عناصر الوحدة
عناصر الوحدة المقوّمات الكفيلة بتحقيق الوحدة والتي تبتني عليها أواصر الأُخوّة. وهي : العقيدة، والعمل والاتّباع، والقيادة، والهدف المشترك، والخصال الحميدة المشتركة، والوحدة الثقافية.
وتفصيل العناصر كالتالي :
العناصر الوحدة
الأوّل : وحدة العقيدة.
لا بدّ للأُمّة الواحدة أن تكون لها أُصول اعتقادية واحدة، وهذه الأُصول لدىٰ الأُمّة الإسلامية بإجماع كلّ علماء المذاهب : التوحيد، والنبوّة، والمعاد. وإنكار واحد من هذه الأُصول أو عدم الإيمان به يخرج الفرد من دائرة الإسلام بإجماع العلماء وبنصّ القرآن والسنّة، وإذا كانت ثمّة أُصول أُخرىٰ فهي أُصول المذهب، لا أُصول الدين، كالإمامة لدىٰ الشيعة والعدل لدىٰ الشيعة والمعتزلة. والاعتقاد بهذه الأُصول الثلاثة كافٍ لإيجاد وحدة عقائدية بين أبناء الأُمّة الإسلامية.
وتوجد هنا ثلاث ملاحظات :
الملاحظة الأُولىٰ : من المؤكّد أنّ المعرفة الإجمالية بأُصول الدين هذه والإيمان بها على حدّ المفهوم المشترك العامّ هو المقدار المطلوب، وليست المفاهيم التفصيلية لهذه الأُصول. والعلماء قد تعمّقوا فيها وفرّعوها وأدخلوها في دراسات كلامية وفلسفية، ولذلك حدثت مذاهب في الأُصول. لكن هذه التفاصيل المذهبية لا ارتباط لها في إيمان المسلم بأُصول دينه، فهذه التفاصيل لا تتجاوز عادة جدران قاعات الدرس وبطون الكتب، ولا تخرج عامّة الأُمّة المسلمة التي تنتمي اسمياً إلى هذا المذهب أو ذاك.
فعليه الملاك في دخول الفرد دائرة الإسلام وشرط تحقّق الوحدة الإسلامية الإيمان بهذه الأُصول على المستوىٰ البسيط المفهوم لدىٰ عامّة الناس، لا بالفروع المعقّدة الكلامية والفلسفية التي نشأت في قرون متأخّرة بين الفلاسفة وعلماء الكلام. وبدون ذلك لا تتحقّق وحدة العقيدة ؛ لأنّ الجدل الكلامي خلال القرون المتوالية أدّىٰ إلى مزيد من الاختلاف العلمي، ولم يحقّق أيّ اتّفاق، فالتفاصيل الكلامية ليست إذن ملاك اتّفاق المسلمين، والاختلاف فيها لا يضرّ بوحدة العقيدة بين المسلمين.
الملاحظة الثانية : لا شكّ أنّ أيّ مذهب إسلامي ملتزم بالإيمان بهذه الأُصول، وإنكار أيّ واحد منها يخرج المذهب من دائرة الإسلام، ولا نعتقد أنّ بين المذاهب الإسلامية اليوم مذهباً ينكر صراحة أحد هذه الأُصول. نعم، في بعض المذاهب النادرة غير المعروفة عقائد يلزمها إنكار واحد من هذه الأُصول، لكنّ أتباع هذه المذاهب غير ملتزمين بهذه الملازمة، ولا يعتقدون أنّ عقائد مذهبهم الخاصّة تستلزم إنكار أحد هذه الأُصول. فملاك الكفر والخروج من الإسلام هو الإنكار الصريح، لا الإنكار بالملازمة، والخلط بين العقيدة الصريحة والعقيدة الملازمة للعقيدة الصريحة من آفات المذاهب ومن عوامل تراشق التهم بينها.
الملاحظة الثالثة : المذاهب المستحدثة التي تنكر خاتمية محمّد صلى الله عليه و آله، وتدّعي وحياً جديداً وكتاباً جديداً - وإن ادّعت الإيمان بالإسلام وبأنّها من الفرق الإسلامية - هي خارجة عن الإسلام قطعاً ؛ لأنّها لا تلتزم بنهج الإسلام، بل لها نهج آخر ونبي آخر وكتاب آخر، وكلّ ذلك يجعلها في جهة متعارضة مع الأُصول الإسلامية.
