شرع من قبلنا

مراجعة ٠٧:١٠، ١٥ أغسطس ٢٠٢١ بواسطة Abolhoseini (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب''''شرع من قبلنا:''' المراد بشرع من قبلنا هو خصوص الشرائع التي أنزلها اللّه‏ تعالى على أنبيائه،...')
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)

شرع من قبلنا: المراد بشرع من قبلنا هو خصوص الشرائع التي أنزلها اللّه‏ تعالى على أنبيائه، وثبت شمولها في وقتها لجميع البشر[١]. فاذا ثبت لنا بطريقٍ ما بعض أحكام الشرائع السابقة، فهل هذه الأحكام حجّة في حقّنا كما لو كانت في شريعتنا، أو أنّها ليست حجّة لنا؟ والبحث في «شرع مَن قَبلَنا» مكانه الأدلّة المختلف فيها في أصول الفقه عند أهل السنة، ويبحثه الشيعة الامامية ضمن الاستصحاب، أي استصحاب ما ثبت كونه حكما في إحدى الشرائع السابقة.

حكم «شرع مَن قَبلَنا»

البحث في «شرع من قبلنا» يقع في مقامين:

المقام الأوّل: تعبّده(ص)بشرع مَن قَبلَنا قبل بعثته

وهنا يقع السؤال في أنّه(ص) هل كان متعبّدا أصلاً بشريعة من قبله من الانبياء أو لا؟ وإذا كان متعبّدا فما هي هذه الشريعة؟
ذكرت عدّة أقوال في ذلك:
الأوّل: نفي تعبّده(ص) أصلاً بشريعة مَن قبلَه.
الثاني: إثبات تعبّده(ص) بشريعة مَن قَبلَه.
الثالث: إثبات تعبّده(ص) بشريعة العقل.
الرابع: جواز تعبّده(ص) بشريعة مَن قَبله عقلاً، لكن لم يثبت وقوع تعبّده(ص) فعلاً بشريعة من قبله.

الدلیل علی نفي تعبّده(ص) بشريعة مَن قبلَه

واحتجّ علی هذا القول بعدة وجوه:
أوّلاً: إنّ شريعة من قبله لم تصل إليه(ص) بطريق علمي معتبر لطول الفترة الزمانية بينه(ص) وبين شرائع من سبقه، وتخلل زمن الفترة (فترة الشرائع) بينه وبين من أتى قبله من الرسل [٢].
ثانيا: إنّه(ص) لو كان متعبّدا بشريعة من قبله لوجب عليه سؤال علماء تلك الشرائع و الاستفتاء منهم وهو ما لم يؤثر عنه ذلك [٣].
ثالثا: إنّه(ص) لو كان متعبّدا بشريعة من قبله لكان ذلك موقع الفخر والتباهي من أتباع تلك الشريعة، وهو ممّا لم يثبت أيضا [٤].
وينسب هذا القول إلى المالكية وجماعة من المتكلّمين [٥]، وينسب إلى المعتزلة. إضافة إلى ذلك يستحيل عقلاً [٦].

