وقوع الاشتراك اللفظي في لسان الشارع

من ویکي‌وحدت

وقوع الاشتراک اللفظي في لسان الشارع: إنه بحث أصولي والاشتراک بمعنی اتحاد اللفظ وتعدد المعنی، کلفظة «عين» التي لها معانٍ متعددةٍ. والسؤال هو أنّ هذا الاشتراک وقع في لسان الشارع أو لا؟

الأقوال في وقوع الاشتراک اللفظي

لا إشكال في إمكان الاشتراك المعنوي ووقوعه في اللغة، وإنّما الإشكال في الاشتراك اللفظي، فالمشهور عند الإمامية[١] والجمهور[٢] إمكانه ووقوعه، بل ذهب بعضهم. [٣] إلى وجوبه، خلافا لآخرين حيث ذهبوا إلى امتناعه مطلقا[٤]، وآخرون إلى امتناعه في القرآن دون غيره[٥]، وجماعة إلى امتناعه في الحديث أيضا[٦]، بينما خصّ بعضهم الامتناع بالمعنيين الضدين أو المتناقضين.[٧]
فالأقوال فيه ستّة:

القول الأول في وقوع الاشتراک اللفظي

أمّا القول الأوّل، فقد استدلوا له بالأدلّة التالية:
أ ـ هو أنّ الاشتراك واقع في اللغة، كما نقل ذلك في كثير من الألفاظ، كـ «المولى» الموضوع للسيد والعبد، وكـ «العين» الموضوعة للباكية والجارية[٨]، وكذلك مادة «هلال»[٩] ومادة «أرض».[١٠]
ب ـ التبادر وانسباق معنيين أو أكثر من لفظ واحد، وهو علامة كونه حقيقة فيها. [١١]
ج ـ عدم صحّة سلب المعاني المتعددة من لفظها المشترك، فلا يقال: الذهب والفضة ـ مثلاً ـ ليسا بعين، والطهر والحيض ليسا بقرء، وهو أيضا علامة كونه حقيقة فيها. [١٢]
فالقول بإمكان الاشتراك هو المشهور بين الأصوليين، إلاّ أنّ من يأخذ بهذا القول عليه أن يتبنى مسبقا النظرية القائلة: بأنّ حقيقة الوضع عبارة عن الاعتبار سواء أكان بمعنى اعتبار الملازمة بين اللفظ والمعنى أو اعتبار اللفظ للمعنى، أو اعتبار جعل اللفظ ووضعه على المعنى، على اختلاف تصويرهم للاعتبار في هذا المجال، فإنّه في هذه الحالة يتيسّر تصور إمكان الاشتراك، إذ لا مؤنة في الاعتبار، فكما يمكن اعتبار اللفظ موضوعا لمعنى معيّن يمكن اعتباره موضوعا لمعانٍ متعددة، بخلافه على مسلك التعهد الذي يفسّر الوضع بأنّه عبارة عن: التزام الواضع بأن لا يقصد من اللفظ إلاّ معنى معيّن لايتعدّاه إلى غيره، فإنّه على هذا المسلك قد يقال بامتناع الاشتراك؛ لتضمّن اللفظ المشترك رفضا للتعهد المذكور؛ لما فيه من قصد معانٍ متعددة وضع اللفظ لها. [١٣] إلاّ أنّ بإمكان أصحاب هذا المسلك التخلّص من هذه المشكلة بتعديل صورة التعهد بالتزام الواضع بألاّ يتكلّم بلفظ إلاّ إذا أراد تفهيم معناه أو أحد معنييه أو معانيه المتعددة، فيتمّ بذلك العمل بمسلك التعهد مع الالتزام بالاشتراك والإقرار به. [١٤]

