الفرق بين المراجعتين لصفحة: «صدر الدين الشيرازي»
لا ملخص تعديل |
لا ملخص تعديل |
||
| سطر ١٩: | سطر ١٩: | ||
| الموقع = | | الموقع = | ||
}} | }} | ||
'''صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي''' المعروف بـ "ملا صدرا" و"صدر المتألهين"، فيلسوف وعارف ومن أبرز فلاسفة الشيعة الإيرانيين في القرن الحادي عشر الهجري، ومؤسس "الحكمة المتعالية"، وكان من تلامذة ميرداماد والشيخ البهائي، ومن أشهر تلاميذه الفيض الكاشاني وعبد الرزاق اللاهيجي، عاش في مدن [[شيراز]] وقزوين و[[أصفهان]] و[[قم]]، وقضى حوالي خمس سنوات من حياته في قرية تُدعى "كهك" بالقرب من مدينة قم. | '''صدر الدين الشيرازي''' أو '''صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي''' المعروف بـ "ملا صدرا" و"صدر المتألهين"، فيلسوف وعارف ومن أبرز فلاسفة الشيعة الإيرانيين في القرن الحادي عشر الهجري، ومؤسس "الحكمة المتعالية"، وكان من تلامذة ميرداماد والشيخ البهائي، ومن أشهر تلاميذه الفيض الكاشاني وعبد الرزاق اللاهيجي، عاش في مدن [[شيراز]] وقزوين و[[أصفهان]] و[[قم]]، وقضى حوالي خمس سنوات من حياته في قرية تُدعى "كهك" بالقرب من مدينة قم. | ||
من أصول ومبادئ مدرسة ملا صدرا: أصالة الوجود والتدرج في مراتب الوجود والحركة الجوهرية في الأشياء وتجرد الخيال و"البسيط الحقيقة هو كل شيء" وحدوث النفس الجسماني بالجسم وحدوث العالم والعلاقة بين الوجود والعلم | من أصول ومبادئ مدرسة ملا صدرا: أصالة الوجود والتدرج في مراتب الوجود والحركة الجوهرية في الأشياء وتجرد الخيال و"البسيط الحقيقة هو كل شيء" وحدوث النفس الجسماني بالجسم وحدوث العالم والعلاقة بين الوجود والعلم | ||
وقد شرح نظامه الفلسفي في كتابه "[[الحكمة المتعالية]] في الأسفار العقلية الأربعة" (الأسفار الأربعة). كان ملا صدرا متبحرًا في علوم متعددة، لكنه اهتم بشكل خاص بالفلسفة، فألف كتبًا في مختلف العلوم، منها تفسير للقرآن وشرح لأصول الكافي. | وقد شرح نظامه الفلسفي في كتابه "[[الحكمة المتعالية]] في الأسفار العقلية الأربعة" (الأسفار الأربعة). كان ملا صدرا متبحرًا في علوم متعددة، لكنه اهتم بشكل خاص بالفلسفة، فألف كتبًا في مختلف العلوم، منها تفسير للقرآن وشرح لأصول الكافي. | ||
مراجعة ٠٨:١٣، ٢٤ مايو ٢٠٢٥
صدر الدين الشيرازي أو صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بـ "ملا صدرا" و"صدر المتألهين"، فيلسوف وعارف ومن أبرز فلاسفة الشيعة الإيرانيين في القرن الحادي عشر الهجري، ومؤسس "الحكمة المتعالية"، وكان من تلامذة ميرداماد والشيخ البهائي، ومن أشهر تلاميذه الفيض الكاشاني وعبد الرزاق اللاهيجي، عاش في مدن شيراز وقزوين وأصفهان وقم، وقضى حوالي خمس سنوات من حياته في قرية تُدعى "كهك" بالقرب من مدينة قم. من أصول ومبادئ مدرسة ملا صدرا: أصالة الوجود والتدرج في مراتب الوجود والحركة الجوهرية في الأشياء وتجرد الخيال و"البسيط الحقيقة هو كل شيء" وحدوث النفس الجسماني بالجسم وحدوث العالم والعلاقة بين الوجود والعلم وقد شرح نظامه الفلسفي في كتابه "الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة" (الأسفار الأربعة). كان ملا صدرا متبحرًا في علوم متعددة، لكنه اهتم بشكل خاص بالفلسفة، فألف كتبًا في مختلف العلوم، منها تفسير للقرآن وشرح لأصول الكافي.
