الفرق بين المراجعتين لصفحة: «التعارض»

أُضيف ٩٠٬٩٧٠ بايت ،  ٢٢ يونيو ٢٠٢١
لا يوجد ملخص تحرير
لا ملخص تعديل
لا ملخص تعديل
سطر ٣٥٢: سطر ٣٥٢:
لكن رُدّ هذا بأنّه كلام بلا دليل وقد يساق الكلام لبيان المفهوم، كما لو قيل: سافر إن كان الطريق آمنا. فالمراد بيان عدم السفر عند انعدام الأمان.
لكن رُدّ هذا بأنّه كلام بلا دليل وقد يساق الكلام لبيان المفهوم، كما لو قيل: سافر إن كان الطريق آمنا. فالمراد بيان عدم السفر عند انعدام الأمان.
ويرى البعض: إنّ المقامات مختلفة وينبغي البحث عن القرائن المكتنفة بالكلام لاستخلاص النتيجة، ولا يمكن ذكر ضابطة كلّية هنا<ref>. أنوار الأصول 3: 461 ـ 462.</ref>.
ويرى البعض: إنّ المقامات مختلفة وينبغي البحث عن القرائن المكتنفة بالكلام لاستخلاص النتيجة، ولا يمكن ذكر ضابطة كلّية هنا<ref>. أنوار الأصول 3: 461 ـ 462.</ref>.
===الحالة الثانية: التعارض المستقرّ===
هناك أصلان يحكمان التعارض المستقرّ، هما: الأصل الأوّلي والأصل الثانوي، وفي كلٍّ منهما نقاشات وبحوث.
====الأصل الأوّلي في التعارض المستقرّ====
النقاش المطروح هنا هو ماهية الأصل الأوّلي، أي علاج التعارض مع غضّ النظر عمّا ورد من أدلّة كالروايات الواردة في هذا المجال.
وقد طرحت شبهة هنا، وهي الثمرة المتوخاة من هكذا أصل مع وجود أدلّة عالجت التعارض، إلاّ أنّ البعض ذكر لهذا الأصل ثمرة تظهر في تعارض غير الأخبار، كالتعارض بين آيتين من حيث الدلالة أو بين الخبرين المتواترين من حيث الدلالة كذلك، وكذا تعارض الأمارات في الشبهات الموضوعية، كالتعارض بين بيّنتين أو فردين من قاعدة اليد، كالمال الواقع تحت استيلاء مدعيين<ref>. مصباح الأصول 3: 365.</ref>.
وفي هذا المجال يوجد أكثر من رأي.
أحدها: الجمع بين الدليلين، من باب قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح. ذهب إلى هذا ابن أبي جمهور الإحسائي<ref>. غوالي اللئالئ 4: 136.</ref> والشيخ الطوسي، باعتبار أنّ هذا هو منهجه في (تهذيب الأحكام) وغيره، والشهيد الثاني<ref>. تمهيد القواعد: 283 ـ 284 القاعدة السابعة والتسعون.</ref> والسيّد اليزدي<ref>. كتاب التعارض: 127 ـ 128.</ref>.
( الجمع مهما أمكن أولى من الطرح)
ثانيها: ما ذهب إليه المحقّق العراقي من التفصيل بين ما إذا كان هناك تنافٍ بين مدلول الخبرين فيحكم بالتساقط المطلق، وبين ما إذا لم يكن تنافٍ بين مدلوليهما وإمكانية صدقهما وإمكانية كذب أحد الراويين، بأن علم بكذب أحدهما المستلزم لدلالة كلٍّ منهما ـ ملازمة ـ على كذب  الآخر، فيحكم بالحجّية وتنجيز مدلولهما على المكلّف.
واستدلّ على رأيه بأنّه في الفرض الثاني وإن كان كلٌّ منهما يكذّب الآخر بالالتزام، إلاّ أنّه لا يدلّ على عدم مطابقة مدلوله للواقع، فقد يكون المدلول ثابتا في الشرع ومرادا له، ما يعني عدم ترتّب أثر عملي على هذه الدلالة الالتزامية<ref>. مقالات الأصول 2: 471 ـ 473، فوائد الأصول 4: 755 الهامش 1، بحوث في علم الأصول (الهاشمي) 7: 256.</ref>.
لكن رُدّ هذا الرأي بأكثر من رد، من قبيل انتقاض دليله بموارد التكاذب بين الأمارتين صريحا بحسب مدلولهما المطابقتين، كما إذا أخبرت أحدهما بصدور كلام معيّن من المعصوم ونفت الاُخرى صدور الكلام ذاته عن المعصوم، فمن الواضح ارتكازا وعقلائيا هنا وجود تعارض بينهما، بينما يثبت هذا الرأي الحجّية لهما<ref>. بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 257.</ref>.
