تداخل الأسباب

تداخل الأسباب: اصطلاحٌ أصوليٌ بمعنی کفاية الفعل الواحد عن الأسباب المتعددة، کالوضوء الواحد عن البول والنوم والجنابة والحيض. فهل هذه الأسباب عند اجتماعها توجب حکماً وتکليفاً واحداً هو الوضوء أو لا؟ فعند ما قلنا بتداخل الأسباب نريد أنّ البول والنوم مثلاً يتداخلان من حيث السببيّة ويوجبان معاً وضوءاً واحداً کما أنّ أحدهما بنفسه يوجب ذلک. وأما إذا لم نقل بتداخل الأسباب فيجب علی المکلّف من حيث السبب وضوءان: وضوء لأجل النوم ووضوء لأجل البول. وهذا ما يسمّی بتداخل الأسباب أو عدم تداخلها.

الأقوال في تداخل الأسباب

اختلف الأصوليون و الفقهاء فيه على أقوال، هي:

القول الأوّل: عدم التداخل

ويعبّر عنه بأصالة عدم التداخل، وهو المشهور بينهم[١]. وذكرت له عدّة استدلالات نشير إليها فيمايلي:
أ ـ وهو لـ العلامة الحلي، فقد استدلّ على عدم التداخل: بأنّه إذا تعاقب السببان أو اقترنا، فإمّا أن يقتضيان مسببين مستقلين أو مسببا واحدا أو لايقتضي شيئا، أو يقتضي أحدهما شيئا دون الآخر، والثلاثة الأخيرة باطلة فيتعيّن الأوّل[٢].
ب ـ وهو لـ صاحب الكفاية وبيانه: إنّ ظاهر الجملة الشرطية، حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه. ومقتضى ذلك تعدّد الجزاء عند تعدّد الشرط، فإذا ورد: «إذا بلت فتوضأ» و«إذا نمت فتوضأ»، فظاهرهما تعدّد الوضوء عند تحقّق السببين، فلو قلنا: باجتماع السببين وتداخلهما ليكتفى بوضوء واحد، فإنّه يستلزم اجتماع وجوبين ـ وجوب الوضوء للبول، ووجوب الوضوء للنوم ـ على الوضوء، أي أنّه يكون محكوما بحكمين متماثلين، وهو واضح الاستحالة كالمتضادّين[٣].
ج ـ وهو لـ المحقّق النائيني، وبيانه يتمّ من خلال أمرين: الأوّل: إنّ كلّ قضية شرطية ترجع إلى قضية حقيقية، كما أنّ كلّ قضية حقيقية تنحل إلى قضية شرطية، وعليه فكما أنّ الحكم في القضية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه إلى أحكام متعدّدة، كذلك ينحل الحكم في القضية الشرطية بانحلال شرطه، فلا فرق من جهة الانحلال بينهما، وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشرط وجودا، كما يتعدد بتعدد موضوعه في الخارج. وأمّا تعدد الحكم بتعدد شرطه جنسا، فهو إنّما يستفاد من ظهور كلّ من القضيتين الشرطيتين في أنّ كلاً من الشرطين مستقل في ترتّب الجزاء عليه مطلقا، فإنّ ظاهر قضية: «إذا بلت فتوضأ» هو ترتّب وجوب الوضوء على وجود البول، ولو قارنه أو سبقه النوم. وكذلك ظاهر قضية: «إذا نمت فتوضأ» هو وجوب الوضوء على النوم، ولو قارنه أو سبقه البول مثلاً، فإطلاق كلّ من القضيتين يستفاد منه استقلال كلّ من النوم والبول في ترتّب وجوب الوضوء عليه على جميع التقادير، ولازم ذلك هو تعدد وجوب الوضوء عند حصول الشرطين في الخارج. الثاني: إنّ تعلّق الطلب بشيء لايقتضي إلاّ إيجاد ذلك الشيء خارجا، ونقض عدمه المطلق، وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على أوّل وجود من وجودات الطبيعة، فيكون الإتيان به مجزئا في مقام الامتثال عقلاً. فإذا فرض تعلّق طلبين بماهية واحدة، كان مقتضى كلّ منهما إيجاد تلك الماهية، فيكون المطلوب حقيقة هو إيجادها ونقض عدمها مرّتين، كما هو الحال بعينه في تعلّق إرادتين تكوينيتين بماهية واحدة، فتعدد الإيجاد تابع لتعدد الإرادة تشريعية كانت أم تكوينية[٤]. وبالجملة: إنّ كلّ أمر في نفسه لايدلّ على الطلب المقتضي لإيجاد متعلّقه، وأمّا كون هذا الطلب واحدا أو متعددا فليس في الأمر بهيئته ومادّته دلالة عليه. نعم، إذا لم يكن هناك ما يقتضي تعدّد الطلب وقد فرض تعلّق الأمر بالطبيعة كان الطلب واحدا قهرا، إلاّ أنّه مِن جهة عدم المقتضي لتعدده لا مِن جهة دلالة اللفظ عليه، فإذا فرض ظهور القضية الشرطية في الانحلال وتعدد الطلب أو فرض تعدّد الشرطية في نفسها، كان ظهور القضية في تعدّد الحكم موجبا لارتفاع موضوع الحكم بوحدة الطلب. ولو تنزل عن ذلك وسلم بظهور الجزاء في وحدة الطلب، فإنّه من جهة عدم ما يدلّ على التعدد، فإذا دلّت الجملة الشرطية بظهورها في الانحلال أو من جهة تعددها في نفسها على تعدد الطلب، كان هذا الظهور ـ لكونه لفظيا ـ مقدّما على ظهور الجزاء في وحدة الطلب[٥].

