انتقل إلى المحتوى

الإنسان

من ویکي‌وحدت
بدون إطار
بدون إطار

```إنسان``` في اللغة مأخوذ من كلمة «إنس»، والإنس يعني الألفة والمحبة. تُطلق تسمية الإنسان عليه لأنه يألف ويرتبط بكل ما يلازمه ويرافقه. كلمة الإنسان تُطلق على البشر وبني آدم لأن وجوده وخلقه لا يقوم إلا بالمحبة المتبادلة، ولهذا قيل إن الإنسان فطريًا اجتماعي لأنه وجوده وثباته مرتبطان ببعضهما البعض، ولا يمكن للإنسان بمفرده أن يوفر كل احتياجاته ووسائل عيشه.

علم أصول الكلمات للإنسان

الإنسان أصله من «إنسيان»، لأن علماء اللغة العربية اعتبروا تصغيره «أونيسيان». وجود الياء الأخيرة في التصغير يدل على وجودها في الأصل، لكنها حُذفت بسبب كثرة الاستعمال[١]. في سبب تسمية الإنسان بهذا الاسم قيل: نظرًا لأن أصل الإنسان «إنسيان» وهو مشتق من «نسيان»، وسُمي الإنسان بذلك لأنه عقد عهداً مع ربه ونساه[٢].

أو لأن الإنسان يمكنه أن يقيم ألفة وودًا بينه وبين سائر المخلوقات[٣]. المصطلحات الإنسان، بشر، وآدم تنطبق جميعها تقريبًا على أفراد الإنسان لكن تختلف من حيث المعنى، ففي اللغة يُستخدم الإنسان والبشر كعلامة لنوع الإنسان، أما كلمة «آدم» فغالبًا ما تُستخدم كعلامة للشخص، وبعضهم يستخدمها مثل الإنسان والبشر للدلالة على النوع.

في القرآن حيثما وردت كلمة بشر فهي تشير إلى الجسم الظاهر، الجلد والجسد، أما كلمة «إنسان» فتعني الباطن، والكمالات والقدرات الداخلية[٤]. وردت كلمة «إنسان» في القرآن خمس وستون مرة، وكلمة «بشر» خمس وثلاثون مرة، وكلمة آدم خمس وعشرون مرة.

تعريف الإنسان

لا شك أن جميع العلوم، سواء تلك التي تهتم نظريًا بالإنسان أو تلك العملية التطبيقية المعنية بالإنسان، تقوم على علم الإنسان؛ أي بدون معرفة الإنسان، لا يمكن للعلوم الإنسانية بمختلف فروعها أن تكون ذات أساس علمي، ولا يمكن للعلوم التجريبية بكافة فروعها أن تصل إلى درجة الكفاءة والتطبيق الكامل.

لفهم الإنسان علميًا، يجب أن يتضح ما إذا كان بالإمكان الوصول إلى هذه المعرفة عبر الحواس والتجربة فقط، أم يجب اللجوء إلى المنطق والرياضيات، أو إلى الحكمة والكلام والفلسفة، أو أن نتجاوز هذه الثلاثة إلى طريق التصوف، أو أن نتخطى الأربعة ونصل إلى ملكة العلوم وسلطان المعارف، أي الوحي؟

الإنسان مخلوق معقد وشامل، وللتعرف عليه قد يكون من الضروري جمع كل العلوم وطرق المعرفة معًا، لكي نصل إلى فهم صحيح لتعريفه. معرفة الإنسان وفهم حقيقته أمر دقيق للغاية، ولهذا كثيرون في هذا المجال حائرون وعاجزون. عندما علم الملائكة بخلق الإنسان، قالوا: قالب:نص القرآن؛ أي بينما نحن الملائكة نسبح بحمدك ونقدسك، هل تخلق مخلوقًا يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟

الله سبحانه وتعالى رد على جهلهم بحقيقة الإنسان، وأشار إلى علمه المطلق فقال: قالب:نص القرآن؛ أي في وسط البشر، هناك أفراد كاملون مثل آدم أبو البشر الذين هم معلمون لكم، وأنتم ترون فقط ظاهر الناس وفجور بعضهم، ولا تعرفون حقيقة الإنسان. الإنسان مستحق للخلافة والوصاية من عندي وأنتم لا تعلمون وتظنون أنفسكم أهلًا للخلافة.

