دلالة الاقتضاء

من ویکي‌وحدت

دلالة الاقتضاء: وهي ما إذا توقَّف الصدق أو الصحّة العقلية أو الشرعية عليه مع كون ذلك مقصود المتكلّم. أو أن تكون الدلالة مقصودة للمتكلّم بحسب العرف، ويتوقّف صدق الكلام أو صحّته عقلاً أو شرعا أو لغةً أو عادةً عليها. ومثاله العقلي: «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ» لأنَّ العقل لايفهم هذا الكلام من دون تقدير «أهل» فإن السؤال عندالعقل عن أهل القرية لا عن نفس القرية.

تعريف الاقتضاء لغةً

الاقتضاء من قضى يقضي قضاءً وقضيّة بمعنى الطلب[١]. واستخدامه بالمعنى المصطلح الآتي ذكره (دلالة الاقتضاء) من باب أنَّ المعنى الذي يدلّ عليه الكلام يتطلّبه ويستدعيه صدق الكلام أو صحّته.
وقد يكون من باب انقطاع الشيء وتمامه، إذ قال بعض اللغويين: وقضي في اللغة على ضروب كلّها ترجع إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه[٢]. ويبدو أنّ استخدام هذه المادّة للإشارة إلى الدلالة الاقتضائية، باعتبار أنَّ مدلول هذه الدلالة يتمُّ به الكلام، رغم أنَّ المتكلّم استغنى عن الإتيان به واكتفى بما يدلّ عليه التزاما.

تعريف الاقتضاء اصطلاحاً


يستعمل الأصوليون و الفقهاء مادّة الاقتضاء في بحوثهم ولايريدون فيها جميعا الدلالة المبحوثة هنا، بل كثيرا ما يريدون المعنى اللغوي لهذه المادّة، وهو الطلب أو التأثير والإيجاب، كما في تعريفهم الحكم بأنَّه: «خطاب اللّه‏ المتعلّق بأفعال المكلَّفين من حيث الاقتضاء والتخيير»[٣]، ثُمَّ يفسّرون الاقتضاء بما يعمُّ الأحكام الطلبية الأربعة، أي الوجوب و الاستحباب و الحرمة و الكراهة[٤].
كما تستخدم هذه المفردة ذاتها ويراد منها الاستلزام أحيانا، من قبيل قولهم: الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، أي يستلزم النهي.
أمَّا دلالة الاقتضاء فقد اختلفت العناوين التي اُدرجت تحتها، فبعضهم أدرجها تحت عنوان: دلالة الاقتضاء[٥]، وبعضهم الآخر تحت عنوان: اقتضاء النصّ[٦]، والبعض الآخر تحت عنوان الاقتضاء فحسبُ[٧]، وأحيانا استخدموا أكثر من عنوان من العناوين المزبورة لهذا البحث.
وقد عرِّفت هذه الدلالة بعدّة تعريفات:
منها: ما كان المدلول فيه مضمرا، إمَّا لضرورة صدق المتكلّم، وإمَّا لصحَّة وقوع الملفوظ به[٨].
ومنها: دلالة الاقتضاء وهي إذا توقَّف الصدق أو الصحّة العقلية أو الشرعية عليه مع كون ذلك مقصود المتكلّم[٩].
ومنها: الثابت باقتضاء النصّ هو زيادة على النصّ لم يتحقّق معنى النصّ بدونها، فاقتضاها النصّ ليتحقّق معناه ولايلغو[١٠].
ومنها: هو الذي لايدلّ عليه اللفظ ولايكون منطوقا به، ولكن يكون من ضرورة اللفظ[١١].
ومنها: أن تكون الدلالة مقصودة للمتكلّم بحسب العرف، ويتوقّف صدق الكلام أو صحّته عقلاً أو شرعا أو لغةً أو عادةً عليها[١٢].
ومنها: دلالة اللفظ على كلّ أمر لايستقيم المعنى إلاَّ بتقديره[١٣].
ومنها: دلالة الكلام على معنى لازم يتوقّف عليه صدق الكلام أو صحّته شرعا[١٤].
ومنها: دلالة الكلام على مسكوت عنه يتوقّف صدق الكلام على تقديره أو لايستقيم معناه إلاَّ به[١٥].

