الإبتلاء
الابتلاء هو الإختبار والاختبار إنّما يكون بالمقدور الواقع في معرض إرادة المكلّف، لا الخارج عنها، ويراد به معرضيتهما لتعلّق الإرادة والطلب، كقول الفقهاء يستحب تعلّم المسائل التي هي محلّ الابتلاء، وقولهم في الأصول: يشترط في جريان الأصل في طرف العلم الإجمالي أن يكون في محلّ الابتلاء، والمراد معرضيته لإرادة المكلّف. وهذا اصطلاحٌ یُبحَث عنه في علم اصول الفقه من جهة أنه هل تثبت به التکالیف الشرعیة أو لا.
تعریف الإبتلاء لغةً
افتعال من البلاء، بمعنى الامتحان والاختبار[١]، وإطلاق البلاء والبلية على المشقة والمصيبة النازلة باعتبار ما فيها من الاختبار وظهور باطن الإنسان. بل قد يطلق على النعمة أيضا؛ لما فيها من الاختبار أحيانا، قال اللّه تعالى: «وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً».[٢] بل كلّ تكليف بلاءٌ لما فيه من الاختبار، قال الفيروزآبادي: «التكليف بلاء لأنّه شاقّ على البدن، أو لأنّه اختبار».[٣]. نعم وكلّ تكليف ليس فيه مشقة، كما في الاستحباب، ولعلّ المشقة في الالتزام به، أو أُطلق على الجميع تغليباً.
تعریف الإبتلاء اصطلاحاً
قد يستعمل الابتلاء بالشيء أو الفعل ويراد به معرضيتهما لتعلّق الإرادة والطلب، كقول الفقهاء يستحب تعلّم المسائل التي هي محلّ الابتلاء، وقولهم في الأصول: يشترط في جريان الأصل في طرف العلم الإجمالي أن يكون في محلّ الابتلاء[٤]، والمراد معرضيته لإرادة المكلّف. وقد يطلق عليه القدرة العرفية أيضاً[٥]، وكأنّه اصطلاح في علم الأصول كما سيأتي تفصيله. ويمكن إرجاعه ـ بوجه ـ إلى المعنى اللغوي [ الاختبار] أيضاً[٦]، وذلك لأنّ الاختبار إنّما يكون بالمقدور الواقع في معرض إرادة المكلّف، لا الخارج عنها كما لايخفى.
الألفاظ ذات الصلة
1 ـ القدرة العقلية
وهي إمكان صدور الفعل أو تركه عن المكلّف باختياره وإرادته، وإن لم يكن كذلك عرفا وعادةً، وهذا من الشّرائط العامّة لكلّ تكليف بمقتضى العقل، وكلّما تطلق القدرة في كلماتهم ينصرف إطلاقه إلى ذلك، أي العقلية. [٧]
2 ـ القدرة العادية
وهي كون الشيء ـ إضافة إلى إمكانه عقلاً ـ ممكنا عرفا وعادةً أيضا، بمعنى عدم كون المكلّف أجنبيّا عن الشيء بحيث يعدّ أمر المولى عبده به ونهيه عنه من اللغو المستهجن؛ لعدم انبعاث المكلّف عنه. كما إذا نهى المولى عبده عن ارتكاب الإناء النجس الموجود في بلد بعيد جدا، وهذا ما يسمى عندهم «بالخروج عن محلّ الإبتلاء». وجعله المشهور من شروط التكليف أيضاً[٨]، كما سيأتي توضيحه.
3 ـ القدرة الشرعية
وهي عدم تعلّق النّهي الشرعي التحريمي بالشيء، بحيث يكون للمكلّف مانع شرعي عن تناوله وارتكابه، أو بالعكس لمكان المزاحمة الواقعة بينهما[٩]، فما كان كذلك فهو غير مقدور شرعا، وإن كان مقدورا عليه عقلاً وعادةً، نعم استقر اصطلاح النائيني في القدرة الشرعية على المأخوذة في خطاب الحكم[١٠]، وليس هنا محل ذكره.