ثالثها: التساقط، وهو مذهب مشهور أصوليي الشيعة<ref>. كفاية الأصول: 441، مصباح الأصول 3: 365، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 237، المحكم في أصول الفقه 6: 133.</ref>.
استدلّ على هذا الرأي بالنحو التالي: إذا كان التعارض بين دليلين ثبتت حجّيتهما ببناء العقلاء، كما في تعارض ظاهر آيتين أو خبرين متواترين، فمن الواضح أنّ بناء العقلاء لم ينعقد على العمل بظاهر كلام يعارضه كلام آخر، وإن كان دليل حجّية الدليلين المتعارضين دليلاً لفظيا ـ كما في البينة - فالاحتمالات المتصوّرة بالتصوّر الأوّلي للدليل أربعة:
1 ـ أن يشمل دليل الحجّية كلا المتعارضين.
2 ـ ألاّ يشملهما أصلاً.
3 ـ أن يشمل أحدهما بعينه دون الآخر.
4 ـ أن تقيّد حجّية كلٍّ منهما بالأخذ به، ونتيجة ذلك التخيير وجواز الأخذ بأيٍّ منهما شاء المكلّف.
لا يمكن الأخذ بالاحتمال الأوّل لعدم إمكان التعبُّد بالمتعارضين، فالتعبُّد بهما يرجع إلى التعبُّد بالمتناقضين، وهو غير معقول.
ولا يمكن الأخذ بالاحتمال الثالث لبطلان الترجيح بلا مرجّح.
ولا يمكن الأخذ بالاحتمال الرابع؛ لأنّ لازمه ألاّ يكون شيء من المتعارضين حجّة في فرض عدم الأخذ بهما أصلاً، فيكون المكلّف مطلق العنان بالنسبة إلى الواقع، فيتمسّك بالأصول اللفظية أو العملية. وهذا ما لا يلتزم به القائل بالتخيير كذلك.
فيبقى الاحتمال الثاني، أي عدم شموله لكلّيهما دون إشكال<ref>. مصباح الأصول 3: 365 ـ 366.</ref>.
لكن اختلف في هذا الدليل، فذكر الشيخ الأنصاري<ref>. فرائد الأصول 4: 37 ـ 38.</ref> وتبعه بعض المتأخّرين<ref>. مصباح الأصول 3: 370.</ref> أنّ هذا مبني على القول بالطريقية في حجّية الأمارات (كما هو رأي المشهور) أمّا على القول بالسببية والموضوعية فإنّ التعارض هنا يدخل في باب التزاحم، فينبغي ترجيح أحدهما أو التخيير بينهما.
وفصّل المحقّق الخراساني بنحو آخر<ref>. كفاية الأصول 439 ـ 440.</ref>، وذهب المحقّق النائيني إلى أنّ هذا واضح بناءً على السببية الموافقة للتصويب إذا كان التعارض لأجل تضادّ المتعلّقين أمّا إذا كان لأجل اتّحاد المتعلّقين فممنوع<ref>. فوائد الأصول 4: 759 ـ 760.</ref>.
إلاّ أنّ البعض الآخر ذهب إلى عدم الفرق هنا بين ما إذا فسّرنا الحجّية بالطريقية المحضة أو السببية بمختلف أنحائها حتّى المنسوبة إلى الأشاعرة<ref>. المحكم في أصول الفقه 6: 136 ـ 137.</ref>، بل عدّ دخول التعارض هنا في التزاحم مستحيلاً؛ إذ التزاحم عبارة عن كون المكلّف عاجزا في مقام الامتثال مع صحّة كلّ واحد من التكليفين في مقام الجعل، واجتماع التكليفين في المقام محال؛ لأنّ ذلك يستلزم اجتماع المصلحة وعدمها في شيء واحد، سواء عجز المكلّف عن الامتثال أم لم  يعجز<ref>. مصباح الأصول 3: 372.</ref>.
يردّ الشهيد الصدر الدليل المزبور ويذهب إلى إمكانية الالتزام بالاحتمال الرابع دون لزوم محذور<ref>. بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 238.</ref>، وبرغم أنّه يذهب إلى كون الأصل الأوّلي هنا هو التساقط لكنّ طريقة استدلاله تختلف، إذ يذهب إلى إمكانية التخيير والترجيح أو التساقط حسب اختلاف فروض التعارض، وبعد تفصيلات وتفريعات كثيرة<ref>. المصدر السابق: 238 ـ 255.</ref>، يخرج بالنتيجة التالية: دليل الحجّية العام إن كان لفظيا تعبّديّا وكان التنافي بين الدليلين بنحو التناقض فيكون الحكم التساقط، وإذا كان التنافي بينهما بنحوالتضادّ فالحكم عندئذٍ هو حجّية الدليلين في الجملة، وينتج عن ذلك نفي دليل ثالث، أمّا إذا كان التعارض بينهما عرضيا فالحكم هو إعمال كلا الدليلين في مدلوليهما المطابقيين في خصوص ما إذا علم بصدق أحدهما وكانا إلزاميين...<ref>. بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 255 ـ 256.</ref>
لكن عمليا يذهب في مجال الأدلّة الظنّية، مثل الخبرين، إلى أنّ دليل حجّيتهما العام ليس لفظيا تعبّديا، بل لبيّا مثل السيرة العقلائية، فالأصل الأوّلي في التعارض عندئذٍ هو التساقط دون شيء آخر؛ لأنّ هذا مقتضاهما عند التعارض، ولم تنعقد الحجّية ولم تبنَ على ارتكاز يقتضي الحجّية في حالة التعارض<ref>. بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 255 ـ 256.</ref>.
