موانع التقريب
موانع التقريب هي ما يقف عائقاً وحركة التقريب بين المذاهب الإسلامية ومن تلك الموانع:
موانع التقريب
أوّلاً: العامل الخارجي.
فمن الواضح تماماً أنّ أعداء هذه الأُمّة يخلقون كلّ الظروف التي تؤدّي لتمزيق هذه الأُمّة، ويقفون في وجه كلّ ما يعمل لتوحيدها. وقد لاحظنا أنّ الاستعمار الغربي عمل خلال فترة احتلاله للعالم الإسلامي، وخصوصاً في الفترة التي احتلّ فيها العالم الإسلامي كلّه تقريباً، وقضىٰ على آخر دولة إسلامية شمولية في الربع الأوّل من القرن الميلادي العشرين، لاحظنا أنّه اعتمد سياسة ثلاثية تستهدف:
1 - إبقاء الأُمّة على تخلّفها العلمي والاقتصادي والثقافي والتعليمي وغير ذلك.
2 - إشاعة الحالة العلمانية الغربية على الروح الإسلامية في العالم الإسلامي، إلى جانب تحريك النزعات القومية والعنصرية. ولكن سرعان ما فشل مشروعه، ممّا دعا بعض الكتّاب المعاصرين لتسميته ب «النصر سريع الزوال للعلمانية (1920-1970 م».
3 - تمزيق العالم الإسلامي إلى دول وشعوب متفرّقة، وتحريك النعرات المذهبية الجغرافية والقومية والعنصرية حتّى التاريخية. كلّ ذلك خوفاً من هاجس الوحدة الإسلامية الذي يجري الحديث عنه والتخوّف منه باستمرار من قبل القادة والمفكّرين والكتّاب الغربيّين، ويتمّ التنظير لصراع دائم مع العالم الإسلامي على أساسه.
وها نحن نشهد دور اليد الأجنبية الممتدّة لتحرّك النزاعات الطائفية في باكستان والعراق وأفغانستان ولبنان وسائر البلاد التي يتعايش فيها أتباع المذاهب، وربّما استخدمت وسائل الإعلام والأقلام والألسنة المأجورة لتحقيق الهدف.
ثانياً: المصالح الشخصية لبعض الزعماء والحكّام.
وهو أمر شهدناه في عصور الظلام الماضية، ونشهده اليوم أيضاً، حيث يستغلّ البعض نفوذه ليثير العامّة، بل ربّما بعض المنتسبين لأهل العلم لتحريك الإحَن والنزاعات الطائفية.
يقول أحد الكتّاب المؤرّخين واصفاً بعض حروب الطوائف بتحريك من السلطات الحاكمة: «وكانت لا تمرّ سنة دون عنف بين ما وصف بفرق السنّة وفرق الشيعة في سائر أرجاء المنطقة العربية الإسلامية، فقد تولّى الترك بأنفسهم عام 249 ه عمليات القمع الطائفي ضدّ الشيعة... وكان أكثر الضحايا من منطقة (الشاكرية) ببغداد، وبنتيجتها هوجم السجن المركزي وأُحرق أحد الجسرين الواصلين بين جانبي الكرخ والرصافة».
ويستمرّ في الحديث عن دور حكومات الطوائف في تحريك الفتن في مصر، وعن الاقتتال الطائفي بعد قيام حركة الزنج في سواد جنوب العراق، وامتداد النزاع إلى المدينة المنوّرة وإلى طبرستان، وتواصلت إلى شمال أفريقيا، وهكذا.
ثالثاً: التكفير.
وتعدّ هذه الظاهرة من أهمّ العقبات بوجه التقريب، ورغم أنّ الإسلام وضّح تماماً الحدود الفاصلة بين الكفر والإيمان وحدّدها بدقّة، فإنّ هذه الحالة الغريبة حدثت بقوّة.
وقد ربّىٰ القرآن العظيم الرسول الكريم صلى الله عليه و آله وأتباعه على التعامل العقلاني والحوار المنطقي والقبول بالتعدّدية الاجتهادية إذا كانت على أُسس شرعية منضبطة، إلّاأنّ هذه الظاهرة حدثت في ظلّ ظروف عصبية في مطلع الأمر كما في قضية الخوارج. وزاد الجهل والتعصّب الطين بلّة حيث يدخل في عملية الفتوىٰ من ليس أهلاً لها، فيفتي بغير ما أنزل اللّٰه. وهذا ما شهدناه بكلّ وضوح في الحركات التكفيرية في عصرنا، ممّا أدّى إلى سفك الدماء البريئة على نطاق واسع باسم الدفاع عن الدين والأُمّة! وهما من هذه الحالة براء.