الأبحاث حول الإبتلاء
ونتعرض له ضمن أبحاث كما يلي:
البحث الأول: دور الابتلاء في التشريع
من واضحات علم الأصول ابتناء بعض الأحكام الفرعيّة الشرعية ـ كالأحكام العرفية ـ على ملاك الامتحان والاختبار، وتسمى الأوامر الواردة بهذا الفرض بالأوامر الامتحانيّة[١١]. بل فرق في ذلك بين مسلك العدليّة القائلين بثبوت المصالح الواقعية، وتبعيّة أحكام الشريعة لها[١٢]، ومسلك الأشاعرة المنكرين لها[١٣]، بل لعلّه على الثاني أوضح؛ إذ هذا المقدار من المصلحة ـ وهي الامتحان ـ ممّا لابدّ منه في فعل الحكيم خروجا له عن اللغويّة. بل قد يقال: إنّ الغاية القصوى لجميع أوامر المولى ونواهيه ـ حتى ما كان لمصلحة أو مفسدة واقعيّة في متعلقه ـ هي الامتحان[١٤]، بلا فرق بين ما يعتبر فيه القربة وغيره؛ إذ التوصلي أيضا قابل لحصول القربة به إذا أتى بهذا الداعي[١٥]، وقد اشير إلى ذلك في قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»[١٦] وقوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ».[١٧] قال المحقّق القمي: «إنّ المحقَّق عند أصحابنا هو التخطئة وأنّ حكم اللّه الواقعي واحد في نفس الأمر، إلاّ أنّ عمدة العماد في التديّن باللّه هو أصل التوحيد وخلع الأنداد والأضداد، والتسليم والانقياد، وتوطين النفس على تحمّل المشاقّ الواردة من قبله تعالى، فالأحكام الفرعيّة وإن كانت من الأمور الحقيقيّة المتأصّلة النّاشئة من المصالح النّفس الأمريّة، لكن العمدة في تأسيسها هو الابتلاء والامتحان وتقوية الإيمان بسبب الامتثال بها والتقرّب بها من جهة الطاعة، فإذا فهم المكلّف من خطابات الشارع فهما علميا بنفس الحكم وامتثل به فهو جامع للسّعادتين، أي الفوز بالمصلحة الخاصّة الكامنة فيه، والفوز بالمصلحة العامّة التي هي الانقياد والاطاعة».[١٨] وقال السرخسي: «فإنّ قول القائل: افعلوا كذا في مستقبل أعماركم، يجوز نسخه بالنّهي عنه بعد مضيّ جزء من العمر، ولولا النسخ لكان أصل الكلام متناولاً لجميع العمر، فبالنّسخ يتبيّن أ نّه كان المراد الابتلاء بالعمل في ذلك الجزء خاصّة، ولايتوهّم فيه معنى البداء أو الجهل بعاقبة الأمر، فكذلك النسخ بعد عقد القلب على الحكم واعتقاد الحقيّة فيه قبل التمكّن من العمل يكون بيانا أنّ المراد كان عقد القلب عليه إلى هذا الوقت واعتقاد الفرضيّة فيه، دون مباشرة العمل، وإنّما يكون مباشرة العمل مقصودا لمن ينتفع به، واللّه يتعالى عن ذلك، وإنّما المقصود فيما يأمر عباده الابتلاء، والابتلاء بعزيمة القلب واعتقاد الحقيّة لايكون دون الابتلاء بالعمل، وربّما يكون ذلك أهم، ألا ترى أنّ في المتشابه ما كان الابتلاء إلاّ بعد البيان يكون الابتلاء قبل البيان بعقد القلب عليه واعتقاد الحقيّة فيه، ويكون ذلك حسنا لايشوبه من معنى القبح شيء».[١٩] ومراده من اعتقاد الحقيّة في المجمل والمتشابه الاعتقاد بما هو الواقع عند اللّه تعالى. وكيف كان فالغرض تبيين دخالة ملاك الامتحان والابتلاء في التشريع في الجملة، وأمّا تفصيل الكلام في حقيقة الأوامر والنواهي الامتحانيّة وإمكانها وحسنها عن الحكيم وما هو المطلوب الواقعي فيها. [٢٠]، وفي أنّ الداعي لها هل هو حصول العلم بحقيقة حال المكلّف للآمر، أو إظهار حاله للغير ولنفس المكلّف[٢١] «ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيی من حيّ عن بيّنة»[٢٢] ـ وهو الصحيح في أوامر اللّه تعالى العالم بحقائق الأمور ـ وغيرها متروك إلى محل آخر.
البحث الثاني: العلم الاجمالي وشرطية الابتلاء في تنجيزه
لاينبغي الشك في أ نّه يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي ـ كالتفصيلي ـ أن يكون جميع أطرافه مقدورا للمكلّف[٢٣]؛ إذ لو كان بعضها غير مقدورٍ له كان التكليف بالنسبة إلى هذا البعض ساقطا عنه يقينا؛ لوضوح اعتبار القدرة في كلّ تكليف[٢٤]، والتكليف في الطرف الآخر أيضا مشكوك الحدوث، فبالنتيجة يحصل الشك في أصل التكليف في الواقعة فتجري البراءة ، على ما هو المنقّح في محلّه . هذا في القدرة العقلية.