القول الثاني: التداخل

ويعبر عنه بأصالة التداخل، وقد ذهب إليه جماعة[٦]. وذكروا له عدة أدلّة، وهي:

الدليل الأول: ما ذهب إليه فخر المحققين

ذهب فخر المحقّقين[٧] إلی ابتناء القول بالتداخل وعدمه على كون الأسباب الشرعية معرّفات لا مؤثّرات، أي علل وأسباب حقيقية، فلا مانع من اجتماع معرفين أو أكثر للدلالة على معرّف واحد. وأورد عليه: بأنّ قضية كون الأسباب الشرعية معرفات أو علل وأسباب حقيقية ممّا لا محصل لها؛ لأنّه إن كان المراد من الأسباب الشرعية هي موضوعات التكاليف، فدعوى كونها مؤثّرة أو معرفة ممّا لاترجع إلى محصل؛ لأنّ موضوع التكليف ليس بمؤثّر ولا معرف إلاّ إذا كان المراد من المؤثّر عدم تخلّف الأثر عنه، فيستقيم؛ لأنّ الحكم لايختلف عن موضوعه، إلاّ أنّ إطلاق المؤثّر على هذا الوجه ممّا لايخلو من مسامحة. وإن كان المراد من الأسباب المصالح والمفاسد، فهي مؤثّرة باعتبار (من حيث تبعية الأحكام لها) ومعرّفة باعتبار (من حيث إنّها لاتقتضي الإطراد والانعكاس) كما هو شأن الحكمة إن كان المراد من المعرّف هذا المعنى، أي عدم الاطّراد والانعكاس. وعلى كلّ حال، الكلام في المقام إنّما هو في الشروط الراجعة إلى موضوعات التكاليف، وإطلاق المعرّف على ذلك ممّا لا معنى له[٨].

