عوامل التفرّق الأصلية
عوامل التفرّق الأصلية هي الأسباب التي تؤدّي أوّلاً وبالذات إلى وقوع التشتّت بين أبناء الأُمّة الإسلامية، حيث إنّ وجودها بالذات يتنافىٰ مع الوحدة.
ويمكن تلخيصها فيما يأتي :
العوامل التفرّق
الجهل
كان الجهل بالدين عامّة والجهل بالمذاهب خاصّة وراء أكثر ما حدث من نزاعات في التاريخ باسم الدين.
والجهل بحقيقة الدين خلق ألواناً من التعصّب المقيت وألواناً من البدع والالتقاط، وأدّىٰ إلى تفرّق صفوف المسلمين وظهور الإفراط والتفريط في المجتمعات الإسلامية.
كما أنّ جهل أصحاب مذهب بمتبنيّات أصحاب المذهب الآخر خلق حسّاسيات وعقداً، وأدّىٰ إلى تبادل التهم والافتراءات.
وليس الجهل مقتصراً على القرون الغابرة، بل هو لايزال يعشعش في مجتمعاتنا ويفرّخ، ويولّد أحياناً صوراً مؤلمة من التعصّب والتحجّر، أو ينتج استخفافاً بشريعة اللّٰه وتهاوناً في الالتزام بأحكامه.
كما أنّه يظهر على شكل حزّازات طائفية وتهم وافتراءات. ولا ريب أنّ هذا الجهل المذهبي يمكن أن يوجد في أوساط علمية مرموقة. وإنّ علاج هذه الظاهرة يمكن أن يتمّ عن طريق مجمّع يضمّ ممثّلي المذاهب، وتتشكّل في هذا المجمّع لجان لدراسة المشتركات الموجودة وتذكر الخصائص الثابتة المقبولة لكلّ مذهب. وبذلك تتّضح الفوارق بدقّة، وتزول التهم والافتراءات.
عدم التثبّت قبل الحكم
وهي حالة شائعة مع الأسف في جميع مجالات حياتنا، وخاصّة المذهبية.. حالة الاكتفاء بالشائعات والحكم على أساسها ظاهرة ناتجة عن غياب الروح العلمية وغياب أهمّية كرامة الإنسان، وغياب التربية الإسلامية التي تعلّمنا كيف نتعامل مع المسموعات.
يقول المرحوم العلّامة كاشف الغطاء في مقال له تحت عنوان : «التثبّت قبل الحكم» : «مازال أهل العلم والنظر والدراسات الصحيحة يعنون أكبر العناية بالمصادر التي يعتمدون عليها في بحوثهم ويستندون إليها في أحكامهم، ومن المعهود أنّ رجال الفرق وأهل العصبية للمذاهب ينقلون عن مخالفيهم آراء قد لا يعرفها هؤلاء المخالفون، وقد يعرفونها على صورة أُخرىٰ تختلف اختلافاً قريباً أو بعيداً عن الصورة المنقولة
وأنّهم قد يأتون باستدلالات لمذهب مخالفيهم يروّجون لها في ظاهر الأمر، ويوغلون في تفصيلها والعناية بدقائقها ؛ ليوهموا الناس أنّها لمخالفيهم، ثمّ يكرّون عليها بالإبطال والتزييف والطعن والتجريح، فلا تلبث أن تنهار».
لذلك كان شيوخ العلم وحذّاق النقد يوصون تلاميذهم بأن يعنوا بمصادرهم، وألّا يقلّدوا في بحوثهم وأفكارهم تقليداً أعمى، فيقعوا في الخطأ لمذهب ما أو فكرة ما، إذا أرادوا أن يصلوا إلى الحقيقة في هذا المذهب، وأن يعرفوا الواقع الفعلي لا التخيّلي لهذه الفكرة.
لغة الطعن والتنابز بالألقاب
شاعت بين أصحاب المذاهب الإسلامية منذ القدم لغة بعيدة عن الموضوعية والروح الإسلامية، وهي لغة الطعن، ولصق التهم، ونسبة الألقاب السيّئة إلى الخصوم، ممّا كان يزيد في الطين بلّة، ويؤجّج نيران العصبيات، ويبعد الحالة الإسلامية عن الحوار العلمي الهادئ الرصين.
ولاتزال ألقاب «العامّة» و«الخاصّة» في كتبنا عند الحديث عن الشيعة والسنّة، ولايزال هناك مَن يطلق كلمة «النصيرية» على العلويّين، ولايزال هناك من يسمّي أتباع
هذا المذهب أو ذاك بأسماء لا يرضونها كالرافضة وأمثالها.
هذه الألقاب لا تغيّر من الحقيقة شيئاً، ولعلّها تكون مشمولة بالنهي الوارد في الآية الكريمة : (وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ) (سورة الحجرات : 11).
وثمّة كتب أُلّفت لتضمّ بين دفّتيها ألوان الطعون، مثل : «الوشيعة» و«فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»، وأمثالها. وهي تجانب روح التقارب والتوحيد وتجافي الأُخوّة الإسلامية، على العكس من كتب أُخرى ذكرت الاختلافات بروح علمية موضوعية، مثل : «مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين» لأبي الحسن الأشعري، و«الفصول المهمّة في تأليف الأُمّة» للسيّد شرف الدين، وأمثالهما.
