التخطئة والتصويب

مراجعة ١٨:٢١، ٥ أبريل ٢٠٢٣ بواسطة Wikivahdat (نقاش | مساهمات) (استبدال النص - '=المصادر=↵{{الهوامش|2}}' ب'== الهوامش == {{الهوامش}}')
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)

التخطئة والتصويب: اصطلاحان أصوليان: التخطئة بمعنی إمکان خطأ المجتهد في اجتهاداته، و التصويب بمعنی عدم إمکانه. ولتوضیح أکثر ندعوکم إلی هذا المقال.

تعريف التخطئة والتصويب لغةً

التخطئة: هي اعتبار شخص خاطئا فيما يقوله أو يفعله، والتصويب خلافها[١].

تعريف التخطئة والتصويب اصطلاحاً

هي الاعتقاد بإمكان خطأ المجتهد في اجتهاده وعدم إصابته الأحكام الشرعية الواقعية التي لا تتأثّر باجتهاد المجتهدين واستنباطهم؛ لاشتراكها بين العالم والجاهل ويقابله التصويب الذي يعني الاعتقاد بإصابة المجتهد وتعدد الأحكام بعدد ما يتوصّل إليه المجتهدون في اجتهادهم[٢].

والفرق بين التصويب والإجزاء في ابتناء الإجزاء على الاعتراف بوجود أحكام واقعية لا تتأثّر باجتهاد المجتهدين، بخلاف التصويب المبتني على عدم الاعتراف بوجود أحكام واقعية ثابتة لا تتأثّر باجتهاد المجتهدين.

وبعبارة اُخرى: إنّ الإجزاء عبارة عن سقوط الحكم الواقعي إمّا لحصول الغرض الداعي إلى تشريعة، كبعض صور الأوامر الاضطرارية والظاهرية بناءً على الموضوعية، وإمّا لعدم إمكان تحصيله، كما في بعض صورهما الاُخر، وهي الوفاء بمقدار من المصلحة وفوات الباقي وعدم إمكان تداركه.

وأمّا التصويب، فهو عبارة عن: خلو الواقعة عن الحكم، وانحصار حكمها في مؤدّى الأمارة، ومن المعلوم: إنّ التصويب بهذا المعنى يضادّ الإجزاء الذي هو فرع الثبوت، إذ لا معنى لسقوط التكليف بدون ثبوته، فالإجزاء يقتضي ثبوت التكليف، والتصويب يقتضي عدمه.

غاية الأمر أنّ الحكم الواقعي ـ بناء على الإجزاء ـ يصير فعليا مع إصابة الأمارة، ويبقى على إنشائيته مع خطئها إلى أن ينكشف الخلاف، فإذا انكشف وكان مؤدّى الأمارة وافيا بتمام المصلحة أو بجلّها ـ مع عدم إمكان تدارك الباقي ـ لا يصير الحكم الواقعي فعليا، بل يسقط، وإن لم يكن مؤدّى الأمارة كذلك لا يسقط، بل يصير فعليا، ولذا تجب الإعادة أو القضاء[٣].

ورغم هذا الفرق بين التصويب و الإجزاء إلاّ أنّ الذي يظهر من الشهيد في تمهيد القواعد: إنّ الإجزاء يؤدّي بالنتيجة إلى الاعتقاد بالتصويب[٤].

حکم التخطئة والتصويب

لا خلاف بين علماء الإسلام في وقوع الخطأ في أحكام العقل النظري[٥] ـ إلاّ عند عبيد اللّه‏ بن الحسن العنبري[٦] ـ سواء لم يكن لها ارتباط بـ الأحكام الشرعية كالاعتقاد بإمكان إعادة المعدوم وعدم إمكان إعادته، أو كان لها ارتباط كالاعتقاد بإمكان اجتماع الأمر والنهي وعدم إمكانه؛ لعدم معقولية إمكان شيء وعدمه معا في آن واحد، لاستلزامه اجتماع الإمكان والامتناع في مورد واحد، وهو غير معقول[٧].

وأمّا عبيداللّه‏ العنبري وقوله بالتصويب في أحكام العقل النظري فقد ردّ عليه الآمدي بأنّه: «إنْ أراد بالإصابة موافقة الاعتقاد للمعتقد فقد أحال وخرج عن المعقول... ، وإن أراد بالاصابة أنّه أتى بما كلّف به ممّا هو داخل تحت وسعه وقدرته من الاجتهاد وأنّه غير آثم، فهو ما ذهب إليه الجاحظ، وهو أبعد عن الأوّل في القبح، ولا شكّ أنّه غير محال عقلاً، وإنّما النزاع في إحالة ذلك وجوازه شرعا»[٨].