الدلیل علی إثبات تعبّده(ص) بشريعة مَن قَبلَه

واحتجّ علی هذا القول بعدّة وجوه أيضا:
أوّلاً: إنّ جملة من الأنبياء عليهم‌السلام من قبله(ص) كانت دعوتهم عامّة لجميع البشر، وأنّ النبي واحد من البشر فيكون مشمولاً بدعوتهم [٧].
ثانيا: إنّه(ص) كان متعبّدا بجملة من الطقوس الدينية كالصلاة والحجّ والعمرة والطواف بالبيت الحرام وعدم أكله الميتة والضب، وليس ذلك ممّا يحكم به العقل حتّى يقال بتعبّده(ص) بما دلّت عليه شريعة العقل [٨].
واختلف أصحاب هذا القول في الشريعة التي كان(ص)متعبّدا بها «فمنهم من نسبه إلى شرع نوح، ومنهم من نسبه إلى شرع إبراهيم، ومنهم من نسبه إلى شرع موسى، ومنهم من نسبه إلى عيسى» [٩]. وذكروا لكلّ واحد من هذه الأقوال شاهدا من العقل أو النقل [١٠].
ورجّح الطوفي تعبّده(ص) بشريعة عيسى عليه‌السلام «لأنّ دعوته عمّت ونسخت ما قبلها من الشرائع فبعمومها تناولت النبي(ص) وبنسخها لما قبلها منعت من اتّباعه إيّاه؛ لأنّ المنسوخ في حكم المعدوم» [١١]. وذكر لعمومية شريعة عيسى عليه‌السلام ونسخها لما قبلها عدّة وجوه.
وذهب بعض الأحناف إلى أنّه(ص) متعبّد «بما ثبت أنّه شرع إذ ذاك في ذاك الزمان بطريقه» [١٢].
ورجّح الشوكاني تعبّده بشريعة إبراهيم عليه‌السلام: «فقد كان(ص) كثير البحث عنها، عاملاً بما بلغ إليه منها كما يُعرف ذلك من كتب السير، وكما تفيده الآيات القرآنية من أمره(ص) بعد البعثة باتّباع تلك الملّة» [١٣].

الدلیل علی إثبات تعبّده(ص) بشريعة العقل

إن هذا القول يقول بجواز تعبّده(ص) بشريعة مَن قَبله عقلاً، لكن لم يثبت وقوع تعبّده(ص) فعلاً بشريعة من قبله.
واحتجّ علی هذا القول بأنّ كلا الأمرين جائزان بالنظر إلى علمه تعالى بوجود مصلحة في تعبّده بشريعة من قبله من الأنبياء أو المصلحة في أن يبقى غير متعبّد بها، ومادام أنّ الأمرين معا جائزان فلايمكن الحکم بترجيح أحدهما ولابدّ من التوقّف [١٤].
وقد صاغ الآمدي الدليل على هذا القول بصورة اُخرى؛ وهي أنّ الجواز ثابت غير ممتنع، فانه لو كان ممتنعا أمّا يكون ممتنعا لذاته أو ممتنعا لعدم المصلحة أو ممتنعا لشيء آخر، أمّا الأوّل فهو باطل؛ لأنّه لو فرض وقوعه لايكون ممتنعا لذاته، وأمّا الثاني فإنّه مبني على وجوب رعاية المصلحة في أفعاله تعالى وهو باطل عندهم، فإنّه تعالى يراعي المصلحة في أفعاله من باب اللطف والتفضل لا من باب لزومه عليه تعالى، أمّا الثالث فهو ليس بشيء، وأمّا الوقوع فلابدّ من دليل يثبته، والأصل عدمه [١٥].
وذهب إلى هذا القول المحقّقون من الشيعة و السنة [١٦].

ثمرة البحث

ذكروا أنّ البحث في تعبّده(ص) قبل البعثة بشريعة من الشرائع من المسائل التي تخصّه(ص) وليس فيها فائدة عملية تتعلّق بسائر البشر، ويُنقل عن الجويني قوله: «هذه المسألة لاتظهر لها فائدة، بل تجري مجرى التواريخ المنقولة» [١٧].
ووافقه المازري و الماوردي على ذلك [١٨].
وأيا كان الأمر فليس البحث في ذلك عظيم فائدة على المستوى العملي، ولذلك قال الشوكاني: «وهذا صحيح فإنّه لايتعلّق بذلك فائدة باعتبار هذه الأمة، لكن يُعرف به في الجملة شرف تلك الملّة التي تعبّد وفضّلها على غيرها من الملل المتقدّمة على ملته» [١٩].

