شروط التقليد
شروط التقليد: وهو رجوع الجاهل إلى العالم بلا دليل، و التقليد اصطلاح فقهي واختلف الفقهاء في شروطه، ونحن في هذا المقال نذکر هذه الشرائط ونبحث عن صحتها وسقمها.
شروط التقليد
إذا ثبت وجوب رجوع الجاهل إلى العالم بالاحكام الشرعية، وقع البحث في شروط مَنْ يُرجع إليه، فقد ذكروا عدّة أوصاف وشروط يجب توفّرها في المجتهد:
الشرط الأوّل: الاجتهاد
ولا خلاف في شرطيته في جواز الإفتاء، فلا يجوز لغير المجتهد أن يقوم بدور الإفتاء، ويجب على المكلّف أن يستفتي من عرفه بالعلم والاجتهاد[١].
لكن وقع البحث في أنّ شرط الاجتهاد هل يجب منه الاجتهاد المطلق أو يكفي المتجزئ. قولان في ذلك:
القول الأوّل: اشتراط الاجتهاد المطلق
وذكر فيه السيّد الحكيم بأنّه: «هو المعروف المدّعى عليه الوفاق أو الإجماع فلا يصحّ تقليد المتجزئ»[٢]، وصرّح السيّد اليزدي باشتراطه[٣].
واستدلّ له بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: دليل الانسداد؛ الذي مفاده انسداد الطريق أمام المكلّف من الوصول إلى الحكم الشرعي، كما هو مبيّن في محلّه، فإنّه إذا استدلّ لوجوب التقليد بدليل الانسداد، فإنّ لازمه تعيُّن الرجوع إلى المجتهد المطلق دون المتجزئ؛ لأنّه القدر المتيقن من رجوع الجاهل إلى العالم عند انسداد سائر الطرق إليه[٤].
الوجه الثاني: آية النفر؛ فإنّه دلّت على وجوب الحذر عند إنذار الفقيه ومقتضاه قبول قوله وتقليده فيه، والمتجزئ لايصدق عليه «فقيه» لأنّه ليس عالما بالفقه، بل ببعض مسائله[٥].
الوجه الثالث: الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الفقهاء ورواة الحديث في مقام أخذ [الإفتاء|الفتوى]] منهم أمثال: يونس بن عبدالرحمن وغيره ممّن عرف وخبر معظم مسائل الفقه، ولم تأمر بالرجوع إلى من عرف مسألة أو مسألتين[٦].
القول الثاني: جواز تقليد المتجزّي
ويمكن أن يستدلّ له بوجهين:
الأوّل: بناء سيرة العقلاء[٧]، فإنّها قائمة على جواز رجوع الجاهل إلى العالم، من غير فرق في ذلك بين المطلق و المتجزّي، فنرى العقلاء يرجعون إلى العالم بالشيء وإن كان جاهلاً بغيره، بل يضيف السيد الخوئي أنّهم: «قد يقدمون نظر المجتهد المتجزئ على قول المجتهد المطلق عند المعارضة، كما إذا كان المتجزئ أعلم من المجتهد المطلق لممارسته ودقّته في العلوم العقلية وكونه أقوى استنباطا منه، فيما يرجع إلى تلك المباحث من المسائل كوجوب مقدّمة الواجب وبحثي الضدّ والترتّب وغيرها، وإن لم يكن له قوّة بتلك المثابة في المسائل الراجعة إلى مباحث الألفاظ[٨].
الثاني: مشهورة أبي خديجة عن الامام الصادق عليهالسلام: «... انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا (قضايانا) فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه»[٩]، ومجيئها في القاضي لايمنع من الاستدلال بها في المفتي لعدم الفرق، فتكون دالّة على جواز الرجوع إلى المفتي الذي يعلم شيئا من الحلال والحرام، وهو معنى المجتهد المتجزئ[١٠].
والنتيجة: إنّه إن كان هناك إجماع على عدم جواز الرجوع إلى المتجزئ فهو وإلاّ لا مانع من تقليده فيما استنبطه من الأحكام وإن كان قليلاً[١١]. وذهب الغزالي إلى جواز إفتاء المجتهد المتجزئ في المسائل التي اجتهد فيها[١٢].
