دور الزمان والمكان في استنباط الأحكام

من ویکي‌وحدت

دور الزمان والمکان في الاستنباط: للزمان والمکان دور مهمّ في عملية الاستنباط وفي تغيّر الحكم الشرعي في الجملة، فيمکن تغيّر الفتوی بسبب المصالح الحادثة واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال. في هذا المقال نبحث عن دور الزمان والمکان في تغیّر الفتوی.

دور الزمان والمکان في الاستنباط

هناك كلمات لبعض الفقهاء يستكشف منها مدخلية الزمان والمكان في تغيّر الحكم الشرعي في الجملة. يقول العلامة الحلي: «الأحكام منوطة بالمصالح، والمصالح تتغير بتغيّر الأوقات وتختلف باختلاف المكلّفين، فجاز أن يكون الحكم المعيّن مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به، ومفسدة لقوم في زمان آخر فينهى عنه».[١]
ويقول الشهيد الأول: «يجوز تغيّر الأحكام بتغيّر العادات، كما في النقود المتعاورة والأوزان المتداولة، ونفقات الزوجات والأقارب، فإنّها تتبع عادةً ذلك الزمان الذي وقعت فيه...». [٢]
ويقول المحقّق الكركي: «وإن لم تكن [الحادثة] داخلة تحت شيء من الكلّيات المبحوث فيها من المتقدمين، واختصت بالوقوع في زمان [المجتهد]، بحث فيها، وتصرف فيها كتصرف المجتهدين في الحوادث المتقدمة بمراجعته للأصول، بأن ينسبها إلى أحد الأدلة المقرّرة، فيستنبط حكمها من ذلك الدليل».[٣]
وعقد ابن قيم الجوزية فصلاً بعنوان: تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال، وتطرّق لجملة من الأحكام الشرعية التي تبدّلت بسبب تبدّل الزمان والمكان. [٤]
ويقول الشاطبي: ـ بعد تقسيمه الأحكام إلى عبادات وعادات ـ : وأصل العادات الالتفات إلى المعاني ودوران نظر الشارع فيها مدار المصالح، فنجد الشيء المعيّن يمنع في حال لاتكون فيه مصلحة ويجوز إذا اشتمل عليها. [٥] وآخرون منهم: ابن عابدين[٦]، و أحمد مصطفى الزرقا[٧]، و وهبة الزحيلي. [٨] ويمتاز فقهاء الإمامية عن غيرهم في أنهم حكّموا هذا الأصل في عملية الاستنباط وفقا لضوابط علمية مفصّلة، بعيدة عن الاستصلاح و الاستحسان و القياس[٩]، وهذه الضوابط هي كالتالي:
1 ـ تأثير الزمان والمكان في تطبيق الموضوعات على مواردها، وإنّ الموضوعات الشرعية ـ من قبيل الاستطاعة، والفقر، والغنى، والنفقات الواجبة، وإمساك الزوجة بالمعروف ـ لا شك في تغيّر مصاديقها حسب تغيّر أساليب الحياة وحاجاتها من زمان الى آخر ومن مكان الى آخر.
2 ـ تأثيرهما في تغيّر الحكم بتغير المناط، فإنّ ما صرّح الشارع بملاكه من الأحكام منوط ثبوتا بثبوت الملاك وانتفاءً بانتفائه، ومثاله: حرمة بيع الدم بملاك انتفاء المنفعة المحلّلة فيه، وحلّيته لاحقا؛ لظهور المنفعة المحلّلة فيه وهي انقاذ المرضى المحتاجين إليه. وحرمة قطع أعضاء الميّت واعتباره من المُثلة المحرّمة، وحلّيته بملاك زرعها في أبدان من تتوقف حياتهم عليها.
3 ـ تأثيرهما في كشف مصاديق جديدة للموضوع، ومثاله: الدفاع ووجوب الإعداد لمواجهة المعتدين المأمور به في الآية: «وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ»[١٠] فإنّ الوقت الحاضر يتطلب الدفاع بالآلات الحربية المتعارفة، وهكذا في سائر المجالات الأخرى ووسائلها المختلفة من زمان الى آخر ومن مكان الى آخر، كوسائل التعليم والشؤون الإنسانية الأخرى، ومصاديق الأحكام الأخرى كالاحتكار. [١١]
4 ـ تأثيرهما في تغيّر أساليب تنفيذ الحكم، كالانتفاع بالآجام والأراضي الموات الذي كان محلّلاً للناس في الماضي في حدود أساليب الانتفاع المحدودة المتعارفة آنذاك،
ومع تطور أساليب الانتفاع واتساع حجمها دعت الحاجة إلى وضع أحكام كفيلة بالحدّ من أن يتمادى الانسان في جشعه بالانتفاع بها. ومن هذا القبيل فتوى القدماء بملكية الإنسان للمعادن الموجودة في أرضه بما يعد انتفاعا بأرضه.
5 ـ تأثيرهما في بلورة موضاعات جديدة، وبابه المسائل المستجدة في مجالات الطب والتأمين والتجارة وحقوق النشر والتأليف والاختراع وغيرها.

المصادر

  1. كشف المراد : 485 ـ 486.
  2. القواعد والفوائد 1 : 151 ـ 152.
  3. رسائل المحقّق الكركي 3 : 51 ـ 52، وراجع كلمات أخرى : مجمع الفائدة 3 : 436، الوافي 20 : 745، جواهر الكلام 16 : 218 و22 : 199 و23 : 375.
  4. أعلام الموقّعين 3 : 3 وما بعدها.
  5. الموافقات 2 : 305.
  6. رسائل ابن عابدين 2 : 123.
  7. المدخل الفقهي العام 2 : 924 ـ 925.
  8. أصول الفقه الإسلامي 2 : 1116 ـ 1118.
  9. مقدمة نهاية الوصول العلاّمة الحلّي 5 : 109 ـ 125.
  10. الأنفال : 60.
  11. انظر : جواهر الكلام 22 : 481 ـ 483، مفتاح الكرامة 4 : 107، وسيلة النجاة 2 : 8 ، ابتغاء الفضيلة 1 : 197، مصباح الفقاهة 3 : 818 .