زكي علي

من ویکي‌وحدت
الاسم زكي علي‏
الاسم الکامل زكي علي‏
تاريخ الولادة
محل الولادة مصر
تاريخ الوفاة
المهنة طبیب، متفکر اسلامی
الأساتید
الآثار لإسلام في العالم، هذه هي الشعوب البيضاء
المذهب سنی

زكي علي طبيب، وداعية إسلامي قدير، ومؤسّس رابطة الثقافة الإسلامية بالعاصمة النمساوية.

الولادة

ولد الدكتور زكي علي ببلدة إنشاص البصل بمديرية الشرقية في أوائل سنة 1905 م، ونشأ نشأة دينية، إذ تلقّى دراسته الأوّلية والابتدائية والثانوية بالزقازيق والقاهرة، ولمّا قامت الحركة الوطنية المصرية في مارس سنة 1919 م- وهو بالمدرسة الخديوية- انضمّ إلى الشباب العامل في صفوفها، ونُشرت له أوّل مقالة وطنية في جريدة «النظام» تحت عنوان «في سبيل الاستقلال»، ثمّ التحق بمدرسة الطبّ المصرية، ونال منها إجازة الطبّ في يناير سنة 1927 م، وعُيّن بعد ذلك طبيباً بمستشفى القصر العيني، وكان معروفاً في محيطه؛ لأنّه دأب على نشر مقالاته في الصحف وهو في سنّ الخامسة عشرة حتّى التحق بالقصر دون أن ينقطع عن تدبيج مقالاته.
وفي سنة 1928 م انتقل طبيباً لشرطة الزيوت الإنجليزية (شل) بالغردقة على البحر الأحمر، وهناك ساءته حالة الظلم الصارخ الذي يعانيه العمّال المصريّون من تسلّط الشركة، فعمل على ردّ حقوقهم، وكتب المذكّرات المطالبة بإنصافهم، حتّى ضاق به القائمون بالأمر، فقرّروا استبعاده إلى وظيفته بالقصر العيني، فافتتح عيادةً له بالقاهرة، وحنّ إلى موطنه بالشرقية، ففتح عيادةً أُخرى ببردين قرب مسقط رأسه، وكان يحدّد لها أيّاماً من الأُسبوع.
ومع جهده الموزّع بين العيادتين لم يترك البحث العلمي، فألّف رسالة في سنة 1931 م تحت عنوان «الطبّ العربي وتأثيره في أوروبّا»، ونشرها بمصر، ثمّ سافر إلى فرنسا في نوفمبر سنة 1931 م للتخصّص في فرع دقيق من فروع الطبّ، فانتخب عضواً في جمعية
تاريخ الطبّ الفرنسية
، ونشر عدّة رسائل باللغات الأجنبية في باريس وفينّا وبرلين عن الطبّ العربي، ورأى من الأولى والأهمّ أن يتحدّث عن الإسلام في قوم ينكرون له كلّ فضل، فأخذ يتنقّل في عواصم أوروبّا ليجتمع بالمسلمين النازحين والمقيمين متحدّثاً عن وجوب العمل الدائب لإيضاح رسالة الإسلام، ومُلقياً عدّة محاضرات عن ماضي الدين وحاضره... وأمام ما يتطلّبه الجهاد الشاق من عمل ترك مهنة الطبّ حين ضحّى بوظيفته التي بُعث لتثبيتها علمياً بدرجة علمية أرقى من باريس، وعكف على الجهاد، فبدأ بتأسيس الرابطة في فينّا، ودعا إلى عرض قضايا الأُمّة العربية في مصر والشام والعراق والمغرب عاملًا على التحرّر النهائي من الاستعمار الأوربّي.