الثاني : وحدة العمل والاتّباع (وحدة الشريعة).
يلزم اتّباع المنهج الإسلامي في الفروع بمقدار ما اتّفقت عليه جميع المذاهب الإسلامية وفرضه الكتاب وأوجبته السنّة بوضوح ودون أيّ إبهام.
ولا يوجد مذهب من المذاهب الإسلامية المعروفة ينكر الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والجهاد. ونقل صاحب «دعائم الإسلام» بطرق مختلفة ما يقرّر أنّ هذه الأعمال من أُسس الإسلام. ولو أنكر فرد وجوب واحد من هذه الأعمال صراحة (لا بالملازمة) فإنّه يخرج من ربقة الإسلام. والحدّ اللازم لدخول الفرد في دائرة المسلمين ولتحقّق وحدة الأُمّة المسلمة هو الالتزام بالحدّ المتّفق عليه من هذه الفروع، كأن يؤدّي الصلوات الخمس بعدد ركعاتها المنصوصة، ويحجّ بأداء المتّفق عليه من المناسك، أمّا شروط وآداب هذه الأعمال المختلفة عليها بين المذاهب فلا دخل لها في الحدّ اللازم المذكور ؛ لأنّها ناشئة من اختلاف اجتهاد المجتهدين، والاختلاف فيها لا يضرّ بإسلام الفرد ولا بوحدة المسلمين.
الثالث : وحدة القيادة.
للقيادة في الإسلام مصداقان : أحدهما صامت وخالد، والآخر حيّ ومتغيّر.
القيادة الصامتة هي بإجماع المسلمين كتاب اللّٰه وسنّة رسوله، ولا يوجد بين المذاهب الإسلامية من ينكر قيادتهما، وهما دعامتان هامّتان لوحدة المسلمين، والقرآن يطلق على كتاب اللّٰه المنزّل اسم الإمام، يقول : (وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ) (سورة يس : 12)، و : (وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسىٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً) (سورة الأحقاف : 12)، والرسول صلى الله عليه و آله إمام الأئمّة، إطاعته لا تنفكّ عن إطاعة اللّٰه سبحانه. وقيادة القرآن والسنّة بمعنى الهداية والإرشاد والتعليم والتربية.
ودين الفطرة إذ يؤكّد على ضرورة إجماع المسلمين على القرآن والسنّة يجيز الاختلاف فيهما في حدود خاصّة، والاختلاف فيهما له مجالات :
الأوّل : اختلاف المجتهدين في مفهوم ومنطوق الكتاب والسنّة وفي حدود وشروط حجّيتهما، وأمثال ذلك من البحوث المطروحة في المذاهب الكلامية والفقهية. وهذا الاختلاف لا يتعارض مع أصل اتّفاق المسلمين على حجّة الكتاب والسنّة.
الثاني : الاختلاف في الصدور، ويرتبط بالسنّة فقط ؛ لأنّ صدور جميع الأحاديث المروية غير قطعي، وربّ رواية صحّت في نظر عالم ولم تصحّ في رأي عالم آخر. ولا يصدق ذلك على الكتاب ؛ لتواتر جميع ألفاظه وآياته. نعم، في القرآن اختلاف طفيف يرتبط بالناسخ والمنسوخ ودلالة الألفاظ، ويشمل هذا الاختلاف السنّة أيضاً.
والاختلاف بين السنّة والشيعة في سنّة رسول اللّٰه إنّما هو اختلاف في المقدّمة الصغرىٰ لا الكبرىٰ على حدّ تعبير المنطقيّين، فالفريقان متّفقان على حجيّة السنّة وأنّها واجبة الاتّباع كالقرآن، والاختلاف في أنّ هذا القول من السنّة أم لا.
