أحکام السنة: وهي عند الفقهاء ما يقابل البدعة أو ما يقابل الواجب؛ وأما عند الأصوليين فهي ما سنّها النبي قولاً وفعلاً وتقريراً. ولا يخفی أنّ السنة و الخبر غير مترادفين، لأن الأول نفس ما سنّها النبي(ص)، بينما أنّ الثاني هو الحاکي عن السنة. وللسنة أحکام نذکرها في هذا المجال.

أحکام السنة

تناول الأصوليون ـ قديما وحديثا ـ السنّة بالدراسة من جوانب مختلفة قد تكون الموارد التالية من أهمّها:

1 ـ السنّة وحي ربّاني

رغم أنّ ألفاظ السنة صدرت عن الرسول(ص) مباشرة إلاّ أنّ الكثير من علماء الإسلام قالوا بكون منشأها وحيا ربّانيا، إمّا بنزول جبرئيل عليه، كما ينزل القرآن، وإمّا بالإلهام. وهناك من ذهب إلى أنّ بعض أفعاله وأقواله اجتهادية، فما كانت اجتهادية فهي غير وحيانية بنحو مباشر ، وقد يُسمّي البعض هذا وحيا باطنيا . وقد استدلّ على وحيانية السنّة باُمور:
1 ـ الآيات مثل قوله تعالى: «وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى» [١].
2 ـ الروايات مثل قوله(ص): «ألا إنّي أوتيت الكتاب ومثله معه...» [٢].
3 ـ الإجماع، فقد ورد عن الصحابة والعلماء ما يدلّ على هذا المعنى صراحة [٣].

2 ـ حجّية سنّة الرسول

ناقش الاُصوليون موضوع حجّية سنّة الرسول وانقسموا في آرائهم:

الرأي الأوّل: حجّية السنّة مطلقا

وهو رأي الأكثر [٤]، ولذلك نجدهم لم يتعرّضوا إلى هذا الموضوع مباشرة إنّما تعرّضوا لـ حجيّة الأخبار و الأفعال و التقارير الصادرة من المعصوم، وهمّوا ببيان أحكام كلٍّ منها. وقد يكون ذلك لاعتبارهم هكذا بحث من بحوث علم الكلام لا أصول الفقه. وبعض أجمل في الكلام عن هذا الموضوع واعتبرها حجّة باعتبارها بمنزلة الكتاب [٥]، أو لكون حجّيّتها أمرا ضروريا من وجهة نظر دينية، فلا نقاش فيه [٦]. لكنّ هناك من أورد بعض الأدلّة على هذا الموضوع [٧].

أدلة الرأي الأول


وأدلّة هذا الرأي عند من تعرّض له عبارة عمّا يلي:

الدليل الأوّل: الآيات التي تأمر بإطاعة الرسول

منها: «...مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» [٨].
ومنها: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً» [٩].
ومنها: «...فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» [١٠].
ومنها: «وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ ...»[١١].
ومنها: «مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ...» [١٢].

الدليل الثاني: إجماع الصحابة والعلماء

فإنّه لم يُؤثّر رفض أو ردّ من قبل الصحابة على مورد من موارد السنّة، وإن كان هناك رفض فللحاكي عنها لا نفسها؛ لأسباب مثل عدم الوثوق بالطريق لكونه خبرا واحدا أو ما شابه [١٣].

الدليل الثالث: العقل

وذلك لأنّ القرآن اعتبر السنّة بيانا، فلا بدّ أن يكون وحيانيا؛ وباعتبار أنّ البيان لا ينفك عن المبيَّن فيجب العمل وفق السنّة، فإطاعة الرسول إطاعة للّه‏، فهي راجعة إليه، ومجرّد تفصيل وبسط له، والقرآن وما رجع إليه واجب الإطاعة والاتّباع [١٤].
كما أنّ القرآن فرض على الناس فرائض مجملة لم يفصّل أحكامها ولا كيفية أدائها كـ الصلاة و الحج، وقد بيّنتها السنّة، ودونها يعجز المكلّفون عن أداء الفرض، فوجب العمل بالسنّة [١٥].
وقد يستدل بالعقل على الحجية من باب كون النبي معصوما ويمتنع صدور السهو والغفلة والخطأ عنه، وكلّ ما يصدر منه فهو من قبل الشارع قولاً وفعلاً وتقريرا، وإذا ثبتت نبوّته ثبتت عصمته، وإذا ثبتت عصمته ثبتت حجّية سنّته.
لكن قد يقال: بعدم التلازم بين إثبات عصمته وتحصيل الحجّة على اعتبار سنّته؛ لأنّ غاية ما يثبت الدليل العقلي هو امتناع كذبه في ادّعاء النبوّة؛ لاستحالة صدور المعجزة على يد مدّعي النبوّة كذبا.
وفي المجال تفاصيل ومناقشات وردود وإجابات غير قليلة، أثرناها عن قدماء ومتقدّمي الأصوليين، وهي حاليا متروكة لعلم الكلام [١٦].