القول الثاني في وقوع الاشتراک اللفظي

أما القول الثاني: وهو القول بوجوب الاشتراك، فقد استدلّوا له بتناهي الألفاظ، وعدم تناهي المعاني، فإنّه لأجل إيجاد توازن بين الألفاظ والمعاني لابدَّ من الاستعانة بالألفاظ المشتركة لوضع أكبر عدد ممكن من المعاني تحتها، لكيلا يبقى معنى بدون لفظ، ممّا يعني ضرورة تحقّق الاشتراك ووجوب الالتزام به في اللغة[١٥]. واُورد عليه:
أوّلاً: بأنّ عدم التناهي يمكن تصوّره في الألفاظ أيضا؛ لأنّها وإن كانت ترجع في مادّتها إلى ثمانية وعشرين حرفا إلاّ أنّها قابلة للتأليف والتوسعة إلى ما لا نهاية من الألفاظ المختلفة الهيئات والتراكيب، عن طريق التقديم والتأخير، والزيادة والنقصان، والحركات والسكنات، فهي نظير الأعداد المحدودة من الواحد إلى العشرة القابلة للتأليف والتكثير إلى ما لا نهاية من الأعداد. [١٦]
ثانيا: إنّ وضع الألفاظ المشتركة بإزاء المعاني غير المتناهية غير معقول أيضا؛ لاستلزامه أوضاعا غير متناهية، وهي مستحيلة من واضعٍ متناه كالإنسان، ولو فرض واضعها اللّه‏ تعالى غير المتناهي، فهو لايضع الألفاظ إلاّ بقدر حاجة الإنسان إليها، فلو وضع الألفاظ للمعاني غير المتناهية كان ذلك عبثا لايليق بحكمته تعالى. [١٧]

القول الثالث في وقوع الاشتراک اللفظي

أمّا القول الثالث: وهو القول بالامتناع مطلقا، فقد استدلّوا له بالأدلّة التالية:
أ ـ إنّ الاشتراك يتنافى مع حكمة الوضع التي هي التفهيم والتفهّم؛ لاستلزامه الإجمال في المراد من الكلام، وعدم وضوح المقصود منه، ممّا يعني امتناع الاشتراك وعدم إمكان الالتزام به في اللغة؛ لعدم مطابقته لحكمة الوضع. [١٨]
وأمّا الألفاظ التي اُدعي اشتراكها في عدّة معاني، كلفظ العين فقد حاولوا التخلّص منها، بالتأكيد على أنّها ليست حقيقة إلاّ في أحد معانيها، وأمّا سائر معانيها فدلالتها عليها بالمجاز، فتكون دلالة العين مثلاً على الباصرة بنحو الحقيقة، وعلى الجارية وسائر معانيها الاُخرى بنحو المجاز. [١٩] واُورد عليه:
أوّلاً: بأنّه لا منافاة بين حكمة الوضع والاشتراك؛ لإمكان التعرّف على مراد المتكلّم عن طريق القرائن الحافة بكلامه. [٢٠]
ثانيا: إنّ الحكمة قد تقتضي الإجمال في الكلام أحيانا، إمّا لشدّ السامع وجرّه إلى البيان بعد الإجمال[٢١]، وإمّا لإخفاء المقصود من الكلام بصورة كليّة، فلا ضرورة لحصر الحكمة بالتفهيم والتفهّم. [٢٢]
ثالثا: إنّ مجرّد الإجمال في المشترك لايبرر القول بامتناعه، فإنّ أسماء الأجناس لا دلالة فيها على أحوال مسمّياتها لا نفيا ولا إثباتا، والأسماء المشتقة لا دلالة فيها على تعيّن الموصوفات بها مع أنّه لم يشكّ أحد في أنّها موضوعة لتلك المعاني. [٢٣]
وأمّا محاولة توجيه الألفاظ المشتركة بحملها على أحد المعاني بنحو الحقيقة وعلى الباقي بنحو المجاز، فيمكن الردّ عليه بما تقدّم من تبادر جميعها من ألفاظها، وعدم صحّة سلبها عنها.
ب ـ إنّ الوضع عبارة عن جعل اللفظ مرآة للمعنى وفانيا فيه، ولايمكن أن يكون شيء واحد مرآة لشيئين وفانيا فيهما مرّتين. [٢٤]
واُورد عليه: بأنّ حقيقة الوضع ليس كما ذكر، بل هي عبارة عن جعل اللفظ للمعنى وتسمية المعنى به، وأمّا فناء اللفظ في المعنى فهو أمر غير معقول. [٢٥]
ج ـ إنّ الوضع عبارة عن جعل الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى، وهو لايتناسب مع الاشتراك المستلزم لعدّة انتقالات ذهنية مستقلة من اللفظ إلى عدّة معاني دفعة واحدة، وهو محال. [٢٦]
واُورد عليه: بأنّه إن كان المراد بالاستقلال عدم الانتقال إلى المعاني الاُخرى، فإنّا لا نسلّم أن يكون لازم الوضع ذلك، وإن كان المراد بالاستقلال ما يقابل الانتقال الضمني كدلالة الاثنين على الواحد ضمنا، فالاستقلال بهذا المعنى محقّق في الألفاظ المشتركة، وهو ليس بمحال؛ لدلالة الألفاظ على كلّ واحد من معانيها بصورة مستقلة عن الآخر، فليس هو أمرا محالاً. [٢٧]