الجن، وخاصة الشيطان، رغم ستة آلاف سنة من العبادة، ظل عاجزًا عن معرفة الإنسان، وارتكب خطأً في قياس غير صحيح، فأبطل آلاف السنين من عبادته، وعندما أُمر بالسجود لآدم، اعتبر نفسه أفضل منه لأنه مخلوق من نار، بينما آدم من طين، واعتبر هذا الاختلاف المادي معيارًا للفضيلة الحقيقية: قالب:نص القرآن

فئة أخرى من الناس هم الذين، باستثناء قلة منهم، يجهلون تمامًا حقيقة الإنسان. إذا تحدث القرآن كثيرًا عن «المنسيين لأنفسهم» و«المتكاسلين»، فهو يشير إلى مشكلة عدم معرفة النفس؛ أي حتى الإنسان نفسه أحيانًا يعجز عن معرفة ذاته.

إحدى طرق المعرفة هي أن نحدد أولًا مكانة الإنسان، ومن خلالها نصل إلى معرفته. تحديد مكانة أي مخلوق منفصل عن تحديد ماهيته وهويته. إذا سألنا عن ماهية وهوية الإنسان من جهة، ومكانته في الوجود من جهة أخرى، فإننا نتناول سؤالين متداخلين، لأن الحديث عن مكانة الإنسان يأتي دومًا بعد مناقشة هويته وذاته. بمعنى آخر، إذا اعتبرنا الإنسان مخلوقًا طبيعيًا وحصرنا ماهيته في الطبيعة، يجب أن نعتبره طبيعيًا ونبحث عن مكانته في الطبيعة. وإذا اعتبرناه مخلوقًا فائق الطبيعة، يجب أن نعتبره كذلك ونبحث عن مكانته في الملكوت. وإذا اعتبرناه جامعًا بين الملك والملكوت، أي له يد في الطبيعة وأخرى في ما وراء الطبيعة، فهو كائن جامع، ومكانته في نظام الوجود جامع بين الطبيعة وفوق الطبيعة، وفي مملكتين: الملك والملكوت، لأن ظواهر الوجود إما مادية وطبيعية مثل الأرض والسماء والبحر، أو فوق طبيعية مثل العرش واللوح والكرسي، أو كائن جامع يجمع بين الطبيعة وفوق الطبيعة.

شمولية الإنسان بين الطبيعة وفوق الطبيعة تكون أحيانًا بصيغة جمع مكسر وأحيانًا بصيغة جمع سالم، كما في الأدب حيث يُستخدم الجمع المكسر بكسر بنية المفرد، ويُستخدم الجمع السالم بالحفاظ على بنية المفرد. الإنسان، إذا كان جامعًا بين الملك والملكوت، قد يبتعد أحيانًا بصيغة الجمع السالم بين الطرفين إذا قضى معظم عمره في الطبيعة، وأحيانًا يكون أقرب إلى الجمع السالم إذا قضى أكثر وقته في فوق الطبيعة، وأحيانًا يكون إنسانًا كاملاً جامعًا بين الملك والملكوت، جامعًا بين الحياة الطبيعية والفوق طبيعية في داخله بأكمل وجه. هذا الإنسان الكامل الذي يجمع بين حضرات خمس[٥]، وهو موجود فقط في مرتبة الأنبياء والأولياء، يسمى «كائن جامع بصيغة الجمع السالم»[٦].

المنطق وتعريف الإنسان

في منطق المعرفة، يُقال إن الأشياء تُعرف بخمس طرق: الحد التام، الحد الناقص، الرسم التام، الرسم الناقص، والتمثيل. أفضلها الحد التام؛ أي دراسة جوهر الشيء نفسه. مثلاً، في معرفة الشجرة، لا يمكننا معرفة جوهرها من أعراضها وآثارها وحركاتها، بل نعرفها من جنسها، فصلها، وذواتها، وهذا يمنحنا أفضل تصور كامل عن الشجرة. أما إذا كان معرفتنا مركبة من الجوهر والعرض أو فقط من العروض، فلن نصل إلى جوهر الشجرة.

كل من هذه الطرق الخمس يمكن اتباعها بأساليب مختلفة قرآنية، عقلية، وبديهية. لتعريف الإنسان مثل غيره من الأشياء، هناك خمس طرق، وأفضلها هو تعريف الإنسان بالحد التام، وأفضل حد تام للإنسان هو المعارف القرآنية.