الشرط الثاني: العدالة
ذهب الأكثر إلى شرطية العدالة في التقليد، فلايجوز تقليد المجتهد الذي لم يُعرف بالعدالة، وقالوا: لايستفتي العامي إلاّ من عرف بالعلم (الاجتهاد) والعدالة[١٣]. وذكر الشيخ الأنصاري أنّه لا إشكال في كونها شرطا في التقليد[١٤]، وقال الميرزا القمّي: «وظاهرهم الوفاق على اعتبارها»[١٥].
واستدلّ لشرطية العدالة بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: الاجماع، وذكر السيّد الحكيم: «إنّه هو المعروف بين الأصحاب، بل هو إجماع كما قيل وهو العمدة لو تمّ»[١٦] وهذا الإجماع مناقش لمدركيته لاحتمال استناد المجمعين إلى ما سوف يذكر من الآيات والروايات التي اُستدل بها على اعتبار شرط العدالة[١٧].
الوجه الثاني: مفهوم آية النبأ وهي قوله تعالى: «إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا»[١٨]، ومفاد الآية أنّه كما يجب التبيُّن من خبر الفاسق يجب التبيُّن في فتوى الفاسق أيضا، ومفهومه عدم وجوب التبيُّن في فتوى العادل، وهو عبارة اُخرى عن شرط العدالة[١٩].
ونوقش فيها مضافا إلى أنّها في مقام الإخبار الحسي لا الإخبار الحدسي وهو الفتوى، أنّ المراد بالتبيُّن هو الوثوق لا العدالة[٢٠].
الوجه الثالث: طائفة من الأخبار نقلها النراقي واستظهر منها هو[٢١] وغيره[٢٢] اشتراط العدالة في المفتي والمجتهد، لكن المتأخّرين ناقشوا في هذه الأخبار سندا ومتنا[٢٣].
الوجه الرابع: بناء العقلاء «بدعوى أنّ العقلاء لايساوون بين المستهتر بما يؤمن به، والمتقيّد بحرفية ما يقول، فهم أقرب وثوقا واطمئنانا إلى العامل برأيه من غيره في صورة تساوي أهل الخبرة، حتّى مع الوثوق بصدق ما يخبر به من رأي»[٢٤].
الوجه الخامس: ارتكاز المتشرعة، باعتبار أنّ ارتكازهم قائم على اشتراط وصف العدالة في المفتي؛ لكون المرجعية في التقليد من المناصب الإلهية الكبرى، ومن غير المعقول بحسب ارتكاز المتشرعة أن يتولى هذا المنصب من لايلتزم بحدود ما يفتي به[٢٥]، بل إنّ «المرتكز عندهم عدم المعصية في هذا المنصب على نحو لاتجدي عندهم التوبة والندم»[٢٦].
وهذا هو عمدة الأدلّة لعدم وفاء الأدلّة السابقة للاستدلال على شرطية العدالة.
وفي المقابل ذهب جماعة إلى كفاية الوثاقة وعدم اشتراط العدالة في المفتي عملاً بإطلاق الأدلّة الدالّة على التقليد، فإنّها لم تفرق بين الفاسق والعادل، فجوّزوا تقليد الفاسق المأمون في قوله[٢٧]. قال القمّي: «يمكن القول بكفاية الوثوق في الاستنباط والصدق»[٢٨].
وهذان الشرطان وهما الاجتهاد والعدالة، هما أهمّ شرطين وقع الاتفاق على اعتبارهما في المفتي.
الشرط الثالث: ألاّ يكون مقبلاً على الدنيا
وهذا الشرط أضافه المتأخّرون وتحديدا السيد كاظم اليزدي زائدا على شرط العدالة[٢٩]، وذكر فيه السيد الحكيم أنّه لم يقف على من ذكره بخصوصه[٣٠]. وهو خالٍ عن المستند[٣١].
الشرط الرابع: الرجولية
وذكروا أنّ من شروط التقليد أن يكون المفتي رجلاً، فلا يجوز تقليد المرأة، وقد استدلّوا له بروايات ورد فيها لفظ «الرجل».