ولادته ونشأته
حسب بعض الروايات، وُلد ملا صدرا ظهر يوم التاسع من جمادى الأولى سنة 980 هـ، ووالده الخواجة إبراهيم القوَّامي، كان رجل دولة عالمًا شديد التقوى، وعلى الرغم من ثرائه ونفوذه ومكانته، لم يكن له أولاد، لكنه بعد دعاء وتضرع كثير إلى الله، رُزق بولد سماه محمد (صدر الدين) (سنة 979 هـ / 1571 م)، وكان يُنادى في حياته بـ "صدرا"، مما جعله يُلقب لاحقًا بـ "ملا" (أي العالم الكبير)، فاشتهر باسم "ملا صدرا" حتى طغى على اسمه الأصلي، لا يُعرف تاريخ زواج ملا صدرا بدقة، لكنه كان حوالي سن الأربعين. كان صهرًا لـميرزا ضياء الدين الرازي (والد زوجة فيض الكاشاني)، مما جعل فيض الكاشاني قريبًا له قبل أن يكون تلميذًا. كان له خمسة أبناء:أم كلثوم (وُلدت 1019 هـ / 1609 م). إبراهيم (وُلد 1021 هـ / 1611 م). زبيدة (وُلدت 1024 هـ / 1614 م). نظام الدين أحمد (وُلد 1031 هـ / 1621 م).معصومة (وُلدت 1033 هـ / 1623 م) [١].
دراسته وتكوينه العلمي
كان صدر الدين الشيرازي الابن الوحيد لوزير حاكم منطقة فارس الواسعة، فعاش في ظروف أرستقراطية مُميزة، وفقًا لعرف ذلك الزمان، كان أبناء النبلاء يتلقون تعليمهم في القصور عبر مُعلمين خصوصيين، كان صدرا فتىً ذكيًّا، جادًّا، نشيطًا، مُحبًّا للعلم، فضوليًا، فاستوعب في وقت قصير دروس الأدب الفارسي والعربي وفنون الخط، كما يُحتمل أنه تعلّم الفروسية والصيد والمهارات القتالية، كما كان الرياضيات والفلك وقدرًا من الطب من بين مواد الدراسة آنذاك، ومن بين دروسه الأخرى: الفقه الإسلامي، والقانون، والمنطق، والفلسفة، لكن ميوله كانت تتجه بقوة نحو الفلسفة وخاصة التصوف،تُظهر المذكرات التي بقيت من فترة شبابه اهتمامه الواضح بالأدب الصوفي، خاصة أشعار فريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي، والعراقي، وكذلك أفكار ابن عربي الصوفية.
هجرته إلى قزوين
جزء من تعليمه كان في شيراز، لكن الأغلب حدث في العاصمة آنذاك (قزوين)، حيث انتقل حاكم فارس إليها بعد وفاة الشاه (شقيقه) وتوليه العرش (سنة 985 هـ / 1577 م). من المستبعد أن يكون الوزير (والد صدرا) قد ترك ابنه الوحيد، لذا يُرجح أن صدرا رحل مع أبيه إلى قزوين وعمره كان ست سنوات، وهناك تتلمذ على يد أساتذة كُثر في مختلف التخصصات، فاجتاز المراحل التعليمية بسرعة وتفوّق على أقرانه.