رابعاً: التشكيك في نوايا الداخلين في الحوار.
فإنّه لا يحقّق الجوّ الهادئ المطلوب، ويدفع لنوع من التهرّب أو المماطلة أو تلمّس العثرات، ممّا يمنع من تحقّق النتيجة المطلوبة. وهذا ما شهدنا نظيره في عمليات الحوار بين
أتباع الأديان نتيجة ما يحمله كلّ طرف من تراكمات ذهنية عن الآخر، فالطرف المسيحي مثلاً يحمل أحقاده الصليبية وإيحاءات المستشرقين بما يسمّونه ب (الهرطقة الإسلامية)، وما يدور في نفسه من هواجس الصحوة الإسلامية التي تنافس مشروعه في السيطرة، في حين يحمل الطرف الإسلامي سوابق ذهنية كبيرة عن خدمة التبشير المسيحي للاستعمار على مدىٰ قرون.
ولكن العمل الجادّ والتوجّه للتعليمات الإسلامية الهادية والداعية لحسن الظنّ في الأخ المسلم يمنع من أن يلعب هذا العامل دوره في المنع من التقريب، خصوصاً إذا تمّ على مستوىٰ العلماء العاملين الذين خبر بعضهم بعضاً في مجالات العلم والإخلاص والعمل في سبيل الأُمّة بمجموها.
خامساً: التهويل والتضخيم واستحضار الماضي والتهجّم على المقدّسات وعدم احترام الآخر.
وكلّ واحد من هذه الأُمور يمكن أن يشكّل بنفسه مانعاً من تحقّق الحوار المطلوب، وبالتالي الوصول إلى التقريب. وقد وجدنا النصوص الإسلامية تتظافر في المنع من هذه الأُمور.
سادساً: اختلاف مناهج الاستدلال وطرق الاستنباط.
فإنّه يمنع من التقارب في النتائج، وعليه ينبغي السعي إلى ما يأتي:
أ - الفراغ من المفروضات المسبقة قبل بدء عملية الحوار.
ب - الاتّفاق على منهج واحد للاستنباط، وليس هذا الاتّفاق أمراً صعباً.
ج - تحقيق محلّ نص العنوان بدقّة؛ لئلّا ينظر كلّ طرف إلى قضية ومفهوم لا ينظر إليه الطرف الآخر.
سابعاً: اعتبار القول الشاذّ علامةً على المذهب كلّه، وأخذ تصوّرات المذهب من أقوال خصومه.
ثامناً: دخول من ليس أهلاً في عملية الحوار، واتّباع الأساليب الملتوية للظفر بالآخر.
=== تاسعاً: عدم التصارح بين المسلمين. ===
فمن المشاكل الأساسية أنّنا غالباً لا نتصارح فيما بيننا عندما نختلف، بحيث لا يُظهر أحدنا ما يجول في عقله وقلبه للآخر.
فالذي يحكم الواقع الإسلامي في كثير من لقاءاته سواء أكانت على المستوى الرسمي أو العلمائي أو في الدوائر الثقافية هو أُسلوب المجاملة، بحيث يؤكّد للآخر على التزام الإسلام كقاعدة مشتركة وعلى أهمّية التنوّع في داخل الفكر الإسلامي والفقه والتشريع وفي بعض مفردات العقيدة وفهم القرآن، ويتمّ التأكيد على أهمّية الوحدة بين المسلمين وأنّها سبيل لقوّتهم، ولكن في الوقت نفسه تبقى لكلّ فئة أحكامها المسبقة عن الآخر، والتي غالباً ما يلفّها الغموض أو التشويه، لذا لا تأتي اللقاءات إلّابمجاملات يطلقها الحريصون على الوحدة، أو بشواهد إضافية تكرّس للمتعصّبين مواقفهم الحادّة والرافضة للمذهب الآخر، والتي تأخذ في نهاية المطاف عنوان التكفير.
عاشراً: الذهنيات القلقة والخائفة من التواصل.