ونوقش فيها أنّ التعبير بالرجل إنّما هو من جهة التنزيل على الغالب لا أنّه من جهة الموضوعية والتعبُّد[٣٢]. مضافا إلى إطلاق أدلّة التقليد وعدم تقييدها بالرجل، وقيام السيرة على عدم الفرق بين الرجل والمرأة في التقليد[٣٣]. ولذلك ذهب جماعة إلى جواز تقليد الاُنثى والخنثى[٣٤]. وذكر الغزالي: إنّ الاُنوثة غير قادحة في المجتهد والمفتي[٣٥]. والعمدة للاستدلال لهذا الشرط هو ما ذكر من دعوى ارتكاز المتشرعة القائم على افتراض أنّ الشارع لايرضى بتولي المرأة منصب الإفتاء، وهذا الارتكاز يستند إلى مجموعة من الشواهد التي أناط فيها الشارع أمرها إلى الرجل، ومنع من تولّي المرأة لها كإمامة الجماعة والقضاء وغير ذلك[٣٦].
الشرط الخامس: الحرية
وذكروا أنّ هذا الشرط هو خلاف مقتضى الأدلّة اللفظية و السيرة العقلائية، فلأنّ الأدلّة اللفظية مطلقة فيما تدلّ عليه من جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم ولم يأتِ فيها قيد الحرّية، ولأنّ السيرة العقلائية لاتفرق بين العبيد والأحرار، فإنّ العقلاء يراجعون أهل الخبرة أحرارا كانوا أم عبيدا[٣٧].
وذكر الغزالي: إنّ الرقّية غير قادحة[٣٨]، ونقل السيّد الحكيم عن جماعة اعتبار هذا الشرط، بل ونقل القول بشهرته[٣٩].
الشرط السادس: البلوغ
ذكر الشيخ الأنصاري: إنّه لا اشكال في اعتبار هذا الشرط، وأنّ البلوغ شرط في العمل بفتوى المجتهد، ولايضرّ فيه إذا أفتى قبل زمان البلوغ، لكن حين العمل بقوله وتقليده أصبح بالغا[٤٠].
وقال الإصفهاني: «لا عبرة بفتوى الصبي؛ لعدم شمول الأدلّة له ولأنّه لاتقبل روايته فلاتقبل فتواه بطريق أولى»[٤١]. أمّا عدم شمول الأدلّة له فقد يستدلّ له برواية أبي خديجة التي ورد فيها: «انظروا إلى رجل منكم»[٤٢]، باعتبار أنّه قد يدّعى ظهورها في البالغ.
ونوقش فيه: إنّ التعبير بالرجل هو من باب المثال لا الموضوعية، أو كونه واردا مورد الغالب[٤٣]، أمّا عدم قبول روايته «فهو ممنوع إن كانت تفيد الوثوق وإن لم تفد الوثوق فعدم قبولها مشترك مع خبر البالغ غير الموثوق به»[٤٤].
قال السيّد الخوئي: «لم يقم أي دليل على أنّ المفتي يعتبر فيه البلوغ، بل مقتضى السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم عدم اختصاصها بما إذا كان العالم بالغا بوجه، فإذا كان غير البالغ صبيّا ماهرا في الطبابة لراجعه العقلاء في معالجاتهم من غير شكّ، كما أنّ الإطلاقات تقتضي الجواز لصدق العالم والفقيه وأهل الذكر ونحوها على غير البالغ كصدقها على البالغين»[٤٥].
وقال السيّد الحكيم: «لاينبغي التأمّل في عدم الفرق في بناء العقلاء بين البالغ وغيره إذا كان غير البالغ قد حاز مراتب الفضل حتّى صار كالبالغ، فاعتبار البلوغ في المفتي لابدّ أن يكون بدليل شرعي يكون رادعا عن إطلاق بناء العقلاء وليس هو إلاّ الإجماع إن تمّ»[٤٦].
الشرط السابع: العقل
ذكر فيه الشيخ الأنصاري: إنّه لا إشكال في اعتباره[٤٧]، وذكر السيّد الحكيم: إنّ أمره ظاهر عند العقلاء فضلاً عن المتشرعة وأنّه ممّا أجمع عليه الخلف والسلف[٤٨]. وقال الغزالي: «لابدّ من العقل»[٤٩].
