ترک الاستفصال

من ویکي‌وحدت

ترك الاستفصال: اصطلاح أصولي يشير إلی قاعدةٍ يتمسّک بها الفقيه في استنباطاته، وأوّل من قال بالقاعدة هو الشافعي، بمعنی أنّ ترک التفصيل في المسألة يدلّ علی الإطلاق أو العموم أحياناً فيقال ترک الاستفصال دليل العموم. ومثال ذلك: ما روي من أنّ غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة أسلمن معه، فقال(ص) له: «اختر منهنّ أربعا وفارق سائرهنّ»، فلم يفصل النبي(ص) بين ما إذا كان العقد عليهنّ كان على نحو الترتيب أو الجمع.

تعريف الاستفصال لغةً

الاستفصال: طلب الفصل أو التفصيل. قال ابن فارس: «الفاء والصاد واللام كلمة صحيحة تدلّ على تمييز الشيء من الشيء وإبانته عنه»[١]، ويستعمل الاستفصال بمعنى طلب التمييز والتبيين، فيقال للقضاء بين الحقّ والباطل: الفصل، وليوم القيامة: يوم الفصل[٢]. ويستعمله الأصوليون في نفس هذا المعنى منفيا مقرونا بكلمة (ترك)، فيقال: ترك الاستفصال، وذلك عند البحث في أدوات العموم والإطلاق[٣].

ماهية ترك الاستفصال

ترك الاستفصال قاعدة يلجأ إليها الفقيه لاستفادة الإطلاق و العموم من الدليل الشرعي، وذلك في الروايات التي يُسأل فيها النبي(ص) أو الإمام عليه‏السلام حول موضوع متعدد الحالات ولايستفصل أي لايسأل السائل ليحدد ما يقصده من بين تلك الحالات المتعددة، فيجيب دون تعيين حالة معينة، فيستفيد الفقيه عموم الحكم وإطلاقه، إذ لو كان الحكم مختصّا ببعضها لما جاء الجواب مطلقا ومستوعبا، وإلاّ للزم الإغراء بالجهل[٤]، ومثال ذلك: ما روي من أنّ غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة أسلمن معه، فقال(ص) له: «اختر منهنّ أربعا وفارق سائرهنّ»[٥]. فلم يفصل النبي بين ما إذا كان العقد عليهنّ كان على نحو الترتيب أو الجمع[٦].
ومنه أيضا حديث فاطمة بنت أبي حبيش: إنّها كانت تستحاض فقال لها النبي(ص): «إذا كان دم الحيضة، فإنّه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلّي فإنّما هو عرق»[٧]، ولم يستفصل هل لها عادة قبل ذلك أو لا[٨]. وأوّل من قال بالقاعدة هو الشافعي فيؤثر عنه قوله في تقريرها: «ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزّل منزلة العموم في المقال»[٩].

الألفاظ ذات الصلة

حكاية الأحوال

تؤثر عن الشافعي قاعدة أخرى قد توهم منافاتها لقاعدة ترك الاستفصال، وهي: «حكاية الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال»[١٠]، ولكن الصحيح عدم التنافي بينهما؛ فإنّ مورد ترك الاستفصال هو الأقوال ومورد الثانية هو الأفعال، وتوضيح ذلك: إنّ ما كان فيه لفظ وحكم من النبي(ص) بعد السؤال عن قضية يحتمل وقوعها على وجوه متعددة، فيرسل الحكم من غير استفسار عن كيفية تلك القضية، فهو من ترك الاستفصال ويكشف عن شمول الحكم لجميع تلك الوجوه، إذ لو كان مختصّا ببعضها لبينه النبي(ص). وما كان مورده هو الوقائع التي حكاها الصحابي وليس فيها سوى مجرّد فعله(ص)، أو فعل من يترتّب الحكم عليه، فهو من حكاية الأحوال، ولا إطلاق ولا عموم في الفعل لكونه دليلاً صامتا[١١]. ومثال قاعدة حكاية الأحوال: ترديد النبي(ص) ماعزا أربع مرّات في أربعة مجالس[١٢]. فيحتمل أن يكون قد وقع ذلك اتفاقا، لا أنّه شرط، فيكفي فيه حمله على أقلّ مراتبه، ووقوع الإقرارات الأربعة في مجلس واحد.
وحديث أبي بكر لما ركع ومشى إلى الصف حتّى دخل فيه، فقال له النبي(ص): «زادك اللّه‏ حرصا فلاتعد»[١٣]؛ إذ يحتمل كون المشي غير كثير عادة، كما يحتمل الكثرة، فيحمل على ما لم يكثر، فلايبقى في الحديث حجّة على جواز المشي في الصلاة مطلقا[١٤]. فتبين أنّ القاعدتين مختلفتان تماما[١٥].