ومن ثمّ انتقل إلى سويسرا ليستقرّ بها مناضلًا مكافحاً؛ إذ رأى ضوء الحرّية بهذا البلد المحايد أشدّ سطوعاً وأهدأ مراقبةً وسؤالًا، فآثره واجتباه. أمّا انتقاله إلى سويسرا فقد كان باقتراح الأمير شكيب أرسلان زعيم المجاهدين في أوروبّا؛ إذ لمس من نشاطه الإسلامي ما دعاه إلى مجاورته في جنيف، وحسناً فعل، فإنّ نشاط الدكتور العلمي بهذا الوطن قد واكب نشاطه العملي، حيث نظر فوجد هجمات التبشير تغزو المسلمين في ديارهم، حتّى في مصر موطن الأزهر والعروبة والإسلام، كما قرأ أنّ المسلمين في تناقص مستمرّ، قرأ ذلك لمبشّر كاذب نشر إحصائية مخطئة، فدعاه ذلك إلى البحث عن أحوال المسلمين في شتّى ربوع البسيطة، وأن يثبت بالدليل العلمي والإحصاء الرسمي أنّ المسلمين في ازدياد، لا في نقصان؛ لذلك عمل على تأليف كتاب «الإسلام في العالم» ليُثبت بالإحصاء الدقيق كذب هذا الافتراء، وكان للكتاب صدىً مجلجل في العالم كلّه، وبخاصّة في مصر والهند، حيث أُفردت المقالات الوافية لتحليله والإشادة به.
وقد تحدّث المؤلّف في صدر الكتاب عن شي‏ء من سيرته، حيث أعلن أنّه حين ابتعث إلى أُوروبّا لم يكن له مقصد غير دراسة الطبّ، لكنّه اكتشف جهلًا مطبقاً عن الإسلام في كلّ مكان قصده بالغرب، وتشويهاً متعمّداً لكلّ حقائقه التي ينطق بها القرآن صريحاً دون لبس، ثمّ تهجّماً فاحشاً على الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله! لذلك وجد من الضروري أوّلًا الإلمام‏
الموجز الدقيق بحياة النبي الكريم، كما فعل السير أرنولد في كتابه «الدعوة إلى الإسلام»، حيث مهّد لكتابه ببحث في سيرة الرسول، لا يتمّ الحديث عن الإسلام إلّابه. وفائدة ذلك أن يربط القارئ المحايد بين سيرة نبي الإسلام وما جاء به من تعاليم، ليراه صادقاً كلّ الصدق في اتّباع ما جاء بالقرآن؛ لأنّ بعض الداعين إلى الفضائل ينادون بها في إلحاح، وهم في أعمالهم يخالفونها كلّ المخالفة، ومثل هؤلاء يخفقون في نشاطهم القولي لأنّهم مراؤون، فإذا أشبع الحديث عن نبي الإسلام تعرّض للإسلام من حيث هو نظام اجتماعي يربط بين الطبقات ويوحّد بينها، ومعتمده في ذلك القرآن الكريم؛ لأنّه الأساس الأوّل للبناء الإسلامي الوطيد، من حيث إنّه قانون راسخ لدين اجتماعي مدني متحضّر خُلقي تشريعي سياسي، وهو المسيطر على المسلم الحقيقي في كلّ اتّجاهاته، يراه قبلته التي لا يحيد عنها.
وهكذا كان توضيح الإسلام عن طريق الإسلام صدمةً للذين افتروا على الدين الكاذب في أُوروبّا، فجعلوه دين نزق وشهوات، بل جعلوه دين تثليث في بعض كتاباتهم، ليقولوا: إنّه نقل التثليث عن المسيحية، ولا أدلّ على البهتان من هذا الافتراء.