وقال السيّد الخوئي: «ويدلّ على اعتباره جميع الأدلّة المتقدّمة المستدلّ بها على حجّية فتوى الفقيه من الآيات والأخبار والسيرة العقلائية، وذلك لوضوح أنّ الموضوع في الأدلّة اللفظية هو الفقيه والعالم والعارف ونحوها، ولاينبغي الارتياب في عدم صدق شيء منها على غير العاقل، فإنّه لا ميزان لفهمه ولا لشيء من أعماله وأقواله، وكذلك السيرة العقلائية؛ لأنّها جرت على رجوع الجاهل إلى عالم مثلهم في العقل والدراية ولم يتحقّق جريان سيرتهم على رجوع الجاهل إلى من يفعل ما يفعله ويتكلّم من غير دراية ولا ميزان»[٥٠].
وأضاف السيّد الخوئي أنّ اشتراط العقل بقاءً غير لازم، بل يكفي العمل بفتوى المجتهد حال عقله وإن جن فيما بعد، كما هو مقتضى الإطلاقات وعدم المخالفة للسيرة العقلائية[٥١].
الشرط الثامن: الإيمان
ذكر الشيخ الأنصاري: إنّه لا إشكال في اعتباره[٥٢]، وذكر السيّد الخوئي بعد أن عرض لمجموعة من الأدلّة على شرطية الإيمان ومناقشتها: «إنّه لم يدلّنا دليل لفظي معتبر على شرطية الإيمان في المقلَّد، بل مقتضى إطلاق الأدلّة والسيرة العقلائية عدم الاعتبار؛ لأنّ حجّية الفتوى في الأدلّة اللفظية غير مقيدة بالإيمان ولا بالإسلام، كما أنّ السيرة جارية على الرجوع إلى العالم مطلقا سواء كان واجدا الإيمان والإسلام أو لم يكن»[٥٣] إلاّ أنّه استدرك بعد ذلك قائلاً: «ومع هذا كلّه لاينبغي التردد في اعتبار الإيمان في المقلّد حدوثا وبقاءً»[٥٤]، ويستند في ذلك إلى ارتكاز المتشرعة[٥٥].
وذكر السيّد الحكيم بعد مناقشة الأدلّة اللفظية أنّ العمدة فيه هو الإجماع[٥٦].
الشرط التاسع: الحياة
وقع البحث في اشتراط الحياة في المفتي وعدمه، والمسألة ذات أقوال:
القول الأوّل: جواز تقليد الميت مطلقا في الابتداء والاستدامة
وهو اختيار جمهور أهل السنّة[٥٧]، وجماعة من الأخباريين الشيعة كما هو صريح الإسترآبادي[٥٨] وظاهر الكاشاني[٥٩]. وهو أيضا اختيار بعض الأصوليين من الشيعة كالفاضل التوني[٦٠] والميرزا القمّي[٦١].
واستدلّ له بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: إنّ المذاهب لاتموت ولاتبطل بموت أصحابها، وكما أنّ الراوي لاتبطل روايته بموته، كذلك المفتي لاتبطل فتواه بموته[٦٢].
وأضاف الأخباريون إلى هذا أنّ فتاوى أصحابهم من الأخباريين «مبنية على ما هو صريح الأحاديث أو لازمه البيّن فلاتموت بموت المفتي»[٦٣].
الوجه الثاني: إطلاق أدلّة التقليد؛ فالآيات والروايات التي استدلّ بها على جواز التقليد ورجوع الجاهلالعالم مطلقة ولم تقيده بالحياة[٦٤].
الوجه الثالث: بناء العقلاء، حيث إنّهم لايفرقون في رجوع الجاهل إلى العالم بين الحي والميت[٦٥]، «وحيث لم يردع عن هذه السيرة في الشريعة المقدّسة فنستكشف أنّها حجّة وممضاة شرعا»[٦٦].
الوجه الرابع: انسداد باب العلم بالنسبة إلى المكلف الجاهل بالحكم الشرعي، ولايوجد طريق له أقرب إلى العلم من رجوعه إلى المجتهد، وهذا لايفرق فيه بين الحي والميت[٦٧].