====الأصل الثانوي في التعارض المستقرّ====
يتأتّى الأصل الثانوي بعد حالة حصول علم خارجي لدينا بعدم تساقط الدليلين أو بحجّية أحدهما.
وأهمّ الآراء في هذا المجال هي:
الرأي الأوّل: الترجيح وفق أحد المرجّحات وإن فقدت فيُعمل التخيير. وهو رأي المشهور.
استدلّ على هذا الرأي باُمور:
1 ـ الاجماع وسيرة العلماء في العمل وفق المرجّحات عند حصول التعارض، ونسب إلى الصحابة والسلف<ref>. الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 460.</ref>.
لكن ردّ هذا الدليل بأنّ الكثير من العلماء لم يتعرّضوا لهذا البحث، فلا يمكن القول بحصول الإجماع هنا ، أو كون الاجماع مدركيا، مدركه الأخبار، فلا يكون حجّة.
2 ـ الدليل العقلي، وقد بيّن بأنحاء:
منها: إذا تعارض الظنّان وكان أحدهما أرجح من الآخر يتعيّن العمل بالراجح عرفا، فكذا شرعا.
منها: لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح، مع أنّه يقبح العمل بالمرجوح.
3 ـ تقرير النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله معاذا لمّا بعثه قاضيا إلى اليمن في ترتيب الأدلّة وتقديم بعضها على بعض<ref>. نهاية الوصول 5: 286 ـ 287، المحصول الرازي 2: 443 ـ 444، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 463 وما بعدها، البحر المحيط 6: 130 ـ 131 ، المحكم في أصول الفقه 6 : 165 ـ 166، أنوار الأصول 3 : 502  ـ  503.</ref>.
4 ـ الروايات الكثيرة التي لا تخلو من نقاشات<ref>. كتاب التعارض: 238 ـ 270، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 315 ـ 392، المحكم في أصول الفقه 6: 167 ـ 173.</ref>، نذكر نموذجين منها:
النموذج الأوّل: مقبولة عمر بن حنظلة والتي جاء فيها: قال: سألت أبا عبداللّه‏ عليه‏السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في ديْن أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلُّ ذلك؟ قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: «مَن تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت...» قلتُ: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران مَن كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإنّي جعلتُه عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ...» قلتُ: فإن كان كلّ واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يُلتفت إلى ما يحكم به الآخر». قال: فقلتُ: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال: فقال: «يُنظر إلى ما كان من روايتيهما عنّا في ذلك الذي حكما به المُجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حُكمنا ويُترك الشاذُ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة أمر بيّن رُشده فيتّبع وأمرٌ بيّن غيّه فيُجتنب وأمرٌ مشكل يُردّ حُكمه إلى اللّه. قال رسول اللّه‏  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: حلالٌ بيّن وحرامٌ بيّن وشبهات بيْن ذلك، فمَن ترك الشبهات نجا...» قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاتُ عنكم؟ قال: «يُنظر فما وافق حُكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويُترك ما خالف حُكمه حُكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة». قلت: جُعلت فداك، إن رأيت أن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: «ما خالف العامّة ففيه الرشاد». فقلتُ: جعلتُ فداك، فإن وافقهما الخبران جميعا؟ فقال: «يُنظر إلى ما هُم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيُترك ويؤخذ بالآخر» قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات»<ref>. وسائل الشيعة 27: 107، كتاب القضاء الباب 9 من أبواب صفات القاضي، باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفية العمل بها ح 1.</ref>.
وهي ظاهرة في وجوب الترجيح.
لكن أشكل على الاستدلال بها في موارد:
الأوّل: كون سندها ساقطا لعدم ورود توثيق لعمر بن حنظلة.
وردّ هذا الإشكال بأنّ المشهور عمل بها فيجبر ضعف  سندها، أو أنّه يمكن توثيق من نقل عنه بعض العدول مثل صفوان بن يحيى، حيث إنّه نقل عن عمر بن  حنظلة، وقد تكون هناك وجوه اُخرى لتصحيح السند.