ولكن زاد الشيخ الأنصاري شرطا آخر لتنجيز العلم الإجمالي في خصوص الشبهة التحريمية، وهو أن يكون جميع الأطراف في محلّ الابتلاء ـ بمعنى المقدوريّة العرفية ـ فالتزم قدسسره بعدم التنجيز فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء عرفا وإن كان مقدورا عليه عقلاً، مدّعيا دخله في صحّة النهي عن شيء وحسنه، فلو كان الشيء بحيث لايتعلّق إرادة المكلّف بفعله عادةً كان صدور النهي بالنسبة إليه مستهجنا عن الحكيم، وعند الاشتباه لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي. [٢٥]
وبعبارة بعضهم: «حيث كان الغرض من جعل التكليف التحريمي إحداث المانع للمكلّف عن فعله وإيجاد الدّاعي إلى تركه، فلو فرض عدم كونه في معرض الابتلاء وبالنتيجة عدم الداعي له إلى الفعل، كان تركه مستندا إلى عدم المقتضي، وبالتالي إحداث المانع له لغوٌ محض. فإذا كان بعض أطراف العلم الإجمالي بالتكليف التحريمي كذلك كان التكليف بالنسبة إليه منتفيا قطعا، وفي الطرف الآخر مشكوك الحدوث ومجرى لأصالة البراءة، وبالنتيجة لايكون هناك علم بالجامع الفعلي أصلاً».[٢٦]
ووسّع الأمر الآخوند الخراساني مدّعيا أنّ الملاك المزبور بعينه موجود في الشبهة الوجوبية أيضا. فلا يكون العلم الإجمالي فيها أيضا منجّزا إلاّ فيما كان جميع أطرافها في محلّ الابتلاء من حيث الترك؛ إذ لو كان بعض أطراف العلم الإجمالي بالتكليف الوجوبي متروكا ومنتركا في نفسه عادةً لخروجه عن محلّ الابتلاء، يكون توجه الخطاب بالنسبة إليه لغوا وساقطا، فيجري أصل البراءة بالنسبة إلى الطرف الآخر بلا معارض في البين. [٢٧] ووافقه على ذلك المحقّق العراقي أيضاً. [٢٨]
وأجاب عنهم المحقّق النائيني ـ وفاقا للشيخ الأنصاري في تفصيله بين الشبهة التحريمية والوجوبية ـ بأنّ متعلق التكليف الوجوبي حيث كان هو الفعل، وهو مستند إلى الإرادة والإختيار حتى فيما كان مفروض التحقق عادةً بدون أمر من المولى، فصح تعلّق التكليف به من غير استهجان،
بخلاف متعلق التكليف التحريمي فإنّه الترك وهو عدمّي لايحتاج إلى علّة توجبه، بل يكفيه عدم إرادة الفعل، وهو أيضا عدمّي، فلو كان الترك حاصلاً بنفسه عادةً لأجل عدم الداعي للمكلّف إلى الفعل كان النهي عنه لغوا مستهجناً. [٢٩]
ولكن السيّد الخوئي قدس سره ـ بعد الإيراد على التفصيل الذي ذكره الشيخ الأنصاري بأ نّه لو بني على أنّ التكليف بما هو حاصل عادةً كما هو مفروض الكلام لغو مستهجن، فلا فرق فيه بين التكليف الوجوبي والتحريمي، إذ كما يكون عن شيء متروكٍ في نفسه لغوا وقبيحا من الحكيم كذلك يكون البعث نحو شيء حاصل بنفسه لغوا مستهجنا، فلو قيل بالاشتراط لا فرق فيه بين التكليف الوجوبي والتحريمي ـ ذهب إلى تفصيل آخر، وهو التفصيل بين الأوامر العرفيّة والأوامر الشرعية،
وحكم باشتراط الابتلاء في العرفية دون الشرعية، وهذا في الحقيقة إنكارٌ للشرط المزبور بالنسبة للتكاليف الوجوبية والتحريمية معا.
واستدلّ له بأنّ الغرض من الأوامر والنواهي الشرعية ليس مجرد تحقق الفعل أو الترك خارجا، بل الغرض منها صدور الفعل أو الترك استنادا إلى أمر المولى؛ ليحصل للمكلّف بهما الكمال النفساني كما أشير إليه في قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»[٣٠] بل فُرّق بين التعبّدي والتوصلي بما ذكر في مباحث الأمر والنهي من أنّ الغرض في كليهما هو الاستناد إلى أمر المولى ونهيه، فلا يحصل غرض المولى بمجرد تحقق الفعل أو الترك حتى يقال بلغويّة الأمر أو النهي في هذا الفرض، وهذا بخلاف الأوامر والنواهي العرفيّة التي ليس الغرض منها إلاّ تحقق متعلّقها في الخارج،
وفي هذا الفرض يصحّ القول بأنّ الفعل لو كان في نفسه متروكا فالغرض حاصل، ولا وجه للنهي أو الأمر التشريعي.