الوجه الخامس: استصحاب الحجّية التي هي ثابتة لقول المجتهد حال حياته إلى زمان موته، فيجوز تقليد الميت استصحابا للحجّية الثابتة لقوله حال حياته[٦٨].
وكلّ من هذه الوجوه خضع للرد والنقد[٦٩].
القول الثاني: عدم جواز تقليد الميت مطلقا في الابتداء والاستدامة
وهو قول القدماء من أصوليي الإمامية، وقد اُدعي عليه الإجماع، فقد قال الأنصاري هو: «المعروف بين أصحابنا»[٧٠]، وقال البهبهاني: «إنّ الشيعة بحسب الظاهر متّفقون على عدم جواز تقليد الميت من المجتهد»[٧١]، وقال الشهيد الثاني: «لم أقف لأحد من أصحابنا في ذلك على شيء يقتضي صحّة تقليدهم للأموات مطلقا»[٧٢]، وقال الإصفهاني: «لايجوز تقليد الميت مع إمكان الرجوع إلى الحي على ما هو المعروف بين أصحابنا»[٧٣]، وقال الشيخ جمال الدين العاملي: «يظهر... اتفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميت مع وجود المجتهد الحي، بل حكى الاجماع فيه صريحا بعض الأصحاب»[٧٤]، وقال العلاّمة الحلّي: «لا قول لميت»[٧٥]، وقال الآخوند الخراساني: «المعروف بين الأصحاب الاشتراط»[٧٦] أي اشتراط الحياة.
وذكر الشيخ الأنصاري: إنّ ظاهر كلماتهم هذه هو عدم الفرق بين التقليد الابتدائي والتقليد الاستمراري في عدم جواز تقليد الميت، وهو ظاهر أدلّتهم التي ذكروها على عدم جواز الميت كاستدلالهم عليه بأنّ مناط عمل المكلّف هو ظنّ المجتهد، فإنّ ظاهره هو المنع من تقليد الميت ابتداءً وبقاءً؛ لأنّه بموت المجتهد يزول الظنّ[٧٧].
وهذا القول هو اختيار جماعة من أهل السنّة أيضا[٧٨] والشوكاني[٧٩].
واستدلّ لهذا القول بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: دعوى الإجماع من قبل الشيعة الإمامية على عدم جواز تقليد الميت، كما سبق نقل كلماتهم في ذلك[٨٠].
وحكى الغزالي إجماع أهل الأصول عليه[٨١]، وكذلك ادّعى الإجماع الشوكاني[٨٢].
الوجه الثاني: ما ذكر من الأدلّة اللفظية الدالّة على جواز التقليد من الآيات والروايات، فإنّها ظاهرة في اعتبار شرط الحياة في المفتي لكون بعضها يأمر بالرجوع إلى العالم بالأحكام الشرعية، وهو ظاهر في حدّ نفسه في كونهم أحياء، مضافا إلى أنّ في بعضها إرجاعا إلى أشخاص معينين كزرارة ويونس بن عبدالرحمن[٨٣].
الوجه الثالث: إنّ المناط في عمل المقلِّد هو رأي المجتهد وظنّه، فإذا مات المجتهد زال الظنّ به فلايكون حجّة[٨٤]، أو أنّ الأحكام الشرعية في نفسها ظنّية فلاتكون حجّة ما لم تقترن برأي المجتهد حتّى يجب العمل بها، فإذا مات المجتهد لم تقترن تلك الأحكام بما يقوّيها[٨٥].
الوجه الرابع: إنّ رأي المجتهد في معرض التبدّل والتغير، وهذا من خصائص المجتهد الحي، فإنّ المجتهد من المحتمل أن يتغيّر رأيه عند نزول النازلة وتجدد اجتهاده فيها بعثوره بما يقوّي ذلك من المقيّد أو المخصص وغير ذلك، وهذا الشيء غير موجود في المجتهد الميت فيكون قاصرا من هذه الجهة[٨٦].
الوجه الخامس: إنّ المجتهد إذا مات سقط اعتبار قوله، ولذلك ينعقد الإجماع مع خلافه[٨٧].
وغير ذلك من الوجوه التي تذكر لعدم اعتبار قول الميت[٨٨].