العودة من قم إلى شيراز
حوالي سنة 1039-1040 هـ / 1632 م، عاد ملا صدرا إلى شيراز. يُعتقد أن سبب عودته كان دعوة من حاكم فارس الله وردي خان، الذي أكمل بناء المدرسة التي بدأها والده إمام قلي خان، وخصّصها لتدريس الفلسفة، فدعا ملا صدرا لإدارتها. وفي شيراز، واصل التدريس في الفلسفة والتفسير والحديث، لكنه واجه مرة أخرى هجومًا من علماء المدينة، كما يظهر في كتابه "الثلاثة الأصول" (المكتوب بالفارسية آنذاك)، حيث هاجم بشدة فلاسفة وعلماء عصره، لكنه هذه المرة قرر المقاومة ونشر مذهبه.
السفر إلى مكة
من أبرز محطات حياته سفره سبع مرات (لاحظ الرمزية الدينية للرقم 7) لأداء فريضة الحج والعمرة. في ذلك الزمن، كانت الرحلة - التي غالبًا ما كانت تتم مشيًا أو على الجمال عبر صحراء الجزيرة العربية القاسية - تُعتبر نوعًا من الرياضة الروحية، حيث كان الكثيرون يموتون من الجفاف أو الإرهاق.
التعرف على عالِمَين كبيرين
في قزوين، تعرف ملا صدرا على عالِمَين نابغَين هما: الشيخ بهاء الدين العاملي وميرداماد، اللذين كانا ـ ولا يزالان ـ من أبرز العلماء عبر القرون الأربعة الماضية، وانضم إلى حلقات درسهما، وسرعان ما أصبح أبرز تلاميذهما بفضل نبوغه، الشيخ بهاء الدين: كان خبيرًا في العلوم الإسلامية (خاصة الفقه والحديث والتفسير والكلام والتصوف)، كما برع في الفلك والرياضيات والهندسة والطب وحتى بعض العلوم الغامضة. لكنه لم يُدرّس الفلسفة أو الكلام بسبب توجهاته الصوفية. ميرداماد: كان نابغةً في جميع علوم عصره، لكنه ركّز على الفقه والحديث والفلسفة، وتميّز في المدرستين المشائية والإشراقية، واعتبر نفسه في مستوى ابن سينا والفارابي. استفاد صدرا كثيرًا من ميرداماد في الفلسفة والتصوف، واعتبره مرشده الحقيقي. عندما نقل الصفويون العاصمة من قزوين إلى أصفهان (سنة 1006 هـ / 1598 م)، انتقل الشيخ بهاء الدين وميرداماد مع تلاميذهما، بما فيهم صدرا الذي كان حينها في 26-27 من عمره، وقد أصبح مُستقلًّا فكريًّا، وبدأ يؤسس لمذهبه الفلسفي الجديد. تفاصيل حياة ملا صدرا لا تزال غامضة، فمن غير المعروف كم بقي في أصفهان أو إلى أين ذهب بعدها. يُعتقد أنه هاجر منها قبل سنة 1010 هـ وعاد إلى شيراز، حيث كانت له أملاك عائلية. وقد أوقف جزءًا كبيرًا منها على الفقراء، وبعضها لا يزال موجودًا في شيراز وفارس حتى اليوم.
اساتذته
كان ملا صدرا مُتقنًا لجميع علوم عصره، رغم تركيزه على فلسفته الخاصة. كما ذكرنا، استفاد منذ طفولته من أفضل الأساتذة بفضل إمكانيات أسرته المادية والمعنوية. في قزوين، تتلمذ على يد شيخيه الكبيرين: الشيخ بهاء الدين العاملي وميرداماد. وعند نقل العاصمة الصفوية إلى أصفهان سنة 1006 هـ / 1596 م، رحل معهما، حيث أتم دراساته العليا في الفلسفة، وبدأ أبحاثًا عميقةً قادته إلى تأسيس مذهبه المعروف بـ"الحكمة المتعالية".
الشيخ بهاء الدين العاملي (953-1030 هـ)
على الرغم من أنه ليس أول أساتذة ملا صدرا، إلا أنه الأكثر تأثيرًا في تشكيل شخصيته الروحية والعلمية. وُلد في جبل عامل (لبنان)، وهاجر مع أبيه إلى إيران هربًا من الظلم العثماني. أصبح عالِمًا موسوعيًا في الفقه والتفسير والحديث والرياضيات والهندسة والفلك، حتى صار شخصية أسطورية في التاريخ الإسلامي، يُقارن بـفيثاغورس أو هرمس اليوناني.