والمتحصّل أ نّه لايعتبر في تنجيز العلم الإجمالي كون الأطراف في معرض الابتلاء، لا في الشبهة الوجوبية ولا في الشبهة التحريمية، بل المعتبر كون جميع الأطراف مقدورا للمكلّف فحسب، فعلى هذا يجب الاحتياط بالنسبة للطرف الموجود في محلّ الابتلاء ولو مع خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء؛ لفرض تحقق القدرة العقلية.
ثمّ ادّعى قدسسره أنّ غالب الأمثلة التي ذكرها الشيخ للخروج عن محلّ الابتلاء أمثلة للخروج عن القدرة العقلية. [٣١]
ثمّ إنّ الشهيد الصدر ممّن وافق السيد الخوئي في عدم اشتراط التكليف بكون متعلّقه في محلّ الابتلاء، فيكون التكليف بالمعلوم بالإجمال فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء صحيحا عنده أيضا، إلاّ أ نّه خالفه ووافق المشهور في حكمهم بعدم وجوب الاحتياط ببيان آخر، غير ما ذكروه. وحاصله أنّ دليل المشهور في حكمهم بعدم الاحتياط انتفاء العلم بجامع التكليف فيما إذا كان بعض أطراف العلم الإجمالي خارجا عن محلّ الابتلاء، وهذا هو الذي أنكره السيدان الخوئي والصدر وحكما بوجود العلم بالتكليف في أطراف العلم الإجمالي، ولكن حكم الشهيد الصدر بانحلال هذا العلم الإجمالي حكما بجريان الأصل المؤمّن في الطرف الواقع محلّ الابتلاء دون الطرف الآخر الخارج.
لكنّ ما يراه قدسسره إنّما يصحّ على مسلك الاقتضاء في منجزيّة العلم الإجمالي ـ كما عليه المحقّق النائيني ـ وأمّا على مسلك العليّة ـ وهو مسلك المحقّق العراقي ـ لم يفد ما ذكره الشهيد الصدر أيضا في المنع عن منجزيّة العلم الإجمالي في المقام؛ وذلك لأنّ مقتضى مسلك عليّة العلم الإجمالي للموافقة القطعيّة لزوم الاحتياط بمجرّد تحقق العلم، وأنّ نفس ذلك يمنع من جريان الأصول حتى في جملة وفي بعض الأطراف.
البحث الثالث: الشكّ في الابتلاء
وله صورتان: الأولى: الشك في اشتراط تنجيز العلم الاجمالي بدخول الأطراف في محلّ الابتلاء حكما، سواء أكان منشأه الإبهام في مفهوم الابتلاء وحدوده، أم لا. الثانية: الشك في تحقق الدخول في محلّ الابتلاء صدقا بعد العلم بالاشتراط المزبور. وعلى كلّ تقدير هل المرجع إطلاق دليل التكليف، فيحكم بالتنجيز ولزوم الاحتياط بالنسبة للطرف الداخل في محلّ الابتلاء، أو هو البراءة؟
أمّا الصورة الأولى: فقد ذهب الشيخ الأنصاري فيها إلى الأول[٣٢] ـ أي إطلاق دليل التكليف ـ وتبعه عليه المحقّق النائيني[٣٣]، والسيد الخوئي[٣٤]، وغيرهم[٣٥] وخالفهم الخراساني، فحكم بالبراءة بدعوى أنّ التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات إنّما يصح إذا أمكن الإطلاق بحسب مقام الثبوت؛ ليستكشف بالإطلاق في مقام الإثبات الإطلاق في مقام الثبوت، ومع الشك في إمكان الإطلاق ثبوتا ـ لاحتمال تقيّد خطاب التكليف بكون متعلقه في محلّ الابتلاء على كلّ تقدير ـ لا مجال للتمسّك به إثباتا.