وقد أشبع الكلام عن الجزية والخراج ليردّ على من قالوا: بأنّ الدين الإسلامي يستبيح أموال الناس؛ لأنّ الجزية في قدرها المحدود فرضت نظير ما يقوم به المسلمون من الدفاع عمّن يلوذون بهم، فإذا دافعوا مع المسلمين في معركةٍ ما سقطت عنهم، وتاريخ الإسلام في صدر الفتوح شاهدٌ على ذلك! ولهذا اتّسعت صحف الكتاب لمواقف خالدة من سير القادة في اطّراد النمو الإسلامي، حتّى جاءت عصور الضعف، وتعرّض الإسلام لإعصار رهيب من ناحية المشرق، حيث هجم التتار والمغول على الحضارة الإسلامية، يُريدونها بربريّة متوحّشةً، وحين هجم الصليبيّون من الغرب لينقلوا عن الإسلام حضارته التي أعوزتهم في حياتهم القاسية، ثمّ انتبه الغرب على صوت الإسلام بالأندلس والاختلاط بالمسلمين في الحرب الصليبية، فبدأت دورة نهضته حين بدأ النهوض الإسلامي في الانتكاس.
ويلي ذلك حديث عن الإسلام في أوروبّا، ومن يتحدّث عن ذلك غير خبير ذكي كالدكتور زكي علي؟! إذ لمس وشاهد عن عيان لا عن قراءة وإخبار، محلّلًا ما رآه من‏
دواعي التهجّم، ومقرّراً قواعد الإسلام الأصيلة في ضرورة الارتباط بين السياسة والدين ليتعاونا معاً في ميادين الحياة؛ وأهمّها ميدانا الاستقلال السياسي، والاستقلال الاقتصادي، ولعمري كيف استطاع الدكتور أن ينهض بهذه البحوث الدقيقة، وقراءاته الإسلامية لم تتجاوز سنوات تُعدّ على الأصابع على حدّ تعبير الدكتور البيّومي!
إنّ الحافز المستفزّ قد جعل أيّامه الأُولى في فينّا وجنيف عملًا متواصلًا بالنهار وقراءةً دائبة بالليل، حتّى اهتدى إلى صخرة صلبة من يقينه الإيماني وإدراكه العلمي، ولم يكن المؤلّف مهاجماً منفّراً في كتابه، بل كان داعية وفاقٍ ووئامٍ، حين تساءل في ختام بحثه قائلًا: هل يمكن إيجاد التعاون بين الإسلام والغرب؟ وقد أجاب على السؤال بالإيجاب متفائلًا!
كما كتب الكاتب الأُستاذ محمّد لطفي جمعة عن هذا الكتاب القيّم بحثاً ضافياً في مجلّة «الرابطة العربية» (مايو سنة 1938 م) في فصلين متعاقبين، لخّصهما الأُستاذ أنور الجندي في كتابه «مفكّرون وأُدباء» تلخيصاً دقيقاً، وقد قال فيه: «إنّه لم يضع كاتبٌ حديث ولا قديم بلغةٍ غير لغته كتاباً على النمط العالي كما صنع الدكتور زكي علي، نزيل جنيف وخادم العلم والوطن والملّة، وإذا كان هذا الرجل الفذّ لا يزال في منتصف العقد الرابع كما علمنا من بعض عارفيه الثقات، فلا يعلم إلّااللَّه ما يصل إليه بعد عشرين عاماً من الدرس والتنقيب والتأليف، فهو يمتاز قبل كلّ شي‏ء بالصدق والأمانة في النقل، كما يظهر ذلك في الفصلين اللذين عقدهما لحضارة الإسلام ولتوسّع الإسلام وامتداده ونفوذه، ويمتاز بخلّة ثانية نفيسة، هي قدرته على سرعة الإلمام بحقائق العلم ووقائع التاريخ، وسهولة هضمها وصياغتها في أفضل قالب وأبلغه وأوضحه، وقد دلّ بكتابته في الإسلام على قدرة في التأليف بالإنجليزية بدرجة أُسلوبه العربي الرائع».