الثاني: كون موردها اختلاف الحكمين في مستند حكمهما، ولا تشمل تعارض الروايات في مقام الفتوى.
ردّ هذا الإشكال بردود:
منها: إنّ التخيير والترجيح مطروح في المسائل الأصولية، والأخير (الترجيح) يعني اعتبار الراجح حجّة شرعية وطريقا محرزا إلى الواقع، وبهذا لا يفرّق بين باب الحكومة وباب الفتوى.
منها: كون صدر الرواية «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا» مطلق وكأنّه بصدد بيان الوظيفة الكلّية عند تعارض الأخبار.
الثالث: ذيل الرواية «إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك» ظاهر في كون الترجيح يختصّ بزمن الحضور، فلا دليل على لزوم الترجيح في زمن الغيبة.
وردّ هذا بأنّ اختصاص التوقّف وعدم العمل بهما في زمن الحضور لا يعني اختصاص الترجيح بكلّ أصنافه في عهد الحضور.
الرابع: كونها معارضة برواية سماعة بن مهران التي جاء فيها: قلتُ لأبي عبد الله عليه‏السلام يرد علينا حديثان، واحد يأمرنا بالأخذ به، والآخر ينهانا؟ قال عليه‏السلام: «لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأل». قلت: لا بدّ أن يعمل بواحد منهما، قال: «خذ بما فيه خلاف العامّة»<ref>. وسائل الشيعة 27: 122 كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 42.</ref>.
ووجه المعارضة أنّ المقبولة تأمر بالتوقّف بعد فقد المرجّحات، بينما الأخيرة تأمر بالترجيح بعد عدم إمكان التوقّف، لحضور وقت العمل أو ما شابه.
ردّ هذا الإشكال بأنّ الأصحاب تركوا العمل بروايه سماعة وأعرضوا عنها، وإعراضهم يضعّفها، بينما تقوى المقبولة بعملهم وفقها<ref>. فوائد الأصول 4: 771 ـ 773، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 367 ـ 389، أنوار الأصول 3: 486 ـ 491.</ref>.
النموذج الثاني: مرفوعة زرارة التي رواها ابن أبي الجمهور الإحسائي في (غوالي اللئالئ) عن العلاّمة مرفوعا إلى زرارة قال: سألتُ أبا جعفر عليه‏السلام فقُلتُ له: جُعلت فداك، يأتي عنكم الخبران والحديثان المعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال: «يا زرارة، خُذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر». فقلت: يا سيّدي، إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال: «خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك». فقلت: إنّهما معا عدلان مرضيان موثّقان؟ فقال: «أنظر ما وافق منهما العامّة فاتركه وخذ بما خالف، فإنّ الحقّ فيما خالفهم». قلت: رُبّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال: «إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر». قلتُ: إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال: «إذا فتخيّر أحدهما فتأخذُ به ودع الآخر»<ref>. غوالي اللئالئ 4: 133، أنوار الأصول 3: 492.</ref>.
وهي كسابقتها ظاهرة في الترجيح.
لكن أشكل عليها بعدّة إشكالات:
منها: كون السند ضعيفا ساقطا عن الاعتبار بسبب الرفع، ومع أنّ صاحب (غوالي اللئالئ) نقلها عن العلاّمة إلاّ أنّها غير موجودة في كتبه حسب تتبّع البعض.
ولذلك أسقطها البعض مثل الشهيد الصدر عن الاعتبار، بينما سعى البعض الآخر لتبرير صحّة العمل بها؛ باعتبار كونها موافقة لسيرة العلماء.
منها: العمل بالمرفوعة يقتضي عدم العمل بها، حيث إنّها معارضة بالمقبولة من حيث تقديمها الشهرة على صفات الراوي، مع أنّ المقبولة تقدّم الصفات على الشهرة، وبناءً على هذه المرفوعة ينبغي تقديم المقبولة على المرفوعة؛ لأنّها المشهورة في هذا الباب.
لكن ردّ الإشكال الأخير بأنّه لا تعارض بين الروايتين؛ باعتبار كون صدر المقبولة ورد في باب الحكم والفتوى لا الخبرين المتعارضين، والمتعلّق بباب تعارض الخبرين هو: «ينظر إلى ما كان من روايتيهما المجمع عليه...» وأوّل المرجّحات في هذا المقطع هو الشهرة كما هو الحال في المرفوعة، ولأجل هذا اعتبرها المحقّق النائيني مؤيّدة للمقبولة<ref>. فرائد الأصول 4: 68 ـ 70، فوائد الأصول 4: 773 ـ 774، بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 370، أنوار الأصول 3: 492 ـ 493.</ref>.
وهناك روايات اُخرى وردت في هذا الباب، تأتي ذيل بحث الترجيح، استدلّ بها على هذا الرأي.