وكذلك الكلام مع افتراض إبهام في مفهوم الابتلاء، لحصول الشك في صحة الإطلاق وعدمه؛ لاحتمال تقيّده بما ذكر، فالمرجع بعد عدم دلالة الخطاب البراءة.[٣٦] ووافقه على ذلك الإمام الخميني، بناءً على مبنى المشهور في الابتلاء.[٣٧]
ولكن أجيب عن ذلك: بأنّ بناء العقلاء ثابت في التمسّك بالإطلاق ونحوه في باب الألفاظ ما لم تثبت القرينة العقليّة أو النقليّة على إرادة الخلاف، ومجرّد احتمال استحالة التكليف لايعدّ عذرا مانعا عن بناء العقلاء، مثلاً إذا أمر المولى باتباع خبر العادل وترتيب الأثر عليه،
واحتملنا استحالة حجّية خبر العادل ـ لما ذكر في محلّه من استلزام تحليل الحرام وتحريم الحلال وتفويت المصلحة أو غير ذلك ممّا ذكروه ـ فإنّ ذلك لايوجب عذرا في مخالفة ظاهر كلام المولى، فالمرجع مع الشك إطلاق خطاب التكليف، لا أصل البراءة.[٣٨]
وأمّا الصورة الثانية: وهي صورة الشك في الدخول والخروج عن محلّ الابتلاء لشبهة مصداقية ـ بناءً على شرطية الابتلاء ـ فالظاهر من الشيخ الأنصاري والمحقّق النائيني لزوم الرجوع إلى إطلاق دليل التكليف أيضا،
إمّا لما ذكره الشيخ من أنّ الخطابات الواردة بالاجتناب عن المحرمات مطلقة غير معلّقة، والمعلوم تقييدها بالابتلاء إنما هو موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق بالابتلاء، وأمّا مع الشكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات[٣٩]، وإمّا لما ذكره النائيني من أنّ المقيدات اللُبيّة ـ كما في المقام ـ يجوز فيها التمسّك بالعامّ حتى في الشبهة المصداقية إذا كان الترديد فيها بالأقل والأكثر كما في المقام.[٤٠]
ووافقهم الإمام الخميني أيضا ـ على ما سلكه من المبنى في الخطابات القانونية ـ من أنّ لها الإطلاق حتى بالنسبة للعاجز والخارج عن محلّ الابتلاء ـ وليس هنا محلّ ذكره ـ وعلى مبناه ليس الخطاب مقيّدا بالقدرة، ولا بدخول متعلقه في محلّ الابتلاء، حتى يجري فيه ما مرّ عن الشك في التكليف، بل يجب الاحتياط امتثالاً للتكليف الفعلي المعلوم.[٤١]
ولكن الظاهر من المحقّق الخراساني جريان البراءة بتقريب: أنّ التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات إنما يتمّ فيما إذا صحّ الإطلاق في مقام الثبوت أيضا، ومع الشكّ في الإطلاق ثبوتا لاحتمال تقيّده بالابتلاء لا أثر للإطلاق إثباتاً.[٤٢]
ووافقه السيد الخوئي، مستدلاً عليه بما ذكر في مباحث الألفاظ من عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقية، خصوصا في التخصيصات اللبيّة التي هي من قبيل القرائن المتصلة الموجبة لعدم انعقاد الظهور من أوّل الأمر إلاّ في الباقي.[٤٣]
البحث الرابع: الخروج عن محلّ الابتلاء بعد العلم الإجمالي
ثمّ من الواضح ـ الذي صرّح به غير واحد من الأصوليين[٤٤] ـ أنّ اشتراط تنجيز العلم الإجمالي بعدم كون بعض أطرافه خارجا عن محلّ الابتلاء ـ على القول به ـ إنما هو فيما إذا كان الخروج قبل حصول العلم الإجمالي، إذ يجري ما مرّ من البيانات من عدم العلم بالجامع، أو جريان الأصل بلا معارض وغيرها.
وأمّا إذا كان الخروج عن محلّ الابتلاء بعد حصول العلم الإجمالي وتنجزه وحكم العقل بلزوم الاحتياط في أطرافه، فلايجري فيه البيانات السابقة؛ لمكان العلم بالتكليف الفعلي فينجز، ولأنّ الأصول المؤمّنة في الأطراف قد تساقطت بالتعارض قبل خروج بعضها عن محلّ الابتلاء فلا تعود.