مناط الاقتضاء

رغم اختلاف التعاريف المتقدّمة إلاَّ أنَّها تؤكّد على أمرين يشكّلان مناطي دلالة الاقتضاء: الأوّل: أن تكون الدلالة مقصودة.
الثاني: أن يكون الكلام لايصدق أو لايصحّ بدونها[١٦].
وهذان الأمران ممَّا أكَّدته التعاريف فقد جعلت القصد من مكوّنات حدود الاقتضاء، كما أقرَّت ضمنا بأن تكون صحّة الكلام أو صدقه موقوفا على هذه الدلالة.

نوعية دلالة الاقتضاء

دلالة الاقتضاء من الدلالات الالتزامية[١٧] وليست من الدلالة المطابقية، ولايصحّ أو لايصدق الكلام إلاَّ بها، ويبدو أنَّه بهذا الاعتبار امتنع كثير من الأصوليين عن إفراد بحث خاصّ بها، بل أدرجها ضمنا في بحوث الدلالة الالتزامية، واكتفوا ـ عند تناول بحث الدلالات ـ بتقسيم الدلالة إلى تطابقية وتضمنية والتزامية فحسب. وأحيانا تناولها بعضهم بالدراسة من خلال ذكر بعض الأمثلة والمصاديق دون الدخول في بحوثها النظرية كتعريفها وحجّيتها.
كما أنَّ جميع الدلالات الالتزامية على المعاني المفردة وجميع المجازات في الكلمة أو في الإسناد ترجع إلى هذه الدلالة، ويُراد من ذلك دلالة نفس القرينة على المعنى المجازي لا اللفظ ذاته، فإنَّ دلالته على معناه دلالة مطابقية، و«يرمي» في «رأيت أسدا يرمي» تدلُّ اقتضاءً على كون المراد من الأسد إنسانا ما[١٨].

مشتقّات الاقتضاء


1 ـ المقتضي: ويعني الكلام الذي يستبطن دلالة اقتضائية[١٩].
2 ـ المقتضى: ويُقصد به الكلام المقدَّر أو المزيد الذي يستدعيه صدق الكلام أو صحّته[٢٠].

علامات المقتضى

علامة المقتضى المحذوف هي أن يصحَّ به الكلام أو المقتضي به، بحيث دونه لايصحّ الكلام ويبقى سقيما أو غير مفيد، وقيل: علامته ألاّ يلغى عند ظهوره، أي لايتغيَّر ظاهر الكلام عن حاله وإعرابه عند التصريح به، بل يبقى كما كان قبله[٢١].

الألفاظ ذات الصلة

إضمار: يراد من الإضمار حذف مقدار من الكلام لأجل الاختصار.
اختلف في عدّ الإضمار والاقتضاء أمرا واحدا أو أمرين، فقد عُدّا أمرا واحدا لدى متقدّمي الحنفية وأصحاب الشافعي و المعتزلة[٢٢] و الشيعة[٢٣]، وعُدّا أمرين من قبل بعض آخر من الأحناف وآخرين[٢٤].

أقسام دلالة الاقتضاء

قسَّم الأصوليون دلالة الاقتضاء بحسب المقتضى المقدَّر أو المحذوف إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما وجب تقديره لصدق الكلام شرعا

مثل قوله(ص): «لا صلاة لجار المسجد إلاَّ في مسجده»[٢٥]، فالذي ينبغي تقديره هنا هو (كاملة) ليكون المنفي الصلاة الكاملة لا مطلقها، وذلك ليصحَّ الكلام من وجهة نظر شرعية، فإنّ الصلاة في المسجد ليست شرطا من شروط صحّة الصلاة.

القسم الثاني: ما وجب تقديره لصحّة الكلام عقلاً

ومثاله: «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ»[٢٦] فإنَّ العقل لايقبل هذا الكلام دون تقدير (أهل) لكي يكون المراد: واسأل أهل القرية.

القسم الثالث: ما وجب تقديره لصحّة الكلام شرعا

ومثاله: «اعتق عبدك عنّي بألف» فإنَّ صحّة هذا الكلام شرعا يستدعي فرض تمليك العبد بألف أوّلاً، ثُمَّ عتقه؛ لأنَّه لا عتق إلاَّ في ملك[٢٧].
إلاَّ أنَّ البعض[٢٨] اكتفى بالإشارة إلى قسمين من الأقسام المتقدّمة، وترك القسم الثالث، وهو ما وجب تقديره لتصحيح ذات الكلام. ويبدو أ نّه اعتبار منهم بكون القسم الثالث من الإضمار لا الاقتضاء.