وأمّا أحكام العقل العملي فالظاهر من إطلاق بعضهم وقوع الخطأ فيها أيضا، إلاّ أنّ هناك من نفى وقوعه فيها، لاعتقاده بنشوء التحسين والتقبيح من ارتياح النفس ونفرتها، ولا معنى لخطأ الإنسان فيما يحس به من ارتياح أو نفرة.

وهذا يعني إمكان الخطأ في حكم العقل، بناءً على ارتكاز التحسين والتقبيح على واقع محفوظ لا علاقة له بارتياح النفس أو نفرتها؛ إذ قد يخطئه أحيانا ويصيبه اُخرى[٩].

هذا في الأحكام العقلية، وأمّا الأحكام الشرعية فقد وقع الكلام في إصابة المجتهد وخطئه لها إذا كانت من الأحكام الفرعية الظنّية لا من ضروريات الدين وبديهياته كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحجّ وحرمة الزنا والقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها من أحكام ضرورية لا مجال للقول بإصابة المجتهد في مخالفته لها[١٠].

القائلون بالتخطئة من الإمامية وبعض أهل السنّة

قد اختلف علماء الإسلام في التخطئة والتصويب في الأحكام الفرعية الفقهية، حيث ذهب الشيعة الإمامية[١١] وبعض علماء الجمهور[١٢] كأحمد[١٣] ومالك[١٤] والشافعي[١٥] إلى إمكان الخطأ في الاجتهاد والمعذورية فيه إلى حين انكشاف الحكم الواقعي ووجوب العمل به، وإن نفى بعضهم المعذورية في هذه الصورة[١٦].

الدليل الأول: القرآن

وقد استدلّوا للتخطئة بـ الكتاب والسنّة و الإجماع والعقل[١٧]:

أمّا الكتاب: فبقوله تعالى: «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْما وَعِلْما»[١٨]، حيث تدلّ الآية على أنّ اللّه‏ سبحانه خصّ سليمان بتفهيمه حكم هذه الواقعة، ممّا يعني خطأ داوود في الحكم، وعدم إصابته فيه[١٩].

ونوقش فيه: بأنّها إنّما تدلّ على ذلك بالمفهوم من قوله تعالى: «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمانَ» وهو ليس بحجّة[٢٠].

وأمّا السنّة: فقد استدلّوا بما رواه الجمهور عن النبي(ص) من أنّه: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر»[٢١]. فإنّ فيه دلالة على وقوع الخطأ في الاجتهاد.

الدليل الثاني: السنّة

ومن السنّة أيضا، أخبار متواترة دالة على أنّ للّه‏ تعالى أحكاما يشترك فيها العالم والجاهل[٢٢]، كالروايات الدالّة على الوقوف عند الشبهة، كقول النبي(ص) لعلي وخديجة عليهماالسلام لمّا أسلما: «إنّ للإسلام شروطا: أنْ تقولا: نشهد أنّ لا إله إلاّ اللّه‏ ـ إلى أن قال ـ : والوقوف عند الشبهة...»[٢٣].

وكذا ما روي عن الإمام الصادق(ع) في حديث قال: «فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»[٢٤].

وغيرها من أخبار دالّة على وجود أحكام ثابتة في حقّ الجميع موجودة في اللوح المحفوظ لابدّ من رعايتها والوقوف عند الشبهة والجهل بها.

الدليل الثالث: الإجماع

وأمّا الإجماع: فقد صوَّره بعض علماء الجمهور باعتراف الصحابة صرّحوا بوقوع الخطأ في الاجتهاد، كقول أبي بكر في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن اللّه‏، وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان، واللّه‏ ورسوله منه بريئان[٢٥].

وقول عمر لكاتبه: اكتب، هذا ما رأى عمر، فإن كان صوابا فمن اللّه‏، وإن كان خطأ فمن عمر[٢٦].

وقال في المرأة التي ردّت عليه النهي عن المبالغة في المهر: أصابت امرأة وأخطأ عمر[٢٧].

وغيرها من نصوص منقولة عن الصحابة دالّة على وقوع الخطأ في الاجتهاد[٢٨].