البحث الخامس: الخروج عن محلّ الابتلاء بالتحريم الشرعي
ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء كما يكون بعدم القدرة العادية على التصرف في الشيء ـ كما مرّ تفصيله ـ كذلك يكون بعدم القدرة الشرعية عليه، كما إذا علم بنجاسة أحد الإنائين مع العلم تفصيلاً بغصبية أحدهما المعيّن، فالمغصوب خارج عن محلّ الابتلاء شرعا، فيبقى الطرف الآخر مؤمّنا عنه بقاعدة الطهارة ونحوها[٤٥]
وأُورد عليه بأنّ العلم التفصيلي بحرمة شرب أحد الطرفين بالخصوص لغصبيته تكليف آخر وضيق جديد على عهدة المكلّف، ولايمنع ذلك من جريان الأصل المؤمّن بالنسبة للتكليف المحتمل الآخر بالنسبة للأطراف حتى هذا الطرف المعلوم يغصبيته، لأ نّه بذلك يؤمّن عن الضيق والعقاب الزائد، فيقع التعارض بين الأصلين لا محالة، وبتعبير آخر: يكفي لصحة الخطاب مجرد القدرة العادية على الاستيلاء خارجاً.[٤٦]
نعم، بناءً على مسلك الشهيد الصدر في تفسيره لعدم جريان الأصل في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء بالارتكاز العرفي قد يقال: إنّ دليل الأصل منصرف عن الإناء المغصوب كما كان منصرفا عن الإناء الخارج عن محلّ الابتلاء تكوينا؛ لكونه بحسب الدقة وإن كان يوجد هنا أيضا تزاحم بين ملاك ترخيص شرب الطاهر وملاك إلزامي في حرمة شرب النجس،
إلاّ أ نّه حيث لايجوز شربه على كلّ حال لكونه مغصوبا فكأنّ العرف لايتعقل مثل هذا التزاحم الحيثي، فلا يرى شمول دليل الأصل الترخيصي له بلحاظ حرمة شرب النجس، ولكن أجيب عنه أيضا بما ليس هنا محلّ ذكره.[٤٧]
البحث السادس: كثرة الابتلاءات وكشفها عن عدم حجّية الخبر الواحد أو عدم صدوره
نُسب إلى الكرخي وأبي حنيفة وبعض أتباعه من أهل الرأي عدم العمل بخبر الواحد إذا كانت المسألة ممّا تعمّ بها البلوى، ببيان: أنّ المسألة إذا كانت كثيرة الابتلاء فبطبيعة الحال تكون الأخبار الواردة في حكمها أيضا كثيرة وغير منحصرة في الواحد، إلاّ أن يفرض كون المسألة ممّا تكثر الدواعي إلى إخفائها، وإلاّ فقلة الخبر وشذوذه في مثل هذا الموضوع تكشف عن عدم صدوره، أو عدم حجّيته.[٤٨] وهذا المبنى يظهر من الشيخ الطوسي، والمحقّق الحلّي أيضا، قال الشيخ الطوسي: «والعادة قاضية بأنّ الأمر لو كان بهذا الضيق في مثل هذا الأمر العامّ البلوى، لتواتر إلينا من النبي(ص) والأئمة(ع) وأصحابهم المنع من العمل به والتضييقات فيه، ولم يبلغ إلينا دون التواتر، فضلاً عن التواتر...»[٤٩]، وقال المحقّق الحلّي: «لأنا نقول: لو كان كذلك لما اختص الخصم بعلمه دوننا؛ لما ذكرناه عن عموم البلوى به وزوال الأغراض الباعثة على إخفائه»[٥٠] ولكن هذا التفصيل مردود عند أكثر العلماء ـ كما نسبه إليهم الآمدي[٥١] ـ فإنّهم حكموا بأنّ الخبر الواحد لو قيل بحجّيته فهو حجّة مطلقا، بلا فرق بين ما تعمّ به البلوى وغيره، ولو قيل بعدم حجّيته فكذلك. و قد أجابوا عمّا مرّ من الدليل على التفصيل نقضا وحلاًّ. أمّا النقض فبأحكام كثيرة واردة فيما تعمّ به البلوى مع كون الخبر الدال عليها من الآحاد، وذلك مثل ما ذكره العلاّمة الحلّي من أنّ الصحابة رجعوا في أحكام الرعاف والقيء والقهقهة في الصلاة إلى الآحاد، مع عموم البلوى فيها.[٥٢] وما ذكره الآمدي من أنّ الوتر وحكم الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة ووجوب الغسل من مس الميت، وإفراد الإقامة وتثنيتها من قبيل ما تعمّ به البلوى، ومع ذلك قد أثبتها الخصوم بأخبار الآحاد.[٥٣] قال الغزالي ردّا على أبي حنيفة: «إن عنيت به ما يتكرّر في اليوم والليلة كالصلاة والطهارة فليس كذلك، إذ معظم الصور المتعلّقة بالصلاة والسهو فيها انفرد به الآحاد... وقالوا لو كان لاستفاض، فإنّ البسملة متكررة، وهذا يعارضه إنّ الإسرار لو وقع لاستفاض أيضا...».[٥٤] وأمّا الحلّ فبأنّ ذلك مقتضى إطلاق أدلة حجّية الخبر من الآيات والأخبار ونحوهما.[٥٥] قال الآمدي: «وأمّا القرآن فإنما امتنع إثباته بخبر الواحد لا لأ نّه ممّا تعمّ به البلوى، بل لأ نّه المعجز في إثبات نبوّة النبي(ص) وطريق معرفته متوقف على القطع».[٥٦] نعم، قد يقال بأنّ المخبر به إذا كان ممّا كثرت الدواعي وتوفرت على نقله بحيث يستحيل عادةً في مثله وحدة الخبر، كقتل أمير في السوق، أو وقوع زلزلة ونحوهما، فإنّ وحدة الخبر في مثل ذلك يكشف عن كذب الخبر، كما صرّح به الغزالي.[٥٧] وهذا في الحقيقة من صغريات المسألة الآتية. كما قد يقال بصحّة مقولة أبي حنيفة في مقام ترجيح أحد المتعارضين، حيث إنّ الخبر الواحد فيما لاتعمّ به البلوى أبعد عن الكذب إذا كان فيما يعمّ به البلوى[٥٨] وحينئذٍ يعدّ ذلك من المرجّحات غير المنصوصة لأحد المتعارضين على الآخر.
