حول الدعوة الإسلامية
إن بحث الدعوة الإسلامية من المباحث المهمة التي لها بالغ الأثر في دفع عجلة الإسلام إلى الأمام. وسنقصر كلامنا في المقام حول « عالمية الدعوة الإسلامية » ، فهو أهمّ ما يتعلّق بهذا البحث .
مفاد العالمية الإسلامية
يبدو -ولأوّل وهلة- أنّ « العالمية » الإسلامية تعني من الناحية الواقعية : أن تكون الرسالة في خطابها ومضمونها العقائدي والاجتماعي والسياسي مضموناً لا يخصّ جماعة من الناس دون أُخرى ، ولا منطقة من الأرض دون غيرها ، وهذا ما تكفّلت به العقيدة الإلهية والشريعة الإسلامية التي جاء بها القرآن الكريم والنبي العظيم (صلى الله عليه وآله) .
والعالمية هي : تعبير أيضاً عن مرحلة تكاملية نظرية وعملية في مسير الرسالة الإلهية ، وكانت تمثّل هذه « المرحلة » الهدف الأسمى لمسيرة الرسالات الإلهية ، وقد بشّرت الرسالات الإلهية بهذه المرحلة التكاملية في آخر مسيرة هذه الرسالات : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( سورة الأعراف : 157 ).
فالعالمية في مضمونها الإسلامي الخاصّ تعبير عن مرحلة تاريخية خارجية جديدة وصلت فيها مسيرة الرسالات الإلهية إلى تجسيد العالمية نظرياً وعملياً ، وقد واكب هذا التطوّر في المسيرة منهاج وتفصيل تشريعي ، يُلبّي متطلّبات هذه المرحلة ، ويفي بحاجاتها ، ويحقّق أهدافها .
بنود تحقيق العالمية في الوسط الإسلامي
بنود تحقيق العالمية في الوسط الإسلامي تتجلّى أوّلاً في الفكر والثقافة والواقع في المجالات الثلاثة الآتية :
أوّلاً : وصل ماضي الأُمّة بحاضرها ، والتخلّي عن أحقاد التاريخ السابق ، وترك استمرار عقدة الخلاف في صفوف الجماعة ، وإطفاء نيران الخلاف ، والبعد عن إشاعتها أو تلقينها للناشئة ، ولأنّ كلّ خطوة نحو الوحدة والتقارب والتقدّم والوقوف صفّاً واحداً أمام تحدّيات الأعداء والمخاطر المشتركة إنّما تبدأ من واقع الحاضر ، لا من أخطاء وموروثات الماضي ، فكلّ إنسان أو فئة يسأل أو يحاكم على ما قدّم من خير أو شرّ .
ثانياً : ألاّ ينحاز العالم الإسلامي بجميع شعوبه وحكّامه في جانب من جوانب السياسة والاقتصاد والاجتماع ونحو ذلك نحو اتّجاه معيّن يغاير اتّجاه الإسلام وشرعه ومنطلقاته ، ويتنافى مع المصلحة الإسلامية العليا ، ويعدّ خرق هذا الاتّجاه إمّا خيانة لله والرسول ولمصالح الأُمّة جمعاء ، وإمّا عصبية مذهبية أو طائفية بغيضة تلتقي مع العصبية الجاهلية في نتائجها وثمراتها وإن خالفتها في دوافعها وأسبابها .
ثالثاً : أن تتقارب الطوائف الإسلامية ، بحيث تدرس بتجرّد وموضوعية وإنصاف ما لدى الطائفة الأُخرى ; لأنّ الإسلام كلٌّ لا يتجزّأ ، ولأنّ إزالة النعرة غير الطبيعية التي خلّفتها أحداث التاريخ ضرورة حتمية . وإذا تعذّر الوفاق على بعض الجزئيات فتترك لكلّ جانب أو طائفة ، على ألاّ تعكّر صفو العلاقات الأخوية الإسلامية الصافية غير المتأثّرة بحزازات الماضي وآلامه ومآسيه ، أي : أنّ الخطأ يجب ألاّ يستمرّ ، وألاّ يعوق تحقيق اللقاء المشترك أو الاتّحاد أو الوحدة ، ولأنّ محو الفروق الطائفية يجب أن يكون غاية مقصودة في ذاتها ; لأنّ أسباب الخلاف قد زالت ، ومن الخطأ التمسّك بالاختلاف الطائفي مع زوال أسبابه وعدم الجدوى في إثارته ، كما قاله الشيخ محمّد أبو زهرة.
