لم يقع اختلاف فيما هو قطعي الثبوت والدلالة؛ إذ إنّ أمر قبوله ضروري، كما أنّ الخلاف في الفروع سعة، فلا تضيق الأمّة بمذهب، فإن صَعُبَ عليها أحدها أو أوقعها في حرج لجأت إلى غيره".

وشدّد على أنّ خلاف العلماء لم يكن مظهراً من مظاهر الهوى والعناد، كما أنّ إقرار فكرة التوسعة بتعدّد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمّة سلفاً وخلفاً أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالهم أصرح من مقالهم.

وأشار إلى أنّ العلماء قد وضعوا ضوابط للخلاف المعتبر، وعنى كثير منهم بذكر هذه الضوابط، وعنى غيرهم بالوقوف على أسباب خلافهم، وما كان لهذه الأسباب أن تفضي إلى نزاع بين أطرافها، أو تورّث تعصّباً مذهبياً مفرّقاً، فإنّ ذلك مظهر من مظاهر الجهل بالشريعة وقواعدها، وبسيرة الأئمّة وأقوالهم، وما كان اختلافهم أيضاً ليخرجهم عن التزام الأدب في تناول تلك المسائل الخلافية.

وأوضح أنّ الجمهور قيّد الخلاف بالمعتبر، وهو الخلاف الذي له حظّ من النظر، أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل، أو عليه دليل ليس بقوي؛ ولذلك وضع العلماء شروطاً لجعل الخلاف معتبراً، ومتى اندرج تحت هذه الشروط اعتُبر وصحّ القول بمراعاته. كما أنّ الخلاف على قسمين: منه الظاهر الجلي، ومنه ما ضعف مُدْرَكه. وينبني على كون الخلاف سائغاً ومعتبراً عدّة أمور كالأدب مع المخالف وكذلك الخروج من الخلاف مستحبّ.

واختتم الدكتور علي جمعة كلمته قائلاً: "ليست كلّ مسائل علم العقيدة تعدّ أصولاً، فنؤّكّد أنّ الحديث عن الخلاف مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحديث عن القطعية والظنّية في النصوص التي تثبت بها الأحكام، لا فرق إذن بين الخلاف في مسائل فرعية تنتمي لعلم الفقه، أو تنتمي لعلم العقائد، أو تنتمي لعلم الأخلاق، مادام أنّ مسوغات الخلاف قد وجدت".

وقال الدكتور مجدي عاشور، المستشار الأكاديمي لمفتي الديار المصرية في كلمته بالمؤتمر العالمي للإفتاء: "إنّ الوقوف على قواعد إدارة الخلاف الفقهي والعمل بها سمات حضارية تساعد العلماء المتخصّصين في التعامل مع واقع الأمّة المعاصر؛ حيث نشأ عن غياب ذلك جماعات التطرّف والإرهاب والتيّارات المتشدّدة التي تُضَيّق على الناس دينهم ودنياهم".

وأضاف أنّ الخلاف المعتدّ به هو الذي يصدر من المتخصّصين في علوم الشريعة، ويستند إلى الأدلّة والقواعد، وينبني على أصول الاجتهاد ومدارك الأحكام، وهذا النوع يندرج تحته ما لا يحصى من المسائل.

وعن دور المناظرات والمؤلّفات في إدارة الخلاف الفقهي، أكّد أنّها قد مثّلت أرضاً خصبة لتكوين الملكات وبناء الأفكار، ومجالاً واسعاً لتمرين طلّاب العلم على التفقّه ومراتب الأدلّة وإيراد الحجج والبراهين، والتحلّي بأدب العلماء وأخلاقهم في الاتّفاق والاختلاف والمناظرة، والوقوف على معرفة طرق الفقه ومآخذ الأحكام والأدلّة، واستعمال الأقيسة والفروق الفقهية.

ولفت عاشور النظر إلى أن الاختيار الفقهي والتلفيق وتغيير المسلك تعدّ من أهمّ الإجراءات التي قرّرها الفقهاء في إدارة الخلاف الفقهي في مجال التقليد والإفتاء والحكم القضائي في مرحلة ما قبل الفصل في الدعاوى.