حكم دلالة الاقتضاء

1 ـ حجّية دلالة الاقتضاء

دلالة الاقتضاء حجّة من باب حجّية الظواهر، فإذا قلنا بحجّية الظواهر قلنا بـ حجّية دلالة الاقتضاء؛ لأنَّ الأخيرة ليست أمرا خارجا عن كونها ممَّا يستفاد من ظاهر الكلام[٢٩].

2 ـ الثابت بالاقتضاء ثابت بالرأي أو باللفظ؟

الثابت باللفظ هو الذي يستدعيه ويتطلبه ذات اللفظ بدون اجتهاد وتشكيل مقدّمات قياس، والذي يثبت بالرأي عكس ذلك، أي يثبت جرّاء إعمال عملية اجتهاد وقياس ولايستدعيه ذات اللفظ، ولذلك قد يختلف المدلول حسب اختلاف الرأي، وهو من قبيل دلالة المفهوم المختلف فيها؛ لكونها اجتهادية لا لفظية بحتة. الثابت بالاقتضاء ثابت باللفظ لا بالرأي و القياس[٣٠]؛ لأنَّه ممَّا يستدعيه ذات اللفظ، كما تؤكّد ذلك تعاريف أصل دلالة الاقتضاء، فانَّه يُفرض لدى المتكلّم ويقصده بكلامه، غاية الأمر أنَّه لايعكس قصده هذا بـ الدلالة المطابقية فيعكسه بـ الدلالة الالتزامية، فهو ليس من قبيل الدلالات الثابتة بالقياس.

3 ـ عموم المقتضى أو عدم عمومه

ممَّا وقع الكلام فيه هنا هو عموم المقتضى المقدَّر أو عدم عمومه، ففي مثل: «رفع عن أُمَّتي الخطأ والنسيان» نقدِّر «حكم» ليكون المعنى: رفع عن أُمَّتي حكم الاُمور المذكورة، لكن هل المقدَّر هنا عامّ أم غير عامّ؟ وبعبارة اُخرى: هل المرفوع من الحكم في الحديث هو خصوص الحكم الاُخروي أم يشمل الدنيوي كذلك، بحيث لايؤاخذ الإنسان على الذنب دنيويا إذا صدر منه العمل نسيانا أو خطأً ؟
إذا قلنا: بعموم المقدَّر كان ذلك يعني ارتفاع جميع أحكام الفعل الصادر خطأ أو نسيانا مهما كانت، وإذا قيل: بعدم عمومه فالرفع يكون خاصّا حسب ما تفيده القيود.
ذهب الحنفية[٣١] إلى أنَّ المقتضى غير عامّ، بينما عند أكثر الحنبلية و المالكية[٣٢] و الشافعي[٣٣] كون المقتضى عامّا. وتظهر الفائدة في مثل التكلّم في الصلاة نسيانا، فإنَّه يعدُّ مبطلاً للصلاة إذا قلنا: بأنَّ المرفوع في حديث الرفع الحكم الاُخروي فقط، أمَّا الدنيوي والآثار الدنيوية، الشرعية منها والوضعية، فتبقى دون رفع، وعليه إعادة الصلاة لبطلانها بالكلام. أمَّا بناءً على القول بعموم المقتضى وأنَّ المرفوع جميع الأحكام والآثار الدنيوية والاُخروية فإنَّ الصلاة غير باطلة، لارتفاع حكم البطلان عن المتكلّم نسيانا فضلاً عن الآثار الاُخروية، وأنَّ الطلاق لايقع من الخاطئ والمكرَه؛ لأنَّه مرفوع بـ حديث الرفع.
ويستدلّ الشافعي والموافقون له على العموم بكون المقتضى ثابتا بالنصّ فكان بمثابة المنصوص عليه، ويثبت له ما يثبت بالنصّ، بينما الذين لايرون عموما له يقولون: العموم من عوارض النظم الحقيقي للكلام، والمقتضى لا نظم له، بل ثبت لأجل الضرورة والحاجة، ولا حاجة لإثبات العموم له، فإنَّ الكلام مفيد دون إثبات العموم[٣٤].