هذا ، والدين يكون عالمياً بعدم اختصاصه بجنس من الأجناس البشرية ، وبعدم انحصار تطبيقه في إقليم خاصّ أو بيئة معيّنة .
ويكون غالباً بامتداد هدايته أزماناً طويلة تتجاوز العصر الذي بدأت فيه ، بمعنى : أن يكون الدين صالحاً لكلّ جنس ، ولكلّ جيل ، ولكلّ زمان ومكان .
وبمعنى آخر : يكون الدين عالمياً إذا كان شريعة الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن العوامل والفوارق العارضة التي لا تدخل في ماهية الإنسان كإنسان ، وبدون ذلك لا يتحقّق معنى العالمية في أيّ دين .
خصائص عالمية الدين
أمّا الخصائص التي يجب أن يشتمل عليها الدين ليكون عالمياً وصالحاً لكلّ زمان ومكان فهي ثلاث :
أوّلها : إيفاؤه بحاجة الإنسانية جميعاً فيما يصون وحدتها ويرعى إنسانيتها ويحمي أفرادها في العاجل والآجل .
ثانيها : تشريعاته التي تضمن قيم الإنسانية كلّها في محيط واحد ، لا تترع معه إلى عصبية دم ، أو اختلاف لون ، أو فرقة جنس .
ثالثها : اتّساقه مع حقائق الكون وخصائص الوجود ، بحيث لا يتعارض مع ما يثبت من حقائق العلم، أو يختلف مع منطق الفكر .
وكذلك لا يكون الدين عالمياً إلاّ إذا صحب الإنسان في جميع أزمانه المتطوّرة وعصوره المتلاحقة ، أي : يكون خالداً ، لا يعتريه نسخ أو زوال ، ولا عقم ولا جمود ، موفياً بجميع مطالب الإنسان المتنوّعة المتجدّدة في كلّ الميادين التي يزاول فيها الإنسان بعقله الواسع نشاطه الكامل . ولا يوجد دين من الأديان السماوية فيه هذه المواصفات التي تجعله عالمياً إلاّ دين الإسلام(1) .
(1)المعجم الوسيط فيما يخص الوحدة والتقريب ج1 ،ص350-353 .
صور تقرير العالمية
كما قلنا سابقاً فالدين يكون عالمياً بعدم اختصاصه بجنس من الأجناس البشرية ، وبعدم انحصار تطبيقه في إقليم خاصّ أو بيئة معيّنة .
ويكون غالباً بامتداد هدايته أزماناً طويلة تتجاوز العصر الذي بدأت فيه ، بمعنى : أن يكون الدين صالحاً لكلّ جنس ، ولكلّ جيل ، ولكلّ زمان ومكان .
وبمعنى آخر : يكون الدين عالمياً إذا كان شريعة الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن العوامل والفوارق العارضة التي لا تدخل في ماهية الإنسان كإنسان ، وبدون ذلك لا يتحقّق معنى العالمية في أيّ دين .
كما يمكن تقرير العالمية بهذه الصورة :
يقرّر القرآن الكريم عالمية الدعوة الإسلامية التي مفادها أنّ الإسلام عقيدة لا ينفرد بها شعب أو مجتمع بعينه ، ولا تختصّ ببلد أو بلاد معيّنة ، بل الإسلام دين ذو قوانين تسري على الأفراد على اختلافهم من العنصر والوطن واللسان ، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين بني الإنسان ، ولا يعترف بأيّة فواصل وتحديدات جنسية أو إقليمية أو زمنية ، فهو عامّ في المكان والزمان .