في علم المنطق، يُعرف الإنسان بأنه «حيوان ناطق»؛ أي حيوان لديه خصائص الحيوان، بالإضافة إلى العقل والنطق. في هذا التعريف، الحيوان هو الجنس، والناطق هو الفصل. الجنس هو الكل الذي يشترك فيه حقائق مختلفة من حيث الاشتراك في الجوهر؛ مثلاً الإنسان والحيوانات الأخرى متشابهون في الفسيولوجيا، لذا هم من جنس واحد، والفرق بينهم هو الفصل، وفصل الإنسان هو النطق. في المنطق، التعريف بالحد التام هو أفضل وأكمل تعريف.

الحكماء وتعريف الإنسان

تحديد مكانة الإنسان بدقة يخرج النقاش من إطار التفسير إلى علم النفس ومباحث الحكمة العميقة؛ لذلك، مع الإشارة إلى تفصيل النقاش في الحكمة المتعالية، نكتفي بالإيجاز.

حول النفس الإنسانية، توجد احتمالات عدة:

  1. النفس حقيقة قديمة ووجدت قبل الجسد. هذا الرأي قبله أفلاطون وأتباعه.
  2. النفس، رغم تجردها، نشأت مع الجسد وارتبطت به. هذا الرأي قبله أرسطو وأتباعه، وكثير من حكماء المشاء مثل ابن سينا.
  3. نظرية ملا صدرا الشيرازي التي أحدثت تحولًا عميقًا، ووضعت تصورًا جديدًا فوق الفكر الإشراقي والمشائي. بحسب هذه النظرية، الإنسان مخلوق جسدي، وعند البقاء يتحقق له التجرد الروحي، فهو حقيقة جسدية الحدوث وروحية البقاء؛ أي أن الإنسان في بداية خلقه صورة جسدية، وعندما يتحول جوهريًا إلى مرتبة نباتية، تبدأ مقدمات ظهور النفس الحيوانية، ومع ظهور الإحساس يدخل في حياة الحيوان، وتزداد نفسانية، وفي استمرار الحركة الجوهريّة، يتجاوز الحياة الحيوانية ويصل إلى حريم التجرد الإنساني.

مقارنة نظرية ملا صدرا بالأدلة النقلية

بالتالي، الهوية الإنسانية تبدأ بالحدوث المادي والجسدي وتنتهي بالبقاء المجرد والروحي. سبق وأن تحدثنا عن هذا بالتفصيل، لكن هنا يجب مقارنة النظرية الثالثة بالأدلة النقلية لنرى مدى توافقها معها.

يعتبر المرحوم ملا صدرا هذه المسألة من أصعب المسائل الفلسفية. قسم أدلة النقل إلى فئتين: الأولى تظهر أن هوية الإنسان تتشكل في مرتبة الطبيعة؛ مثلاً في سورة المؤمنون، بعد ذكر تطورات نطفة الإنسان التي تتحول إلى علقة، مضغة، عظام... يقول: قالب:نص القرآن؛ أي ما كان سابقًا أعطيناه خلقًا جديدًا وصنعناه إنسانًا.

فالحقيقة ليست عن مخلوق ثاني مجرد ومنفصل عن المخلوق المادي الأول، بل الآية تدل على أن الله رفع الجسم إلى مرتبة أخرى هي الحياة الروحية والتجرد؛ أي حقيقة كانت مادية عند الحدوث وتحولت إلى مرتبة التجرد الإنساني الأعلى.

الفئة الثانية من الأدلة النقلية تدعم خلق النفس قبل الجسد، حيث خلق الله الجسد وألحق به نفسًا مسبقة الوجود. آيات نفخ الروح تُعتبر من هذه الأدلة. يقول الله للملائكة: عندما أكون قد أتممت خلق الإنسان ونفخت فيه من روحي، فاسجدوا له[٧]. بعض الأحاديث تذكر أن الروح خُلقت قبل الجسد بألفي سنة[٨].

هذه الآيات والأحاديث تتوافق مع رأي الحكماء الذين يؤمنون بتقدم وجود الروح على الجسد، حيث يرون أن الروح موجودة قبل الجسد، نازلة من العوالم العليا إلى الجسد، وربما تفسر التجرد الابتدائي للروح، ولا تعارض مع رأي المشائيين وابن سينا الذين يرون تزامن خلق الروح والجسد.