القول الرابع في وقوع الاشتراک اللفظي

وأمّا القول الرابع: وهو استحالة الاشتراك في القرآن دون غيره، فقد استدلّوا له باستلزامه الإجمال أو التطويل بذكر القرائن والتوضيحات، وكلاهما لايليق بكلامه تعالى، ممّا يعني استحالة الاشتراك في القرآن. واُورد عليه:
أوّلاً: عدم استلزام الاشتراك تطويلاً في الكلام دائما؛ لإمكان أن تكون القرائن واردة في سياق آخر، فتدلّ على المراد بـ الدلالة الالتزامية. [٢٨] ثانيا: نمنع كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى، لإمكان تعلّق الغرض أحيانا بعدم البيان. [٢٩]
مع أنّ في القرآن «آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»[٣٠] حيث فُسر المتشابه بالمجمل[٣١]، فكيف يستبعد الإجمال والاشتراك من القرآن؟![٣٢] ثالثا: إنّ الاشتراك واقع في القرآن، كما في «الصريم» و«عسعس»[٣٣] في قوله تعالى: «فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ»[٣٤]، وقوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ»[٣٥]، مع أنّهما من الألفاظ المشتركة؛ لأنّ الصريم، يعني الليل والنهار، وأصبحت كالصريم أي كالليل في سوادها بسبب الاحتراق، وكالنهار في بياضها بسبب اليبوسة أو الآفة التي أصابت الخضار. [٣٦] وأمّا عسعس فهو وإن كان المقصود منه في الآية هو إدبار الليل[٣٧] إلاّ أنّه يطلق لغة على الإقبال والإدبار. [٣٨]

القول الخامس في وقوع الاشتراک اللفظي

أمّا القول الخامس: وهو امتناع الاشتراك في الحديث دون غيره، فقد استدلّوا له بأدلة قريبة من أدلّة امتناعه في القرآن، ولذا احتمل البعض أن يكون أصحاب هذا القول هم أنفسهم القائلون بامتناع الاشتراك في القرآن[٣٩]، ولذا يمكن الردّ عليهم بنفس ما اُورد على القائلين باستحالته في القرآن.

القول السادس في وقوع الاشتراک اللفظي

وأمّا القول السادس: وهو امتناع الاشتراك في المتناقضين، فقد استدلّوا له بأنّ الاشتراك فيهما يؤدّي إلى ترديد السامع بين أمرين متنافيين حكم العقل بعدم أحدهما. [٤٠]
وجوابه يعرف ممّا تقدّم؛ لأنّ في الإجمال فوائد لايمكن تحصيلها بالبيان. على أنّ الاشتراك بين الشيء ونقيضه واقع في اللغة، كما في «عسعس» الموضوعة للإقبال والإدبار، كما تقدّم. [٤١]
ثم إنّ الاشتراك يمثّل حالة طارئة تعرض على اللفظ. [٤٢]، فهو بمنزلة الخاص الوارد على العام ليخصصه.