الدليل الرابع: العقل

وأمّا العقل: فبوجوه متعددة:

منها: إنّ اختلاف المجتهدين بالنفي والإثبات والحلّية والحرمة والصحّة والفساد في مسألة واحدة وزمان واحد، والحكم بصحّة وصواب كلّ ما توصلوا إليه يعني اجتماع النقيضين ونسبة التناقض إلى حكم اللّه‏، وهو محال عليه تعالى.

وأورد عليه: بأنّ التناقض إنّما يحصل إذا اجتمع النقيضان في حقّ شخص واحد، وأمّا في شخصين فلا تناقض[٢٩].

القائلون بالتصويب من الأشاعرة والمعتزلة

وفي مقابل المخطئة، ذهب الأشاعرة و المعتزلة إلى التصويب، وإن اختلفوا في وجود حكم واقعي بغض النظر عمّا توصل إليه المجتهد في اجتهاده، فذهب الأشاعرة إلى عدم وجوده[٣٠]، وذهب المعتزلة إلى وجوده وإن كان المجتهد غير مكلّف بالعمل به[٣١]؛ لكون الدليل الذي استند إليه المجتهد بمثابة عنوان ثانوي يوجب حدوث مصلحة في مؤداه أقوى من مصلحة الواقع، فيتبدّل بسببها الحرام إلى واجب، والواجب إلى حرام، فإذا انكشف أنّ ما توصّل إليه المجتهد خلاف الواقع كان ذلك بمثابة تبدل الحكم بتبدل موضوعه[٣٢].

و التصويب المعتزلي وإن كان ممكنا في حدّ ذاته إلاّ أنّ الأدلّة المتقدّمة قامت على خلافه[٣٣].

الدليل الأول: الکتاب

قد استدلّ المصوبة على مذهبهم بالأدلّة الأربعة، وهي: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل[٣٤]:

أمّا الكتاب: فبقوله تعالى: «وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْما وَعِلْما»[٣٥]، وقوله تعالى: «مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ»'[٣٦].

الدليل الثاني: السنّة

وأمّا السنّة: فبما روي عن النبي(ص) أنّه قال: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»[٣٧]، حيث اعتبر(ص)الاقتداء بأيّ واحد منهم هدى رغم اختلافهم في الأحكام.

كما قد يستدلّ لذلك أيضا بحديث الرفع[٣٨]، حيث ورد عن النبي(ص) أنّه رفع عن اُمته تسعة أشياء وذكر منها «ما لا يعلمون»[٣٩].

الدليل الثالث: الإجماع

وأمّا الإجماع: فباتفاق الصحابة على تسويغ مخالفة بعضهم لبعض من غير إنكار منهم على أحد، ولو تصوّر الخطأ في الاجتهاد لما ساغ إقرار الخلاف بينهم[٤٠].

الدليل الرابع: العقل

وأمّا العقل: فبوجوه أهمّها ما قيل: من أنّه لو كان الحقّ متعينا في باب الاجتهاد في كلّ مسألة، لنصب اللّه‏ تعالى عليه دليلاً قطعيا دفعا للإشكال، كما هو المألوف من طريقة الشارع[٤١].

المناقشة في أدلة المصوبة

ونوقش في جميع هذه الأدلّة، أمّا الكتاب فلأنّ الآية الاُولى تصلح للاستدلال على التخطئة أكثر من صلاحيتها للاستدلال على التصويب، وقد تقدّم استدلال المخطئة بها على مذهبهم.

وأمّا الآية الثانية فلا تدلّ على أكثر من أنّ ما يقوم به الناس ليس بخارج عن إرادة اللّه‏ تعالى وقدرته، بل كلّ ما يفعلونه بإذنه تعالى وتمكينه لهم، فهي من قبيل قوله تعالى: «وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»[٤٢].

وأمّا السنّة: فلعدم ثبوت حديث النجوم المستدلّ به على التصويب[٤٣]، بل اعتبره ابن القيم من الأحاديث الموضوعة[٤٤]، مضافا إلى معارضته للأحاديث المتقدّمة الدالّة على التخطئة في الأحكام.

وأمّا حديث الرفع: فقد اُجيب عنه بأنّه ناظر إلى الرفع في مرحلة الظاهر دون الواقع؛ لكون ما لا يعلمون كاشفا عن وجود واقعي للأحكام قابل لتعلّق العلم به، ولوكان المرفوع نفس الأحكام الواقعية لكان الجهل بها مساوقا للعلم بعدمها، مع أنّ الجهل بها فرع وجودها[٤٥].