أمّا القيادة الحيّة المتحرّكة فتتمثّل أوّل ما تتمثّل في شخص القائد الأوّل رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله، فهو إضافة إلى إمامته الدينية قائد المجتمع الإسلامي وزعيمه السياسي، وكلّ المسلمين يؤمنون بذلك، وظهر الاختلاف بعد وفاة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله، قال قوم من أهل السنّة : إنّ الإمامة بعد الرسول أمر سياسي لا ديني، وقال أكثرهم : إنّها منصب ديني، لكنّهم لم يجعلوها ضمن أُصول الإسلام. والشيعة على العكس من ذلك آمنوا أنّ القيادة بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يجب أن يتواصل فيها ما كان موجوداً في شخص القائد الأوّل من الجمع بين السمة الدينية والسياسية، واعتبروا الإيمان بها أصلاً من أُصول المذهب، فهي في رأيهم تتواصل عبر الأئمّة الاثني عشر، ثمّ الفقهاء الذين تتوفّر فيهم شروط التقوىٰ.
والقيادة في المفهوم الإسلامي تجمع بين السياسة والدين، ومن أركان الدين، ولها الدور الهامّ في استمرار الدعوة الإسلامية واستتباب حاكمية الدين وفي وحدة الأُمّة الإسلامية، خاصّة لو عرفنا أنّ «الأُمّة» و«الإمامة» من جذر لغوي واحد.
الرابع : وحدة الهدف.
إنّ وحدة الهدف مثل وحدة العقيدة ووحدة العمل ووحدة القيادة تشكّل أصلاً إسلامياً هامّاً، غير أنّها وردت في النصوص الإسلامية بلغة التوجيهات الأخلاقية ولغة الحثّ على اكتساب المكارم والفضائل، لكنّها لغة فيها تأكيد على أهمّية الهدف وعلى عدم افتراق الهدف عن المسؤولية المشتركة، يقول سبحانه : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ) (سورة آل عمران : 110)، فامتياز هذه الأُمّة وأهمّ خصائصها مسؤولية الدعوة والإيمان باللّٰه، ولأهمّية هذه المسؤولية قدّمها على الإيمان باللّٰه سبحانه.
ويمكن تلخيص أهداف الإسلام والمسؤوليات المشتركة التي يحملها المسلمون لبلوغ هذه الأهداف فيما يلي :
1 - الفلاح والفوز في الدارين وكسب رضا اللّٰه سبحانه. وعبارة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تتكرّر في القرآن بعد كثير من الأوامر والتعاليم.
2 - استتباب حاكمية الدين في الأرض : (وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّٰهِ) (سورة البقرة : 193)، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ) (سورة الفتح : 28).
3 - استتباب حاكمية عباد اللّٰه الصالحين في الأرض : (وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ اَلصّٰالِحُونَ) (سورة الأنبياء : 105)، (وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ) (سورة القصص : 5).
4 - السعي لإشاعة الخير والمعروف وإزالة المنكر والشرّ والفساد. وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنحو هذا الاتّجاه.
5 - إنقاذ المستضعفين والمحرومين : (وَ مٰا لَكُمْ لاٰ تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجٰالِ وَ اَلنِّسٰاءِ وَ اَلْوِلْدٰانِ) (سورة النساء : 75).
6 - فتح مغاليق أسرار الخلقة ؛ للتعمّق في فهم عظمة الخالق، وهذا الهدف يذكره القرآن لدىٰ حديثه عن عظمة الكون وعجائب الطبيعة.
7 - إزالة الفتنة من الأرض : (وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّٰهِ) (سورة البقرة : 193).
8 - تنمية الإحساس بالمسؤولية المشتركة الإسلامية، والاهتمام بأمر المسلمين، والمواساة بينهم، واتّحادهم مقابل الأعداء : «من أصبحّ ولم يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم»، «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه»، «... وهم يد واحدة على مَن سواهم»، وأمثالها من الروايات المشهورة تخلق هذه المشاعر الإنسانية.
9 - إحلال روح الأُخوّة الإسلامية بين المسلمين، حتّى أنّ الفرد المسلم يتمنّىٰ لغيره ما يتمنّاه لنفسه، وأنّ المؤمنين بمثابة نفس واحدة : (إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (سورة الحجرات : 10).
الخامس : الوحدة في الخصال ومكارم الأخلاق.
