الهبة
الهبة: وهو إعطاء المال مجاناً أو بعوض خاص، وله شروط و أحكام سنذکرها تطبیقاً علی فقه الإمامية و الشافعية و الحنفية.
الهبة
تفتقر صحة الهبة إلى الإيجاب والقبول ، وهي على ضربين : أحدهما : لا يجوز له الرجوع فيه على حال ، والثاني يجوز . فالأول أن تكون الهبة مستهلكة ، أو قد تعوض عنها ، أو تكون لذي رحم ، ويقبضها هو أو وليه سواء قصد بها وجه الله أم لا ، أو [ لم ] تقبض وقد قصد بها وجه الله ، ويكون الموهوب له ممن يصح التقرب إلى الله تعالى بصلته . والضرب الثاني : ما عدا ما ذكرناه. [١] والهبة لا تلزم إلا بالقبض ، وقبل القبض للواهب الرجوع فيها ، وكذلك الرهن و العارية والدين الحال إذا أجله لا يتأجل ، وله المطالبة به في الحال ، وبه قال الشافعي . وقال مالك : يلزم ذلك كله بنفس العقد ، ولا يفتقر إلى القبض ، وبتأجل الحق يلزم الأجل . وأما أبو حنيفة فقد وافقنا إلا أنه قال : الأجل في الثمن يلزم ويلحق بالعقد . يدل على مذهبنا مضافا إلى إجماع الإمامية وأخبارهم ما روى موسى بن عقبة[٢] عن أمه أم كلثوم[٣] أن النبي ( عليه السلام ) قال لأم سلمة : وإني أهديت إلى النجاشي أواقي من مسك وحلة وإني لأراه يموت قبل أن تصل إليه ولا أرى الهدية إلا سترد علي ، فإن ردت إلي فهي لي ، فكان كما قال ( عليه السلام ) ، فردت إليه فأعطى كل امرأة أوقية من ذلك المسك ، وأعطى سائره أم سلمة وأعطاها الحلة وهذا نص. [٤] وقول المخالف : جواز الرجوع في الهبة ينافي القول بأنها تملك بالقبض يبطل بالمبيع في مدة الخيار ، فإنه يجوز الرجوع فيه وإن ملك بالعقد ، وتعلقهم بما رووه من قوله ( عليه السلام ) : الراجع في هبته كالراجع في قيئه ، لا يصح ، لأنه خبر واحد ، ثم معارض بأخبار واردة من طرقهم في جواز الرجوع ، على أن الألف واللام إن كانتا للجنس ، دخل الكلب فيمن أريد باللفظ ، وإن كانتا للعهد ، فالمراد الكلب خاصة ، لأنه لا يعهد الرجوع في القئ إلاله . وعلى الوجهين ، لا يجوز أن يكون المستفاد بالخبر التحريم ، لأن الكلب لا تحريم عليه ، بل يكون المراد الاستقذار والاستهجان ، وقد روي من طريق آخر : الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه ، وذلك يصحح ما قلناه ، على أنه لو دل على التحريم[٥] لخصصنا بالموضع الذي يذهب إليه بـ الدليل . والهبة في المرض المتصل بالموت ، محسوبة من أصل المال ، لا من الثلث. [٦] وفي الخلاف للشيخ : إذا وهب في مرضه المخوف شيئا وأقبضه ثم مات ، فمن أصحابنا من قال : لزمت الهبة في جميع الموهوب ، ولم يكن للورثة فيها شئ . ومنهم من قال : يلزم في الثلث ، ويبطل فيما زاد ، وبه قال جميع الفقهاء.[٧] لنا أن الهبة لا تجري مجرى الوصية ، لأن حكم الهبة منجز في حال الحياة ، وحق الورثة لا يتعلق بالمال في تلك الحال ، وحكم الوصية موقوف إلى بعد الوفاة وحق الورثة يتعلق المال في ذلك الوقت فكانت محسوبة من الثلث . وهبة المشاع جائزة سواء مما يمكن قسمته أو لا يمكن ، بدلالة عموم الأخبار الواردة في جواز الهبة لأنه لا فصل فيها بين المشاع وغيره ، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وسائر الفقهاء ، إلا أن أبا حنيفة قال : هبة المشاع فيما لا يمكن قسمته مثل الحيوان والجواهر والرحى والحمامات وغيرها يصح ، فأما ما ينقسم فلا يجوز هبته . لنا ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال يوم خيبر : مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم ، فردوا الخيط والمخيط فإن الغلول يكون على أهله عارا يوم القيامة ونارا وشنارا قام رجل في يده كبة من شعر ، فقال : أخذت هذه لأصلح برذعة بعيري ، فقال : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك ، قال : أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها ، ونبذها وكانت