ميرداماد (969-1041 هـ)
هو مير محمد باقر الحسيني، فيلسوف مشائي وإشراقي، وخبير في الفقه الإسلامي. وُلد في خراسان، وانتقل إلى قزوين ثم أصفهان، حيث أصبح أستاذًا بارزًا. تتلمذ عليه ملا صدرا في الفلسفة والحديث، واستمرت علاقتهما العلمية حتى وفاة ميرداماد في العراق سنة 1041 هـ / 1631 م.
ميرفندرسكي
يُذكر أحيانًا كأستاذٍ لملا صدرا، لكن لا توجد أدلة موثوقة على ذلك. عاش في أصفهان، وقضى جزءًا من حياته في الهند، لكن مذهبه (الذي نشره تلاميذه مثل ملا رجب علي التبريزي) يختلف جذريًا عن فلسفة ملا صدرا.
تلاميذته
رغم تدريس ملا صدرا للفلسفة والتفسير والحديث لفترات طويلة - بما فيها السنوات الخمس (أو العشر) الأخيرة من حياته في شيراز (1040-1045 أو 1050 هـ)، وأكثر من عشرين عامًا في قم (1020-1040 هـ) - إلا أن التاريخ لم يذكر من تلاميذه سوى قلّة قليلة.
فيض الكاشاني (1007-1091 هـ)
اسمه محمد بن مرتضى، اشتهر بالفقه والحديث والأخلاق والتصوف. بعد دراسة العلوم في أصفهان وشيراز، التحق بحلقة ملا صدرا في قم لمدة عشر سنوات، وتزوج من ابنته. ألّف أكثر من 100 كتاب، منها:
- "المفاتيح" (في الفقه)
- "الوافي" (في الحديث)
- "المحجة البيضاء" (في الأخلاق)
- "عين اليقين" (في الفلسفة والعرفان) كان شاعرًا أيضًا، ورفض منصب إمامة الجمعة في أصفهان بدعوة من الشاه الصفوي. تُوفي سنة 1091 هـ عن 84 عامًا.
فيّاض اللاهيجي (ت. 1072 هـ)
هو عبد الرزاق بن علي اللاهيجي، فيلسوف ومتكلّم وشاعر بارع. تتلمذ على ملا صدرا في قم وتزوج ابنته أيضًا. خلافًا للفيض، بقي في قم ليخلف أستاذه في التدريس. من مؤلفاته:
- "شوارق الإلهام" (شرح تجريد الكلام للخواجة نصير الدين الطوسي)
- "جوهر المراد" (في الكلام)
- ديوان شعر يضم 12 ألف بيت وعُرف بزهده وحياته البسيطة رغم مكانته عند الشاه الصفوي. تُوفي في قم سنة 1072 هـ.
العودة إلى شيراز
عاد صدرا إلى شيراز حوالي سنة 1010 هـ / 1602 م، ربما لإدارة أملاكه الواسعة. هناك، نشر علمه وجذب طلابًا كُثرًا، لكنه واجه معارضة شديدة من خصومه الذين سخروا من أفكاره الجديدة، بل أساؤوا إليه.
الهجرة إلى قم
لم تتناسب هذه الضغوط مع روحه النقية وتقواه، فغادر شيراز إلى قم، المدينة الدينية التي تضم ضريح السيدة فاطمة المعصومة (أخت الإمام الرضا). لكنه لم يستقر في المدينة نفسها بسبب حرارتها وربما لأسباب اجتماعية مشابهة لشيراز، فاختار العيش في قرية كَهَك القريبة، حيث لا تزال بقايا منزله الأثري موجودة.كتب آية الله السيد أبو الحسن القزويني في سيرته: "... بعد عودته إلى شيراز، أصبح محط حسد بعض مدّعي العلم، وتعرض للإيذاء والاهانة حتى اضطر إلى المغادرة والاستقرار في إحدى قرى قم، حيث انصرف إلى العبادات والرياضات الشرعية، من نوافل وصيام وقيام ليالٍ طويلة.