القول الثالث: التفصيل بين التقليد الابتدائي وبين التقليد الاستمراري
فلايجوز في الأوّل ويجوز في الثاني.
وهذا القول هو اختيار جعفر كاشف الغطاء[٨٩]، وجماعة من الفقهاء المحدثين[٩٠]، وهو يكاد أن يكون القول الرائج والمعمول به اليوم.
وعمدة ما استدلّ به هو قيام سيرة المتشرّعة على البقاء على تقليد الميت المتّصلة بعصر المعصوم[٩١].
هذا مع تساوي الحي والميت، أمّا مع الاختلاف فيجب العدول إلى الحي لو كان هو الأعلم، والبقاء على تقليد الميت لو كان هو الأعلم[٩٢].
وهناك تفصيلات في المسألة مذكورة في المطولات[٩٣].
الشرط العاشر: الأعلمية
المراد بالأعلم هو الأقوى ملكة لا الأزيد والأكثر معلوما[٩٤]، كأن «يكون أعرف بالقواعد والكبريات وكيفية تطبيقها على صغرياتها لحسن سليقته، فالأعلم مطلع على جملة من المزايا والخصوصيات الدخيلة في عرفانه لكيفية تطبيق الكبريات على صغرياتها وفي حسن سليقته بخلاف غير الأعلم»[٩٥]. وقد وقع البحث في وجوب تقليد الأعلم مع وجود غيره، وذكرت في ذلك عدّة أقوال:
القول الأوّل: وجوب تقليد الأعلم
وهو اختيار جمهور الشيعة الإمامية، وادّعى عليه الشهيد الثاني الإجماع[٩٦]، وذُكر أنّه المشهور بين الأصحاب[٩٧]، واختاره جماعة من أهل السنّة[٩٨].
ويمكن أن يُستدل له بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: بناء سيرة العقلاء، فإنّ مقتضاها تعيُّن الرجوع إلى الأفضل[٩٩]. وهو عمدة الأدلّة.
الوجه الثاني: الأصل العقلي، فإنّ مقتضاه تعيُّن الرجوع إلى الأفضل للقطع بحجّية قوله والشكّ بحجّية رأي غيره، ومقطوع الحجّية أولى في مقام العمل[١٠٠].
الوجه الثالث: إنّ قول الأفضل أقرب إلى الواقع من غيره فيجب الأخذ به[١٠١]، ونقل قولهم: «الأعلم أهدى أسرار الشرع»[١٠٢].
الوجه الرابع: إنّ أقوال المجتهدين في حقّ العامّي بمنزلة الأدلّة المتعارضة في حقّ المجتهد، وكما يجب على المجتهد ترجيح أقوى الدليلين، يجب على العامّي ترجيح أقوى وأفضل المفتين[١٠٣].
وغير ذلك من الوجوه التي تذكر لهذا القول[١٠٤].
القول الثاني: عدم وجوب تقليد الأعلم
وهو اختيار أكثر أهل السنّة[١٠٥]، حتّى شاع قولهم: «يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل»، وهو قول شاذ لبعض علماء الإمامية لم يُعرف قائله[١٠٦].
واُستدلّ له بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: إجماع الصحابة على جواز تقليد المفضول واستفتائه مع وجود الأفضل[١٠٧].
الوجه الثاني: اختلاف المجتهدين في رتبة الفضائل فما من فاضل من المجتهدين إلاّ ويوجد أفضل منه، قال اللّه تعالى: «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ»[١٠٨]، فلو اعتبر الأفضل لانسد باب التقليد[١٠٩].
الوجه الثالث: إنّ القاضي يجوز له الأخذ بشهادة المفضول مع وجود الأفضل، فكذلك العامّي يجوز له تقليد المفضول مع وجود الأفضل[١١٠].
ولايخفى ما في هذه الوجوه من طعون.