الرأي الثاني: عدم لزوم الترجيح وجواز التخيير في اختيار أيّهما شاء. نسب إلى القاضي وأبي علي وأبي هاشم<ref>. الفائق 2: 337.</ref>، كما نسب إلى الجبائيين من المعتزلة وحكي عن أهل الظاهر وغيرهم<ref>. التعارض والترجيح في الأدلّة الشرعية 2: 219 ـ 220، بحوث في التعارض: 32.</ref>، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني<ref>. كفاية الأصول: 442 ـ 446.</ref>.
استدلّ على هذا الرأي بأدلّة نقلية وباعتبارات كذلك:
منها: الآية: '''«فاعتبروا يا أولى الأبصار»'''<ref>. الحشر: 2.</ref> وذلك من باب أنّ الأمر بالاعتبار مطلق ويشمل العمل بالمرجوح، فإنّه اعتبار كذلك، أي أنّه يجب أن يعتدَّ به في الاستدلال على الحكم.
رُدّ هذا بأنّ الاعتبار نظر، والنظر والتأمُّل يفيد العمل بالراجح.
منها: الأمارات لا تزيد على البيّنات شيئا، والترجيح غير معتبر فيها، فكذلك في الأمارات.
وردّ هذا بأنّا لا نسلّم عدم الترجيح في البيّنات<ref>. إرشاد الفحول 2: 375، التعارض والترجيح في الأدلّة الشرعية 2: 220 ـ 222، بحوث في التعارض: 32 ـ 36.</ref>.
واستدلّ عليه المحقّق الخراساني بتقسيم روايات الباب إلى أربعة:
1 ـ ما دلّ على التخيير مطلقا.
2 ـ ما دلّ على التوقّف مطلقا.
3 ـ ما دلّ على الأخذ بما هو الأحوط منهما.
4 ـ ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجّحات منصوصة.
ورفض دلالة هذه الروايات على لزوم الترجيح، وقال بدلالتها على تمييز الحجّة عن اللاحجّة من الروايات وليست في مقام بيان الترجيح بشهادة قوله: «إنّه زخرف وباطل أو لم نقله أو اضربوه على الجدار». مضافا إلى ضعف سند أهمّ روايات هذا الباب، وهما مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة، فتُحمل على استحباب الترجيح.
كما رفض دليل الإجماع على الترجيح بانخرامه بذهاب الكليني إلى التخيير، من خلال ما رود في ديباجته في كتاب (الكافي)<ref>. الكافي الكليني 1: 9. حيث يقول بعد ما أورد كلام الإمام «خذوا بالمجمع عليه»: فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، ونحن لا نعرف من ذلك إلاّ أقلّه، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام...</ref>.
كما رفض الدليل العقلي الذي أورده المشهور بأنّ وجوب الترجيح خاصّ بما إذا كانت هناك مزية توجب تأكيد الملاك في نظر الشارع<ref>. كفاية الأصول: 442 ـ 446.</ref>.
نسب إلى المشهور رفض استدلالات المحقّق الخراساني المزبورة، فالسيّد الخوئي يقسّم الروايات الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب والسنّة إلى طائفتين:
الاُولى: التي ورد فيها تعابير من قبيل «اضربوه على الجدار أو باطل». والمراد من المخالفة هنا بنحو لا يمكن الجمع بينها وبين الكتاب والسنّة بجمع عرفي، بأن كان بينها تباين أو عموم وخصوص من وجه، أي أنّ المخالفة ليست من قبيل المخالفة في التخصيص والتقييد، وإلاّ فإنّ الكثير من الآيات مخصّصة بالروايات، وتفاصيل الكثير من أحكام القرآن نتلقّاها من السنّة.
الثانية: التي وردت في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر، وورد فيها تعابير من قبيل: «فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه...». وقد وردت هذه الطائفة لترجيح أحد الخبرين على الآخر لا لبيان الحجّة عن اللاحجّة، ولأجل ذلك قدّم الإمام الترجيح بالشهرة في المقبولة على الترجيح بموافقة الكتاب، وإلاّ لم يكن وجه للتقديم ولكان الخبر المشهور المخالف لعموم الكتاب غير حجّة في نفسه، فكيف يقدّمه الإمام على الشاذ الموافق لعموم الكتاب، كما هو مقتضى اطلاق المقبولة. فالمراد من المخالفة هنا المخالفة بنحو التخصيص والتقييد.
كما أنّ المحقّق الخراساني ركّز في ردّه على المقبولة والمرفوعة، بينما روايات الترجيح غير مقتصرة على هذين الاثنين.
كما رفض ذهاب الكليني إلى التخيير؛ لأنّه يبدو من ظاهر عبارته غير ما فهمه المحقّق الخراساني<ref>. مصباح الأصول 3: 407 ـ 409، نهاية الدراية في شرح الكفاية 5 ـ 6: 324.</ref>.