حكم قاعدة ترک الاستفصال

يقع الكلام حول القاعدة في أمرين:

الأمر الأوّل: حجّية القاعدة

هناك قولان في حجّية هذه القاعدة:

القول الأوّل: عدم الحجّية

وذهب إليه جماعة منهم الغزالي والرازي و العلامة الحلي، واستدلّ عليه باحتمال إجابة النبي(ص) أو الإمام عليه‏السلام وبيانهما الحكم بعد الاطّلاع على الحال، فلايثبت العموم[١٦].

القول الثاني: حجّية القاعدة

وذهب إليه الأكثر[١٧]، ومنهم السيّد المرتضى فإنّه قال: «إذا سئل عليه‏السلام عن حكم المفطر، فلايخلو جوابه من ثلاثة أقسام: إمّا أن يكون عام اللفظ، نحو أن يقول: كلّ مفطر فعليه الكفارة. والقسم الثاني: أن يكون الجواب في المعنى عاما، نحو أن يسأل عليه‏السلام عن رجل أفطر، فيدع الاستكشاف عمّا به أفطر، ويقول عليه‏السلام: عليه الكفّارة، فكأنّه عليه‏السلام قال: من أفطر فعليه الكفّارة. والقسم الثالث: أن يكون السؤال خاصّا، والجواب مثله، فيحل محلّ الفعل»[١٨].
واستدلّ للحجّية بأنّ مقتضى ترك الاستفصال في مقام الجواب وبيان الحكم مع وجود الاحتمال وتعدد الحالات والوجوه في السؤال هو عموم الحكم بلحاظ جميع تلك الحالات، وإلاّ للزم الإغراء بالجهل، واحتمال اطّلاع النبي وعلمه بالحال الخاصّة مرفوع بأصالة عدم العلم[١٩].

الأمر الثاني: شروط التمسّك بترك الاستفصال لإثبات الإطلاق

ذكرت الشروط التالية لإمكان التمسّك بترك الاستفصال لإثبات الإطلاق[٢٠]:
1. إذا كان مورد السؤال متعدد الوجوه.
2. إذا لم يكن هناك انصراف أو غلبة إلى صورة خاصّة.
3. ألاّ يكون النبي أو الإمام عالما بجهة وقوع القضية المسؤول عنها.
4. أن يكون في مقام بيان الحكم في تلك القضية متعددة الوجوه.
5. عدم وجود ظرف التقية.
6. عدم التعارض.
7. عدم ظهور حال يعين حال تلك القضية المسؤول عنها[٢١].

