حقيقة السنن وأقسامها
حقيقة السنن و أقسامها هي عنوان لدراسة بحث السنن الإلهية في الكون. جعل سبحانه وتعالى سننا في الخلق دوره كقوانين ثابتة كلية لا تتغير مرَّ العصور، ولا يخلو منها أياًّ من الخلق من الإنسان إلى غيره.
حقيقة السُّنن وأقسامها
حقيقة السُّنن
إنَّ السنَّة في القرآن الكريم كلَّها تعرف بالسُّنن الإلهيَّة، وتشکّل نسقاً متکاملاً، وفي منظومة متوالية متراتبة؛ وهذا النظم المفعم يعتمد على الإنسجام السائد على العالم، والإتصال البديع بين أَجزائه فيستدلُّ بالإنسجام والإتصال على أَنَّ ذاك النّظام المتصل المنسجم إِبداع عقلٍ كبيرٍ، وعلمٍ واسعٍ، ولولا وجوده لما تحقَّق ذلك النّظام المعجب المتصل المتناسق. والأبحاث العلمية أيضاً كشفتْ عن الإتصال الوثيق بين جميع أَجزاء العالم وتأثير الكلّ في الكلّ، حتَّى أَنَّ صفصفة أَوراق الشجر غير منقطعة عن الريح العاصف في أقاصي بقاع الأرض، والنُّجوم البعيدة التي تحسب مسافاتها بالسِّنين الضَّوئية، مؤثّرة في حياة النبات والحيوان والإنسان، وهذا الإنسجام الوثيق، الذي جعل العالم ككلٍّ يشدُّ بعضه بعضاً، أَدلُّ دليل على تدخل عقل كبير واحد في إِبداعه، وهناك القوانين والسُّنن الصَّادرة من ذاك المصدر الوحيد الحاكمة على هذا الكل. ولايمكن عقلاً إعزاء كلّ هذا الضبط والدّقة في المقاييس والنسب إلى فعل المادة الصمَّاء العمياء البكماء، والحال إنَّه يكشف عن تدبير وحساب ويحكي عن نظام متقن وعظيم ويدلُّ على أنَّ وراء كلّ ذلك خالقاً حكيماً هو الذي أوجد هذا التَّوازن المدهش و الضبط الدقيق. ويشهدان على دخالة الشعور والحكمة والعقل في إِدارة هذا العالم وتدبيره وتسييره، وهي أمور لا تتوفَّر في الصُّدفة، بل تتوفَّر في قوَّةٍ عليا، شاعرةٍ هادفةٍ تدرك مصلحة الكون واحتياجات الحياة إدراكاً كاملاً وشاملاً، فتخضع الكون لمثل هذه الضوابط والعلاقات، كقانون حاكم وسنن جارية ماضية تجلب الأنظار إلى عظمتها المتحيّرة، وبلسان صامتٍ يصرخ بوجودٍ لاثاني له.
أقسام السُّنن
ويمکن تقسيم هذه السنن والقوانين المودَّعة في الكون إلى أنواع، منها: السنن الکونيَّة، والسنن النفسية، والسنن الإجتماعية، والسنن التأريخية.
السُّنن الکونيَّة
هي التي تتعلَّق بالکون وما يجري فيه، واکتشافها من تجلّيات تفاعل العقل مع الکون؛ ومن هذه السنن: قانون الجاذبية، ومختلف قوانين المادّة، التي ساهم إکتشافها في تطوُّر العلوم، مثل: علوم الطبّ، والهندسة، والفلک، والفيزياء، والکيمياء وما إليها. وكلُّ هذه السُّنن التَّكوينيَّة فعل إنساني لاعلاقة لها بالمعتقد ولا بالدِّين ولا بالعرق ولا بالجنس؛ وإنَّما هي مرتبطة بالحسّ والمشاهدة والتَّجربة وممارسة الجهد العلمي. من أبرز السِّمات التي تميِّز الآيات الكونية، أنَّها منتزعةٌ من البيئة المعاشة، والفضاء المحيط بنا، فالأرض بجبالها وسهولها ونباتها وحيوانها وبرُّها وبحرها، أمورٌ محسوسةٌ مدركةٌ. وأنَّها لما كانت منتزعةً من البيئة، فهذا يجعل النَّاس جميعا يستوون في الشُّعور بها والإحساس بوجودها بلا تميُّز، فصاحب القصر الكبير في المدينة، والخيمة الصغيرة في البدو، يستويان في الإحساس بها، والعالم والأمي يستويان؛ وكونها منتزعة من البيئة المعاشة ؛ يجعلها سهلة الإدراك، لا تحتاج إلى أدوات علمية ولا إلى تقنية عصرية، فالنَّظر إلى السَّماء وما فيها، أو الأرض وما عليها، لا تحتاج معه إلى مجْهر مخْبري، أو مكبِّر فضائي، بل تكفي الوسائل الفطرية لدى كلّ شخص؛ قال تعالى: >أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَي الْإِبِلِ کَيْفَ خُلِقَتْ * وَ إِلَي السَّماءِ کَيْفَ رُفِعَتْ * وَ إِلَي الْجِبالِ کَيْفَ نُصِبَتْ * وَ إِلَي الْأَرْضِ کَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَکِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَکِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَنْ تَوَلَّي وَ کَفَرَ<.