البحث السابع: عموم الابتلاء وكشفه عن عدم الحكم (عدم الدليل دليل العدم)
قد يعتبر عدم وجدان الدليل على حكم في مسألة كأمارة على انتفاء ذلك الحكم في الشريعة واقعا، خصوصا إذا كانت المسألة ممّا تعمّ بها البلوى، وهي من القرائن الموجبة لاطمئنان الفقيه، ببيان: أنّ المسألة إذا كانت كذلك فقد تكثر الدواعي إلى نقلها والسؤال حولها عن المعصوم عليهالسلام، فإذا لم يجد الفقيه في حكم مثل تلك المسألة بيانا من صاحب الشريعة فقد يطمئنّ بعدم الحكم له واقعا، من دون احتياج إلى التمسّك بالأصول العملية المؤمِّنة من البراءة ونحوها؛ لحصول العلم له على الفرض. قال المحقّق الحلّي: «اعلم أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعية، فإذا ادّعى مدّعٍ حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك بالبراءة الأصلية، ويقول: لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعية، لكن ليس كذلك، فيجب نفيه، ولايتمّ ذلك إلاّ ببيان مقدمتين...».[٥٩] وقوله: «فيجب نفيه» قرينة على أنّ مراده من الأصل ليس أصالة البراءة، بل المراد حصول العلم بالعدم. وقال الفاضل التوني ذيل هذا الكلام: «ولايخفى أنّ هاتين المقدّمتين ممّا لا سبيل إليه إلاّ فيما تعمّ به البلوى».[٦٠] وقال المحقّق الحلّي في نفي نجاسة المذي: «أمّا أولاً فلأنّه لو كان نجسا لاشتهر، لأ نّه ممّا يعمّ به البلوى فلم يكن يخفى على مثل ابن عباس وغيره من الصحابة ولاينعكس علينا؛ لأنّ الطهارة تستفاد من الأصل فلا تتوقف على الدلالة، فيصحّ نقل مخالفها؛ لأ نّها معارضة الأصل».[٦١] وقد وقع نظير هذا الاستدلال على نفي الحكم واقعا من غيرهم من الفقهاء أيضاً.[٦٢] ومن الواضح أنّ هذا البيان غير جارٍ بالنسبة إلى بعض الفروع القليلة البلوى التي لم يتوفر الدواعي إلى نقلها، فضلاً عمّا كثرت الدواعي إلى إخفائها. وإن كان مثله قليلاً في الفروع لولا أ نّه معدم.
الهوامش
- ↑ معجم مقاييس اللغة 1 : 293، مادة «بلوى»، لسان العرب 1 : 359، مادة «بلى» و«بلا»، المصباح المنير : 62، مادة «بلى»، القاموس المحيط : 1163، مادة «بلي».
- ↑ سورة الأنبیاء، الآیة35
- ↑ القاموس المحيط : 1163، مادة «بلى».
- ↑ منتقى الأصول 1 : 391، انظر : الأصول العامة للفقه المقارن : 531، مستمسك العروة الوثقى 1 : 451.
- ↑ انظر: تنقيح الأصول العراقي: 75، منتقى الأصول 2 : 433 و3 : 50.
- ↑ لسان العرب 1 : 359 مادة «بلا».
- ↑ زبدة الأصول الروحاني 2 : 28.
- ↑ فوائد الأصول 4 : 54 ـ 55، نهاية الأفكار 3 : 343.