حصة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الكبة مشاعا ، فدل على جواز الهبة مشاعا. [٨] ولو قبض الهبة من غير إذن الواهب لم يصح ، ولزمه الرد ، لأنه لا خلاف في صحة ذلك مع الإذن ، وليس على صحته من دونه دليل[٩]، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : إن قبضه في المجلس صح ، وإن كان بغير إذنه ، وإن قام من مجلسه لم يكن له القبض ، فإن قبض كان فاسدا ووجب عليه رده. [١٠] وإذا وهب ما يستحقه في الذمة ، كان إبراء بلفظ الهبة ، ويعتبر قبول من عليه الحق ، لأن في إبرائه منه منة عليه ، ولا يجبر على قبول المنة . ومن منح غيره ناقة أو بقرة أو شاة ، لينتفع بلبنها مدة معلومة ، لزمه الوفاء بذلك إذا قصد به وجه الله تعالى ، وكان ذلك الغير ممن يصح التقرب إلى الله تعالى ببره ، ويضمن هلاك المنيحة ونقصانها بالتعدي . وكذا لا يجوز الرجوع في السكنى والرقبى والعمرى إذا كانت مدتها محدودة ، وقصد بها وجه الله تعالى . الرقبى و العمرى سواء وإنما يختلفان بالتسمية ، والرقبى أن يقول : أرقبتك هذه الدار مدة حياتك أو حياتي . والعمرى أن يقول : أعمرتك كذلك. [١١] والعمرى جائزة والسكنى مثلها عندنا . وبه قال الفقهاء . وحكى عن قوم أنهم قالوا : العمرى غير جائزة . لنا مضافا إلى إجماع الإمامية و أخبارهم ما رواه أبو هريرة أن النبي ( عليه السلام ) قال : العمرى جائزة ، وقال : العمرى لمن وهبت له. [١٢] وإذا علق المالك ذلك بموته ، رجع إلى ورثته إذا مات ، فإن مات الساكن قبله ، فلورثته السكني إلى أن يموت المالك ، وإن علقه بموت الساكن رجع إليه إذا مات ، فإن مات المالك قبله فله السكنى إلى أن يموت ، ومتى لم يعلق ذلك بمدة كان له إخراجه متى شاء . ولا يجوز أن يسكن من جعل له ذلك من عدا والده وأهله إلا بإذن المالك ، ومن شرط صحة ذلك كله الإيجاب والقبول على ما قدمناه. [١٣] إذا قال : أعمرتك ولعقبك . فإن هذه عمري صحيحة ، ويملك المعمر له المنفعة دون الرقبة . وإذا قال أعمرتك . فإذا مات يعود إليه ، وإن قال : ولعقبك . فإذا مات عقبه عاد إليه . وبه قال مالك والشافعي في القديم ، وعندنا إن قال : أعمرتك حياتي فإنها له مدة حياته ، فإذا مات لمعمر أولا كان لورثته إلى أن يموت المعمر ، فإذا مات عاد إلى ورثته ، وإن مات المعمر أولا بطلت العمرى . وقال الشافعي في الجديد : إذا جعلها عمري لا تعود إليه ، ولا إلى ورثته بحال ، وبه قال أبو حنيفة. [١٤] إذا قال : أعمرتك . وأطلق لم تصح ، لأن هذه اللفظة محتملة ولا يعلم المراد بها فوجب بطلانها لأن الأصل بقاء الملك . وقال الشافعي في الجديد : تكون صحيحة ، فإذا مات تكون لورثته . وقال في القديم : ببطلانها وبه قال أبو حنيفة . [١٥] الرقبى جائزة كالعمرى ، وقال الشافعي : حكمها حكم العمرى ، ومعناه إذا قال : أعمرتك على إن مت أنا فهي لك ولورثتك ، فإن مت أنت ترجع علي . وقال المزني : الرقبى إذا جعل لمن يتأخر موته ، ولهذا سمي الرقبى ، لأن كل واحد منهما يترقب موت صاحبه . وقال أبو حنيفة : العمرى جائزة ، والرقبى باطلة ، لأن صورتها أن يقول أرقبتك هذه الدار ، فإن مت قبلك كانت الدار لك ، وإن مت قبلي كانت الدار راجعة إلي وباقية على ملكي كما كانت ، وهذا تمليك بصفة ، كما إذا قال : إذا جاء رأس الشهر فقد وهبت لك داري ، فإن ذلك لا يصح . لنا مضافا إلى إجماع الإمامية وأخبارهم ما رواه جابر أن النبي ( عليه السلام ) قال : يا معشر الأنصار امسكوا عليكم أموالكم ، لا تعمروها ولا ترقبوها ، فمن أعمر شيئا أو أرقبه فله ولورثته ، فجمع بين العمرى والرقبى وجوزهما جميعا. [١٦] وفي الخلاصة : كانوا في الجاهلية يرقبون فإن مات الموهوب له قبل موت الواهب رجعت الرقبى وإن لم يمت حتى مات الواهب استقرت ، وهما في الإسلام مثبتان لازمتان إذا اتصل بهما القبض . إذا أعطى الإنسان ولده ، يستحب أن لا يفضل بعضهم