الدليل الرابع: الأحاديث

فقد ورد في هذا المضمار الكثير من الروايات التي تدلُّ على حجّية السنّة منها الرواية التالية:
روى ابن عبّاس قال: خطبنا رسول اللّه‏ (ص) فقال: «يا أيّها الناس كتب عليكم الحجّ» قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كلّ عام يا رسول اللّه‏؟ فقال: «لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرّة، فمن زاد فهو تطوّع» [١٧].
كما استدلّ بالكثير من الروايات غير هذه [١٨].

الرأي الثاني: حجّية السنّة الموافقة للقرآن فقط

نسب هذا الرأي إلى طائفة من المسلمين ولم يحدّد اسمها بالضبط، ووصف أتباعها بكونهم لا خلاق لهم أو خارجين عن السنّة [١٩].

أدلة الرأي الثاني

استدلّ على هذا الرأي بأمور:
1 ـ كون الدليل الحقيقي هو القرآن والعمل بالسنّة عمل بالقرآن وإهدارها إهدار للقرآن، فإذا خالفت القرآن كانت ليست سنّة شرعية، وينبغي تركها.
2 ـ ما ورد عن الرسول(ص) من روايات العرض، حيث حدّد حجّية قوله بما وافق الكتاب، مثل الحديث التالي: «ما جاءكم عنّي فاعرضوه على كتاب اللّه‏ فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله»[٢٠].
وقد ورد مثل هذا الحديث عن طرق الشيعة كذلك [٢١]. ( أخبار العرض)
لكن شكّك البعض في صحّة هذا الحديث باعتبار اُمور:
أ ـ ضعف سنده، بل عُدّ موضوعا من قبل الزنادقة و الخوارج، وأنّه لو كان صحيحا لعمل به الصحابة.
ب ـ الحديث يبطل نفسه؛ لأنّ في القرآن آيات تأمر بطاعة الرسول، وهي مطلقة غير مقيّدة، وهذا الحديث يقيّدها.
على أنّ البعض برّر هذا الحديث بكون المراد منه المخالفة الصريحة أو المتناقضة مع القرآن [٢٢].

الرأي الثالث: رفض السنّة

لم ينقل عن فرقة محدّدة رفضها للسنّة، لكن نقل عن بعض الطوائف أو العلماء رفضها للأخبار أو أصنافا منها، من قبيل: رفض بعض العلماء خبر الواحد أو رفض الأخبار؛ باعتبار ورودها عن طرق غير مقبولة.
لكنّ البعض أطلق نسبة رفض السنّة إلى بعض الطوائف مثل الشيعة أو غيرهم دون توثيق.

أدلة الرأي الثالث

ويمكن تلخيص أدلّة هذا الرأي بتيّاراته المختلفة في أمرين:
1 ـ التشكيك بعدالة نقلة السنّة؛ باعتبار أنّ الكثير منهم لم يوثّق.
2 ـ تقديم العقل على النقل عند التعارض [٢٣].
لكن في الحقيقة يبدو أنّهم يشكّكون في طريقها فحسب، ولا يرفضونها أصلاً. برغم أنّ مثل الشافعي نقل مناظرات له مع منكر للسنّة [٢٤] إلاّ أنّ الظاهر من القصّة وما يحفّ بها من اُمور كونها تعكس موقفا انفراديا لا يمثّل طائفة. واحتمل البعض كون الذي ناظره الشافعي من المتكلّمين [٢٥].
وقد سرد البعض الشخصيات الشيعية النادرة جدّا التي أبدت رأيا خاصّا في السنة غير الرأي الدارج لدى الأكثر،وهو قبولها مطلقا. وهذه الشخصيات في الحقيقة لم ترفض أصل السنّة، بل شكّكت في طرقها بنحو جزئي، ودعت إلى تمحيص مصادر الحديث الشيعية والسنيّة [٢٦].