المرحوم ملا صدرا جمع بين الرأيين، وقسم وجود الروح إلى وجود عقلي ووجود نفسي، وحل المشكلة بأن «الوجود العقلي للنفس» سابق على الجسد ولا علاقة له بإدارة الجسد، وهو وجود مجرد لا يتعلق بالجسد، لذا يمكن تصور تقدمه على الجسد، أما «الوجود النفسي للنفس» فهو الذي يتكون مع الجسد بناءً على الحركة الجوهريّة والتحولات الجسدية.

القرآن وتعريف الإنسان

حقيقة الإنسان كتاب يحتاج إلى شرح، وشارحه هو مؤلفه، أي خالق الوجود، لأن الله هو كاتب هذا الكتاب والمتكلم بكلماته.

شرح الله تعالى حقيقة الإنسان عبر الأنبياء والأولياء والملائكة، موضحًا من أين جاء الإنسان، وإلى أين يذهب، وبأي طريق يسير، معرّفًا إياه بنفسه، وبخالقه، وبماضيه وحاضره ومستقبله.

إذا لم يسلم الإنسان شرح حقيقته لله، سيُشرح من قبل الآخرين الذين يكتبون علم الإنسان، لكنهم مثل الكتب السماوية السابقة، يحرّفون ويؤولون بحسب أهوائهم، يخفون بعض الأسرار، ويضيفون أمورًا غريبة، ويغيرون رغبات الإنسان الحقيقية، وهذا من أكبر العيوب في شرح حقيقة الإنسان.

لذا نطلب من الله شرح حقيقتنا، ونقول: قالب:نص القرآن؛ أي يا رب، افتح صدري ليتسنى لي معرفة حقيقتي التي تحتاج إلى شرح.

سر شرح وتوسيع جوهر الإنسان مع تفسير وتحليل حقيقته هو أن أصل المعرفة مختبئ في باطنه، ومع توسع حقيقة الإنسان وشرح صدره، تنفتح معرفته وتصبح واضحة، وهذه المعرفة المفصلة والواسعة تكون أكثر فاعلية في علم الإنسان. في الحقيقة، معرفة جوهر الإنسان أو أي موجود آخر مستحيلة إلا لله تعالى، لأن جوهر الأشياء هو فيض خاص من الله. كل موجود مستفيض من ذات الله يحصل على نصيبه من الفيض، لكن إدراك جوهر الأشياء لا يكون إلا لمن له وجه عند الله و«وجه الله»[٩].

هدف الأنبياء، والأولياء، والملائكة الذين كُلفوا بشرح الإنسان، من شرح السماء والأرض والكون، هو وعي الإنسان بنفسه. ويعلن الله أن الغاية من خلق السماوات والأرض هي أن يعلم الإنسان، وبعلمه وفعله يهدي الأمة الإسلامية ويشرح الإنسان، ليُقطع يد المتطفلين على تحريف كتاب الإنسانية.

قالب:نص القرآن

تنوع تعريف الإنسان في القرآن

قدم الله في القرآن تعاريف متعددة للإنسان؛ ففي موضع يصف الإنسان بأنه فقر وحاجة مطلقة، أي كل وجوده مرتبط بالله: قالب:نص القرآن. كما يصفه الله بأنه خليفته.

وفي موضع آخر، يصنف القرآن وجود الإنسان في مقامين: الأول يتحدث عن هويته، ويعارض التعريف الشائع بـ«الحيوان الناطق»، ويصف الإنسان بأنه «حي متألّه»، أي كائن حي تتجلى حياته في تألّه، والتألّه هو الذوبان في ظهور الألوهية. والمقام الثاني، الذي يُناقش بالتفصيل لاحقًا، يوضح كيف تزدهر حياة الإنسان الملكوتية وتألهه، وكيف يصل إلى الكمالات، وما هي شروط السهولة والمعوقات، ومن هم رفقاء الطريق ومن هم المعرقلون.

