حجية السيرة
حجية السيرة: السيرة استمرار عادة الناس وتبانيهم العملي على فعل شيء أو ترك شيء، وفي حجيتها خلاف بين الأصوليين.
حجية السيرة
عدّت سيرة المتشرعة من الطرق القطعية لإثبات السنة[١] ولا يبدو هناك خلاف في ذلك؛ لأنّ السيرة تعكس وجود دليل شرعي اعتمده المتشرّعة. وهذا هو الذي دعى بالبعض لئن يصرّح بكونها ليست دليلاً مستقلاً بل حاكية عن دليل آخر، وهو السنة[٢].
من جانب آخر، فإنّ السيرة العقلائية ليست حجّة على الإطلاق بل بشرطين، وضوابط تدرج ضمن البحوث التالية:
شروط لحجية السيرة العقلائية
لإثبات حجية السيرة لابدّ من توافر شرطين فيها، الأوّل: إثبات معاصرتها للمعصوم. والثاني: ثبوت رضا الشارع أو عدم ردعه عنها[٣].
الشرط الأوّل: طرق إثبات معاصرة السيرة للمعصومين
أورد الشهيد الصدر أنّ معاصرة السيرة للمعصوم تثبت بعدّة طرق:
الطريق الأوّل: الشهادة والنقل، وذلك من قبيل: أن ينقل مثل الشيخ الطوسي استقرار بناء أصحاب الأئمة والمتشرعة في حياتهم على الاعتماد على أخبار الثقات. وقطعية هذا النقل يتوقّف على ما إذا كان النقل قطعيا (كالتواتر) أو ظنّيا كما لو كان بخير الواحد.
الطريق الثاني: استقرار الأوضاع الاجتماعية في مجتمعات مختلفة وملاحظة تطابقها على شيء واحديعمّم الحكم على جميع المجتمعات العقلائية حتّى المعاصرة لعهد المعصومين، أي ملاحظة المجتمعات المعاصرة لتعميم أوضاعهم الاجتماعية إلى المجتمع عهد المعصومين.
وقد يتعذّر إثبات هذا وفق حساب الاحتمال؛ لأنّ الأوضاع الاجتماعية آئلة إلى التغيّر من عهد إلى آخر، باعتبار التحوّلات التي تطرأ على المجتمعات.
الطريق الثالث: إذا كانت المسألة التي يراد إثبات السيرة فيها من المسائل المبتلى بها كثيرا من قبل الناس وقد كثرت الروايات التي تنقل أسئلة عن هكذا موضوع فذلك يكشف عن أنّ هذا السلوك كان ثابتا منذ عهد المعصومين. ولو لم يكن كذلك لما كثر السؤال عنه أو لا يكون خلافه من الواضحات لدى الناس والمتشرعة مع عدم تكثّر السؤال والجواب عنها على مستوى الروايات و الأدلّة الشرعية، فإنّه في مثل ذلك يستكشف أنّ ذلك السلوك كان ثابتا في زمان المعصوم عليهالسلام أيضا وإلاّ لزم إمّا أن يكثر السؤال عنه أو يكون خلافه من الواضحات عند الناس عادة. وكلاهما خلف، وهو من قبيل: انعقاد السيرة على العمل بخبر الثقة، فإنّ العمل به لم يكن من الواضحات بحسب الطبع العقلائي، ومن جهة اُخرى فإنّ المسألة محلّ ابتلاء ولم ترد نصوص دالّة على الردع عنها. وهذه شواهد تؤكّد العمل بالخبر في ذلك الحين.
الطريق الرابع: لو لم تكن تلك السيرة منعقدة لكانت هناك سيرة بديلة منعقدة، ولكان البديل أمرا ظاهرا عادة ما يسجّله التاريخ والعلماء. وهي من قبيل: سيرة الأخذ بالظواهر، فلو لم تكن هناك سيرة من هذا القبيل لسجّل لنا التاريخ بديلها ولما خفيت على أحد. ويستكشف من هذا أنّه لم يكن هناك بديل.