وأمّا الإجماع، فهو لا يصلح للاستدلال على التصويب؛ لأنّ عدم اعتراض الصحابة بعضهم على بعض قد يكون لعدم تمييز المخطئ عن المصيب.

وأمّا العقل: فلعدم وجود مشكلة يتحتم على الشارع حلّها؛ لأنّ المجتهد إن أخطأ في اجتهاده فهو إنّما يعمل بوظيفته الظاهرية بعد جهله بـ الحكم الواقعي[٤٦]، وإن أصاب فهو يعمل بالواقع الذي أصابه من دون إشكال.

وعلى أيّ حال، فإنّ هناك ثلاثة[٤٧] احتمالات في المقصود من التصويب:

الأوّل: إنّ المقصود منه الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد آراء المجتهدين قبل حدوث اجتهادهم؛ لعلمه تعالى الأزلي بما سوف يتوصّلون إليه في اجتهادهم.

وهذا الاحتمال وإن كان معقولاً في نفسه إلاّ أنّه لا سبيل إلى الالتزام به؛ لتواتر الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ في كلّ واقعة حكما واحدا يشترك فيه الجميع، فلا يكون متعددا بعدد آراء المجتهدين.

الثاني: إنّ المقصود الالتزام بإنشاء أحكام على طبق آرائهم بعد حدوثها لا قبلها، فيكون رأي المجتهد موضوعا لحدوث حكم في الواقع، ولا حكم في الواقع غير ما أدّت إليه الأمارة التي عند المجتهد، فالأحكام تابعة لآراء المجتهدين، ولا حكم قبل حدوثها.

وهذا الاحتمال هو المنسوب إلى الأشاعرة[٤٨]، لكنّه غير معقول؛ لاستلزامه الدور لتوقّف الحكم على الاجتهاد، والاجتهاد على الحكم. أمّا توقّف الحكم على الاجتهاد فلكونه هو المفروض من هذا الاحتمال، وأمّا توقّف الاجتهاد على الحكم؛ فلأنّ الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي، كما هو المعروف بين الجمهور، ومن المعلوم تأخّر الظنّ عمّا يتعلّق به تأخّر العرض عن معروضه، فالاجتهاد يتوقّف على وجود الحكم، والحكم يتوقّف على الاجتهاد، وهو دور باطل.

الثالث: إنّ المقصود التصويب في مرحلة الحكم الفعلي، بمعنى الأخذ بما دلّت عليه الأمارة حتّى ولو كان مدلولها غير مطابق للحكم الواقعي، لما تستتبعه من مصلحة في مقابل المصلحة الواقعية التي لم يصل إليها المكلّف، وذلك نظير الأحكام الثانوية المترتّبة على العناوين الثانوية، ويبقى الحكم الواقعي الأوّلي على انشائيته، وبذلك يتعدّد الحكم الفعلي بعدد آراء المجتهدين.

وهذا هو المنسوب إلى المعتزلة[٤٩]، وهو معقول في نفسه إلاّ أنّه يخالف الأخبار المتواترة المتقدّمة الدالّة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، مضافا إلى بطلان مسلك سببية الأمارة لمصلحة توازي مصلحة الحكم الواقعي، لعدم الدليل عليها[٥٠].

مسائل حول التخطئة والتصويب

ثُمّ إنّ للتخطئة والتصويب مسائل متعددة نتعرّض لها كما يلي:

المسألة الاولی: التخطئة والتصويب في الأحكام الظاهرية

لقد صرح بعض الإمامية بأنّ الأحكام الظاهرية مصيبة لا خطأ فيها، لعدم تصوّر الخطأ بخصوصها، لكونها تمثّل الوظيفة الفعلية التي لابدّ من العمل بها إلى حين انكشاف الحكم الواقعي، فكلّ ما يقوم به المكلّف في هذه المرحلة فهو مصيب غير مخطئ فيه.

نعم، قد يخطأ المجتهد في تشخيص الحكم الظاهري المكلّف بالعمل به حسب الظاهر، إذ ليس كلّ ما أدركه المجتهد مصيبا، فقد يعتقد أحد المجتهدين بأنّ الوظيفة في مورد الشكّ في المقتضي هي العمل بـ الاستصحاب، ويعتقد آخر بأنّها البراءة، وليس من المعقول أن يكون الحكم الظاهري في مورد واحد هو الاستصحاب و البراءة معا[٥١].