الإنسان، الفقر والحاجة المطلقة

يُعرّف القرآن وأهل البيت الإنسان، مثل كل مخلوق آخر، بأنه فقير محض. الإنسان مثل الفقاعة؛ ليس كالسيل. الفقاعة جوفاء، والشيء الجوف يُسمى «أجوف»، والشيء الممتلئ «صمد»، فالماء صمد، والفقاعة أجوف، والإنسان كذلك؛ لكن الفرق بين الفقاعة والبشر أن داخل البشر ممتلئ، خلافًا للفقاعة التي هي فارغة. لكن ذلك الموجود العظيم الذي ملأ الإنسان وشمل كل جوانبه هو أمانة إلهية، وإذا فهم الإنسان أنه فقاعة وأن ما في داخله أمانة ليست له، سيدرك أنه يجب أن يسلم هذه الأمانة إلى صاحبها.

الله سبحانه سلم هذه الأمانة إلى هذه الفقاعة، وأنارها، وطلب منها أن توصل الأمانة سالمًا إلى مقصدها. من يظن أن هذه الأمانة له، يكون خائنًا، ومن يظن أنها لله، يحفظها أمانة ويعاملها بصدق ولا يظلمها. لذا نفس الإنسان ووجوده أمانة إلهية، ليست ملكًا له، بل هو وكيل وأمين لله، ونفوذه محدود بحدود الوكالة.

إذا كان الإنسان هو الفقر ذاته وكل وجوده حاجة، فهو يحتاج إلى معرفة نفسه، ولا يمكنه أن يعرف نفسه دون تعريف من الله سبحانه. إذا كان الموصوف مثل الإنسان هو الفقر ذاته، فإن وصفه، أي معرفته، يكون مستقلًا، وهذا مستحيل، لأن الإنسان هو الفقر ذاته، ولا يمكن أن يكون في بعض الصفات مستقلًا عن الآخر، أي لا يمكن أن يكون الإنسان مستقلًا في معرفته عن غيره، وهو الفقر ذاته.

لذلك يجب تعريف الإنسان من جهة الكائن المستقل، وهو الله، والغاية الأساسية من هذا التعريف هي خلق المعرفة في نفس الإنسان وتعليمه تكوينيًا حقيقته، وإلا فإن التعريف اللفظي لن يكون ذا فائدة كبيرة.

الله يصف الإنسان بأنه فقير مطلق ويقول: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد (فاطر/15)، فوجود الإنسان مرتبط بخلق الحق، ومعرفته تتحقق بتعريف الحق. لا يمكن أن يكون الإنسان محتاجًا لله في الوجود، لكنه مستقل في معرفة نفسه. لذلك، كما خلقه الله، يعرفه بنفسه.

ورغم أن في حديث نوراني، معرفة الرب مرتبطة بمعرفة النفس: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»[١٠]، فإن أفضل طريقة للوصول إلى علم الإنسان (مقدمة معرفة الله) هي الرجوع إلى القرآن الكريم، لكي يعرف الإنسان نفسه كما يعرفه الله. وعلى الرغم من وجود طرق كثيرة لمعرفة الذات، فإن الإنسان بالرجوع إلى القرآن يعرف نفسه جيدًا، ويعرف الله وبدايته ونهايته، ويعرف مكانه ووجهته وكيف يسير في الطريق.

بما أن وجود الإنسان هو الفقر والارتباط والحاجة، فإن وصفه كذلك كما ذكرنا. «معرفة الإنسان» التي هي وصفه هي الفقر ذاته وتحتاج إلى شرح. إذا كان وجود الإنسان مرتبطًا بخلق الله، فإن تعريفه يحتاج إلى تعريف الله. لذلك، في معرفة الأصل الداخلي وبنية الإنسان الداخلية، يجب الرجوع إلى القرآن الكريم، كتاب شرح الإنسانية، ليتضح هل الإنسان جسد صرف، أو روح صرف، أو مزيج بينهما، وهل الروح مخلوقة مجردة أو مادية، وهل التجرد برزخي أم فوق ذلك، وهل جميع البشر لهم حقيقة واحدة أم حقائق مختلفة...[١١].

التعريف الأساسي للإنسان من وجهة نظر القرآن

في العلوم البشرية، يُعرف الإنسان بأنه «حيوان ناطق»، ومن يعرف الإنسان من هذا المنظور فقط يراه كائنًا حيًا يشترك مع الحيوانات في الحياة، ويميزه عنها النطق والكلام. لكن في ثقافة القرآن الكريم، لا يُعترف بهذا التعريف كافٍ.