وهناك طرق جزئية اُخرى يمكن استفادتها من خلال تحليل الروايات والنصوص الدينية، وذلك مثل: تحليل الروايات التي سئل فيها الإمام عن نجاسة أهل الكتاب باعتبار شربهم الخمر، وهذا يعكس أنّه لم تكن نجاسة أهل الكتاب أمرا مفروغا عنه، بل سألوا عنه بضم الخمر.
وباعتبار شرطية معاصرة السيرة للمعصوم تنتفي حجّية السير التي استحدثت بعد عصر المعصومين، وهي سير كثيرة وتستحدث على طول الزمان، مثل: السير التي تتعاهد عليها الدول وأتباعها، ومن الطبيعي ذلك باعتبار تطوّر العقل البشري واستحداث مستجدات حقيقية تفرض تصوّرات وارتكازات تختلف عمّا ألفه الإنسان في العهود الماضية[٤].
وبناءً على هذا الشرط خرّج الشيخ السبحاني العقود التالية من إمكانية الاستدلال بالسيرة على حجّيتها، وهي: عقد التأمين، وعقد حقّ الامتياز، وبيع السرقفلية، وعقود الشركات التجارية في أنواعها الرائجة في هذا العصر. ولإثبات صحّتها ينبغي التماس أدلّة اُخرى غير السيرة[٥].
قد يقال بإمكان القول بحجّية هذه السير من خلال القول بأنّ المعصوم لم يمض السيرة الفعلية التي كانت مستحدثة عهده، بل أمضى السيرة العقلائية النوعية الحاصلة فعلاًعهده أو التي ستستحدث لاحقا.
أو من خلال القول بأنّ إمضاء الشارع منصبّ لا على السلوك الخارجي المشهود، بل على الارتكاز الذهني الداعم للسلوك، والسير المستحدثة هي مصاديق لذلك الارتكاز.
أو من خلال القول بإجراء دراسة ومسح عام للسير الممضاة وغير الممضاة من قبل الشارع للخروج بقاعدة كلّية ورؤية عامّة من خلالها يمكننا تمييز الحجّة عن غير الحجّة من السير.
لكنّ هذه المحاولات تواجه ردودا غير قليلة ولا يبدو هناك من أخذ بها[٦].
الشرط الثاني: طرق إثبات إمضاء المعصوم للسيرة
إنّ هذا الشرط يطرح في السيرة العقلائية فحسب؛ باعتبار أنّ المفروض في سيرة المتشرعة كون المتشرعة عهد المعصوم قد أخذوا شرعية سيرتهم وسلوكهم من المعصوم مباشرة، وكانوا متمكنين من أخذ الحكم منه بطريق الحس أو ما يقارب من الحسن. فقد كان المعصوم في متناول أيديهم. ولا يعتدّ باحتمال خطأ أخذهم منه؛ باعتباره احتمالاً ضئيلاً وفق حساب الاحتمالات. ولذلك يقال بأنّ دلالة سيرة المتشرعة على قبول الشارع بمضمونها من قبيل دلالة البرهان الإنّي[٧].
ذكر الشهيد الصدر أنّه يمكن إثبات إمضاء المعصوم للسيرة من خلال الاستعانة بقضيتين شرطيتين:
الاُولى: لو لم يكن الشارع موافقا على مضمون السيرة لردع عنها.
الثانية: لو كان الشارع قد ردع عنها لوصل الردع إلينا، وحيث لم يصل فهو غير موجود، وهو في النتيجة كاشف عن الإمضاء على غرار الشرطية الاُولى.
وباعتبار أنّ الشرطية الاُولى ليست بديهية ولا من الملازمات العقلية الواضحة ذكر وجهان للاستدلال عليها:
الوجه الأوّل: يستحيل على المعصوم تخلّفه عن أداء رسالته في تبليغ الشريعة وبيان أحكامها من حلالها وحرامها وإلاّ كان مخالفا لما فرض عليه من مهمّة ومسؤولية تبليغ الشريعة.
وهذا الدليل ينطبق فيما إذا كانت السيرة العقلائية تشكّل خطرا على أغراض الشارع وإلاّ فلا داعي للمعصوم أن يبدي رأيه فيها.