ويبني على مسألة وجوب تقليد الأعلم وعدمه، مسألة اُخرى وهي أنّ المكلّف إذا استفتى وقلّد مجتهدا في حكم حادثة معينة وعمل بقوله فيها، فهل يجب عليه ان يستفتيه ويقلّده في حكم سائر الحوادث أو يجوز له أن يقلّد ويستفتي مجتهدا آخر؟
فالذي يقول بوجوب تقليد الأعلم يجب عليه البقاء على تقليده في جميع أحكامه؛ لأنّ المفروض أنّ غير الأفضل غير حجّة في قوله ورأيه على هذا العامي، أمّا من يجوّز تقليد و استفتاء المفضول فهو في سعة من ذلك ومخيّر في استفتاء أيٍّ شاء منهما، ولا ملزم له من تقليد واستفتاء أحد بعينه في جميع أحكامه[١١١]. هذا إذا لم يلتزم مذهبا معينا بعينه.
إلى هنا تمّ الكلام في شرائط المفتي، وقد وقع البحث أيضا في أنّ هذه الشرائط هل هي معتبرة حدوثا وبقاءً أو يكفي الحدوث؟[١١٢]
الهوامش
- ↑ . أنظر: المستصفى 2: 241، الإحكام الآمدي 3ـ4: 453، معالم الدين: 244.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 43 ـ 44.
- ↑ . العروة الوثقى 1: 24.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 228.
- ↑ . المصدر السابق.
- ↑ . المصدر السابق.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 43 ـ 44، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 228.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 229.
- ↑ . وسائل الشيعة 27: 13 ـ 14، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، ح 5.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 44.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 234.
- ↑ . المستصفى 2: 203.
- ↑ . أنظر: المستصفى 2: 241، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 453.
- ↑ . التقليد: 31.
- ↑ . القوانين المحكمة 3 ـ 4: 514.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 42، أنظر: المستصفى 2: 241، الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 453، مناهج الأحكام والأصول: 301.
- ↑ . أنظر: كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 221.
- ↑ . الحجرات: 6.
- ↑ . أنظر: مناهج الأحكام والأصول: 301، مستمسك العروة الوثقى 1: 42، الاجتهاد والتقليد رضا الصدر: 111.
- ↑ . مستمسك العروهالوثقى 1: 42.
- ↑ . مناهج الأحكام والأصول: 301.
- ↑ . التقليد الأنصاري: 32.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 42 ـ 43، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 221 ـ 223.
- ↑ . الأصول العامّة للفقه المقارن: 646.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد، الخوئي 1: 223.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 43.
- ↑ . المصدر السابق، الاجتهاد والتقليد رضا الصدر: 110.
- ↑ . القوانين المحكمة 3 ـ 4: 514.
- ↑ . العروة الوثقى 1: 25.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 46.
- ↑ . أنظر: مستمسك العروة الوثقى 1: 46، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 236 ـ 237، الاجتهاد والتقليد (رضا الصدر): 114 ـ 115.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 224 ـ 226.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 43، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1 : 226.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 43.
- ↑ . المنخول: 463.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 226.
- ↑ . أنظر: مستمسك العروة الوثقى 1: 43، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 226 ـ 227.
- ↑ . المنخول: 463.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 43.
- ↑ . التقليد: 31.
- ↑ . الفصول الغروية: 418، أنظر: المنخول: 463.
- ↑ . وسائل الشيعة 27: 13 ـ 14، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 1، ح 5.
- ↑ . الاجتهاد والتقليد رضا الصدر: 103.
- ↑ . المصدر السابق.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 214 ـ 215.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 41.
- ↑ . التقليد: 31.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 42.
- ↑ . المنخول: 463.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 217.
- ↑ . المصدر السابق: 217 ـ 218.
- ↑ . التقليد: 31.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 220.
- ↑ . المصدر السابق: 221.
- ↑ . المصدر السابق: 223.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 42.
- ↑ . أنظر: أدب الفتوى: 138، أعلام الموقعين 4: 215 ـ 216، فواتح الرحموت 2: 407.
- ↑ . الفوائد المدنية: 299.
- ↑ . مفاتيح الشرائع 2: 52.
- ↑ . الوافية: 305، 307.
- ↑ . القوانين المحكمة 3 ـ 4: 568.
- ↑ . أنظر: أعلام الموقعين 4: 215 ـ 216.
- ↑ . الفوائد المدنية: 299.