- ↑ انظر : فوائد الأصول 1 ـ 2 : 325، 368، و4 : 65، 66، 116، تنقيح الأصول العراقي: 99، الحاشية على كفاية الأصول 1 : 291.
- ↑ فوائد الأصول 1 ـ 2 : 315، 322.
- ↑ فوائد الأصول 1 ـ 2 : 134، لمحات الأصول : 36.
- ↑ نهاية الدراية 2 : 328 و3 : 406.
- ↑ مختلف الشيعة 5 : 305.
- ↑ انظر : مجموعة الرسائل الصافي 1 : 147.
- ↑ تقريرات المجدّد الشيرازي 2 : 326، الواجبات في الصلاة : 103.
- ↑ سورة الذاریات، الآیة 56
- ↑ سورة البینة، الآیة 5
- ↑ القوانين المحكمة : 220.
- ↑ أصول السرخسي 2 : 64 ـ 65.
- ↑ هداية المسترشدين 1 : 583، 587، 589 و2 : 616 ـ 617، فوائد الأصول 1 ـ 2 : 134 و3 : 219، نهاية الأفكار 1 ـ 2 : 167، نهاية الأصول 1 ـ 2 : 82 ، محاضرات في أصول الفقه 5 : 315، زبدة الأصول الروحاني 1 : 244.
- ↑ انظر: هداية المسترشدين 2: 131.
- ↑ سورة الأنفال، الآیة 42
- ↑ مصباح الأصول 2 : 401.
- ↑ كتاب المكاسب والبيع النائيني 1 : 352، بداية الوصول 7 : 13.
- ↑ فرائد الأصول 2 : 234، وانظر : كفاية الأصول : 361، أجود التقريرات 2 : 252، زبدة الأصول الروحاني 3 : 345.
- ↑ مصباح الأصول 2 : 394.
- ↑ كفاية الأصول : 361، درر الفوائد الحائري 1 ـ 2 : 465.
- ↑ انظر : فوائد الأصول 4 : 51 الهامش.
- ↑ انظر : فوائد الأصول 4 : 51 ـ 52.
- ↑ سورة البینة، الآیة 5
- ↑ انظر : مصباح الأصول 2 : 395 ـ 396.
- ↑ فرائد الأصول 2 : 237 ـ 238.
- ↑ فوائد الأصول 4 : 55 ـ 58.
- ↑ مصباح الأصول 2 : 398.
- ↑ درر الفوائد الحائري 1 ـ 2 : 465.
- ↑ كفاية الأصول : 361.
- ↑ تهذيب الأصول 2 : 307 ـ 309.
- ↑ مصباح الأصول 2 : 398.
- ↑ فرائد الأصول 2 : 237 ـ 238.
- ↑ فوائد الأصول 4 : 54 ـ 58.
- ↑ تهذيب الأصول 2 : 176 ـ 177.
- ↑ كفاية الأصول : 361.
- ↑ مصباح الأصول 2: 399، دراسات في علم الأصول 3: 400 ـ 401.
- ↑ نهاية الأفكار 3 : 340 ـ 341، مستمسك العروة الوثقى 3 : 32، إفاضة العوائد 2 : 182.
- ↑ فوائد الأصول 4 : 65.
- ↑ انظر : فوائد الأصول 4 : 66 الهامش، بحوث في علم الأصول (الهاشمي) 5 : 298 ـ 299.
- ↑ انظر : بحوث في علم الأصول الهاشمي 5 : 299.
- ↑ انظر : الفصول في الأصول 2 : 293، اللمع : 257، المنخول : 201 ـ 203، المستصفى 1: 202، المجموع شرح المهذّب 5: 265.
- ↑ العدّة في أصول الفقه 1 : 280 ـ 282، 338.
- ↑ معارج الأصول : 189.
- ↑ الإحكام 1 ـ 2 : 339.
- ↑ مبادئ الوصول : 209.
- ↑ الإحكام 1 ـ 2 : 340.
- ↑ المنخول : 285.
- ↑ الإحكام الآمدي 1 ـ 2 : 339 ـ 340، مبادئ الوصول : 209.
- ↑ الإحكام 1 ـ 2 : 342.
- ↑ المنخول : 247 ـ 248، المستصفى 1 : 201 ـ 202.
- ↑ انظر : الإحكام الآمدي 3 ـ 4 : 469.
- ↑ معارج الأصول : 212.
- ↑ الوافية : 179.
- ↑ المعتبر في شرح المختصر 1 : 418.
- ↑ انظر : المستصفى 1 : 202، المنخول : 284 ـ 285، جامع المدارك 2 : 48، التنقيح في شرح العروة الوثقى 3 : 458 و4 : 292 و6 : 292.