ويقول الدكتور محمّد رجب البيومي: «وممّا يؤسف حقّاً أنّ الدكتور زكي علي كان يراسل الجرائد المصرية ببعض الأنباء التي تخصّ المحيط الإسلامي، راجياً أن تكون موضع الدراسة من المهتمّين بقضايا العالم الإسلامي، فلا تنشر الجرائد ما يبعثه إلّافي‏
النادر، وهي تغصّ بأخبار المطربين، ومن تسمّيهم النجوم في كلّ بقاع الأرض! وقد كانت جريدتا «اللواء، والمؤيّد» في أوائل هذا القرن تفسحان صفحة يومية تحمل أخبار العالم الإسلامي، ولها قرّاؤها الذين يتهافتون على مطالعتها مستزيدين، ثمّ في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأُولى أخذ الحديث عن بلاد الإسلام في هذه الجرائد يتضاءل وينكمش، بل رأينا الأُستاذ سلامة موسى يكتب متعجّباً من عقلية مصطفى كامل الذي كان يُعنى بهموم المسلمين في الهند واليابان ويستنكر أن يُشغل القارئ المصري نفسه بتتبّع أنباء أخيه في العقيدة والدين!
في هذا الجو العابس ضاعت مقالات الدكتور زكي علي ومن ينهج نهجه، ولكنّ أفراداً يعدّون على الأصابع قد احتفلوا بنشاطه، وتحدّثوا عنه مكبرين، وفي طليعة هؤلاء الأُستاذ الدكتور مختار الوكيل؛ إذ كانت له بالدكتور صحبة في سويسرا، وشهد نشاطه الجمّ، فأُعجب به ووالى الحديث عنه، وتحت يدي مقالٌ نشره بجريدة الأخبار، قال فيه تعليقاً على كلمة للأُستاذ (أحمد أبو الفتح) بشأن المجاهد المهاجر زكي علي، قال فيها أبو الفتح:
«أرى من الواجب أن أذكر ما يقوم به العالم الجليل الدكتور زكي علي الذي يُقيم في جنيف منذ أكثر من أربعين سنة، وقد آثر هيئة التقشّف، فهجر مزاولة الطبّ ليكرّس نفسه للردّ على كلّ سؤال حول الإسلام، وللتصدّي لكلّ تشويه، وذلك بنشر الحقائق في الصحف المختلفة».
قال ذلك الأُستاذ أحمد أبو الفتح، فكان مدعاة للدكتور الوكيل أن يقول من مقال رائع، بعد أن عرض لذكرياته معه في سويسرا: «لا شكّ أنّ للدكتور زكي علي فضلًا على الحركة العربية والإسلامية في ربوع سويسرا والنمسا وألمانيا وفرنسا وغيرها من البلاد الأوروبّية، فهو كما قال الأُستاذ أبو الفتح ينشر المقالات والأبحاث الطوال شارحاً حقيقة الفكر الإسلامي، وكان يدرِّس الآداب واللغة العربية في جامعة جنيف، وأفادت منه أجيال من رجالات سويسرا في هذا المجال، وكثير منهم تبحّر في دراسة الفكر الإسلامي، واهتدى على يديه إلى الطريق المستقيم. ولعلّ كثيراً من الناس لا يعرفون الكثير عنه، ولهم العذر؛
لأنّه لا يسعى للشهرة، بل هو من أحرص الناس على الكتمان وعيش الخشوع والاعتكاف والصوم، ومثل ذلك نادرٌ في هذا الزمان، ومع ذلك فإنّ آراءه قد انتشرت بين الشباب في سويسرا وغيرها من بلدان أوروبّا، ومؤلّفاته كذلك، وأشهرها كتاب من أعظم ما أصدرته المطابع في أوروبّا في العهد الأخير، كتب باللغة الفرنسية سنة 1973 م، تحت عنوان «هذه هي الشعوب البيضاء»....».