فعالمية الدولة الإسلامية هي المظهر السياسي المعبّر عن ربوبية شاملة لكافّة أفراد الجنس البشري وناظرة للجميع بعين العدل ، وإغفال هذا المظهر يعني إغفال جانب من جوانب التوحيد ، ذلك أنّ التوحيد بما هو حقيقة مطلقة لا يمكننا أن نحبسه في نطاق محدود ، ولا بدّ وأن تأخذ هذه الحقيقة مداها في كلّ الآفاق المحيطة بها ، وتستوعب الساحة الإنسانية من أبعادها الزمانية والمكانية والموضوعية . . وامتدادها في أُفق الزمان إلى نهايته هو الذي يُعبّر عنه بخلود الرسالة الإسلامية ، وامتدادها في أُفق الحياة البشرية إلى نهايته هو الذي يعبّر عنه بشمول الرسالة الإسلامية لمختلف جوانب الحياة الإنسانية ، كما أنّ امتدادها في الأُفق الجغرافي للمجتمع البشري إلى نهايته هو الذي يعبّر عنه بعالمية الرسالة الإسلامية . فالعالمية هي التعبير الطبيعي عن ربوبية مطلقة رحيمة وعادلة تدير دفّة الساحة الإنسانية على أساس العدل والمساواة والحقّ .
وقد جاء في تفسير القرطبي في قوله تعالى : ( لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ) ( سورة الفرقان : 1 ) أنّ المراد بالعالمين هنا الإنس والجنّ ; لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد كان رسولاً إليهما ونذيراً لهما ، وأنّه خاتم الأنبياء ، ولم يكن غيره عامّ الرسالة ، إلاّ النبي نوح ،فإنّه عمّ برسالته جميع الإنس بعد الطوفان ; لأنّه بدأ به الخلق(2) .
(2)مجمع البيان ج7 ،ص299 \الجامع لأحكام القران ج1 ،ص138 و ج13 ،ص2.
وقال الزجّاج : معنى العالمين كلّ ما خلق الله ، كما قال : ( وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْء ) ( سورة الأنعام : 164 ) ، وهو جمع عالم ، قال : ولا واحد لعالم من لفظه(3) .
(3)تهذيب اللغة ج2 ،ص252 \لسان العرب ج3 ،ص2745 .
وقال ابن عبّاس في قوله تعالى : ( اَلْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ( سورة الفاتحة : 2 ) : ربّ الجنّ والإنس(4) .
(4)جامع البيان ج1 ،ص95 \كنز العمال ج2 ،ص299 .
وقال قتادة : ربّ الخلق كلّهم(5) .
(5)تهذيب اللغة ج2 ،ص252 .
قال الأزهري : الدليل على صحّة قول ابن عبّاس قوله عزّ وجلّ : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ) ( سورة الفرقان : 1 )(6) .
(6)تهذيب اللغة ج2 ،ص252 .
الدعوة الإسلامية هي بهذا المعنى إنّما تعكس شريعة عالمية كاملة . ويدلّ على هذا أنّ النبي كان يرسل إلى قومه خاصّة ، كما حكت آيات القرآن في قوله : ( وَإِلَى عَاد أَخَاهُمْ هُوداً ) ( سورة الأعراف : 65 ) ،( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ) ( سورة الأعراف : 73 ) ، ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ) ( سورة الأعراف : 85 ) ، أمّا رسول الإسلام فقد أرسل للناس كافّة وخاطبه القرآن بقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )( سورة الأنبياء : 107 ) ، ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) ( سورة سبأ : 28 ) .
وقد تضافرت النصوص القرآنية الصريحة التي تؤكّد هذا المعنى ، فقال سبحانه : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) ( سورة الأعراف : 158 ) ، وقال سبحانه : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ( سورة آل عمران : 85 ) ، وقال تعالى عن القرآن الكريم الذي أوحاه إلى نبيّه (صلى الله عليه وآله) : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين ) ( سورة ص : 87 ـ 88 ) ، وقال عزّ من قائل : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لاُِنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) (سورة الأنعام : 19 ) ، أي : كلّ من يصل إليه بلاغ القرآن ، وكلّ من سمعه في جميع أقطار الأرض ، في أيّ زمن من الأزمان وصل إليه هذا البلاغ ، وقال تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ( سورة التوبة : 33)، وقال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )( سورة الأنبياء : 107 ) .