الوجه الثاني: هناك دلالة حالية تكشف أنّ سكوت المعصوم لظاهرة عقلائية يحكي موافقته لها، بل قيل: إنّ السكوت أبلغ من البيان، فهو من قبيل: سكوت الأب على تصرّفات ابنه.
لكن الاستدلال الأخير قد يواجه موانع من حيثيتين:
الاُولى: إذا ولّد هذا الظهور الحالي جزما فبه وإلاّ فلا يدلّ على الموافقة.
الثانية: الظهور الحالي لا يقترن بدلالة لفظية وضعية وفي النتيجة لا يمكننا استفادة العموم و الإطلاق منه، و الاستدلال به يستدعي القول بـ حجية الظهور مطلقا سواءكان حاليا أم لفظيا.
وفيما يخصّ الشرطية الثانية فإنّ من المفروض أن يكون الردع متناسبا مع حجم الظاهرة، فإذا كان هناك سلوك شخصي يمكن ألاّ يصدر ردع تجاهه أو يصدر ردع يخفى علينا ولا ينقل أمّا إذا كانت الظاهرة عامّة فالمفروض بالردع أن يكون متناسبا معها حجما، بحيث يتكرّر ويبرز في المحال التي تجعل من المتشرعة أن ينتبهوا وينقلوه لنا حتّى لو كان النقل بأخبار ضعاف، بحيث إذا وصلت هكذا أخبار ثبت عدم تمامية الاستدلال بالسيرة. وذلك وفقا لحساب الاحتمالات[٨].
وبناءً على هذا الشرط خرّج الموارد التالية عن إمكانية الاستدلال بالسيرة عليها؛ لكونها متصادمة مع الكتاب والسنّة، وهي: اختلاط الرجال مع النساء في الأفراح والأعراس، والمعاملات الربوية بأنواعها، واشترط المرتهن الانتفاع من العين المرهونة، وتجويز اشتراط ربّ المال في المضاربة قدرا معيّنا من الربح لا بالنسبة. فبرغم أنّ السيرة حاليا منعقدة بهذا النحو إلاّ أنّها غير ممضاة من الشارع، بل يوجد ما يمنعها شرعا [٩].
وذكر الشهيد الصدر دليلاً آخر على إثبات إمضاء المعصوم، وهو قضية وجوب تعليمه الأحكام والحقائق الإسلامية. ولا يفرق هنا بين ما إذا كان مقدار السكوت ناقضا للغرض وغيره، لكن يبدو هناك ترديد لدى الشهيد في هذا الوجه، إذا قيّده بما لو تمّ، حيث قال: «فبهذا الوجه لو تمّ يتمّ إثبات إمضاء النكتة بسعتها، إذ لو لم تصحّ لكان على الإمام عليهالسلام الردع عنها من باب وجوب إيصال الحقائق الإسلامية وأحكام الإسلام»[١٠].
المصادر
- ↑ . الاُصول العامة للفقه المقارن: 185، السنة في الشريعة الإسلامية: 80، مباحث الاُصول الحائري 2: 92.
- ↑ . مجمع الأفكار ومطرح الأنظار 3: 154 و187، اُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: 314، الاُصول العامّة للفقه المقارن: 188، بداية الوصول في شرح كفاية الاُصول 9: 318.
- ↑ . اُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: 313.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 238 ـ 241، مباحث الاُصول (الحائري) 2: 101 ـ 121، الظنّ (الحيدري): 213 ـ 217.
- ↑ . اُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: 313.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 238 ـ 241، مباحث الاُصول (الحائري) 2: 101 ـ 121، الظنّ (الحيدري): 213 ـ 217.
- ↑ . مباحث الاُصول الحائري 2: 121، بحوث في علم الاُصول (الهاشمي) 4: 242.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 242 ـ 245، مباحث الاُصول (الحائري) 2: 12 ـ 13، الظنّ (الحيدري): 213 ـ 217.
- ↑ . اُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: 314.
- ↑ . مباحث الاُصول الحائري 2: 130.