العزلة والانقطاع
أدت الصدمات النفسية إلى انقطاعه عن التدريس لفترة. كما ذكر في مقدمة كتابه "الأسفار الأربعة"، كرّس وقته للعبادة والرياضات الروحية، مستغلًا هذه العزلة القسرية لبلوغ أعلى المراتب المعنوية. رغم اكتئابه، حقق في هذه الفترة - الذهبية روحانيًا - مرحلة "الكشف والشهود"، حيث أدرك الحقائق الفلسفية ببصيرة القلب لا بالعقل فقط، مما ساعده على إكمال مذهبه الفلسفي. استمرت هذه العزلة حتى تلقّي إشارة غيبية بالعودة إلى المجتمع لنشر علمه.
التحول الروحي
تمثل المرحلة الثالثة من حياته رحلةً روحية عميقة، وهي أطول مراحل السير والسلوك. اختار لها قرية كهك (30 كم جنوب شرق قم)، إما اختيارًا أو نفيًا من الأوساط العلمية في أصفهان. هناك، تجنب ضجيج المدينة، متخذًا من جوار كريمة أهل البيت (ع) ملاذًا آمِنًا، مستذكرًا حديث الإمام الصادق (ع): "عند انتشار الفتن، الْجَأُوا إلى قم وضواحيها"[٢]. لا تُعرف تفاصيل إقامته في كهك (بين 1025-1039 هـ) إلا من كتاباته. يقول في مقدمة الأسفار: "اختبأت في زوايا النسيان، قطعتُ علاقتي بالآمال، وبقلبٍ منكسر أديّتُ الفرائض. لم أدرّس ولم أؤلف، فالعلم يحتاج إلى صفاء الروح وهدوء البال، وكيف يُتحقق ذلك مع ما أسمعه وأراه من أذى؟... آثرت العزلة حتى صرتُ غير مبالٍ بإهانات الزمان، ثم توجهت بفطرتي إلى خالق الأسباب، وتضرعتُ إليه سنواتٍ طويلة...". وفي رسالةٍ إلى أستاذه ميرداماد، يصف حاله:
- "أما حالي... فمع صعوبتها، إلا أن الإيمان سليم، والإشراقات العلمية والإفاضات القدسية مستمرة... لكني محروم من لقاء أستاذي منذ 7-8 سنوات، ومشوّش الذهن من كثرة الوحدة والذكر [٣].
تأسيس الحوزة الفلسفية
بعد فترة صمت وعزلة استمرت حوالي خمس سنوات، كسر ملا صدرا صمته حوالي سنة 1015 هـ / 1607 م، وأمسك بالقلم ليؤلف عدة كتب، أبرزها موسوعته الفلسفية الكبرى "الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة" (الأسفار)، الذي استغرق تأليفه سنوات طويلة، حيث أنهى الجزء الأخير منه أواخر حياته، بينما أكمل القسم الأول المتعلق بمباحث الوجود مبكرًا. بقي في قم حتى حوالي سنة 1040 هـ / 1632 م، حيث أسس فيها حوزة فلسفية، وربّى جيلًا من التلاميذ، منهم تلميذاه الشهيران فيض الكاشاني وعبد الرزاق اللاهيجي، اللذان تزوجا ابنتيه وأصبحا من روّاد مدرسته. خلال هذه الفترة، انشغل بتأليف كتبه أو كتابة رسائل ردًا على فلاسفة عصره [٤].