أمّا عشية التقشّف فتظهر بوضوح في مسكنه الذي يتكوّن من حجرة استقبال للزائرين، وغرفة مطبخ هي أيضاً مكتبته التي تجمع كلّ ما يقتنيه، كما أخبرني في بعض رسائله، وقد عرضت عليه أن يأذن لي بأن أتحدّث مع الإمام الأكبر عبد الحليم محمود شيخ الأزهر حينئذٍ، كي يقوم بطبع مؤلّفاته في سلسلة مجمع البحوث الإسلامية فيصله بعض ما يُساعده، ولكنّه أبى وحذّرني قائلًا: إنّه يأخذ معاشاً متواضعاً من الدولة السويسرية تبلّغه حاجته ببعض التدبير، وهو به قنوع.
وقد قال: إنّ ممّا يكاد يتبرّم به أنّ القسس الذي يحضرون لمناقشته في أفكاره الإسلامية لا ينتقلون من فكرة إلى فكرة، بل يشغلهم أمر واحد يظلّون يطيلون الحديث عنه مُكرّراً في السؤال، فاضطرّ إلى التكرار في الجواب على ضجر، وكنتُ أُفهمهم ضيقي بذلك فيتضاحكون، وكأنّهم يصرّون على الحديث في غير ما يجدي، ويتساءل الدكتور: «ولماذا إذن يأتون»؟ وقد قال له بعض القسس: إنّه جعل من أفكار الدكتور بعض عظاته في يوم الأحد، فقلتُ: خيراً، ولكن لم أر ما يدلّ».
ويقول الأُستاذ إحسان سامي حقّي في مجلّة «فتى العرب» الدمشقية بتاريخ 14/ 5/ 1934 م: «لقد رفض الدكتور زكي علي الرجوع إلى مصر مؤثراً الخدمة الدينية لعقيدته ومثابراً على توضيح تعاليم الإسلام، فدخل في هذا الدين الحنيف على يده كثير من الخلق، ولجمعيّته مكتب وبهو للمحاضرات مرّة في كلّ أُسبوع، حيث يجتمع له لديه كثير من مختلف الطبقات والشعوب. ورغم ما يقاسيه الدكتور من شظف العيش وخشونته في تلك الأصقاع؛ إذ ليس له فيها من معين، ولا يُساعده أحد من الخارج، فإنّه لا يزال مثابراً على‏
جدّه ونشاطه، ولا أُغالي إذا قلتُ: إنّني لم أجد رجلًا يتحمّل ما يتحمّله هذا الشاب في سبيل الخدمة العامّة، وليس الخبر كالعيان، وقد علمتُ أنّه قضّى يوم عيد الفطر ولم يتناول فيه سوى الخبز الجاف، ومع ذلك فقد كان في هذا اليوم يستقبل المهنّئين برابطة الثقافة، ويظهر البشاشة والسرور!».
وقد كان زكي علي على وعي تامّ بما ينسجه الاستشراق من أوهام التفرقة بين الشعوب الإسلامية تحت ستار البحث العلمي المستوعب، فقد حلا لبعض الدكاترة الفارسيّين أن يُلقي محاضرات عن تاريخ الطبّ والحكمة في الإسلام بإحدى المدرّجات العلمية في جامعة سويسرا، فسارع الدكتور إلى استماع ما يقول مستبشراً؛ لأنّ المتحدّث مسلم، والموضوع عن الطبّ في الإسلام، ولكنّه صُدم حين وجد المحاضر ينسب كلّ تقدّم علمي في الطبّ والهندسة والفلك إلى المسلمين الفارسيّين وحدهم، ويذكر أسماء الخوارزمي والرازي والفارابي وابن سينا وسواهم! فقام الدكتور زكي ليردّ على المحاضر، وقال في بدء حديثه: «أنا مسلم أوّلًا، وأحبّ كلّ فارسي يدين بالإسلام في القديم والحديث، ولكنّ محاولة قصر العلم على وطن دون وطن يرفضها الواقع الصريح لتاريخ العلم، وأنا حين كتبتُ كتابي عن الطبّ العربي لم يجُل بذهني أنّ ابن سينا والرازي غريبان عنّي، والغزّالي عندي مثلًا كالشافعي؛ لأنّ الإسلام هو القلادة العظمى لكلّ من ينتمي إليه»، ثمّ أسهب في هذا المنحى إسهاباً حفز الدكتور المحاضر إلى تهنئة المعقّب بروحه السامية، ووعده أن يسير في نهجه العلمي فيما يأتي من بحوثه سير من لا يفرّق بين فارسي وعربي.