المقام الثاني: تعبّده(ص)واُمته بالشرائع السابقة بعدالبعثة

وهنا وقع البحث في أنّه(ص) في رسالته لأمته هل كان متعبّدا بشريعة من قبله من الانبياء عليهم‌السلام أو شريعته ناسخة لما تقدّمها من الشرائع؟ أقوال في ذلك:

القول الأول

إنّ الشرائع السابقة شرع لنا مطلقا، وأنّ شريعتنا امتداد لها إلاّ ما ثبت نسخه منها بواسطة شرعنا. ومفاد هذا القول أنّ الشرائع السابقة شرع لنا من دون توقّف على حكايته من قبل اللّه‏ تعالى أو من قبل الرسول(ص)، كما هو مفاد القول الثالث، فاذا ثبت بطريق معتبر حكم في شريعة سابقة، فإنّه يجب التعبد به وإن لم يرد حكاية ذلك في القرآن أو السنة، أمّا مفاد القول الثالث فهو حكايته من قبله تعالى أو من قبل الرسول، ومفاد القول الثاني أنّ الشرائع السابقة لايجوز التعبُّد بها بأي وجه من الوجوه لانتهاء أمدها بشريعة الإسلام.


الاستدلال علی القول الأول

وأُحتجّ للقول الأوّل بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: قوله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ» [٢٠]، حيث جعل تعالى التوراة مستندا وأساسا لجملة من الأحكام الشرعية، والنبي(ص) من جملة النبيين الذين أخبرت الآية عنهم بأنّهم يحكمون بالتوراة [٢١].
الوجه الثاني: قوله تعالى: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ»[٢٢]، حيث أمر تعالى نبيه(ص) بالاقتداء بأنبياء بني إسرائيل، ولازم هذا أنّ شرعهم شرع له ولأمّته من بعده [٢٣].
الوجه الثالث: قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا» [٢٤]، حيث أمره تعالى باتّباع ملّة إبراهيم عليه‌السلام وهو صاحب شريعة، فيكون نبينا(ص) متبعا لشريعة إبراهيم [٢٥]، حتّى قال اللّه‏ تعالى على لسان نبيه(ص): «قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينا قِيَما مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» [٢٦].
الوجه الرابع: قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى» [٢٧]، فهو يدلّ على أنّ النبي(ص) متعبّد بشريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى [٢٨].
الوجه الخامس: إنّه(ص) قضى بالقصاص في السنّ استنادا إلى التوراة، كما حكى القرآن ذلك بقوله تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ...» [٢٩]، فلو لم يكن ذلك شرعا له لما قضى به [٣٠].
الوجه السادس: إنّه(ص) راجع التوراة في حكم الزانيين فلما وجد فيها الرجم حكم برجمهما [٣١].
الوجه السابع: إنّه(ص) استدلّ على وجوب قضاء الفريضة المنسية بخطاب اللّه‏ تعالى لموسى كما حكاه القرآن بقوله: «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي» [٣٢]، وذلك يدلّ على اتّباعه(ص) شرع موسى عليه‌السلام [٣٣].

القول الثاني

إنّ الشرائع السابقة ليست بشرع لنا، وأنّ شريعة كلّ نبي خاصّة به، فتكون شريعتنا ناسخة لها جملة وتفصيلاً، وأنّ جميع أحكام شريعتنا أحكام مستأنفة حتّى التي تطابق بعض الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة.

الاستدلال علی القول الثاني

واُحتج للقول الثاني بعدّة اُمور أيضا:

الأمر الأوّل: قوله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا» [٣٤]، وقوله(ص): «بعثت إلى الأحمر والأسود» فالآية والحديث يدلاّن على اختصاص كلّ نبي بشريعة، فلايكون شرع من قبله شرع له ولا لنا [٣٥]. الأمر الثاني: إنّه لو كان شرع من قبلنا شرع لنا لألزم اُمته تعلّم كتبهم ولكان ذلك من فروض الكفايات كتعلّم القرآن والسنّة [٣٦]. الأمر الثالث: إنّه لو كان شرع من قبلنا شرعا لنا لما توقّف النبي(ص) في جملة من الأحكام ينتظر نزول الوحي فيها ولبادر إلى كتبهم واستخراج تلك الأحكام منها، مثل: مسألة الجد، والعول، وبيع أم الولد، وحدّ الشرب، والمفوضة وغير ذلك من الأحكام التي توقّف النبي(ص)فيها على نزول الوحي واستبيان حكمها منه تعالى [٣٧]. الأمر الرابع: إجماع المسلمين على أنّ شريعته(ص)ناسخة لكافّة من تقدّمها من الشرائع وإذا كانت منسوخة لا معنى لئن يتعبّد(ص) بها [٣٨]، ونقل ابن زهرة اجماع الإمامية على أنّ شرعه(ص) ناسخ لشرع من تقدّمه [٣٩]، وأكّد ذلك الشيخ الأنصاري الذي قال: «ما اشتهر من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع فلايجوز الحکم بالبقاء» [٤٠]. الأمر الخامس: إنّه(ص) لما بعث معاذا إلى اليمن قاضيا، قال له: بم تحكم؟ قال: بكتاب اللّه‏، قال: فان لم تجد؟ قال:بسنّة رسول اللّه‏(ص)، قال: فان لم تجد قال: أجتهد رأيي[٤١]. فإنّ معاذا لم يذكر شرع من قبلنا من ضمن الأدلّة التي يستند إليها إذا أعوزه النصّ الشرعي، والنبي(ص) أقرّه على ذلك وقال: الحمدُ للّه‏ الذي وفّق رسول رسول اللّه‏ لما يحبّه اللّه‏ ورسوله [٤٢]. الأمر السادس: إنّه(ص) غضب لما رأى عمر يقرأ في التوراة وقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيّا لما وسعه إلاّ اتّباعي» [٤٣]. وما هذا إلاّ دليل واضح على عدم كون شرائع من سبقنا شرعا له(ص) ولنا [٤٤].

القول الثالث

إنّ ما قصّه اللّه‏ تعالى ورسوله في أحكام الشرائع السابقة، والحال أنّه مسكوت عنه في شريعتنا، أي لم يصرّح بثبوته في حقّنا أو يصرّح بنسخه، فإنّه سوف يكون شرعا لنا ويجب التعبد به في حقّنا، كما في قوله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا» [٤٥]، وقوله تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ» [٤٦]. فهذا القول يتضّمن دعويين؛ دعوى أنّ ما قصّه لنا القرآن والسنّة من شرائع من قبلنا يجوز التعبُّد به، ودعوى أنّ ذلك إنّما يكون شرعا لنا لا شرعا لهم.

الاستدلال علی القول الثالث

واحتجّ للدعوى الاُولى، بأنّ حكاية بعض الأحكام الموجودة في الشرائع السابقة إنّما هو لبيان كون هذه الأحكام موجودة في شرعنا أيضا، وإلاّ فما فائدة الحكاية لو لم يكن ذلك لأجل أن نعمل به [٤٧]. واحتجّ للدعوى الثانية، بأنّ ذلك إنّما يكون شرعا لنا لا شرعا لهم، أنّه(ص) أصل لكلّ الشرائع، قال اللّه‏ تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ» [٤٨]. مكان يجب على الكلّ الإيمان بنبوّته والعمل بشرعه «فثبت أنّه(ص)هو الأصل في النبوّة والشريعة وغيره بمنزلة التابع وكانت شريعته عامة لكافّة الناس... أنّه مبعوث إلى جميع الناس حتّى وجب على المتقدّمين والمتأخّرين اتّباع شريعته فكان الكلّ تابعا له، والدليل عليه أنّ عيسى عليه‌السلام حين ينزل إلى السماء يدعو الناس إلى شريعة محمّد(ص)لا إلى شريعة نفسه... فثبت أنّه(ص) كان أصلاً في الشرائع... أنّ شرائع من قبلنا إنّما تلزمنا على أنّها شريعة لنبيّنا لا أنّها بقيت شرائع لهم» [٤٩]. وشرط الأحناف لهذا القول «أنّ يقصّ اللّه‏ تعالى ورسوله من غير إنكار إذ لا عبرة بما ثبت بقول أهل الكتاب؛ لأنّهم متّهمون في ذلك لظهور الحسد والعداوة منهم، ولا بما ثبت بكتابهم؛ لأنّهم حرّفوا الكتب، فيجوز أن يكون ذلك من جملة ما غيروا وبدلّوا، ولا بما ثبت بقول من أسلم منهم؛ لأنّه تلقّن ذلك من كتابهم أو سمع من جماعتهم» [٥٠].