سمته العلمية
تميّز ملا صدرا بارتفاع مستواه الفلسفي، حيث تجاوز المنطق السطحي للفلاسفة التقليديين بتحليله القضايا الفلسفية المعقدة برؤية شمولية أعمق. هذه الرؤية الثاقبة مكّنته من قلب المفاهيم الفلسفية رأسًا على عقب وإضافة أبعاد جديدة للفكر الفلسفي. ومن أبرز سماته الإبداع والابتكار الفلسفي، حيث اشتهر بأفكاره الجديدة التي تشبه في جرأتها ما قدّمه السهروردي (فيلسوف الإشراق في القرن السادس الهجري) وأفلاطون. كان يؤمن أن الفيلسوف الحقيقي يجب أن يمتلك القدرة على تجريد روحه عن جسده وتحقيق الكرامات الروحية - كما كان حال أستاذيه الشيخ بهاء الدين وميرداماد. لكن نقطة التحول الحاسمة في حياته كانت عزلته في قرية "كهك" (بين سن 30-35 عامًا)، حيث كتب في مقدمة كتابه "الأسفار" كيف أن هذه الفترة من الزهد والانكسار النفسي فتحت له أبوابًا جديدة للكشف عن الحقائق الغيبية. حوّلت هذه التجربة ذلك الشاب الحسّاس إلى فيلسوف صلب كالجبل، قادر على إدراك الحقائق الفلسفية لا بالمنطق فحسب، بل بالشهود العرفاني أيضًا. يقول البروفيسور هنري كوربان: "لو جمعنا يعقوب بوهمه وسويدنبرغ وأضفناهم إلى توما الأكويني، لَحصلنا على ملا صدرا". لكن هذا الوصف يظل قاصرًا عن تقدير عظمته، فهو أقرب إلى فيثاغورس أو أفلاطون في عمقه الفلسفي، حتى أن كوربان أطلق عليه لقب "نيو-فيثاغوري" أو "نيو-أفلاطوني".
الأبعاد الشخصية
يمكن تحليل شخصية ملا صدرا عبر ثمانية أبعاد:
- النفسي والأخلاقي: تربّى على القيم الدينية والزهد.
- العلمي: أتقن جميع علوم عصره، خاصة الفلسفة والعرفان.
- الاجتماعي: حافظ على مكانته رغم حسد المعارضين.
- التاريخي: أعاد إحياء الفلسفة الإسلامية في إيران.
- الإنتاجي: ألّف كتبًا غزيرةً كمًّا ونوعًا.
- الفكري: تميّز بشجاعته في الدفاع عن أفكاره المبتكرة.
- العقدي: التزم بالإيمان الديني عمقًا وممارسةً.
- الإبداعي: جمع بين الاستنباط العقلي والكشف القلبـي.هكذا يجسّد ملا صدرا النموذج الأعلى للفيلسوف الكامل الذي جمع بين الحكمة النظرية والسير الروحي، تاركًا مدرسةً فلسفيةً وتربويةً أنجبت عظماء الفكر الإسلامي.
كتبه ومؤلفاته
- اسفار اربعه؛
- التصور و التصدیق؛
- الشواهد الربوبیه؛
- العرشیه؛
- اللمعات المشرقیه؛
- المبدا و المعاد؛
- تفسیر القرآن الکریم؛
- سه رساله؛
- المشاعر؛
- شرح اصول کافی
- اسفار اربعة [٥].
ملا صدرا في نظر الإمام الخميني
وصف الإمام الخميني ملا صدرا بعبارات تدل على تقديره الكبير له، منها:
- "مولانا الفيلسوف صدر الحكماء والمتألهين"
- "محقق الفلاسفة، فخر الطائفة الحقّة، الفيلسوف المعظّم"
- "شيخ العرفاء والكاملين"
- "شيخ مشايخ الأولياء والحكماء، صدر صدور المتألهين"
- "مؤسس القواعد الإلهية، ومجدد حكمة ما بعد الطبيعة"
موقف الإمام من فلسفته
في رسالته إلى غورباتشوف، أشاد الإمام الخميني بمتانة الأسس الفلسفية لملا صدرا. ودافع عنه ضد من اتهموه بالتصوف أو الكفر، مؤكدًا أن كتابات ملا صدرا تفيض بالإيمان بالله والنبي (ص) والأئمة المعصومين (ع)، بل إنه ألف كتاب "كسر أصنام الجاهلية" للرد على الصوفية. واعتبر الإمام أن هذه الاتهامات زادت من علوّ مقامه بدل أن تنقصه.