أمّا الوجه الثاني لعالمية الدعوة الإسلامية فيتبيّن من دعوة غير العرب ، فقد جاء في القرآن الكريم دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمشركين إلى الإسلام الذي جاء به محمّد (صلى الله عليه وآله) سواء كانوا من العرب أم من غير العرب ، وبيّن لهم بأنّ الإسلام هو الدين الحقّ الذي لا يقبل الله سواه ، بل تجاوزت رسالة نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) اليهود والنصارى والبشرية بأكملها ، فلم تقتصر على عالم الإنس فقط ، بل تعدّت ذلك إلى عالم الجنّ أيضاً ، قال تعالى : ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجباً * يَهْدِي إِلَى الرشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ) ( سورة الجنّ : 1 ـ 2 ) .
ويتمثّل الوجه الثالث لعالمية الدعوة الإسلامية في خطابات القرآن ونداءاته العامّة ، فالقرآن الكريم كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء ، وهذا دليل واضح على أنّ خطاباته وتوجيهاته تعمّ الناس كافّة ، والقرآن هو وحي الله لرسوله محمّد (صلى الله عليه وآله) وفيه أحكام الإسلام ، وهذا دليل على أنّ الإسلام لجميع البشرية بل للإنس والجنّ . وأمثله لذلك قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( سورة البقرة : 168 ) ، وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( سورة البقرة : 21 ) ، وغيرها من الآيات كثير ، فهو سبحانه يخاطب الناس جميعاً بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ،ولم يقل : يا أيّها العرب .
والوجه الرابع القوانين والتشريعات القرآنية عالمية في طبيعتها ; لأنّها من محتويات الإسلام ، والإسلام رسالة عالمية يعتمد في جميع أحكامه وتشريعاته ، وما يخصّ الإنسان في معاشه ومعاده على طبيعة الإنسان التي يتساوى فيها جميع البشر ، ولا يجد الباحث مهما أُوتي من مقدرة علمية كبيرة فيما جاء به نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) أيّ طابع إقليمي أو صبغة طائفية ، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيّز إلى فئة معيّنة ، ولا تنجرف إلى طائفة خاصّة ، فالعبادات والمعاملات والأخلاق . . الخ كلّها ليس فيها صبغة الطائفية والإقليمية ، بل تكتسي بالصبغة العالمية ; لأنّها تناسب الإنسان وطبيعته ، فهي الصالحة له دون سواها . وكذلك النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقضائي . . الخ ، لا تجد في ثنايا أيّ واحد منها أيّ تفكير طائفي أو نزعة إقليمية .
والوجه الخامس الإسلام ينبذ أيّ مقوّمات للتفرقة بين الناس ; ذلك أنّ أقوى دليل على أنّ الإسلام رسالة عالمية مكافحته للنزاعات الإقليمية والطائفية ، فالإسلام لا يفرّق بين أبيض وأسود ولا بين جنس وآخر ، بل ينبذ العنصرية والطائفية ، ويرفض جعلها مقياساً للتفاضل في ميزان الإسلام ، والمقياس الوحيد للتفاضل في الإسلام هو التقوى ، فالإسلام هو أوّل مَن حارب العصبية ودعا إلى الأُخوّة تحت لواء التوحيد الخاصّ ومقتضاه الإسلام .
أدلّة عالمية الإسلام من السنّة النبوية
أمّا أدلّة عالمية الإسلام من السنّة النبوية المطهّرة فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه الكريم أوّل ما بعثه أن يصدع بالحقّ بين عشيرته أوّلاً ، ثمّ تتّسع دائرة التبليغ والإنذار إلى أن تصل إلى أسماع كلّ مَن يستطيع أن يسمعه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، سواء مباشرة أو أن يرسل من ينوب عنه في تبليغ ما جاء به (صلى الله عليه وآله) من ربّه سبحانه تعالى ، فقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) قومه قائلاً : « والله الذي لا إله إلاّ هو ، إنّي رسول الله إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة»(7) .
(7)كنز العمال ج13 ،ص175 .
ولتحقيق ما كلّف به من تبليغ رسالته إلى جميع الناس أرسل السفراء إلى جميع الأقطار ، فبعث سفراءه وفي أيدي كلّ واحد منهم كتاب خاصّ إلى قيصر الروم وكسرى فارس والمقوقس عظيم القبط والنجاشي ملك الحبشة وغيرهم ، وما كتاباته (صلى الله عليه وآله) هذه إلى ملوك العالم في عهده إلاّ دليلاً قاطعاً على عالمية رسالته ، وقد روى جابر (رضي الله عنه) ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : « أُعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي : كان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصّة ، وبعثت إلى كلّ أبيض وأسود . . . » الحديث(8) .