الرأي الثالث: التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية. نسب هذا الرأي إلى الفقهاء، واستدلّ عليه باُمور اعتبارية من قبيل: كون التخيير يلزم الترجيح بلا مرجّح، وهو قول بالتشهّي في الدين، كما أنّه يلزم القول بالتخيير للمفتين والحكّام الشرعيين، وعندئذٍ يلزم أن يكون العامي في تخيير وفسحة دائما<ref>. المحصول الرازي 2: 506، الفائق 2: 337.</ref>.
وهناك آراء تفصيلة اُخرى وردت في هذا المضمار، من قبيل: القول بالتخيير إن كان التعارض في الواجبات؛ لأنّ التعارض هنا غير ممتنع، ويحكم بالتساقط إن كان التعارض بين الواجب والإباحة أو التحريم.<ref>. الإبهاج في شرح المنهاج 3: 214.</ref>
=الترجيح=
تقدّم الكلام في أنّ رأي المشهور في علاج الخبرين المتعارضين هو الترجيح لأحدهما وفق ما يمتلك من مزايا ترجّحه على الآخر، وفي هذا المجال عدّة بحوث ونقاشات:
==1 ـ تعريف الترجيح==
وردت عدّة تعاريف للترجيح:
منها: إظهار قوّة لأحد الدليلين المتعارضين لو انفردت عنه لا تكون حجّة معارضة<ref>. كشف الأسرار البخاري 4: 134.</ref>.
منها: تقوية أحد الطرفين ليعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر<ref>. المحصول الرازي 2: 443 ـ 444.</ref>.
منها: تقديم أحد المتعارضين على الآخر في العمل لمزية له عليه<ref>. نهاية الأفكار ج4، ق2: 185.</ref>.
وهذه التعريفات تعدُّ الترجيح من الأعمال التي يمارسها المجتهد، وأصحابه يشيرون بذلك إلى النقاش الدائر بين بعض الأصوليين في كون الترجيح من شأن المجتهد أم أنّه صفة للدليل<ref>. الفائق 2: 343، التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعية 1: 119 ـ 121.</ref>.
وهناك تعريفات غير ناظرة إلى هذا النزاع:
منها: اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر<ref>. الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 460.</ref>.
منها: اقتران الأمارة بما يقوى به على معارضها<ref>. شرح مختصر المنتهى الأصولي 3: 645، إرشاد الفحول 2: 350.</ref>.
منها: فضل أحد المتساويين على الآخر وصفا<ref>. كشف الأسرار البخاري 4: 133.</ref>.
منها: اقتران الدليل الظنّي بأمر يقويه على معارضه بعد قيام التماثل<ref>. أصول الفقه مطلوب: 446.</ref>.
==2 ـ المرجّحات==
وردت مرجّحات كثيرة لحالة التعارض، كما وردت تقسيمات عديدة للمرجّحات.
أمّا متقدّمو الأصوليين<ref>. الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 463 فما بعدها، نهاية الوصول (الحلّي) 5: 300 ـ 319، البحر المحيط 6: 149 ـ 193.</ref> وكذا متأخّرو أهل السنّة<ref>. بحوث في التعارض والترجيح: 27 ـ 96، التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعية 2: 229 فما بعدها.</ref> فقد ذكروا تقسيمات كثيرة التشعّب؛ وذلك بسبب أنّ طريقة بحثهم التعارض مبنيا على عدم التفريق بين التعارض المستقرّ وغير المستقرّ. ولذلك ورد عن الآمدي قوله ذيل المرجّحات التي ذكرها: «وقد يتشعّب من تقابل هذه الترجيحات ترجيحات اُخرى كثيرة خارجة عن الحصر»<ref>. الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 502.</ref> وكذا ورد عن النراقي<ref>. أنيس المجتهدين 2: 989.</ref>.
أمّا متأخّرو أصوليي الشيعة، فقسّمها بعض منهم إلى ثلاثة : سندية ومتنيّة وخارجية ، كما فعل هذا مثل المحقّق  القمّي<ref>. القوانين المحكمة: 415.</ref>، وقسّمها آخر مثل نجل الشهيد الثاني إلى  أربعة<ref>. معالم الدين: 253 ـ 255 الخاتمة.</ref>،  وقسمها بعض مثل المحقّق الغروي إلى خمسة<ref>. الفصول الغروية: 442.</ref>.
وقسّمها الشيخ الأنصاري في موضع إلى داخلية وخارجية؛ وذلك باعتبار استقلالها عن الخبر أو عدم استقلالها عنه<ref>. فرائد الأصول 4: 79.</ref>، ثُمّ قسّم الداخلية إلى دلالية (أو في الدلالة) وصدورية وجهتية ومضمونية<ref>. المصدر السابق: 80.</ref>.