تأثير الحكمة المتعالية على فكر الإمام
الوجود: تبنى الإمام - كملاصدرا - أصالة الوجود واعتبارية الماهية، وجعلها أساسًا لفهم التوحيد والمسائل الغيبية. التشكيك في الوجود: رفض التشكيك العرضي أو الماهوي، وأكد أن الوجود ذو مراتب تشكيكية ذاتية. الحركة الجوهرية: شرح حقيقتها وثمارها، وردّ على الاعتراضات الموجهة لها. رأى الإمام أن فهم الآيات الإلهية يتطلب دراسة أعمال ملا صدرا، الذي صحح أخطاء ابن سينا في العلم الإلهي. كما رفض نسب فلسفته إلى الحكمة اليونانية، معتبرًا أنها مستمدة من النصوص الدينية وأحاديث الأئمة (ع) [٦].
النظام الفلسفي المستقل لملا صدرا
تمكّنت روح ملا صدرا الخلّاقة وقدرته العلمية الشاملة من صياغة نظام فلسفي مستقل، يجمع بين إيجابيات المذاهب الفلسفية والعرفانية والكلامية، مع تجاوز سلبياتها.
الاعتماد على القرآن والسنة
تميّز ملا صدرا باعتماده المنهجي على القرآن والحديث، حيث استخدمهما: كمصدر إلهام لحل المعضلات الفلسفية (مثل استنباط نظريته الشهيرة "الحركة الجوهرية" من آية: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾). كأدلة عقلية تثبت اتساق النص الديني مع البرهان الفلسفي. رفض التفسيرات الكلامية الضيقة، معتبرًا القرآن منجمًا لا ينضب للمعارف.
الاستفادة من الكشف والشهود
اعتمد ملا صدرا على الكشف العرفاني كمنهجٍ مكملٍ للبرهان العقلي: كان يدرك الحقائق أولًا بالشهود القلبي، ثم يبرهن عليها فلسفيًا. نجح في تحويل نظريات الإشراقيين (مثل السهروردي) من أفكارٍ غامضةٍ إلى براهين منطقية مقنعة حتى للمشككين.
التوفيق بين المذاهب الفلسفية
دمج ملا صدرا بين:
- المشائية (في الشكل والمنهج).
- الإشراق (في الروح والمضمون).
- الكلام الإسلامي (في صياغة المسائل).
- مع إقراره بالفضل لفلاسفة متنوعين مثل:
- ابن سينا والفارابي (المشائيون).
- السهروردي (الإشراقيون).
- المحقق الطوسي (الكلام).
- أفلاطون وفيثاغورس
- (الحكمة اليونانية والشرقية).رغم انتقاده لبعض آرائهم، إلا أنه نقل نصوصهم كاملةً عندما وافقهم، وكأنها من بنات أفكاره!
خلاصة النظام الصدرائي
- الجسم مشائي (في المنهج والتركيب).
- الروح إشراقي (في المصادر والغايات).
- القلب قرآني (في الاستمداد والتأييد).
- العقل برهاني (في الإثبات والتفنيد).هكذا أصبحت "الحكمة المتعالية" جسرًا يربط بين المذاهب، وفي الوقت نفسه نقيضًا لها جميعًا!
وفاته
في السفرة السابعة إلى مكة، مرض ملا صدرا في مدينة البصرة (العراق) وتوفي هناك، يشاع أن وفاته كانت سنة 1050 هـ / 1640 م، لكن الأرجح - حسب مذكرات حفيده محمد علم الهدى (ابن فيض الكاشاني) - أنها كانت سنة 1045 هـ / 1635 م، خاصة أن بعض مؤلفاته مثل تفسير القرآن وشرح أصول الكافي توقفت فجأة حوالي سنة 1044 هـ / 1634 م.
مكان الدفن
رغم وفاته في البصرة، نُقل جثمانه - وفقًا للتقاليد الشيعية - إلى النجف (العراق)، حيث دُفن في الجانب الأيسر (؟) من صحن مرقد الإمام علي (ع)، كما ذكر حفيده.