(8)سنن الدارمي ج2 ،224\أمالي الطوسي ص484 .
وعالمية الإسلام تكسب التوجّهات الإسلامية بُعدها العالمي ، وفي سياق هذه العالمية أمر الإسلام بالتعايش والتعارف : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) ( سورة الحجرات : 13 ) ، وأمر بالعدل : ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم عَلَى أَ لاَّ تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) ( سورة المائدة : 8 ) .
وبعد فإنّ عالمية الإسلام تفرض على أُمّته ـ وذلك كي تحقّق القيام بفريضة الدعوة إليه ـ تحقيق مستويات ثلاثة في الدعوة إلى هذا الدين : تبليغ الدعوة الإسلامية إلى الآخرين ، وإقامة الحجّة بصدق الإسلام على هؤلاء الآخرين ، وإزالة الشبهة عن الإسلام لدى هؤلاء الآخرين .
والخلاصة : أنّ الإسلام دين عالمي ولا يقتصر على أُمّة أو قومية أو لغة معيّنة ، وأنّ واحد من المبادئ الإسلامية هو الدعوة إلى الإسلام والإيمان بالله وبرسالة النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) . وهناك العديد من الآيات القرآنية التي تأمر المسلمين بأن يكونوا نشيطين في الدعوة إلى دينهم في العالم كلّه . ويعتبر المسلمون أنفسهم دعاة إلى الله والإسلام ، مهما اختلفت أوضاعهم الاجتماعية أو الخلفية العلمية ، فعالم الدين والرجل العادي وإمام المسجد والواعظ والصوفي لا يتوانون في الدعوة إلى الإسلام .
يعزو المؤرّخ توماس آرنولد في كتابه الشهير « الدعوة إلى الإسلام » انتشار الإسلام إلى دور المسلمين أنفسهم في الدعوة إلى دينهم ، فيقول : « إنّ انتشار هذا الدين ] الإسلام [بقوّة في بقعة من العالم يعود إلى أسباب متنوّعة : اجتماعية وسياسية ودينية ، ولكن من بينها وأهمّ العوامل القوية في صناعة هذه النتيجة المذهلة يعود للجهود المتواصلة للدعوة الإسلامية » .
وعلى العكس من الفكرة السائدة بأنّ الإسلام انتشر بالسيف نجد أُوربّا اليوم وهي تشهد نموّاً سلمياً في ظاهرة اعتناق الإسلام . إنّ نداء الإسلام إلى النخب الغربية من أجل التفكير بتعاليمه وعقائده لا تقتصر على بلد واحد ، فهناك العديد من المثقّفين الغربيّين الذين آمنوا بالإسلام وصاروا شخصيات إسلامية شهيرة ، ليس في الغرب فحسب ، بل في جميع أرجاء العالم .
ينشط المفكّرون المسلمون الغربيّون في حقل الدعوة إلى الإسلام في أُوربّا ، ويوظّفون طاقاتهم وخبراتهم ودراساتهم من أجل نشر الإسلام بين الأُوربيّين ، وهم يبذلون جهوداً في خدمة هذا الهدف المقدّس من خلال تقديم الإسلام بشكل يكون فيه أكثر تكيّفاً مع البيئة الأُوربيّة ، فهم يأخذون بنظر الاعتبار طبيعة المخاطبين وخلفياتهم الثقافية الغربية والجوانب الاجتماعية والسياسية التي تساهم في تشكيل نمط تفكيرهم وردود أفعالهم ، فهم ـ أي : المعتنقون ـ يستخدمون مختلف الوسائل والطرق التقنية للوصول إلى هدفهم(9) .
(9)موسوعة الحضارة الإسلامية ص484-487 \ثقافة المسلم ،ص326-343 .
معوّقات الخطاب الدعوي
أستعرض في المقام معوّقات الخطاب الدعوي على نحو الاختصار . .
المعوّقات هنا هي : ما يقف حائلاً دون تحقيق الخطاب الدعوي الإسلامي تأثيره المناسب ، بل ويمثّل حاجزاً دون تحقيق أهدافه ومقاصده . .
