منطلقات الخطاب الإسلامي المعاصر

من ویکي‌وحدت

منطلقات الخطاب الإسلامي المعاصرعنوان نبحث فيه عن الخطاب الإسلامي المنشود. ووصولا إلى هذا الخطاب المنشود لا بدّ له أن ينطلق من ركائز جامعة، تحيط بالمطلوب وتستوفي المنشود، وأهمّ هذه الركائز يتمثّل في الآتي:

منطلقات الخطاب الإسلامي المعاصر

1 - ربّانية المصدر والغاية.

فالخطاب الإسلامي يجب أن يكون ربّانيّاً في مبدئه ومصدره، من اللّٰه يصدر وإليه ينتهي، كما يجب أن يكون ربّانيّاً في غايته ووجته، يرمي إلى أن يعرف الإنسان لوجوده غاية ولمسيرته وجهة ولحياته رسالة، فيجتمع شتيته ويأتلف شعثه ويتوحّد همّه ويطمئن قلبه.

2 - عالمية الوجهة.

فالخطاب الإسلامي عالمي المنزع والوجهة، لا يحفل بجنس، ولا يتحيّز لعرق، ولا يتكتّل في لون، ولا ينكفئ على صفوة من الناس مختارة، بل هو خطاب للناس جميعاً على اختلاف مستوياتهم وأجناسهم.

3 - إنسانية المنطلق.

فالنزعة الإنسانية هي لحمة الخطاب الإسلامي وسداته، ويكفي للدلالة على ذلك أنّ لفظة «الإنسان» تكرّرت في القرآن (63) مرّة، ولفظة «بني آدم» تكرّرت (6) مرّات، وكلمة «الناس» تكرّرت (240) مرّة، وأوّل نداء في القرآن كان نداءً للناس كافّة: (يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (سورة البقرة: 21)، كما أنّ أوّل خمس آيات نزلت من القرآن (من سورة العلق) ذكرت لفظة «الإنسان» في اثنتين منها: (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ * اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ اَلْإِنْسٰانَ مٰا لَمْ يَعْلَمْ) (سورة العلق: 1-5).

4 - وسطية المنهج.

الخطاب الإسلامي يراعي التوازن بين العقل والوحي، بين المادّة والروح، بين الحقوق والواجبات، بين الفردية والجماعية، بين الإلهام والالتزام، بين النصّ والاجتهاد، بين الواقع والمثال، بين الثابت والمتحوّل.

5 - إيجابية البناء.

وهي نقيض السلبية التي لا ترى الدين أكثر من عقيدة في الصدور، وعلم في السطور، وتمائم في النحور، وعظماء في القبور! وتقصيه عن أن يكون منهج حياة، ودافع بقاء، وباعث عمارة، ومنشِئ حضارة.
إنّ إيجابية البناء في الخطاب الإسلامي تتبدّى في عدم اكتفائه بترديد أنّ الإسلام هو الحلّ، بل تتعدّى ذلك إلى النفاذ إلى تفاصيل هذا الحلّ وإيجاد البدائل الناجعة والحلول الشافية للمشكلات المعاصرة المتمثّلة في تحقيق التنمية المستدامة، والتي يُقصد بها التنمية التي تفي باحتياجات الجيل الحالي دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على الوفاء باحتياجاتهم. فمن المعلوم أنّ التنمية في كثير من الدول تعمل على إهلاك الموارد الاقتصادية، الأمر الذي سيلقي تبعاته الثقيلة على الأجيال القادمة. وكذلك تتمثّل في
تحقيق العدالة الاجتماعية، فإنّ الخطاب الإسلامي يكون قاصراً إن تجاهل العدالة الاجتماعية التي تحدّث عنها القرآن في بحر آياته العديدة، وأرسى قواعدها، ووضّح أُسسها، ورمى إلى تكوين المجتمع العادل.. فالعدل أساس في البناء السياسي والقضائي والاقتصادي، وأساس في تثبيت الحقوق والواجبات وأُصول التعامل والعلاقات بين الناس.

6 - مرحلية التدرّج.

غاية الخطاب الإسلامي الوصول إلى المثل الأعلى والوجه الأسنى لتطبيق الدين في واقع الناس، لكن ذلك لا يدعونا إلى أن نغمض أعيننا عن الواقع الذي نعيشه وأن نفكّر في مرحلية التدرّج به من حاله التي هو عليها إلى الحالة المثلىٰ والغاية القصوى.

7 - شمول الفكرة بلا اجتزاء.

فرسالة الإسلام هي الرسالة التي امتدّت طولاً حتّى شملت آباد الزمن، وامتدّت عرضاً حتّى انتظمت آفاق الأُمم، وامتدّت عمقاً حتّى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة. والإسلام لا ينحصر - كما يرىٰ العلمانيّون - في العقيدة والعبادة فقط، بل يمتدّ ليشمل الحياة كلّها. وينبغي أن يواكب خطابنا هذا الشمول.

9 - ارتباط بالأصل واتّصال بالعصر.