- ↑ . أنظر: التقليد الأنصاري: 36 ـ 37، مستمسك العروة الوثقى 1: 22، كتاب الاجتهاد والتقليد (الخوئي) 1: 99.
- ↑ . أنظر: مستمسك العروة الوثقى 1: 22، الأصول العامّة للفقه المقارن: 630.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 101.
- ↑ . القوانين المحكمة 3 ـ 4: 568، أنظر: التقليد الأنصاري: 36.
- ↑ . أنظر: الفصول الغروية : 421، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 102، الأصول العامّة للفقه المقارن: 632.
- ↑ . أنظر: التقليد الأنصاري: 37، كتاب الاجتهاد والتقليد (الخوئي) 1: 99 ـ 104، الاُصول العامّة للفقه المقارن: 629 ـ 632.
- ↑ . التقليد: 33.
- ↑ . الفوائد الحائرية: 500.
- ↑ . رسائل الشهيد الثاني 1: 53.
- ↑ . الفصول الغروية: 419.
- ↑ . معالم الدين: 248.
- ↑ . تهذيب الوصول: 289.
- ↑ . كفاية الاُصول: 476.
- ↑ . التقليد: 39 ـ 40.
- ↑ . أنظر: المحصول الرازي 2: 526، المنخول: 480، أعلام الموقّعين 4: 215 ـ 216.
- ↑ . إرشاد الفحول 2: 334 ـ 338.
- ↑ . أنظر: كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 104.
- ↑ . المنخول: 480.
- ↑ . إرشاد الفحول 2: 334.
- ↑ . الفصول الغروية: 419، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1 : 104 ـ 105.
- ↑ . التقليد الأنصاري: 35.
- ↑ . أنظر: رسائل الشهيد الثاني 1: 43، الوافية : 302.
- ↑ . أنظر: أعلام الموقّعين 4: 215 ـ 216، الوافية: 302.
- ↑ . أنظر: المصدر السابق: 260، المصدر السابق: 301.
- ↑ . أنظر: رسائل الشهيد الثاني 1: 34 ـ 44، الفصول الغروية: 419.
- ↑ . كشف الغطاء 1: 225.
- ↑ . أنظر: العروة الوثقى 1: 16 ـ 17، مستمسك العروة الوثقى 1: 19، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 111.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 19.
- ↑ . المصدر السابق: 19 ـ 20.
- ↑ . أنظر: كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 107 ـ 117.
- ↑ . التقليد الأنصاري: 69.
- ↑ . كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 146.
- ↑ . رسائل الشهيد الثاني 1: 41، حقائق الإيمان: 220.
- ↑ . أنظر: التقليد الأنصاري: 54، كتاب الاجتهاد والتقليد (الخوئي) 1: 134.
- ↑ . أنظر: المستصفى 2: 242، المحصول الرازي 2: 533، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 457، شرح مختصر الروضة 3: 667، أعلام الموقّعين 4: 261.
- ↑ . مستمسك العروة الوثقى 1: 28.
- ↑ . كفاية الاُصول: 474، مستمسك العروة الوثقى 1: 28.
- ↑ . كفاية الاُصول: 475 ـ 476، الإحكام الآمدي 3ـ4: 458.
- ↑ . ارشاد الفحول 2: 343.
- ↑ . أنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 457.
- ↑ . أنظر: كفاية الاُصول: 475، كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 142 ـ 148.
- ↑ . أنظر: إحكام الفصول: 729 ـ 730، الإحكام الآمدي 3ـ4: 458، قواعد الأحكام (ابن عبدالسلام) 2: 104، تيسير التحرير 4: 251، فواتح الرحموت 2: 404، أصول الفقه (الخضري): 383.
- ↑ . أنظر: التقليد (الأنصاري): 68.
- ↑ . أنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 458، شرح مختصر الروضة 3: 667.
- ↑ . يوسف: 76.
- ↑ . أنظر: شرح مختصر الروضة 3: 667.
- ↑ . أنظر: إحكام الفصول: 730.
- ↑ . أنظر: الإحكام الآمدي 3ـ4: 458ـ459، تيسير التحرير 4: 253.
- ↑ . أنظر: كتاب الاجتهاد والتقليد الخوئي 1: 237 ـ 240.