مانعية العلم الإجمالي بالتحريف عن الأخذ بالشرائع السابقة

تقدّم أهمّ الأقوال في المسألة، وبالنسبة للقول الأوّل فانّ غاية ما يثبته هو امكان تعبّده(ص) بما ثبت أنّه من الشرائع السابقة، لكن هذا في حدّ نفسه لاينفع لعدم إحراز شيء من ذلك، وذلك لوجود العلم الإجمالي بطرو التحريف عليها «والعلم الإجمالي بالتحريف يمنع من الأخذ بظواهرها جميعا؛ لأنّ كل طرف نمسكه نحتمل طرو التحريف عليه، وأصالة عدم التحريف لاتنفع في هذا المجال لعدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي المنجّز... أو لتساقطها» [٥١]. فأصالة بقاء حكم الشريعة السابقة بمجردّها لاينفع، ويبقى ذلك كلاما نظريا ولايفيد شيئا على المستوى العملي. نعم، يبقى الطريق إلى ذلك ما ذكره الأحناف من اشتراط حكاية ذلك في الكتاب أو السنة، فإنّ حكايته إقرار على أنّه من الشرائع السابقة وهو كافٍ في جواز التعبُّد به بناء على القول الأوّل. فعلى مستوى العمل يتّحد القول الأوّل والقول الثالث، لانحصار الطريق إلى إحراز الشرائع السابقة بما حكاه القرآن وتناولته السنّة، فهو كافٍ في جواز التعبّد به بناء على القول الأوّل، أو أنّ حكايته في الكتاب أو السنة قرينة وشاهد حال على أنّ ذلك انما يراد العمل به في شرعنا لا لمجرّد الحكاية بناء على القول الثالث.