فالخطاب الإسلامي يبرز خصوصية الأُمّة وتفرّدها ويرتبط بأُصوله، لذلك فهو ليس مبتوتاً عن تالد ماضي المسلمين وناصع سيرة الصالحين، بيد أنّه ليس رهيناً لذلك الماضي، حبيساً لنتاج أُولئك العظماء الميامين، بل يدرك كم ترك الأوّل للآخر، فالزمان غير الزمان والبيئة غير البيئة والمشكلات غير المشكلات، لذلك تجده يأخذ من الحضارات الأُخرى ما لا يتعارض مع قيم الأُمّة الأخلاقية وأُصولها العقدية ومفاهيمها الفكرية ومناهجها التربوية وتوجّهاتها التشريعية.

10 - واقعية بلا تسيّب.

والواقعية هي نقيض المثالية الخيالية التي لا تتحقّق في عالم الواقع، والخطاب الإسلامي خطاب واقعي؛ لأنّ مصدره هو اللّٰه خالق الموجودات والعالِم بالممكن والمحال والمستطاع وغير المستطاع.

11 - تنوّع بلا تضادّ.

بما أنّ الخطاب الإسلامي خطاب عامّ للعالمين، والعالمون مختلفون في ميولهم النفسية واستعداداتهم الفطرية وطاقاتهم الذاتية، لذلك لا بدّ للخطاب الإسلامي أن يكون متنوّعاً يروي ظمأ الروحانيّين، ويشفي غلّة المفكّرين، ويستوعب طاقة الرياضيّين، يسدّ حاجة الفقراء، ويرضي تطلّعات الأغنياء، يخطاب الروح والعقل والجوارح، يبيّن الحقّ في قالب جميل، يجتذب الشعراء والأُدباء والتشكيليّين، بالتركيز على إظهار القيم الجمالية في الإسلام وربطها بالعقيدة وتبيان مظاهر الجمال والزينة في كلّ أرجاء الكون.

12 - علمية بلا تهريج.

فالخطاب الإسلامي‌خطاب عملي يراعي اختلاف الظرف والمكان، ويجمع بين الأصالة والعاصرة، ويفرّق بين الثابت والمتغيّر والمبدئي والمرحلي، ويعمل على حشد طاقات الأُمّة وتعبئتها، لا على إضعافها وتبديدها، لا يغترّ لنجاح ولا ييأس لفشل، لا يثنيه واقع الاستضعاف عن العمل للتمكين، ولا طارئ الغربة عن السعي للظهور، ولا فقه الأزمة عن مستلزمات العافية، ولا الممكن الموجود عن المثال المنشود.

13 - حكمة بلا تهوّر.

والحكمة هي إنزال الشيء في أليق مواضعه، وهي شأن الرسول صلى الله عليه و آله الذي أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، ووجّهه إلى أفضل أساليب الخطاب، فقال عزّ وجلّ: (اُدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (سورة النحل: 125). ومن الحكمة في الدعوة أن نقدّم القدوة قبل الدعوة، ونعمل على تأليف القلوب قبل تعريف العقول، ونؤكّد على التعريف قبل التكليف، ونراعي التدرّج في التكاليف، ونفرّق بين فقه الأصل وفقه الاستثناء، فنيسّر ولا نعسّر، ونبسّط ولا نعقّد، ونبشّر ولا ننفّر، ونرغّب قبل أن
نرهّب، ونراعي الأُصول قبل الفروع، والكلّيات قبل الجزئيات، والإجمال قبل التفصيل.

14 - صدع بالحقّ بلا انهزام.

فالخطاب الإسلامي يجهر بفكرته في وضوح وقوّة ولا يطلب رضا المخالفين باعتذار أو تبرير لأحكامه، بل ينطلق إلى إبراز الحقائق وبيان اختلال معايير الغرب، وشقائه لبعده عن الإسلام، لذلك الخطاب الإسلامي كذلك لا ينسى دوره في حفظ الهوية الثقافية للأُمّة والتي تتعرّض لمحاولات مسخ منتظمة.

15 - تسامح بلا هوان.

فمن أبرز خصائص الخطاب الإسلامي أنّه متسامح مع الأتباع والأعداء سواء، فنحن نحاور مَن يحاورنا، ونسالم مَن يسالمنا، ونمدّ يدنا لنصافح مَن يصافحنا، ولا نعادي إلّامَن يعادينا؛ لأنّ التسامح الحقيقي لا يكون عن ذلّة وضعف، إنّما يكون عن قوّة واقتدار، ولذلك فهو تسامح القدرة لا تسامح الذلّ والهوان.

16 - تصالح بلا تفريق.

والتصالح اليوم من أبرز احتياجات الأُمّة، فما يجري أمامنا ومن حولنا يتطلّب هذا التصالح الذي يراعي مصالح الأُمّة ويقدّمها على مصلحة العصبة، تصالح لا يحيف على أحد الأطراف، ولا يميل ذات اليمين وذات الشمال: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا) (سورة الحجرات: 9)، تصالح يراعي الأُصول والكلّيات، ولا يهمل الفروع والجزئيات قدر المستطاع. إنّ الخطاب الإسلامي ينبغي - وذلك سعياً لاستعادة الريادة الحضارية والسيادة العالمية لأُمّة الإسلام - أن يقوم بدور رائد في المصالحة الشاملة بين فعّاليات الأُمّة، والتعاون التامّ بين دوائر النفوذ فيها.