الهوامش

  1. العدّة في أصول الفقه الطوسي 1: 51، معارج الأصول: 53، مبادئ الوصول: 68، معالم الدين: 38، الفصول الغروية: 31، كفاية الأصول: 35، نهاية الأفكار 1ـ2: 102، أصول الفقه (المظفر) 1ـ2: 77.
  2. التمهيد في أصول الفقه 1: 88، الواضح في أصول الفقه 1: 52، المحصول الرازي 1: 98ـ99، كشف الأسرار (البخاري) 1: 103، الإبهاج في شرح المنهاج 1: 251.
  3. اُنظر: التحبير شرح التحرير 1: 356، هداية المسترشدين 1: 497.
  4. نُسب إلى الباقلاني وثعلب والأبهري والبلخي. أنظر: الإبهاج في شرح المنهاج 1: 250، البحر المحيط 2: 122.
  5. ذهب إليه ابن داود الظاهري وجماعة، كما نقل ذلك عنهم في البحر المحيط 2: 122، والتحبير شرح التحرير 1: 352.
  6. أنظر: التحبير شرح التحرير 1: 365.
  7. المحصول الرازي 1: 100.
  8. أنظر: الصحاح 6: 2170، مادة «عين».
  9. معجم مفردات ألفاظ القرآن: 576، مادة «هلال».
  10. القاموس المحيط: 587، مادة «أرض».
  11. أنظر: عناية الأصول 1: 104.
  12. أنظر: عناية الأصول 1: 105.
  13. محاضرات في أصول الفقه 1: 202، بحوث في علم الأصول الهاشمي 1: 116.
  14. محاضرات في أصول الفقه 1: 202، بحوث في علم الأصول الهاشمي 1: 116.
  15. أنظر: المحصول الرازي 1: 97، عناية الأصول 1: 107.
  16. محاضرات في أصول الفقه 1: 199ـ200.
  17. كفاية الأصول: 35، عناية الأصول 1: 107ـ109.
  18. أنظر: ما نقله في المحصول الرازي 1: 98، التحصيل من المحصول 1: 218، الإبهاج في شرح المنهاج 1: 250.
  19. التفسير الكبير 29: 37 ـ 38. وأنظر أيضا: ما نقله عنهم ابن مفلح في أصول الفقه 1: 64.
  20. كفاية الأصول: 35.
  21. الإبهاج في شرح المنهاج 1: 251، البحر المحيط 2: 124.
  22. كفاية الأصول: 35.
  23. المحصول الرازي 1: 98.
  24. ذكره العراقي في بدائع الأفكار 1: 144.
  25. مناهج الوصول 1: 177، 184.
  26. تشريح الأصول: 47.
  27. مناهج الوصول 1: 178ـ189.
  28. كفاية الأصول: 35.
  29. المصدر السابق.
  30. آل عمران: 7.
  31. أنظر: محاضرات في أصول الفقه 1: 203.
  32. كفاية الأصول: 35، محاضرات في أصول الفقه 1: 203.
  33. التحبير شرح التحرير 1: 355.
  34. القلم: 20.
  35. التكوير: 17.
  36. مجمع البيان 10: 101، تفسير الصافي 7: 263.
  37. مجمع البيان 10: 315.
  38. الصحاح 3: 949، مادة «عسعس»، النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 911، مادة «عسعس».
  39. التحصيل من المحصول 1: 219، التحبير شرح التحرير 1: 356.
  40. التحصيل من المحصول 1: 213، الإبهاج في شرح المنهاج 1: 255.
  41. البحر المحيط 2: 123.
  42. أنظر: أصول السرخسي 1: 16.