أصالة عدم النسخ لإثبات أحكام الشرائع السابقة

ذهب متأخّرو الإمامية إلى إمكان إجراء أصالة عدم النسخ لإثبات أحكام الشرائع السابقة وإجراؤها في حقّنا، فإذا شكّ في النسخ تجري استصحاب بقاء الحكم السابق في حقّنا، فيجوز التعبّد به لنا. إلاّ أنّه قد أُشكل على الاستصحاب المذكور بعدّة إشكالات: الأوّل: إنّ اختلاف الموضوع مانع من جريان الاستصحاب، لأنّ المكلّف بأحكام الشرائع السابقة هو المدرك لها والذي يعيش في عصرها، والمدركون لشرائع من قبلنا قد انقرضوا ولايوجدون في زمان شريعتنا، والموجودون اليوم لم يدركوا الشرائع السابقة، فلايمكن أن يجري الاستصحاب لعدم وجود موضوعه [٥٢]. الثاني: إنّ النسخ وارد على شرائع من قبلنا، وهذا النسخ وإن لم يرد على جميع الأحكام السابقة فلا أقلّ من وروده على بعضها، وهو يوجب حصول العلم الإجمالي بالنسخ، وهو مانع من جريان أصالة عدم النسخ في أطرافه [٥٣]. الثالث: إنّ الاستصحاب المذكور لا أثر له ولايترتّب عليه حكم شرعي؛ لأنّه بمفرده لايفيد بقاء الحكم السابق في الشرائع السابقة من دون الإمضاء من الشارع في شريعتنا، ومع عدم إحراز الإمضاء لا فائدة من الاستصحاب المذكور [٥٤]. أمّا الإشكال الأوّل: فقد أجاب عنه النائيني بقوله: «إنّ المنشآت الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوع في ترتّب المحمول عليه يؤخذ للموضوع عنوان كلّي مرآةً لما ينطبق عليه من الأفراد عند وجودها كالبالغ العاقل المستطيع الذي أخذ عنوانا لمن يجب عليه الحجّ، وكالحي المجتهد العادل الذي أخذ عنوانا لمن يجوز تقليده، ونحو ذلك من العناوين الكلّية، فالموضوع ليس آحاد المكلّفين لكي يتوهم اختلاف الموضوع باختلاف الأشخاص الموجودين في زمان هذه الشريعة، والموجودين في زمان الشرائع السابقة، فإذا كان الموضوع لوجوب الحجّ هو عنوان البالغ العاقل المستطيع، فكلّ من ينطبق عليه هذا العنوان من مبدأ إنشاء الحکم إلى انقضاء الدهر يجب عليه الحجّ سواء أدرك الشرائع السابقة أم لم يدرك، فإذا فرض أنّه أنشأ حكما كلّيا لموضوع كلّي، ثُمّ شكّ المكلّف في بقاء الحکم ونسخه، فيجري استصحاب بقائه سواء أدرك الشرائع السابقة أم لم يدرك إلاّ هذه الشريعة المطهّرة» [٥٥]. أمّا الإشكال الثاني: فقد أجاب عنه أيضا بقوله: «إنّ العلم الإجمالي بنسخ جملة من الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة، فينحلّ بالظفر بمقدار من الأحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها، فتكون الشبهة فيما عدا ذلك بدوية يجري فيها الأصل بلا مزاحم» [٥٦]. أي أصالة واستصحاب عدم النسخ. أمّا الإشكال الثالث: فقد أجاب عنه السيد الخوئي بقوله: «إنّ نفس أدلّة الاستصحاب كافية في إثبات الإمضاء وليس التمسّك به من التمسّك بالأصل المثبت، فإنّ الأصل المثبت إنّما هو فيما إذا وقع التعبّد بما هو خارج عن مفاد الاستصحاب، وفي المقام نفس دليل الاستصحاب دليل على الإمضاء، فكما لو ورد دليل خاصّ على وجوب البناء على بقاء أحكام الشريعة إلاّ فيما علم النسخ فيه، يجب التعبُّد به فيحكم بالبقاء في غير ما لم يعلم نسخه، ويكون هذا الدليل الخاصّ دليلاً على الإمضاء. فكذا في المقام فإنّ أدلّة الاستصحاب تدلّ على وجوب البناء على البقاء في كلّ متيقّن شكّ في بقائه، سواء كان من أحكام الشريعة السابقة أو من أحكام هذه الشريعة المقدّسة»[٥٧]. إلاّ أنّ الإشكال الأهمّ الذي يتوجّه على هذا الاستصحاب هو «أنّ النسخ في الأحكام الشرعية إنّما هو بمعنى الدفع وبيان أمد الحکم؛ لأنّ النسخ بمعنى رفع الحکم الثابت مستلزم للبداء المستحيل في حقّه سبحانه وتعالى... وأنّ الإهمال بحسب الواقع ومقام الثبوت غير معقول، فأمّا أن يجعل المولى حكمه بلا تقييد بزمان ويعتبره إلى الأبد، وأمّا أن يجعله ممتدا إلى وقت معيّن، وعليه فالشكّ في النسخ شكّ في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان الحضور، وكذا الكلام في أحكام الشرائع السابقة، فإنّ الشك في نسخها شكّ في ثبوت التكليف بالنسبة إلى المعدومين لا شكّ في بقائه بعد العلم بثبوته» [٥٨]. هذا اذا أمكن الوصول إلى الشرائع السابقة من مصادر معتبرة موثوق بها، وهو غير متوفّر على الظاهر، فانحصر الطريق إليها فيما حكاه الكتاب أو السنّة النبوية.