المسألة الثانية: التخطئة والتصويب في التعبد بالأمارات الظنّية

وهناك شبهة اُخرى أثارها ابن قبة ـ من علماء الإمامية ـ حول إمكانية التعبّد بالأمارات الظنّية، وهي معروفة بشبهة ابن قبة، الذي أكّد في جانب منها على أنّ العمل بالأمارات الظنّية قد يؤدّي أحيانا إلى تفويت المصلحة وارتكاب المفسدة الواقعية في صورة الخطأ وعدم مطابقة الظنّ للواقع.

ولا يهمنا هنا التعرّف على المناقشات المختلفة الواردة على هذه الشبهة بقدر ما يهمنا التعرّف على أنّ الشبهة إنّما تتوجّه على مسلك الطريقية في الأمارات واعتبارها كاشفة عن الواقع، إذ على أساس هذا المسلك فقط يمكن أن تكون الأمارة مخطئة في إصابة الواقع فيفوتنا الملاك الذي يبتني على أساسه الحكم الواقعي.

وأمّا على مسلك السببية القائل بتسبيب الأمارات لحكم مطابق لمدلولها؛ بغض النظر عن الواقع، كما عليه الأشاعرة و المعتزلة، فإنّه لم يفوتنا على أساسها شيء في ملاكات الأحكام حينئذٍ؛ لأنّ الحكم يتحدد من خلال نفس الأمارات، فلا يفوتنا بالعمل بها شيء من ملاكاتها[٥٢].

ولمّا كانت السببية بهذا المعنى مرفوضة على المذهب الإمامي لما تستلزمه من التصويب، طرح الشيخ الأنصاري تفسيرا آخر لها يبتني على تسبيب السلوك والعمل بالأمارات لمصالح يتدارك بها مافات من مصالح الأحكام الواقعية، وتتفاوت هذه المصالح بتفاوت مقدار ما يسلكه المكلّف من عمل بالأمارات قلّة وكثرة حتّى يصل درجة يتدارك به جميع مصالح الأحكام الواقعية، وهذه النظرية هي المسمّاة بـ المصلحة السلوكية التي حاول الشيخ الأنصاري[٥٣] ومن تبعه التخلّص من[٥٤] خلالها من الإشكالات المتوجّهه على السببية عند الأشاعرة و المعتزلة وما تستلزمه من تصويب، كما أراد التخلّص من الطريقية المحضة التي لم يعتقد بصحّتها الإمامية، فسلك طريقا وسطا بينهما متمثلاً بـ المصلحة السلوكية، لكنّه لم يكن موفقا في ذلك باعتقاد البعض، لما تستلزمه المصلحة السلوكية من قيام حكم آخر يستند إلى هذه المصلحة، إذ لوفرض اشتمال سلوك الأمارة على مصلحة تتدارك بها مصلحة الواقع، فإنّه لن يبقى مبرر لتعلّق الأمر بالواقع على نحو التعيين، لكونه ترجيحا بلا مرجح، بل لابدّ من تعلّقه به وبسلوك الأمارة بنحو التخيير؛ كما لو كان الحكم الواقعي هو صلاة الظهر ودلّت الأمارة على صلاة الجمعة، فإنّ‏مقتضى التكافؤ بين المصلحتين عدم اختصاص الوجوب بصلاة الظهر، بل يعمّ صلاة الجمعة والظهر تخييرا، لقبح الترجيح بلا مرجح؛ ولأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد بحسب مذهب العدلية،وهذا يعني انجرار الشيخ ومن تبعه باتجاه التصويب الذي حاول التخلّص منه عن طريق المصلحة السلوكية[٥٥].

وعلى أي حال فإنّ مجرّد فوات المصلحة بسبب العلم بالأحكام الظاهرية أحيانا لا يلزمنا بجبرانها، خصوصا بعد سماح الشريعة بالعمل بها ومعذورية المكلّف تجاهها[٥٦].