3 ـ استقلال السنّة عن القرآن

تعرّض بعض الأصوليين إلى مسألة استقلال أو عدم استقلال السنّة عن القرآن، فذهب بعض إلى كون السنّة مجرّد بيان للقرآن ولا استقلال لها، مستدلاًّ بالآيات الكريمة مثل الآيات التالية:
«إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» [٢٧]
«... لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ...» [٢٨].
واعتبر أصحاب هذا الرأي السنّة بأكملها بيانا للقرآن لا أكثر.
كما استدلّ الشاطبي على هذا الرأي بالآيات التالية:
«... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...» [٢٩].
«... مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ...» [٣٠].
«... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...» [٣١].
فهذه الآيات تؤكّد على أنّ الأساس هو القرآن والسنّة مجرد بيان للقرآن ولم ترد الآيات في بيان أصالة واستقلال السنّة.
وكذلك بـ الاستقراء بأنّ ما ورد في السنة هو بيان للقرآن لا أكثر [٣٢].
أمّا أصحاب الرأي الآخر فقد اعتبروا السنّة مستقلّة عن القرآن، وبرّروا كلمات المخالفين لهذا الرأي بأنّها تشير إلى السنّة المبيّنة والمؤكّدة بينما هذان الصنفان يشكّلان جزءا من السنّة وليس كلّها، فهناك قسم آخر لها بيّن ما سكت عنه القرآن، مثل: عدد ركعات الصلاة، ونصاب الزكاة وما شابه ذلك [٣٣].

المصادر

  1. . النجم: 3 ـ 4.
  2. . مسند أحمد 4: 131، سنن أبي داود 2: 392.
  3. . الموافقات 4: 6، كشف الأسرار البزدوي 3: 383 ـ 396، البحر المحيط 4: 164 ـ 165، مصادر التشريع ومنهج الاستدلال: 131 ـ 132.
  4. . اللمع: 143 ـ 160، ميزان الاُصول 2: 673 ـ 685، العدّة الطوسي 1: 63 ـ 155، الإحكام (الامدي) 1 ـ 2: 145 ـ 167، كشف الأسرار 2: 563.
  5. . اُنظر: أصول الشاشي: 207.
  6. . إرشاد الفحول 1: 133 ـ 134.
  7. . الرسالة 1: 73 ـ 78، روضة الناظر وجنّة المناظر: 46، البحر المحيط 4: 164.
  8. . الحشر: 7.
  9. . الأحزاب: 36.
  10. . النور: 63.
  11. . المائدة: 92.
  12. . النساء: 80.
  13. . اُصول الفقه الإسلامي شلبي: 119 ـ 120، مصادر التشريع ومنهج الاستدلال: 141 ـ 142، مصادر التشريع ومناهج الاستنباط:119 ـ 124.
  14. . الموافقات 4: 10 ـ 11.
  15. . اُصول الفقه الإسلامي شلبي: 120، مصادر التشريع: 140 ـ 141.
  16. . الإحكام الامدي 1 ـ 2: 145 ـ 146، البحر المحيط 4: 169 ـ 175، إرشاد الفحول 1: 134 ـ 138، الاُصول العامة للفقه المقارن: 122 ـ 125.
  17. . مسند أحمد 1: 255 و 291، مسند أبي داود 2: 70 ـ 71.
  18. . مصادر التشريع ومناهج الاستنباط: 115 ـ 119.
  19. . الموافقات 4: 14 ـ 15.
  20. الرسالة: 224.
  21. . وسائل الشيعة 27: 123 ـ 124، كتاب القضاء، باب 9، وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة، ح 1.
  22. . اُصول الفقه الاسلامي شلبي: 122 ـ 123، مصادر التشريع ومناهج الاستنباط: 125 ـ 126.
  23. . مصادر التشريع ومنهج الاستدلال: 142 ـ 143، السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 199 ـ 236.
  24. . الأم 7: 288. (افترض اللّه‏ علينا اتّباع نبيّه...)
  25. . تاريخ التشريع الإسلامي الخضري بك: 197.
  26. . نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي: 527 ـ 675.
  27. .القيامة: 17 ـ 19.
  28. . النساء: 105.
  29. . النحل: 44.
  30. . الأنعام: 38.
  31. . المائدة: 3.
  32. . الموافقات 4: 10 ـ 11 و 20 ـ 43.
  33. . إرشاد الفحول 1: 132 ـ 134، اُصول الفقه الإسلامي شلبي: 114، حجّية السنّة: 508 ـ 519.