المصادر

  1. . الاُصول العامّة للفقه المقارن: 415.
  2. . اُنظر: شرح مختصر الروضة 3: 183.
  3. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 377، نهاية الوصول (الحلّي) 4: 408.
  4. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 377، نهاية الوصول (الحلّي) 4: 8.40
  5. . اُنظر: تيسير التحرير 3: 130.
  6. . المصدر السابق، إرشاد الفحول 2: 260.
  7. . اُنظر: شرح مختصر الروضة 3: 181، نهاية الوصول الحلّي 4: 409، تيسير التحرير 3: 130.
  8. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 377، نهاية الوصول (الحلّي) 4: 409.
  9. . الإحكام الآمدي 3ـ4: 376.
  10. . راجع: إرشاد الفحول 2: 259 ـ 260.
  11. . شرح مختصر الروضة 3: 181.
  12. . تيسير التحرير 3: 129.
  13. . إرشاد الفحول 2: 261.
  14. . اُنظر: نهاية الوصول الحلّي 4: 408.
  15. . الإحكام 3 ـ 4: 376ـ377.
  16. . اُنظر: المستصفى 1: 133، نهاية الوصول الحلّي 4: 407ـ408، الإحكام (الآمدي) 3ـ4: 376.
  17. . اُنظر: ارشاد الفحول 2: 261.
  18. . اُنظر: تيسير التحرير 3: 131.
  19. . إرشاد الفحول 2: 261.
  20. . المائدة: 44.
  21. . اُنظر: الاحكام الآمدي 3ـ4: 380، شرح مختصر الروضة 3: 170.
  22. . الأنعام: 90.
  23. . اُنظر: الاحكام الآمدي 3ـ4: 380، شرح مختصر الروضة 3: 170.
  24. . النحل: 123.
  25. . اُنظر: الاحكام الآمدي 3ـ4: 380، شرح مختصر الروضة 3: 170 ـ 171.
  26. . الأنعام: 161.
  27. . الشورى: 13.
  28. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 380، شرح مختصر الروضة 3: 171.
  29. . المائدة: 45.
  30. . اُنظر: الاحكام الآمدي 3ـ4: 380ـ381، شرح مختصر الروضة 3: 171.
  31. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 380، شرح مختصر الروضة 3: 171.
  32. . طه: 14.
  33. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 381، شرح مختصر الروضة 3: 171.
  34. . المائدة: 48.
  35. . اُنظر: شرح مختصر الروضة 3: 175.
  36. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 378 ـ 379، شرح مختصر الروضة 3 : 175.
  37. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 378 ـ 379، شرح مختصر الروضة 3 : 175.
  38. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 379.
  39. . غنية النزوع 2: 369.
  40. . فرائد الاُصول 3: 227.
  41. . السنن الكبرى البيهقي 10: 114 كتاب آداب القاضي باب ما يقضي به القاضي، سنن أبي داوود 3: 303 كتاب الأقضية (باب اجتهاد الرأي في القضاء) ح 3592.
  42. . اُنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 378، شرح مختصر الروضة 3: 183.
  43. .
  44. . اُنظر: شرح مختصر الروضة 3: 175.
  45. . المائدة: 32.
  46. . المائدة: 45.
  47. . اُنظر: تيسير التحرير 3: 131.
  48. . آل عمران: 81.
  49. . كشف الأسرار البخاري 3: 319 ـ 320.
  50. . كشف الأسرار النسفي 2: 172.
  51. . الاُصول العامّة للفقه المقارن: 417.
  52. . فوائد الاُصول 4: 478.
  53. . المصدر السابق 4: 478.
  54. . المصدر السابق 4: 480.
  55. . المصدر السابق: 479.
  56. . مصباح الاُصول 3: 150.
  57. . مصباح الاُصول 3: 150.
  58. . المصدر السابق 3: 148.