المسألة الثالثة: التصويب في الشبهات الموضوعية

لا إشكال في عدم معقولية التصويب في الموضوعات الثابتة عن طريق الأمارات، بل لا يقول بذلك حتّى القائل بالتصويب في الأحكام؛ لأنّ مجرّد قيام أمارة على شيء لا تقلبه عمّا هو عليه واقعا، فلو قامت بينة على خمرية ماء، فمن غير المعقول انقلابه خمرا[٥٧]، بل أكّد بعضهم أنّ لا مجال للتصويب حتّى في الأحكام المترتّبة على هذا النوع من الموضوعات، لا بسبب اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ـ لاختصاص اشتراك الأحكام بالأحكام الكلّية دون أحكام الموضوعات الجزئية ـ بل لمخالفة التصويب لظاهر أدلّة حجّية الأمارات على موضوعاتها، الظاهرة في أنّ حجيتها كاشفيتها، لا للتعبّد بإثبات مدلولها ولو لم يكن في الواقع موجودا، فهي كأدلّة حجّية الأمارات على الأحكام الكلّية من هذه الجهة، لا يحكم بالتصويب فيها[٥٨].

المسألة الرابعة: ثمرة البحث

ذكر بعض فقهاء الإمامية أنّه لا ثمرة عملية من بحث التخطئة أو التصويب، إذ لا يلزم من الاعتقاد بأحدهما إثم أو ثواب، ومن هنا اعتبر ترك الخوض في هذا البحث أوفق بمقتضى الحال[٥٩].

لكن هناك من ربط بين القول بالتصويب وبين القول بـ الإجزاء في الأحكام الظاهرية، معتبرا ترتّب الثاني على الأوّل[٦٠]، فالقول بالإجزاء في الأحكام الظاهرية من آثار القول بالتصويب وثمراته.

لكن هذا الربط بين المسألتين مرفوض من قبل البعض حيث اعتبر أنّهما مقولتان مستقلتان عن بعضهما؛ لأنّ الإجزاء عبارة عن سقوط الحكم الواقعي، إمّا لتحقّق الغرض الداعي تشريعه، كالإتيان بالأمر الاضطراري في بعض صوره بناء على الموضوعية، أو لعدم تحصيله، كما في صورة الوفاء بمقدار من مصلحة الحكم الواقعي وفوات الباقي وعدم إمكان تداركه.

وهذا بخلاف التصويب الذي يعني خلو الواقعة عن الحكم، وانحصار حكمها فيما أدّت إليه الأمارة، ومن المعلوم أنّ التصويب بهذا المعنى يختلف عن الإجزاء الذي هو فرع ثبوت الحكم في الواقع، إذ لا معنى لسقوط التكليف بدون ثبوته، فـ الإجزاء يقتضي ثبوت التكليف والتصويب يقتضي عدمه، فلا يكون الإجزاء مساويا مع التصويب، غاية الأمر يصير الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل ـ بناءً على الإجزاء ـ فعليا في صورة إصابة الأمارة له، ويبقى على انشائيته في صورة خطئها إلى حين انكشاف الخلاف، فإن كان مؤدّى الأمارة وافيا بتمام المصلحة أو بأكثرها مع عدم إمكان تدارك الباقي لايصير الحكم الواقعي فعليا، بل يسقط وإن لم يكن مؤدّى الأمارة، كذلك لم يسقط الحكم الواقعي ويصير فعليا، ولذا تجب الإعادة أو القضاء[٦١].

لكن هذا الجواب إنّما يتمّ بناءً على التصويب الأشعري الذي ينفي وجود حكم واقعي وراء الحكم الذي توصّل إليه المجتهد، وأمّا بناءً على التصويب المعتزلي الذي يعترف بوجود حكم واقعي ـ إلاّ أنّه لا يرى المجتهد ملزما بالعمل به ـ فإنّه لن يكون الجواب المذكور صحيحا حينئذٍ، بل لابدّ من البحث عن أجوبة اُخرى بهذا الصدد مذكورة في بحث الإجزاء.