أمّا الشجاعة كلّ الشجاعة- وذلك على حدّ تعبير الدكتور محمّد رجب البيومي- فهي مهاجمة الليث المتحفّز في عرينه دون مبالاة، وهذا ما فعله الدكتور زكي علي حين كتب مؤلّفه الرائع «الشعوب البيضاء»؛ لأنّه أعلن بوضوح أنّ التديّن في أوروبّا المسيحية كاذبٌ، وأنّ الفرد منهم يذهب إلى الكنيسة كلّ أحد، ولكنّه لا ينفّذ شيئاً من تعاليم المسيح، وقد قامت مذابح الحربين العالميتين في أوروبّا وفقاً لضراوة متوحّشة، جعلت الأوربّي المسيحي مفترساً ضارياً يأكل لحم أخيه!
يقول الدكتور زكي ما ترجمته: «لقد بدأتُ منذ إقامتي في جنيف أراقب تطوّر العالم جميعه، وبخاصّة العالم الغربي، فشهدت وأنا في فينّا مولد النازية في ألمانيا، كما راقبتُ نشاط الفاشية في إيطاليا، ودرست الحركة الشيوعية في روسيا، وعلاقة أوروبّا بغيرها من الدول خارج هذه القارّة، فرأيت الشعوب البيضاء تكنّ العداء الخالص للشعوب الملوّنة، وما احتربت فيما بينها إلّاليبتلع المنتصر في حربه هذه الشعوب المظلومة، بعد أن يكون قد نحّا الشعوب المنهزمة عمّا يُريده من الغنائم والأسلاب، وهذا ما قصدته البلاد الرأسمالية في أوروبّا حين خافت نفوذ ألمانيا وأشياعها، واعتبرته مهدّداً مناطق نفوذها.
أمّا ادّعاء هذه الشعوب تمسّكها بالمسيحية فباطل لا ينهض له دليل صحيح؛ لأنّ الإيمان الحقيقي باللَّه يجب أن يبقى راسخاً في النفس، ولكنّ المسيحي الأوربّي يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد، فيؤدّي صلاةً رسميةً لا تتصّل بمشاعره؛ لأنّها لا تنهاه عن المنكر حين يقترف المظالم في حقّ الشعوب المجاورة، فضلًا عن الشعوب النائية، وإذاً فالعاطفة الدينية التي يدعو إليها المسيح لا وجود لها عند المنتسبين إلى المسيحية في أوروبّا جميعها.
وإذا كان التقدّم الصناعي قد اكتمل عند الغرب وتطوّر تطوّراً هائلًا، فإنّ الذي يرقب هذا التطوّر يجده في مدّه الاستثماري قد أصبح إلهاً يُعبد، يُضحّي في سبيله بكلّ تعاليم الأديان، فالعلم الصناعي هو الإله المعبود اليوم هناك؛ إذ تحوّل المسيح لديهم إلى عقل ألكتروني، فأصبح المصنع هو الكنيسة! نعم، إنّ الكنيسة مفتوحة الأبواب، ولرجالها احترامهم الخالص بين الأفراد، ولكن أين تعاليم المسيح!».
كما أوضح الدكتور زكي بما لا يدع أدنى خفاءٍ أنّه يقصد بالشعوب البيضاء بلاد أوروبّا وأمريكا جميعها؛ لأنّ رأسمالية إنجلترا وفرنسا وأمريكا لا تختلف في ابتزازها عن النازية والشيوعية والفاشية، ويزداد الخطر في العالم الشيوعي ضراوة؛ لأنّه يجاهر بالكفر الصريح!.

المراجع

(انظر ترجمته في: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين 4: 94- 106).