ومن تلك المعوّقات :
1 ـ الاستبداد الفكري أو السياسي .
فالوثنية ، والصنمية ، والتقديسية ، كلّها مفاهيم تلهب عقل الداعية ، وتحاصر قناعته ، وتحوله من الالتزام القائم على الاقتناع إلى الالتزام القائم على الخوف .
إنّ الداعية الإسلامي قد يصطدم بهذا في حقله التنظيمي ، وقد يجده في منظومة القوانين التي تحدّد عمله الوطني ، وقد يواجه ذلك في شكل جماعات ذات قناعات معيّنة ، أو نفوذ مالي وسياسي ، وكلّ هذه النماذج غالباً ما تمثّل استبداداً عائقاً دون أداء الخطاب الدعوي الإسلامي لمهامّه على أكمل وجه ، وهو ما ينعكس سلباً على ثقافتنا الإسلامية بطمس وجهها الناصع ومحو منهجها المقنع .
2 ـ الاتّباعية بدل الإبداعية .
إنّ استقلالية الداعية في فكر وما تأتيه من مواقف لا يخشى فيها إلاّ الله هي الضامن الحقيقي للأخذ بيد المدعوين لتحقيق استقلاليتهم أيضاً وإثبات وجودهم وشخصيتهم .
فمن الآفات المستبدّة بالمجتمعات المسلمة هذه التبعية بدل الإبداعية ، وهي ما سمّاها أبو حامد الغزالي بـ « ذهنية القطيع » ، ذهنية القطيع هذه عندما تستبدّ بعقل ما تعيقه عن الإبداع وتجعل منه « إمّعة » تضع كلّ قناعاته ومنتوجات عقله في سلّة اللامعقول !
وبالموازاة مع هذه الاتّباعية هناك ما يسمّيه الداعية الإسلامي المغربي عبدالسلام ياسين « الغثائية » ، فالغثائية هي هذا « الغاشي » بلهجة أهل الجزائر والذي لا جدوى منه ; لأنّه فقد أهمّ خاصّية فيه ، وهي الإرادة العقلية ، فتوقّف عن تخطيط حياته ، أو المساهمة في صنع مصيره ، ومن هنا تبدأ مهمّة الداعية بتخليص هذه الفئة المسحوقة من هذه المعاناة العدمية كما يقول الفلاسفة ، وتمكينها من تجاوز سطحيتها إلى البحث عمّا في أعماقها من كنوز .
3 ـ الغلوّ والتنطّع .
إنّ ممّا بات مسلّماً به أيضاً لدى بعض دعاة الخطاب الإسلامي شيوع ما يسمّيه المفكّر الجزائري مالك بن نبي بالأفكار « المميتة أو القاتلة » .
وأخطر آفة من هذه الأفكار القاتلة الغلوّ الديني ، والغلوّ الحزبي ، والغلوّ الطائفي أو العقدي، وكلّها قنابل موقوتة توشك أن تقضي على كيان الأُمّة .
وما نصطدم به عند بعض الدعاة من الغلوّ استغلال منبر الدعوى لتخويف الناس وترهيبهم بمختلف الوسائل ، وهو ما أدّى إلى الكوارث التي مازلنا نعاني تبعات محنتها .
إنّ مهمة الداعية الإسلامي بدعوته أن يأخذ بيد المدعو إلى شاطئ النجاة ، وأن يزيل عن عقله غشاوة الأُميّة بجميع ألوانها والجهل بمختلف مستوياته ، وتحصين الذات ضدّ كلّ ألوان « الفيروسات» المفقدة للمناعة الحضارية ، وبذلك يتقوّى الطالب والمطلوب والداعية والمدعو ، فيتحقّق هدف الخطاب الدعوي في أنبل وأسمى وأدقّ معانيه .
وظيفة الداعية
أمّا ما يتعلّق بوظيفة الداعية : فوظيفته في المقام هي : ما ينبغي أن يقوم به الداعية من مهامّ تصبّ في صلب اهتمامه . ومن أهمّها أن يتطرّق إلى مسائل اجتماعية تهمّ الشعوب والجماهير ، كالحديث عن :
أ ـ التنمية والتطوّر التكنولوجي والاعتماد على الذات وتسخير قوانين الطبيعة لاستثمار وجني ثمارها .