وأضاف أنّ لولي الأمر في جانب السياسة الشرعية سلطة تقييد الخلاف الفقهي ورفعه بالاختيار من بين الآراء والمذاهب المتنوّعة فيما يراه محقّقاً للمصلحة، سواء من حيث الفعل أو الترك، أو ما يتعلّق بشخص الفاعل وصفته أو بزمانه أو بمكانه، ثمّ إلزام الجميع بهذا الاختيار وفقاً لمقتضى الصلاحية التي خوّلها إيّاه الشرع الشريف، ومن ثَمّ يصبح نافذاً، واجباً في العمل، رافعاً للخلاف في عين واقعته؛ امتثالاً لا اعتقاداً من جهة المخالف.

واختتم المستشار الأكاديمي لمفتي الديار المصرية كلمته قائلاً: "الفقهاء قد صاغوا آلية منظّمة لإدارة الخلاف الفقهي من خلال وضع عدّة قواعد أصولية وفقهية تناولت مبحثي الاجتهاد والتقليد ومتعلّقاتهما وأحكام كلّ منهما، من شأنها حفظ صفوفهم من تبادل دعاوى الاضطراب والفوضى جرّاء تغيير الاجتهاد في المسائل، كما قرّروا عدّة قواعد في خصوص الخلاف الفقهي ضابطة لإجراءاته ومسائله ومقاصده".

كما قال الشيخ الدكتور يوشار شريف داماد أوغلو، الأستاذ المساعد بجامعة أرسطو طاليس قسم العلوم الإسلامية باليونان: "إنّ موضوع المؤتمر الذي جاء بعنوان: "الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي" هو قضية الساعة وواجب الوقت، وهو موضوع غاية في الأهمّية؛ لأنّ الحضارة لا تبنى بالجهل والعفوية، وإنّما تبنى بالعلم والفقه، وقد أسس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهذا الفقه العظيم جميع ما تحتاجه البشرية جمعاء في كلّ مجال من مجالات الحياة".

أثر الخلاف الفقهي وأهمّيته

للخلاف الفقهي أثر كبير في التشريع، وتتعلّق به كثير من المسائل والأحكام، ولا يسع من يلي منصب القضاء أن يجهل الخلاف ومسائله وآثاره؛ لما للخلاف الفقهي من أثر كبير في فصل الخصومات، سواء كان الأثر على الحكم في ذاته أو على نظر القاضي عند دراسة المسألة قبل إصدار الحكم.

وقد اتّفق علماء الأمّة على أنّ الاختلاف في الفروع الفقهية أمر مقبول لا اعتراض عليه إن وقع من أهله في محلّه، وبشرطه المتمثّل في ترك المكابرة والهوى.

وقال الدكتور مجدي عاشور، المستشار الأكاديمي لمفتي الديار المصرية: "اختلاف علماء الأمّة المحمّدية- وخاصّة في الفروع والمسائل الاجتهادية- ميزة كبيرة ونعمة عظيمة؛ رحمة من الله تعالى لها، وسعة في أمر حياتها وآخرتها، وسهولة في شؤون معاشها وارتياشها".

وعن المعيار للاختلاف الفقهي المحمود وغيره من الاختلاف المذموم، أوضح أنّ الأوّل يبني ولا يهدم، ويجمِّع ولا يُفَرِّق، ويُعَمِّر ولا يُدَمِّر، ويجعلنا نرتقي في إدارة اختلافاتنا بما فيه مصلحة الإنسان بمراعاة أحواله من حيث القوّة والضعف.

ولفت الدكتور مجدي عاشور النظر إلى أنّ الاختلاف في الفروع والمسائل الظنّية سنّة كونية وضرورة حياتية وإرادة شرعية، وهو منقول ومشهور منذ زمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قولاً وعملاً وتقريراً، ومأثور عن الصحابة والتابعين وعلماء الأمّة على مرّ العصور.