الهوامش

  1. . أنظر: الصحاح 1: 47، لسان العرب 1: 1112 مادة «خطأ».
  2. . التحبير في شرح التحرير 8: 3932، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 133.
  3. . كفاية الأصول: 88 و469، أنظر: منتهى الدراية 2: 109 ـ 111.
  4. . يظهر ذلك في تمهيد القواعد: 322 ـ 323.
  5. . المستصفى: 2، كشف الأسرار البخاري 4: 30 ـ 31، كفاية الأصول (الخراساني): 468، مصباح الأصول 3: 444.
  6. . نسبه إليه الغزالي في المستصفى 2: 209، والآمدي في الإحكام 3 ـ 4: 409.
  7. . مصباح الأصول 3: 444.
  8. . الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 409 ـ 410.
  9. . المحكم فيأصول الفقه 6: 302.
  10. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1095.
  11. . نهاية الوصول العلاّمة الحلي 5: 197 ـ 198، معالم الدين: 242، المحكم في أصول الفقه 2: 205.
  12. . المستصفى 2: 108، التحبير في شرح التحرير 8: 3932.
  13. . المسودة: 442 ـ 448.
  14. . أحكام الفصول: 707.
  15. . قواطع الأدلّة السمعاني 2: 310، المحصول (الرازي) 2: 503.
  16. . نقل ذلك عن المربسي في المستصفى 2: 207، المحصول الرازي 2: 504، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 412.
  17. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1095.
  18. . الأنبياء: 78 ـ 79.
  19. . أنظر: المصادر المتقدمة.
  20. . نقل المناقشة في أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1102.
  21. . صحيح البخاري 7 ـ 9: 767 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة باب 1186 ح 2155.
  22. . فرائد الأصول 1: 113، مصباح الأصول 2: 96، أصول الفقه 1 ـ 2: 308.
  23. . لقد أشار السيّد الخوئي في الاجتهاد والتقليد: 40 إلى احتمال إرادة هذا النوع من الروايات. أنظر: الوسائل 1: 400، ب 15 من أبواب الوضوء، ح 25.
  24. . تهذيب الأحكام 6: 301، ح 52، وسائلالشيعة 27: 107 كتاب القضاء، ح 1.
  25. . نصب الراية 4: 64، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 416.
  26. . كنز العمال 5: 805 ـ 806، ح 14441.
  27. . مختصر تفسير القرطبي 1: 419.
  28. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1103 ـ 1104.
  29. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1102 ـ 1105.
  30. . كشف الأسرار البخاري 4: 32 ـ 33.
  31. . شرح مختصر المنتهى العضدي 3: 598، أصول الفقه الإسلامي (الزحيلي): 1099.
  32. . قرّب ذلك عن الأشاعرة و المعتزلة في مصباح الأصول 2: 95 و 3: 371 ـ 372، المحكم في أصول الفقه 3: 127.
  33. . مصباح الأصول 3: 444 ـ 445.
  34. . أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 412 ـ 418، شرح الأسنوي 2: 202، إرشاد الفحول: 2: 312.
  35. . الأنبياء: 79.
  36. . الحشر: 5.
  37. . ميزان الاعتدال 2: 413.
  38. . احتمل الاستدلال به في مصباح الأصول 2: 257.
  39. . الوسائل 15: 369 باب 56، باب جملة ممّا عفي عنه، ح 1.
  40. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1102 ـ 1105.
  41. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1102 ـ 1105.
  42. . التكوير: 29.
  43. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1101.
  44. . أعلام الموقعين 2: 242 ـ 243.
  45. . تهذيب الأصول الإمام الخميني 1: 177، مصباح الأصول 2: 257.
  46. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1101.
  47. . أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 2: 1101.
  48. . فوائد الأصول 1 ـ 2: 253. كما هو المعروف بين الجمهور.
  49. . فوائد الأصول 1 ـ 2: 253، أصول الفقه المظفر 1 ـ 2: 309.
  50. . أنظر: كفاية الأصول: 468 ـ 469.
  51. . مصباح الأصول 3: 444 ـ 446.
  52. . أنظر : مصباح الأصول 2 : 95 ـ 97 ، أصول الفقه المظفر 1 ـ 2 : 309 ـ 310.
  53. . فرائد الأصول 1: 114 ـ 116.
  54. . فوائد الأصول 3: 90 ـ 97.
  55. . مصباح الأصول 2: 95 ـ 97، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 45 ـ 49.
  56. . حقائق الأصول 2: 65.
  57. . محاضرات في أصول الفقه الخوئي 2: 285.
  58. . أنظر: أجود التقريرات 1: 300، محاضرات في أصول الفقه الخوئي 2: 285 ـ 286، أصول الفقه (المظفر) 1 ـ 2: 310 ـ 311.
  59. . معالم الدين ابن الشهيد الثاني: 242.
  60. . تمهيد القواعد: 322 ـ 323. نسبه المحقّق النائيني أيضا إلى جماعة، أنظر: أجود التقريرات 1: 286.
  61. . أنظر: كفاية الأصول: 88.