ب ـ وحدة الأُمّة ضدّ التجزئة القبلية والعرقية والطائفية والمذهبية من أجل الوحدة الإسلامية .
ج ـ العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل بما يحقّق أكبر قدر ممكن من المساواة بين الأغنياء والفقراء .
د ـ تحرير الوطن الإسلامي من الغزاة الصهاينة والاستكبار العالمي بزعامة الولايات المتّحدة الأميركية ومقاومة كلّ القوى الاستعمارية الغازية .
هـ ـ تحرير المواطن من القهر والاستبداد والدفاع عن حقوق الإنسان حماية لحقوق المواطنين أمام الأحكام التعسّفية الحاكمة .
و ـ إثبات الهوية ضدّ التغريب والتبعية والرجوع إلى الأصالة ومراعاة متطلّبات العصر .
ز ـ حشد الجماهير وتجنيد الناس حتّى يتحوّل الكمّ إلى الكيف ضدّ اللامبالاة والحياد والفتور .
ح ـ كسر حواجز الخوف من المفاهيم الوهمية المخيفة في العالم كأُحادية النظام العالمي الجديد وسلطة اللوبي الصهيوني على العالم الإسلامي وعدم استطاعته التغيير .
ط ـ الدعوة إلى إقامة اتّحادات إسلامية استخداماً للطاقات الإسلامية في مختلف المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية ، وتفعيل المنظّمات القطرية والمحلّية الإسلامية لصالح المجتمع الإسلامي ، كتفعيل منظّمة المؤتمر الإسلامي والصندوق المالي الإسلامي والسوق الإسلامية المشتركة وكلّ ما من شأنه أن يساعد في تقارب الأُمّة الإسلامية (10).
(10)راجع لجميع ما تقدّم موسوعة أعلام الدعوة والوحدة والإصلاح ج1 ،ص26-37 .
المصدر
1.أمالي الطوسي .
تأليف : أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي (ت460 ه)\تحقيق : قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة\نشر : دار الثقافة-قم\الطبعة الأولى-1414ه .
2.تهذيب اللغة .
تأليف : أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري الهروي الشافعي (ت370 ه)\تعليق : عمر سلامي وعبد الكريم حامد\نشر : دار إحياء التراث العربي-بيروت\الطبعة الأولى-1421ه .
3.ثقافة المسلم..دراسة منهجية برامجية .
تأليف : د.عبد الحميد بو زينة\نشر : مؤسسة الرسالة-بيروت\الطبعة الأولى-1409ه .
4.جامع البيان عن تأويل آيات القرآن .
تأليف : أبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري (ت310 ه)\تحقيق : صدقي جميل العطار\نشر :دار الفكر-بيروت\1415ه .
5.الجامع لأحكام القرآن .
تأليف : أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي الأنصاري (ت671 ه)\تحقيق : أحمد عبد العليم البردوني\نشر : دار إحياء التراث العربي-بيروت\الطبعة الثانية .
6.سنن الدارمي .
تأليف : أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمان بن الفضل بن بهرام الدارمي التميمي السمرقندي (ت671 ه)\نشر : دار الفكر-القاهرة\1398ه .
7.كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال .
تأليف : علاء الدين علي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري (ت975 ه)\تعليق : بكري حياني\تصحيح وفهرسة : صفوة السقا\نشر : مؤسسة الرسالة-بيروت\1409ه .
8.مجمع البيان في تفسير القرآن .
تأليف : أبي علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (ت548 ه)\نشر : المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية-طهران\1417ه .
9.المعجم الوسيط فيما يخصّ الوحدة والتقريب .
تأليف : محمّد جاسم الساعدي\نشر : المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية-طهران\الطبعة الأولى-1431ه .
10.موسوعة أعلام الدعوة والوحدة والإصلاح .
تأليف : محمّد جاسم الساعدي\نشر :المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية-طهران\ الطبعة الأولى-1431ه .
11.موسوعة الحضارة الإسلامية .
تأليف :مجموعة من الباحثين\نشر :المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية-القاهرة\1426ه .