من منظور القرآن، إلى جانب الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية المتعارف عليها، هناك فصل إضافي ضروري ليُعتبر كائنًا إنسانًا في القرآن. في النهاية، ما يستخلص من القرآن كجنس وفصل للإنسان هو تعبير «حي متألّه»، لذلك يجب تفسير هذا الجنس الحقيقي، أي «حي»، وهذا الفصل الحقيقي، أي «متألّه»، وفهم الفرق بين التعريف المنطقي والإلهي للإنسان.

الإنسان؛ حي متألّه

جنس الإنسان من منظور القرآن هو «حي»، ويميزه عن الحيوان في بقائه وعدم زواله؛ أي روح الإنسان التي تشكل جوهره حية مثل الملائكة التي لا تموت ولا تخرج من دائرة الوجود، رغم أن جسده، الذي يشكل جانبه الفرعي، يفنى. وهذه الصفة تميز الإنسان عن الملائكة.

لذا، جنس الإنسان ليس «حيوان» ليُشبهه بالبهائم، بل جنس روحه «حي»، وبسبب هذا الجنس، الإنسان شبيه بالملائكة، ولا يفقد جنسه بالموت الجسدي، ولا يتغير جنسيًا أبدًا.

أما الفصل المميز للإنسان في ثقافة القرآن فهو «تألّه» الإنسان، أي محبته لله مسبوقة بمعرفته له، وذوبانه في الإلهية، لذلك، خلافًا للتعريف المنطقي، لا يقتصر تميز الإنسان على الكلام الظاهر، بل وجوده يمتد في مجال العقل النظري والعملي، وكل توجهاته نحو الله، ولا يهدأ إلا بوجود الله المطلق والكمال المطلق، ولا ييأس من خالقه مهما كانت الظروف.

يستخلص من القرآن أن خالق الإنسان قد خلقه فطريًا «حي متألّه»، وبما أن هذه البنية الملكوتية هي أفضل مادة وأجمل صورة، فهي لا تتغير بدون بديل يؤدي إلى الفناء، ولا تتحول إلى بديل مختلف، فالتغيير بالبديل، أي التحول، مرفوض: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله (الروم/30). وبما أن التغيير بالبديل مرفوض، فالتغيير بدون بديل، أي الإبادة والفناء، مستبعد تمامًا.

وبما أن التألّه والذوبان في الله مضمّن في داخل الإنسان، فحقيقته واحدة، فالحياة والتألّه متداخلان بحيث أن حقيقة حياة الإنسان ليست إلا التألّه والهوس بجمال وجلال الله، وأي غبار على توحيده (كالكفر في التوحيد، والنبوة، والمعاد...) يتعارض مع محبته لله، لأن الإيمان الخالص لا يتحمل الشرك أو تعدد الآلهة، وأي ميل نحو غير الله يضعف روح التوحيد ويكدر صفاء الإيمان.

حي لا يتغير

يستخلص من القرآن أن خالق الإنسان قد خلقه فطريًا «حي متألّه». من منظور القرآن الشريف، الإنسان الحقيقي هو الذي لا يقف عند حدود الحياة الحيوانية والطبيعية، ولا يقتصر إنسانيته على النطق أو التفكير فقط، بل يجب أن يحقق الحياة الإلهية الأبدية، والتألّه، ومحبة الله الفطرية، ويستمر في رحلة التألّه إلى درجات الكمال حتى مقام الخلافة وتجلي أسماء الله الحسنى وخلق أخلاق الله.

فطريًا وباطنيًا، كل الناس «حي متألّه»، أي الحياة الإلهية والتألّه الملكوتي متأصل في فطرة الجميع، لكن مع مراعاة مسار النمو والتطور، كثيرون دفنوا حياتهم المتألّهة تحت أغطية الجهل والعصيان، وقبروا تألّههم الإلهي في عبودية النفس وولاء الشياطين، وهؤلاء لا يعتبرهم القرآن «حيًا»، بل خارج دائرة الحياة: لينذر من كان حيًا ويحِق القول على الكافرين (يس /70). التناقض بين «حي» و«كافر» في هذه الآية يدل على أن الحي غير الكافر، والكافر غير الحي، أي ميت.