الهوامش

  1. معجم الفروق اللغوية: 63، تاج العروس 20: 84، مادة «قضي».
  2. تهذيب اللغة 9: 169 مادة «قضي».
  3. نقله الآمدي عن بعض الأصوليين في الإحكام 1 ـ 2: 84، والأرموي في الحاصل من المحصول 3: 24.
  4. تعليقة على معالم الأصول القزويني 1: 61، الأصول العامة للفقه المقارن: 51 ـ 52.
  5. الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 61، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2: 514، البحر المحيط 3: 160.
  6. ميزان الأصول 1: 572، كشف الأسرار البخاري 1: 188، أصول الفقه (الخضري بك): 121، علم أصول الفقه (خلاّف): 150.
  7. قواعد الأصول: 27.
  8. الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 61، نهاية الوصول (العلاّمة الحلّي) 2: 514، اللباب في أصول الفقه: 157.
  9. الفصول في الأصول 1: 289 الهامش.
  10. تقويم الأدلّة: 135 ـ 136، كشف الأسرار البخاري 1: 188.
  11. المستصفى 2: 82.
  12. أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 184، الأصول العامة للفقه المقارن: 303، وأنظر: هداية المسترشدين 2: 416.
  13. علم أصول الفقه خلاّف: 150، أصول الفقه (أبو زهرة): 133.
  14. أنظر: أصول الفقه الإسلامي شلبي: 486، وأصول الفقه الإسلامي (الزحيلي) 1: 355.
  15. أصول التشريع الإسلامي: 316، وأنظر: أصول الفقه الخضري بك: 121، مفتاح الوصول (البهادلي) 1: 346.
  16. أنظر: أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 184، 186.
  17. أنظر: الوافية: 228، القوانين المحكمة: 81، أصول الفقه الإسلامي شلبي: 493.
  18. أنظر: القوانين المحكمة: 81، هداية المسترشدين 2: 414 وما بعدها، أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 184 ـ 185.
  19. أنظر: شرح الكوكب المنير: 162.
  20. المصدر السابق، إتحاف ذوي البصائر 4: 2002.
  21. أنظر: كشف الأسرار البخاري 1: 192.
  22. أصول السرخسي 1: 251، كشف الأسرار البخاري 1: 192، وأنظر: المستصفى 2: 82 ـ 83، ميزان الأصول 1: 572، أصول الفقه (ابن مفلح) 2: 832.
  23. جُلّ الشيعة وبخاصّة متقدّميهم استخدم اصطلاح الإضمار للإشارة إلى الدلالة المزبورة دون استخدام الاقتضاء، وهم وإن لم يفردوا بحثا مستقلاً لهذه الدلالة إلاَّ أنَّهم أشاروا لها ضمنا بعنوان الإضمار، كما بحثوا هذه الدلالة من حيث علاقتها بالمجاز أو تقدّمها أو تأخُّرها على دلالات اُخرى. أنظر: معارج الأصول: 54، مبادى‏ء الأصول: 76 ـ 77، القوانين المحكمة: 13، 14، 146، مفاتيح الأصول: 93، إشارات الأصول 1: 55، بدائع الأفكار الرشتي: 100 ـ 101، 103 ـ 106.
  24. أنظر : ميزان الأصول 1 : 573 ، كشف الأسرار البخاري 1: 192 و2 : 243.
  25. تهذيب الأحكام 1: 92 كتاب الطهارة، باب 4 صفة الوضوء ح93، وسائل الشيعة 5: 194 كتاب الصلاة، باب (2) من أبواب أحكام المساجد، ح1. وورد بلفظ «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد» أنظر: سنن الدارقطني 1: 420 كتاب الصلاة، باب الحث لجار المسجد على الصلاة فيه إلاّ من عذر ح2، السنن الكبرى (البيهقي) 3: 111، كتاب الصلاة، باب المأموم يصلّي خارج المسجد بصلاة الإمام في المسجد، من حديث علي بن أبي طالب عليه‏السلام، وغيرهما من المصادر الأخرى.
  26. يوسف: 82.
  27. أنظر: أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 185، أصول الفقه (أبو زهرة): 134، أصول التشريع الاسلامي: 316، الدليل عند الظاهرية: 434 ـ 435.
  28. أنظر: ميزان الأصول 1: 573 ـ 574، أصول الفقه الإسلامي شلبي: 486 ـ 487.
  29. أنظر: أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 188.
  30. اُنظر: أُصول الفقه الإسلامي شلبي: 487.
  31. أنظر: أصول السرخسي 1: 248، كشف الأسرار البخاري 2: 441، أصول التشريع الاسلامي: 318، أصول الفقه (البرديسي): 354.
  32. شرح الكوكب المنير: 162.
  33. أنظر: المصادر السابقة وأصول التشريع الاسلامي: 317.
  34. أنظر: المصادر السابقة وأصول التشريع الإسلامي: 317.