وشكّك السيّد اليزدي في اعتبار المرجّحات الخارجية قسما؛ باعتبار أنّه لا معنى للترجيح بما لا يوجب قوّة في أحد الخبرين لا صدورا ولا مضمونا، فهي مرجع لا مرجِّح فكانت التقسيمات إحدى مجالات النقاش بين بعض الأصوليين<ref>. كتاب التعارض: 455.</ref>.
ومن جانب آخر، فإنّ التقسيمات قد تغيّرت على طول تاريخ هذه البحوث، ولذلك نجد اضطرابا في درج المرجّحات، فقد تدرج إحدى المرجّحات في صنف من قبل أصولي، ونفسها تدرج في صنف آخر من قبل أصولي آخر، كما يلحظ هذا بوضوح عند مقارنة المتأخّرين مع المتقدّمين.
===أ ـ المرجّحات الداخلية===
وهي كلّ مزيّة غير مستقلّة في نفسها، بل متقوّمة بما في الخبر<ref>. فرائد الأصول 4: 79، مقالات الأصول 2: 475، عناية الأصول 6: 130، المحكم في أصول الفقه 6: 216.</ref>، وقد قسّمها الشيخ الأنصاري إلى دلالية وسندية ومتنية وجهتية.
====المرجّحات الدلالية====
وهي المرجّحات التي تعنى بدلالات المتن، وتعود إلى مبدأ ترجيح الأظهر على الظاهر، كما أنّها تعود عمدة إلى الجمع العرفي، من قبيل: تقديم التخصيص على النسخ. ولذلك يقال: بتقديم المرجّحات الدلالية على باقي المرجّحات<ref>. أجود التقريرات 4: 291 ـ 294، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول 3: 179، أصول الفقه الإسلامي شلبي: 529 ـ 533.</ref>. وتطرح تحت عنوان الجمع بين الدليلين.
====المرجّحات السندية====
وهي المرجّحات التي تُعنى بسند الدليل، ولذلك تخصُّ الدليلين الظنّيين صدورا، ولا تشمل القطعيين صدورا؛ لعدم وجود إشكال في سندهما، وقد عدّها البعض بأربعين وجها<ref>. بحوث في التعارض والترجيح: 38.</ref>. وتدعى المرجّحات الصدورية كذلك<ref>. فرائد الأصول 4: 119 ـ 127، فوائد الأصول 4: 778 ـ 779، مصباح الأصول 3: 413، المحكم في أصول الفقه 6: 213 ـ 214.</ref>.
وهي عبارة عن اُمور:
منها: كون أحد الراويين عدلاً والآخر غير عدل، مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه متحرّزا عن الكذب.
منها: كونه أعدل.
منها: كونه أصدق مع عدالة كلّيهما، ويدخل في ذلك كونه أضبط.
منها: علوّ الإسناد؛ لأنّه كلّما قلّت الواسطة قلّ احتمال الكذب.
منها: أن يكون أحدهما مرسلاً والآخر مسندا فيرجّح المسند؛ لأنّ من المحتمل كون المحذوف مجروحا به.
لكن خالف الشيخ الطوسي في ذلك واعتبر المسند والمرسل المقبول متكافئين<ref>. العدّة (الطوسي) 1: 154، فرائد الأصول 4: 114.</ref>.
منها: تعدّد الراوي أو كثرة الرواة في أحدهما ووحدة الراوي أو قلّة الرواة في الآخر، فيقدّم متعدد أو كثير الرواة؛ لأنّ رواية الأكثر أقرب إلى الصحّة وأبعد عن السهو<ref>. البحر المحيط 6: 150 ـ 152، بحوث في التعارض والترجيح: 39 ـ 45.</ref>.
لكن يذهب البعض إلى عدم كون ذلك مرجّحا، وقد نسب هذا القول إلى الكرخي<ref>. نهاية الوصول الحلّي 5: 301، الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4: 463.</ref>.
لكن يردّه الشيخ الأنصاري بأنّ عدم الترجيح بهذا المرجّح يستلزم عدم الأخذ بباقي المرجّحات كذلك.
منها: أن يكون طريق تحمّل أحد الراويين أعلى من طريق تحمّل الآخر، كأن يكون أحدهما بقراءته على الشيخ والآخر بقراءة الشيخ عليه، وهكذا غيرهما من أنحاء التحمّل.<ref>. نهاية الوصول الحلّي 5: 301، فرائد الأصول 4: 114 ـ 116.</ref>
والكثير من المرجّحات الاُخرى التي ذكرت للسند، من قبيل: الترجيح بكبر سنّ الراوي أو قربه من الرسول<ref>. البحر المحيط 6: 150 ـ 164، نهاية الوصول 5: 300 ـ 305، التعارض والترجيح في الأدلّة الشرعية 2: 234 ـ 268، المختصر الوافي في أصول الفقه: 255 ـ 257.</ref>، والتي قلّ اهتمام المتأخّرين بها، لرفض بعضهم لها أو لوضوحها عند البعض، ومن المحتمل كونها نظرية قد لا نجد موردا لكثير منها.