في القرآن الكريم، ورد ذكر تغيير الخلق وتحويل النعم، كما وصف أتباع الشيطان بأنهم مأمورون منه بتغيير خلق الله فقال: فليغيرن خلق الله(النساء/ 119)، وأشار إلى عقاب شديد لآل فرعون بقوله إن الله لا يغير نعمة إلا إذا غيروا أنفسهم: ذلك بأن الله لم يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم (الأنفال/53)، وكرر ذلك في موضع آخر: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد/11).

يجب الانتباه إلى أن جميع هذه الحالات التي تتحدث عن تغيير الخلق تعني تضعيف الفطرة، لا إعدامها أو تحويلها. لذلك، في أوقات الخطر وقطع كل الأسباب الظاهرية، لا يقتصر الأمر على المؤمنين فقط، بل حتى الملحدين والمشركين يدركون أصل الوجود ويتوجهون بإخلاص إلى الله الواحد، متخلصين من كل ما هو غيره.

القرآن يذكر قصة ركاب السفينة الذين في خطر غرقهم يدعون الله مخلصين، لكن بعد النجاة يعودون إلى الشرك والظلم كما كانوا: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجّهم إلى البر إذا هم يشركون (العنكبوت/65)؛ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجّهم إلى البر فمنهم مقسط (لقمان/32)؛ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجَرَين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتْها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أُحطوا بهم دعوا الله مخلصين له الدين لأن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجّهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق... (يونس/22-23).

إشكالية تعريف «حي متألّه»

قد يُعترض على شمولية التعريف القرآني للإنسان «حي متألّه» بأنه، رغم احتوائه على «شمولية الأفراد»، إلا أنه يفتقر إلى ركن «منع الآخرين»، لأن الملائكة أيضًا حسب تعريفهم الحقيقي «حي ومتألّه»، فالحياة المتألّهة التي هي تعريف الإنسان تشمل غير الإنسان، وهذا التعريف لا يمنع غير الإنسان.

الجواب أن الموت والرحيل عن الدنيا حقيقة معروفة للإنسان، ومع اعتبار أن الإنسان مخلوق زمني، يصبح تعريف الإنسان «حي متألّه مائت»[١٢]، أي حي يحب الله ويعرفه لكنه يموت وينتقل من عالم الدنيا إلى البرزخ ثم ما بعد البرزخ. هذا الانتقال لا يحدث للملائكة، فهم مخلوقون حادثون لكنهم محميون من التغير الزمني والموت الطبيعي.

الموت الطبيعي، رغم كونه نقصًا في حياة الإنسان، هو تمهيد لكمال أعلى لا يندرج إلا في الوجود الإنساني، فالملائكة معزولون عن هذا النقص والكمال الأعلى محرومون منه، لأنهم خاضعون لما قال الله: وما منا إلا له مقام معلوم (الصافات/ 164). ومع ذلك، يشمل الموت العام في القيامة الكبرى الملائكة، فليس فقط ملك الموت حضرة عزرائيل (عليه السلام) بل الموت نفسه سيموت، لكن الموت العام له معنى خاص لا يرتبط بالموضوع الحالي.

مواضيع ذات صلة

الهوامش

  1. لسان العرب، ج1، ص231؛ مجمع البحرين، ج1، ص121.
  2. تاج العروس، ج4، ص102؛ لسان العرب، ج1، ص232ـ231.
  3. تفسير صدر المتألهين، ج2، ص301.
  4. قاموس القرآن، ص38 و 132 و 192.
  5. نظرية ابن عربي: نشأة الإنسانية، الطبيعة، الملكوت، الجبروت واللاهوت؛ لذلك الإنسان الكامل مع أنه ينتمي للنشأة الأولى، يجمع في داخله الأربع نشآت الأخرى
  6. مراتب الإنسانية في الحضرات الخمس وتشير إلى الإنسان الكامل الذي جمع العالمين في نفسه. صاحب الدنيا والآخرة.
  7. (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقلوا له ساجدین). (سورة الحجر، آية 29 وسورة ص، آية 72).
  8. بحار الأنوار، ج 61، ص 132.
  9. «نحن وجه الله»؛ بحار الأنوار، ج4، ص 7 و5.
  10. بحار الأنوار، ج 2، ص 32.
  11. لمزيد من الشرح راجع: تفسير الإنسان إلى الإنسان، الجزء الثاني، الفصل الثاني من كتاب مصدر هذه المقالة.
  12. مائت: يموت؛ لسان العرب

المصادر