لعلّ من أبرز العوائق وجود الذهنية التي تعتبر التواصل والدعوة إلى الوحدة مدخلاً إلى تمييع المذهب أو النهج الفكري الذي ينتمي إليه أصحاب هذه الذهنيات، فغالباً ما يتمّ الاصطدام بخطّ الوحدة تجنّباً لما يرونه من مخاطر تتمثّل في أُمور، أبرزها:
أ - التنازل عن بعض مفردات المذهب وحتّى بعض العناصر الأساسية، ففي بعض الحسابات أنّ الوصول الى أيّة وحدة بين طرفين مختلفين أو أيّ تواصل مع الآخر يقتضي تقديم التنازل من كلّ طرف، والذي تختلف نسبته بحسب موقع كلّ طرف، فالضعيف لا بدّ من أن يقدّم تنازلاً أكثر من القوي، والأقل عدداً لا بدّ من أن يقدّم تنازلاً لغير الحريص.
ب - اعتبار التنازل في أيّ جانب - حتّى لو كان بسيطاً - يحمل التنكّر والإساءة لكلّ جراحات التاريخ وآلامه، حين كان كلّ طرف يقدّم التضحيات على مذبح تأكيد مذهبه وحفظه وإبقائه حيّاً ومعافى.
ج - المصاعب الكبرى التي تعترض الوحدويّين من كلّ مذهب في ضبط قواعدهم،
وخصوصاً في ظلّ قيام التقسيميّين بتشكيك القاعدة بأنّه بإخلاص الرموز الوحدوية أم بخطوات الوحدة التي تهدّد المذهب بحسب زعمهم، ما يهدّد بكسب هذه القواعد لمصلحة التقسيميّين الذين تتوافر لديهم كلّ الإمكانات والقدرات، الأمر الذي يؤدّي فعلاً إلى التنافس في ميادين التعصّب والفرقة.
حادي عشر: وجود عوائق فكرية وأخلاقية.
ففضلاً عن مخاطر هذه الذهنية التي يجب أن تواجه بحكمة وموضوعية، فإنّ ثمّة أفهاماً وممارسات لا تقلّ خطراً عنها، منها:
1 - الابتعاد عن الأساليب الإسلامية في التعامل عند الاختلاف، بحيث لا نجد الأخلاقية الإسلامية حاكمة في مقاربة الاختلاف الفكري أو المذهبي.
وهذه الأخلاقية تتمثّل بالالتزام بمجموعة من القيم، منها:
أ - التأسيس للقواعد المشتركة قبل التحرّك لمعالجة قضايا الاختلاف.
ب - الجدال بالتي هي أحسن.
ج - الحمل على الأحسن في فهم الآخر، والعذر عند الاختلاف، وعدم الحكم على أساس النيّة السيّئة أو تعميم الاختلاف، ناهيك بالتدقيق في النقل وفهم الآخر من مصادره الأصيلة لا ممّا تسمع عنه.
د - التحرّك من موقع المصلحة الإسلامية العليا عند التعاطي مع المستجدّات الخلافية.
ه - عدم اعتماد أساليب السباب والشتائم واللعن كأساس في الحوار أو التعامل عند الاختلاف، لا بل التأكيد على حرمة ذلك، وتفهّم رأي الآخر وفق قاعدة أنّ الأمر الواضح عندك ليس بالضرورة واضحاً عند الآخرين وبالصورة نفسها؛ لأنّ الزاوية التي تنظر منها إلى القضايا قد تختلف عن الزاوية التي ينظر منها الآخر.
2 - التهيّب من التعامل الجدّي مع المفردات التي تثير جدلاً بين المسلمين وتؤكّد اختلافهم، من قبيل: النظر إلى الإمامة والخلافة ومدىٰ حدودها، والنظرة إلى الخلفاء والصحابة، التكفير، السنّة النبوية، أحاديث الأئمّة، وغيرها.
3 - التغافل عن الآيات والأحاديث التي تدعو إلى الوحدة، واعتبار أنّها تنحصر فقط في الدائرة الواحدة ضمن المذهب الواحد، أو أنّ لها بعداً أخلاقياً توجيهياً لا يأخذ طابع الإلزام، ولا يشكّل عنواناً أساسياً للذهنية الإسلامية، وبذلك نبعد الإسلام عن أن يشكّل القاعدة الأساس للرؤية والسلوك، وننفي أنّ المذاهب تمثّل وجهات نظر في فهم الإسلام.