من الطبيعي أنّ المجموعة البشرية المشتركة في عقائدها وأعمالها وأهدافها وقيادتها تشترك أيضاً في الخصال والملكات النفسية. وكثير من النصوص تبيّن هذه الوحدة الأخلاقية والاشتراك الروحي بين المسلمين حين تتحدّث عن صفات المؤمنين مثل الصدق والأمانة والوفاء بالعهد وعفّة البطن والفرج وأمثالها. ولا يمكن أن نتوقّع بلوغ المسلمين جميعاً مستوى واحداً في هذه الخصال، كما أنّهم لا يرتفعون إلى مستوىٰ واحد من العقيدة، ولكن يوجد طابع مشترك يسود كلّ المسلمين في هذا الإطار.
السادس : الوحدة الثقافية.
الاشتراك في العناصر السابقة المذكورة يستتبعه اشتراك في ثقافة توحّد بين أبناء العالم الإسلامي، فلو نظرنا إلى البلدان الإسلامية لرأينا - وذلك رغم اختلاف تقاليدها ولغاتها وعاداتها ورغم الهجوم الثقافي على ربوعها - سيادة ثقافة مشتركة بين أبنائها. وهذه الثقافة المشتركة تشكّل أكبر رصيد للتفاهم والتلاحم والتعاضد والإحساس بالأُخوّة والانتماء الواحد. من هنا يسعىٰ أعداء الأُمّة إلى إزالة هذا المشترك الهامّ بين المسلمين عن طريق المسخ والغزو. وفي الروايات الإسلامية حثّ على عدم تقليد الكفّار في الزيّ ومظاهر المعيشة : «من تشبّه بقوم فهو منهم» ؛ من أجل بقاء طابع الثقافة الإسلامية سائداً بين المسلمين.
هذا كلّه من إفادات الشيخ واعظ زادة الخراساني. أمّا الشيخ محمّد أبو زهرة فهو يعتقد أنّ الوحدة الإسلامية تتكوّن من عناصر ثلاثة لا بدّ من تحقّقها لتتحقّق أقلّ صورها، وتلك العناصر في رأي الشيخ : التوحيد الفكري والنفسي، ومنع التنازع بين الأقاليم الإسلامية اقتصادياً أو سياسياً أو حربياً، وإيجاد أسباب التعارف المستمرّ بين المسلمين آحاداً بعد التعارف الجماعي.
العهد الإسلامي للعمل المشترك
عهد صادر عن الملتقىٰ العالمي الأوّل للعلماء المسلمين الذي عُقد في رابطة العالم الإسلامي في الفترة من 3 - 5 ربيع الأوّل سنة 1427 ه في مكّة المكرّمة تحت عنوان : «مؤتمر وحدة الأُمّة الإسلامية»، نوقش فيه موضوع الوحدة ضمن خمسة محاور : وحدة الأُمّة الإسلامية في القرآن والسنّة، نماذج مضيئة للوحدة في التاريخ الإسلامي، دواعي الوحدة ومسؤولية تحقّقها، معوقات الوحدة وسبل علاجها، برامج عملية لتحقيق الوحدة.
ويتضمّن العهد ما يلي :
أوّلاً :
الدعوة المستمرّة إلى تحكيم كتاب اللّٰه وسنّة رسوله في حياة المسلمين حكّاماً وشعوباً.
ثانياً :
القيام بجهد مشترك لتحقيق وحدة الأُمّة الإسلامية وتضامنها، والدعوة إلى تنفيذ مشروعات التعاون والوحدة.
ثالثاً :
الدراسة الجادّة لأسباب الخلل في سلوك بعض الشباب وثقافتهم واهتماماتهم، والتعاون على تصحيح ذلك بالأُسلوب الأمثل.
رابعاً :
الانطلاق في خطاب الدعوة الإسلامية من مصادر الإسلام الصحيحة وأهدافه الإنسانية العالمية وأُسسه الخلقية.
خامساً :
التعاون والتنسيق في مجال الفتوىٰ وفي كلّ ما يهمّ المسلمين، مع ضرورة الردّ إلى الكتاب والسنّة والرجوع إلى أهل العلم الثقات عند الاختلاف.
سادساً :
العمل على تحقيق التواصل مع مختلف الشعوب والأُمم، والتركيز على القيم المشتركة في علاقات المسلمين بغيرهم.