وقال الشيخ الدكتور يوشار شريف داماد أوغلو، الأستاذ المساعد بجامعة أرسطو طاليس قسم العلوم الإسلامية باليونان في كلمته بالمؤتمر العالمي للإفتاء: "إنّ موضوع الخلاف الفقهي من الموضوعات التي لا يستغني عنها عالم في أحكام الشريعة الإسلامية، فضلاً عن طلبة العلم الشرعي، ولا شكّ أنّ في عصرنا الحاضر اشتدّت الحاجة إلى معرفة الخلاف الفقهي بتفاصيلها من معرفة حقيقته والمراحل التي مرّ بها وآدابه وكيفية التعامل معه في الساحة العلمية والدعوية كالمساجد والأوساط العلمية الأخرى، ولا توجد شريعة كشريعة الإسلام وضعت منهجاً شاملاً ومعتدلاً في عرضه ونشره بين الناس، حتّى جعلت للمجتهد أجرين إن أصاب وأجراً واحِداً إن أخطأ، مادام أنّه قد بذل وسعه وقصارى جهده في استدعاء الحكم الشرعي بالضوابط الشرعية".

ولفت يوشار أوغلو النظر إلى أنّ الاختلاف الفقهي ليس وليد عصور التخلّف التي مرّت به أمّتنا أو التفرّق كما يظنّ بعض الناس؛ لأنّه في الحقيقة عامل قوّة وثراء للفقه والتراث، بشرط أن نحسن التعامل معه، وأنه ضرورة من ضرورات الشريعة.

وأكّد الشيخ الدكتور يوشار شريف داماد أوغلو أنّ نشأة الاختلاف الفقهي ترجع إلى نشأة الاجتهاد في الأحكام الذي بدأ يسيراً في عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حيث استغنى الناس بالوحي المنزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ توسع ونما الاختلاف الفقهي بعد ذلك بوفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكذلك بانتشار الصحابة في الأمصار.

وعن ضرورة العلم بالاختلاف الفقهي وأهمّيته وكونه رحمة واسعة، قال الدكتور يوشار: إنّه من الضروري لكلّ باحث في الفقه أن يطّلع على اختلاف الفقهاء؛ ليعرف تعدّد المذاهب وتنوّع المآخذ والمشارب، وإنّ لكلّ مجتهد أدلّته التي يستند إليها في استنباط الأحكام الفقهية، ومن لم يطّلع على هذا الباب من أبواب العلم فلا يعدّ عالماً.

وأشار الأستاذ المساعد بجامعة أرسطو طاليس قسم العلوم الإسلامية بدولة اليونان إلى أنّ جهل الباحث باختلاف الفقهاء يجرّؤه على ترجيح ما ليس براجح والتهاون في إصدار الأحكام والفتوى بمجرّد الاطّلاع على نصّ في الموضوع، دون أن يبحث عن نصوص أخرى ربّما تخصّصه أو تنسخه أو تقيّده، وهذا يؤدّي إلى الفوضى التي لا نهاية لها وإلى إثارة الفتنة بين المسلمين.

وعن فوائد الاختلاف المقبول قال الدكتور يوشار شريف: "إذا التزم الناس بضوابط الاختلاف المحمود وتأدّبوا بآدابه كانت له بعض الإيجابيّات، ولكنّه إذا جاوز حدوده وضوابطه، ولم تراعَ آدابه، فتحوّل إلى جدال وشقاق، كان ظاهرة سلبية سيّئة العواقب تحدث شرخاً في جسد الأمّة، فيتحوّل الاختلاف من ظاهرة بناء ورحمة إلى معاول هدم ونقمة".

وشدّد على أنّ الاختلاف الفقهي ضرورة من ضرورات الشريعة، وهو رحمة واسعة على الأمّة، ما لم يؤدِّ إلى التنازع والشجار والبغضاء.

المصدر

المقال مقتبس مع تعديلات من موقعي:

WWW.ASJP.CERIST.DZ/WWW.AL-AIN.COM