4 - فهم بعض الآيات والأحاديث التي تعتبر الاختلاف حالة طبيعية إنسانية من قبيل الآية الكريمة: (وَ لاٰ يَزٰالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّٰ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (سورة هود: 118-119)، وفهمها بما يكرّس الاختلاف والانقسام، وهو ما لا تقصده الآية الكريمة، والسبب أنّ عقل المسلم وصدره لايزال عاجزاً عن تقبّل الاختلاف الذي يفسح في المجال لتعدّد الآراء وغنى الأفكار وتنوّع الرؤى.
5 - عدم الجدّية في الأخذ بالوحدة الإسلامية، وحملها كشعار لا يحمل أيّ مضمون، لا سيّما إذا جرت مقاربتها إمّا من حيث هي وسيلة ليتنصّل من خلالها البعض من الاتّهام بالمذهبية واتّهام الطرف الآخر بها، أو ستاراً يخفي السعي للنفاذ إلى المجتمع الآخر، أو ديكوراً للفئات السياسية كي تبدو منفتحة في حضورها وغير منغلقة على ذاتها أو منحرفة في دائرتها المذهبية.
ثاني عشر: عدم المعرفة.
فحينما لا يعرف الفرد المسلم الوجوب الشرعي لمشروع التقريب وضرورات الوحدة، ويجهل الأهمّية الحضارية لحضور أُمّته على الصعيد الدولي مرفوعة الرأس والراية، وحينما لا يشعر بخطورة التحدّيات الميحطة به وبقضاياه الإسلامية والمصيرية، فإنّه لا يتحرّك نحو العمل بمقتضيات المشروع التقريبي ومقوّمات الوحدة، بل قد يتورّط في هدم ذلك من حيث يشعر أو لا يشعر.
ثالث عشر: غياب التربية الصالحة.
فلا يكفي العلم وحده لإزالة موانع التقريب والوحدة ما لم تعضده نزاهة التزكية وباطن الخشية من اللّٰه الملك الحقّ المبين، فالذي يزوي عن نفسه التهذيب المعنوي يهوي إلى
مستنقع الكراهية، ويمارس العدوانية، ولا ينفعه علمه، بل والعلم في هذه الحالة يسهّل طريقه في الصدّ عن التقريب والوحدة.
رابع عشر: علماء السوء.
حيث يلعب هؤلاء بفتاواهم والأفكار المصلحية التي يتبنّونها لعبةً أساسيةً في تشتيت الجهود وبعثرة الطاقات وعدم السماح للمشاريع الوحدوية أن تسلك في الأُمّة بسلام وقوّة ونجاح.
خامس عشر: العصبية والنزعة الأُحادية.
فهي غريزة يمتلكها كلّ فرد، كباقي الغرائز التي تميل بصاحبها على جهة السقوط ما لم تعتدل بكوابح الورع ونبل القيم، فمن لم يخرج من سيطرة هذه الغريزة بحبّ الخير للآخرين فسوف يتحوّل إلى سكّينة في خاصرة الفعّاليات الإصلاحية أو يُصبح كالرمح في صدر المساعي التقريبية بين المسلمين.
سادس عشر: حبّ الدنيا والمصالح الماليّة.
فحبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، مقولة صادقة بتأييد النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله والتجربة المشهودة على الأرض خير شاهد. ويلعب المال في خطيئات الدنيا لعبته الخطيرة لما تحتكره الأيادي وتوظّفه لمصالحها الذاتية، ثمّ من أجل الحفاظ عليها والتوسّع فيها يخضع أصحابها لكلّ مخطّط شيطاني ومشروع تمزيقي، فقد يدخلون في تحالفات مع الدول الكبرى أو الصغرى أو مَن يجدون لديه المصلحة المالية والتنمية التجارية لثرواتهم، فتمنعهم هذه المصالح من قبول أيّ مشروعٍ تقريبي في الأُمّة يرونه هادماً لتلك المصالح.
سابع عشر: شلل الإرادات.
فإنّ الضربات تتراكم على إرادات المصلحين بهدف إحداث شرخٍ في عزائمهم وخورٍ وخواءٍ في قراراتهم وشللٍ في قواهم، حتّى لا يجدو أمامهم سبيلاً للتقدّم وطريقاً للإنقاذ جرّاء الغبار الذي يرتفع في وجوههم بنفس الأسباب المذكورة. فما أكثر الإرادات التي قد تلاشت والهمم التي قد اندثرت والجهود التي قد تهدّمت نتيجة الجهل والأنانية والعصبية والمؤامرات الخلفية.