السُّنن النَّفسيَّة
هي التي ترتبط بالنَّفس ومايؤثّر فيها أو يتأثَّر عنها، وما يرتبط بالاجتماع البشري وتفاعلاته. واکتشافها تجلٍّ من تجلّيات تفاعل العقل مع الوحي والواقع، وهي سنن تكون بين أيدينا، يجدها من أمعن النظر في نفسه إمعاناً يسيراً؛ قال تعالى: >وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ<. منها: سنَّة التعجيل: >خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ<. وسنَّة حبِّ المال: >وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا<.
السُّنن الإجتماعية
ومنها سنُّة التَّعارف بين الخلق كما قال تعالى: >يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُمْ مِّنْ ذَکَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ<. وأيضا سنة الفتنة والابتلاء: >وَنَبْلُوکُم بِالشَّرِّ وَالْخَيرِ فِتْنَةً<.
السُّنن التَّاريخيَّة
وهي الضَّوابط والقوانين التي تتبدّى في سيرورة التاريخ بمقدَّمات ونتائج في فترات زمنية قد تطول وقد تقصر؛ قال تعالى: >سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا<. وقوله تعالى: >قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِکُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا کَيْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الْمُکَذِّبِينَ<. والقصص القرآني يتوافر على مضامين وعبر علمية هادفة لمعاني عالية؛ لاکتشافها عن هذه السُّنن، فيمكن دارسة هذه القصص دراسة سننية متکاملة، تضعها في عمق سياقها المعرفي الحقيقي، الذي يتجاوز نطاق التَّاريخ، إلى نطاق فلسفة التَّاريخ والحضارة. التَّاريخ بشقيه الإيجابي والسَّلبي؛ محكوم بسنن وقوانين تاريخية ثابتة لا مجال للعبثية أو الجبرية فيها؛ ولا يمكن القول بأنَّها محكومة بالطلاسم والغيبيات؛ بل إنَّها سلسلة حلقاتٍ متواصلةٍ غير منفكَّةٍ، يمنكن أخذ العبرة والإعتبار منها؛ للحاضر والمستقبل؛ خاصة لمن يريد التَّطور والإزدهار لأفراد أمَّته، إذ المشاكل والعثرات التي سبقت، ستعطي خبرة تراكمية للذي يبحث عن أنجع الحلول ليتدارك بها ما سبق من أخطاء: وهذا ما أكده القرآن الكريم: >سُنَّةَ اللَّهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْديلاً<. والسُّنن التَّاريخيَّة تتحرَّك وفقاً لمنهجيَّةٍ عامَّةٍ ثابتةٍ تنقسم إلى عدة أقسام منها ما هو شرطي يربط النتيجة بالمقدمات؛ أعمُّ من صحيحة تتوافر شروط نجاحها؛ أو خاطئة فاشلة لا نتيجة لها. فقال تعالى: >إِنَّ اللَّـهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ<. تفيد الغاية عملية تغيير بنية أيّ مجتمع، بتغيير جوهره أولا (لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ)، وأنَّ عملية التَّغيير هذه لا تتمُّ إلاَّ بمقدمتها، بدلالة فقرة (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)؛ لتكون الرحمة الإلهية نتيجة ظاهرية لمقدمة التغيير المشروطة، ولأخذ العبرة والإعتبار من ذلك يكون من الواجب معرفة أسباب النَّجاح للمجتمعات التي غيِّرت للأفضل، أو أسباب الفشل للتي رفضت التغيير وانحدرت للأسوأ، وهذا لا يكون إلاَّ بأخذ النافع وطرح الضار مما سبق. والقرآن في عرض السنن الإلهية وبالخصوص الآيات الكونية لم يكن على نحو جافٍ جامدٍ خالٍ من الشُّعور، بعيدٍ عن العواطف، بل يجعل الإنسان يخالطها شعوراً، وحسّاً، وروحاًً، بحيث يستشعر جلالها وجمالها المفعم، يسوقه إليها من حيث لاتدرى، ويملك عليه السَّمع والبصر، ويأخذ بمجامع القلب، يستغرق الشعور والإحساس ويستثير كوامن النفس. وذام بهدف تربية وتنمية المؤمن شعور الإحساس بهذا الكون الذي يعيش فيه. فكلُّ المخلوقات مليء بالإدراك والإحساس ويسبح هذا الخالق العظيم؛ فقال تعالى: >تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا<. تعتبر السُّنن الكونية ثابتةً لايمكن للإنسان التَّدخُّل فيها ولا تغييرها، كحركة الأفلاك السَّماوية التي أشار القرآن الكريم لها، وليس باستطاعة الإنسان تغيير حركتها الثابتة؛ وهي تجري بأمر الله الذي لا يقهر: >لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ<. وعليه يكون مجال فاعلية الإنسان معدوم في وجودها وحركتها وما له منها إلاَّ إكتشافها والعلم بحركتها بعدما جعلت هذه الأفلاك بأمر الله مسخرة لخدمته. ولكنَّ الوحي يمکّن من خلال إعتماد المنهج السنني، ومحاولة الکشف عنه وملاحظة إطّراده في الحياة، من فهم أعمق للإنسان وخلجاته ولمکوِّنات الواقع وتفاعلاته. فحرکة الحياة والأحياء تسير وفق منهج سنني؛ إذ إنَّ الرؤية المستقبلية ونقطة الانطلاق الأساس في النهوض وإبصار المستقبل من خلال مقدّماته، أو التمکّن من تشکيل المستقبل والمداخلة في بنائه؛ ومن ثمَّ تأتي مرحلة التَّسخير والقدرة على المداخلة في المقدَّمات من خلال القانون ذاته.