أُسلوب استثارة الاختلافات
بعض الناس صِداميّون بالذات في كلّ أُمورهم، يريدون أن يبحثوا عن خصم ليتناطحوا معه، يعيشون حياتهم وكأنّهم في ساحة حرب، ينادون : «هل من مبارز» ! هؤلاء يلجّون في الخصام دائماً، ولا يعرفون سوىٰ الخصومة.. يفتّشون دائماً عن العيوب والثغرات والاختلافات، فيجدون فيها ما ينفّسون عن روحهم التوّاقة للاصطدام.
وحين يدخل مثل هؤلاء الساحة المذهبية يخلقون المآسي.. يفسّرون حتّىٰ اختلافات النحويّين اختلافاً مذهبياً ! لا تجد في بحوثهم سوىٰ الإثارات الطائفية.
في حين تجد على العكس من هؤلاء علماء يعشقون مسائل الوفاق والاشتراك، ويجهدون أنفسهم لدراسة المشتركات وما يقرّب بين المسلمين، منهم على سبيل المثال : الشيخ المفيد، والسيّد المرتضىٰ، والشيخ الطوسي، وأمين الإسلام الطبرسي، والسيّد محسن الأمين، والسيّد شرف الدين. وقد كتب السيّد المرتضىٰ كتاب «الانتصار» ليجد له شريكاً في مسائله الفقهية من سائر المذاهب.
هذه هي الروح التي تتحرّىٰ الحقيقة، وتطلب رضا اللّٰه سبحانه وتعالى، لا تلك الروح الصِدامية التي تطلب الشهرة وإرضاء الرغبات السطحية.
الاستناد إلى أقوال العوام وأفعالهم
لا شكّ أنّ هناك عادات وتقاليد سائدة بين المسلمين لا يمتّ بعضها إلى بعض بصلة، ظهرت على مرّ الأيّام والسنين بسبب الجهل أو بسبب خطط سياسية ماكرة، وهذه يجب ألّا تكون ملاكاً للحكم على أصحاب هذا المذهب أو ذاك.
بعض المسلمين يضفون على أعمالهم المنحرفة صبغة دينية، فيسيئون إلى الإسلام وإلى مذهبهم، وإلى هذا أشار الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام إذ قال : «كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً».
يبدو أنّ المفارقة بين العمل والمعتقد لا تختصّ بالعوام، بل تشمل حتّىٰ بعض العلماء الذين يسيرون وراء العامّة وينقادون لما تقوله العامّة تاركين علمهم محدوداً بقاعة الدرس والكتاب.
كما توجد طوائف من المسلمين لا يمكن الحكم عليهم إلّامن خلال أعمال أفرادهم ؛ لعدم توفّر المصادر الكافية لدراسة عقائدهم وتشريعهم، مثل : بعض الطرق الصوفية، والعلويّين، والبهرة. وأعمال أفرادهم مدعاة للطعن في مذهبهم، فالأحرىٰ بعلمائهم ومفكّريهم أن يكتبوا بوضوح كلاماً يبيّن انتماءهم الإسلامي.
إساءة فهم بعض المصطلحات
بعض الألفاظ المشتركة تفسّر أحياناً تفسيراً خاطئاً بحيث تجعل وسيلة للتنافر والحزازة. فمثلاً «الولاية» تعني الإمامة والقيادة، وتعني الحبّ. وولاية أئمّة أهل البيت بالمعنى الأوّل خاصّة بالشيعة، والثانية تشمل كلّ المسلمين، حتّى الذين يسمّون اليوم بالإباضية وينتسبون اسمياً للخوارج. إذاً مَن ينكر ولاية أئمّة أهل البيت لا يعني بغضهم لآل البيت - والعياذ باللّٰه - كما يتصوّر البعض، بل أنّ الولاء لآل بيت رسول اللّٰه محور يجمع كلّ المسلمين ولا يختلف فيه أحد.
و«التقيّة» مثلاً من المفاهيم الهامّة التي تصون أرواح المسلمين أمام الأعداء، وتصون وحدة المسلمين في الداخل، ولكن لفظها المشترك حمل بما يسيء إلى الشيعة ويعتبرهم ممّن عنده عقائد باطنية لا يظهرها.
مصالح الحكم والسلطة
وهذه لعبت دورها السيّء على مرّ التاريخ، فاستغلّت الاختلافات، وأثارت الخلافات، ومارست السياسة المعروفة : «فرّق تسد»، ولاتزال هذه الظاهرة يمارسها الحكّام المستهترون بمصالح شعوبهم البعيدون عن رضا اللّٰه القريبون من سخطه، ولا يهمّهم ما تسفك من دماء وما تثور من نزاعات، يقدّمون كلّ شيء قرباناً على مذبح حكمهم وتسلّطهم وشهواتهم.. هداهم اللّٰه أو أزال عن المسلمين شرورهم.
وأفظع من هؤلاء الحكّام أسيادهم من الطغاة المستكبرين وأسيادهم من اليهود والصهاينة، هؤلاء يعملون ضمن خطّة دقيقة مدروسة لإثارة النزاعات الطائفية، بل والحروب الطاحنة الإقليمية والمحلّية.
ولا سبيل للنجاة من هذه الشرور إلّاباتّحاد المسلمين، وصيانة مقدّراتهم وحُرماتهم وسيادتهم من الانتهاك.