على بعض ، سواء كانوا ذكورا أو إناثا ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي . وقال أحمد ومحمد بن الحسن : يفضل الذكور على الإناث على حسب التفضيل في الميراث . لنا ما روى ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : سووا بين أولادكم ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت الإناث ، وهذا نص . [١٧] وإذا وهب الوالد لولده وإن علا ، والأم لولدها وإن علت ، وقبضوا إن كانوا كبارا ، أو كانوا صغارا لم يكن لهما الرجوع فيه . وبه قال أبو حنيفة : وقال أيضا مثل ذلك في كل محرم محرم بالنسب ، ليس له الرجوع فيما وهب . وقال الشافعي : للوالد والوالدة أن تسترجعا هبتهما على كل حال من الولد وذي الرحم ، ذكرا كان أو أنثى. [١٨] إذا وهب لأجنبي وقبضه، أو لذي رحم غير الولد ، كان له الرجوع فيه ، ويكره الرجوع في الهبة لذي الرحم . وقال أبو حنيفة : يجوز له الرجوع في هبة الأجنبي ، وكل قريب إذا لم يكن ذا رحم محرم منه بالنسب وأجرى الزوجة مجرى الرحم المحرم بالنسب ، وبه قال قوم من أصحابنا . وقال الشافعي : إذا وهب لغير الولد وقبض لزم ، ولا رجوع له بعد ذلك . لنا ما روي مضافا إلى إجماع الإمامية وأخبارهم ما رواه أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها. [١٩] الهبات على ثلاثة أضرب : هبة لمن فوقه ، وهبة لمن دونه ، وهبة لمن هو مثله ، وكلها عندنا تقتضي الثواب بدلالة عموم الأخبار التي رواها أصحابنا أن الهبة تقتضي الثواب ولم يخصوا منها نوعا دون نوع ، وقال جميع الفقهاء : إنها إذا كانت لمن فوقه ، أو لمن مثله لا تقتضي الثواب ، وإذا كانت لمن دونه اختلفوا ، فقال أبو حنيفة : لا تقتضي الثواب ، وبه قال الشافعي في الجديد ، وقال في القديم : أنها تقتضي الثواب. [٢٠] وإذا اقتضت الثواب فلا يخلو إما أن يطلق ، أو يشرط الثواب ، فإن أطلق فإنه يقتضي ثواب مثله على ما جرت العادة . وللشافعي على قوله أنها تقتضي الثواب ثلاثة أقوال : أحدها مثل ما قلنا . والثاني يثيبه حتى يرضى الواهب . والثالث يثيبه بقدر قيمة الهبة أو مثلها. [٢١] وإذا شرط الثواب ، فإن كان مجهولا صح ، لأنه وافق ما يقتضيه الإطلاق ، وإن كان معلوما كان أيضا صحيحا . وللشافعي فيه قولان : أحدهما : يصح ، لأنه إذا صح مع الجهل ، فمع العلم أولى . والثاني : لا يصح. [٢٢] ومن السنة الإهداء ، وقبول الهدية إذا عريت من وجوه القبح ، ومتى قصد بها وجه الله وقبلت لم يجز له الرجوع فيها ، ولا التعوض عنها ، وكذا إن قصد بها التكرم والمودة الدنيوية وتصرف فيها من أهديت إليه ، وكذا إن قصد بها العوض عنها فدفع وقبله المهدى ، وهو مخير في قبول الهدية وردها ، ويلزم العوض عنها بمثلها كما ذكرناه والزيادة أفضل . ولا يجوز التصرف فيها إلا بعد التعويض ، أو العزم إليه . [٢٣]
المصادر
- ↑ الغنية 300 .
- ↑ لم نقف على ترجمة له في كتب التراجم إلا ما رواه في الخبر .
- ↑ بنت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومية ربيعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمها أم سلمة . أسد الغابة : 6 / 384 رقم 7574 .
- ↑ الخلاف : 3 / 555 مسألة 1 .
- ↑ كذا في الغنية ، وفي النسخة على الرجوع .
- ↑ الغنية 301 .
- ↑ الخلاف : 3 / 573 مسألة 21 .
- ↑ الخلاف : 3 / 557 مسألة 3 .
- ↑ الغنية : 301 .
- ↑ الخلاف : 3 / 556 مسألة 2 .
- ↑ الغنية 301 - 302 .
- ↑ الخلاف : 3 / 558 مسألة 4 .
- ↑ الغنية 302 .
- ↑ الخلاف : 3 / 559 مسألة 5 .
- ↑ الخلاف : 3 / 560 مسألة 6 .
- ↑ الخلاف : 3 / 562 مسألة 8 .
- ↑ الخلاف : 3 / 563 مسألة 9 .
- ↑ الخلاف : 3 / 566 مسألة 11 .
- ↑ الخلاف : 3 / 567 مسألة 12 .
- ↑ الخلاف : 3 / 568 مسألة 13 .
- ↑ الخلاف : 3 / 570 مسألة 14 .
- ↑ الخلاف : 3 / 570 مسألة 15 .
- ↑ الغنية 302 .