الهوامش

  1. . معجم مقاييس اللغة 4: 505، مادة «فصل».
  2. . أنظر: النهاية ابن الأثير 3: 451، لسان العرب 3: 3041، المصباح المنير: 474، مادة «فصل».
  3. . أنظر: المحصول الرازي 1: 392 ـ 393، نضد القواعد الفقهية: 151 وما بعدها، القواعد والفوائد 1: 205 ـ 209، الوافية: 114، القوانين المحكمة 1: 512، مفاتيح الأصول: 151.
  4. . أنظر: تذكرة الفقهاء 8: 317، مختلف الشيعة 1: 270، إيضاح الفوائد 1: 229، جامع المقاصد 2: 120، مدارك الأحكام 2: 383، الحدائق الناضرة 3: 226، رياض المسائل 14: 195، جواهر الكلام 1: 116، 17: 208، 43: 387، كتاب الخمس الشيخ الأنصاري: 141، ينابيع الأحكام: 180، مستمسك العروة 8: 165، بحوث في شرح العروة الوثقى (الصدر) 1: 139، فقه الصادق 11: 209، مغني المحتاج 3: 196، نيل الأوطار 3: 114.
  5. . أنظر: مسند أحمد 2: 80 ح 4595 من مسند عبد اللّه‏ بن عمر، سنن ابن ماجة 1: 628 كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة ح 1953.
  6. . والإطلاق المستفاد هنا يحتجّ به على أبي حنيفة الذي يرى أنّ العقد لو كان على نحو الجمع ـ بأن عقد عليهنّ بعقد واحد ـ انفسخ عقدهنّ، ولو كان مترتّبا تعين إبقاء الأربع الاُول. أنظر: الخلاف 4: 324، بدائع الصنائع 3: 445، القواعد والفوائد 1: 206، تمهيد القواعد: 170.
  7. . سنن أبي داود 1: 75 ح 286 كتاب الطهارة باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة.
  8. . نضد القواعد الفقهية: 153.
  9. . المحصول الرازي 1: 392، مغني المحتاج 3: 196.
  10. . حواشي الشرواني 7: 337.
  11. . أنظر: القواعد والفوائد الشهيد الأوّل 1: 206.
  12. . أنظر: صحيح مسلم 3: 1318، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا.
  13. . مسند أحمد 5: 39.
  14. . القواعد والفوائد 1: 206 وما بعدها، القوانين المحكمة 1: 516 وما بعدها.
  15. . أنظر: حواشي الشرواني 7: 337 ـ 338، القواعد والفوائد 1: 206، القوانين المحكمة 1: 516 وما بعدها، جواهر الكلام 28: 371.
  16. . المستصفى: 235، المحصول الرازي 1: 392 ـ 393، تهذيب الوصول: 133.
  17. . التمهيد الأسنوي: 377، تمهيد القواعد: 170 ـ 171، هداية المسترشدين 3: 145، كفاية الأصول: 425، مصباح الأصول 3: 226، الحدائق 5: 133، مفتاح الأحكام: 120 وغيرها.
  18. . الذريعة 1: 292.
  19. . تمهيد القواعد: 171، القوانين المحكمة 1: 512 ـ 516 وما بعدها ويقال في إيضاح أصالة علم النبي أو الإمام في المقام: «إنّ علوم المعصومين عليهم‏السلام أيضا حادثة وكلّ حادث مسبوق بالعدم الأزلي يقينا ولايجوز نقض اليقين إلاّ بيقين مثله لـ الاستصحاب ودلالة الأخبار الصحيحة، وما يقال: إنّ ثبوت علمهم عليهم‏السلام بنفس الأمر في الجملة ممّا لا شكّ فيه وهو يناقض قولنا لا شيء من العلم بحاصل لهم فثبوت بعض العلوم لهم يقينا ينقض عدم ثبوت العلم لهم بشيء يقينا فلايمكن الاستدلال بالقضية الكلية في المقام فهو كلام ظاهري، إذ ملاحظة اليقين والشكّ بالنسبة إلى كلّ واحد من العلوم لا بالنسبة القضايا المنتزعة عنها فلايجوز نقض اليقين بعدم كلّ العلم إلاّ بحصول اليقين بحصوله، وما يقال: إنّ القضية الجزئية متيقنة الحصول وأنّ هذا الشكّ إنّما حصل من جهة هذا اليقين ونقض اليقين السابق إنّما هو بالشكّ الحاصل من يقين آخر ولايظهر اندراج هذا الشك في النهي الوارد في قولهم عليهم‏السلام: «لاينقض اليقين بالشكّ» فهو أيضا في غاية الوهن أمّا أوّلاً فلأنّا نمنع كون الشك حاصلاً من جهة هذه القضية، بل قد يحصل الشك مع عدم العلم بهذه القضية أيضا. وأمّا ثانيا فلأنّ لفظ الشكّ واليقين عام في الحديث ويشمل جميع الأفراد. وأمّا ثالثا فلأنّ كلّ معلول يستحيل وجوده في الخارج بدون وجود علّته وإن كانت العلّة نفس الشكّ والوهم، فالشك قد يحصل بسبب حصول الوهم وقد يحصل بسبب أمر يقيني، وعلى أي التقديرين إنّما تسبب عن شيء يقيني، فإن بنى على ذلك لايوجد مورد للرواية كما لايخفى...».
  20. . يلاحظ أنّ جل هذه الشروط معتبرة في استفادة كلّ إطلاق وإن كان بغير ترك الاستفصال أيضا.
  21. . أنظر: القواعد والفوائد 1: 205 وما بعدها، مصباح الأصول 3: 226، الطهارة السيد مصطفى الخميني 1: 63، بحوث في شرح العروة الوثقى (الشهيد الصدر) 2: 200، مشارق الشموس 1: 297.