الدليل الثاني: امتناع أن يقع الشيء الواحد متعلّقا لوجوبين

إنّ القائلين بالتداخل يعترفون بظهور حدوث الجزاء عند حدوث الشرط إلاّ أنّهم يقولون: لايمكن الأخذ به؛ لأنّ متعلّق الوجوب في كلا الموردين شيء واحد، وهو طبيعة الوضوء، ومن المعلوم أنّه يمتنع أن يقع الشيء الواحد متعلّقا لوجوبين ومتعلّقا لحكمين متماثلين، والمفروض أنّ متعلّق الوجوب في كلّيهما طبيعة الوضوء لا طبيعة الوضوء في أحدهما والوضوء الآخر في الثاني حتّى يصحّ تعلّق الوجوبين بتعدد المتعلّق، فإطلاق الجزاء (متعلّق الوجوب) بمعنى أنّ الوضوء بما هو هو موضوع لا هو مع قيد، كلفظ «آخر»، يقتضي التداخل. واُجيب عنه: بأنّه لابدّ من رفع اليد عن الظهور الذي يتمسّك به القائلون بالتداخل، وهو التمسّك بوحدة المتعلّق وكون الموضوع للوجوبين هو نفس الطبيعة التي تقتضي وحدة الحكم ولاتقبل تعدده، بتقديم ظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء عند كلّ شرط على إطلاق الجزاء في وحدة المتعلّق، فتكون قرينة على تقدير لفظ مثل «فرد آخر» أو لفظ «مرة اُخرى» في متعلّق أحد الجزاءين، وعندئذٍ يكون المتعلّق للوجوب في إحدى القضيتين، هو الطبيعة كما يكون المتعلّق للوجوب في القضية الاُخرى الفرد الآخر[٩].

الدليل الثالث: أصالة التداخل

إنّ الدليل الذي ذكروه لأصالة عدم التداخل وهو: إنّ كلّ سبب يقتضي مسببا، والأسباب المتعدّدة تقتضي مسببات متعدّدة، إنّما يصدق في الأسباب والمسببات العقلية لا الشرعية[١٠]. ويمكن الجواب عليه: بأنّ الأسباب الشرعية كالعقلية في أنّ لها مسببات لايمكن أن تختلف عنها، وهذا ما يمكن استفادته من كلام الاُصوليين[١١].

القول الثالث: التفصيل

ومفاد القول الثالث هو التفصيل بين تعدّد الأسباب شخصا مع اتحادها جنسا، كسجدتي السهو المتعدّدة الواجبة بسبب الكلام متعدّدا، وبين تعدّدها شخصا وجنسا كسجدتي السهو الواجبة بسبب الكلام وبسبب نسيان التشهد، فيلتزم بالتداخل في الأوّل دون الثاني. وهذا التفصيل لم يذكر صاحبه له وجها ودليلاً[١٢]. وأورد عليه: بأنّه لا وجه للتفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس وعدمه، واختيار عدم التداخل في الأوّل، والتداخل في الثاني، إلاّ توهم عدم صحّة التعلّق بعموم اللفظ في الثاني؛ لأنّه من أسماء الأجناس، فمع تعدد أفراد شرط واحد لم يوجد إلاّ السبب الواحد، بخلاف الأوّل؛ لكون كلّ منهما سببا، فلا وجه لتداخلهما؛ وهو فاسد. فإنّ قضية إطلاق الشرط في مثل: «إذا بلت فتوضأ» هو حدوث الوجوب عند كلّ مرّة ولو بال مرّات، وإلاّ فالأجناس المختلفة لابدّ من رجوعها إلى واحد فيما جعلت شروطا وأسبابا لواحد؛ لأنّ الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لاتكون أسبابا لواحد، هذا كلّه فيما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلاً للتعدّد، وأمّا ما لايكون قابلاً لذلك، فلابدّ من تداخل الأسباب فيما لايتأكّد المسبب، ومن التداخل فيه فيما يتأكّد[١٣].

المصادر

  1. . كفاية الأصول: 202، أنظر: الشرح الكبير ضمن كتاب المغني 10: 141 ـ 142.
  2. . أنظر: مختلف الشيعة 2: 427 ـ 428، مناهج الوصول إلى علم الأصول 2: 197.
  3. . أنظر: كفاية الأصول: 202.
  4. . أنظر: أجود التقريرات 2: 266 ـ 268.
  5. . أجود التقريرات 2: 267 ـ 268.
  6. . مشارق الشموس: 61، الذخيرة: 8 ، الحدائق 2: 197، المجموع 19 : 46.
  7. . إيضاح الفوائد 1: 145.
  8. . فوائد الأصول 1 ـ 2: 492.
  9. . الوسيط في أصول الفقه 1: 179.
  10. . أنظر: مشارق الشموس: 61.
  11. . فوائد الأصول 1: 412، مصباح الفقاهة 6: 186 ـ 187.
  12. . أنظر: السرائر 1: 258.
  13. . كفاية الأصول: 205 ـ 206.