وقد ناقش البعض في مجمل هذه المرجّحات، فذهب مثل السيّد الخوئي إلى انعدام الدليل على الترجيح بصفات الراوي، كالأعدلية والأفقهية والأصدقية، فالمرفوعة غير حجّة، والمقبولة كان الترجيح بالصفات فيها بين الحكمين لا بين الروايتين، فقد ورد فيها: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما...» ولذلك لم يذكر الكليني هذه الصفات في جملة المرجّحات<ref>. مصباح الأصول 3: 414، المحكم في أصول الفقه 6: 174 ـ 177.</ref>.
لكن يرد عليه: بأنّه رغم عدم التصريح بالترجيح بصفات الراوي في الرواية إلاّ أنّ المنشأ في اختلاف الحكمين هو اختلاف الروايتين، فالمناط سارٍ في الروايتين كذلك. ويؤيّد ذلك أنّ الأصدقية صفة تناسب كونها مرجّحة للرواية لا لنفس الحكم<ref>. فوائد الأصول 4: 784 ـ 785.</ref>.
وهناك نقاشات وردود أكثر وردت في هذا المجال<ref>. بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 372 ـ 374.</ref>.
====المرجّحات المتنية====
وهي التي تعود إلى المتن والنصّ الوارد عن الشارع. وهي في عدّة اُمور:
منها: الفصاحة، فيقدّم الفصيح على غيره؛ لأنّ الركيك بعيد عن كلام المعصوم، إلاّ أن يكون منقولاً بالمعنى.
منها: الأفصحية، ذهب إليه العلاّمة الحلّي ونجل الشهيد الثاني، لكن تأمّل فيه الشيخ الأنصاري، باعتبار أنّ كلام المعصوم الفصيح غير بعيد عن كلام المعصوم، كما أنّ الأفصح ليس أقرب إلى كلامه في مقام بيان الأحكام الشرعية.
منها: استقامة المتن، فإنّ الحديث مستقيم المتن يرجّح على الحديث مضطرب المتن<ref>. فرائد الأصول 4: 117 ـ 118،</ref>.
منها: الخبر المنسوب إلى المعصوم قولاً أرجح من المنسوب إليه اجتهادا؛ لقلّة احتمال الخطأ فيه، مع عدم وجود خلاف في قبوله.
منها: المقترن بسبب الحكم أرجح من المجرّد عنه؛ لشدّة اهتمام الأوّل بمعرفة ذلك الحكم بخلاف الثاني.
منها: الخبر المنقول بلفظه أرجح من المنقول بمعناه؛ للإجماع على قبول الأوّل والخلاف في قبول الثاني؛ ولأنّ تطرّق الغلط إلى الثاني أكثر من الأوّل، فالظنّ بصحّته أضعف.
منها: المعتضد بحديث سابق أرجح من غيره.
منها: الدالّ بالمنطوق أرجح من الدالّ بالمفهوم؛ لأنّ المنطوق متّفق عليه والمفهوم مختلف فيه.
منها: ترجيح الأقوى دلالة<ref>. اللمع: 173 ـ 178، التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعية 2: 287 ـ 311، بحوث في التعارض والترجيح: 75 ـ 76.</ref>.
وغيرها من المرجّحات<ref>. اللمع: 174 ـ 178، المستصفى 2: 246 ـ 249، كتاب التحبير والتقرير 3: 36 ـ 46، نهاية الوصول الحلّي 5: 307 ـ 318، المختصر الوافي: 257 ـ 260، بحوث في التعارض والترجيح: 75 ـ 93.</ref>.
====المرجّحات الجهتية====
وهي المرجّحات ذات الصلة بوجه الصدور، من التقيّة وغيرها، فقد يكون الخبر صادرا لمصلحة مقتضية لبيان خلاف حكم اللّه الواقعي، بأن كانت هناك ظروف تدعو إلى التقية أو قد تكون هناك مصالح تدعو إلى هذا الأمر، وهي غير محصورة.
وهذا الأمر مشهود في الروايات المنقولة عن أئمة أهل البيت  عليهم‏السلام الذين كانوا يعانون من ظروف تستدعي التقية، فقد يحكمون بما يوافق المذهب السائد والمؤيّد من قبل السلطة لتجنّب ما قد يحصل لأتباعهم من مضايقات<ref>. فرائد الأصول 4: 119 ـ 127، فوائد الأصول 4: 778 ـ 779، مصباح الأصول 3 : 417 ـ 418 ، المحكم في أصول الفقه 6 : 213 ـ  214.</ref>.
وهذا المرجّح ليس تعبّديا، أي ليس كلّ ما وافق المذهب السائد كان صادرا عن تقيّة ولا يعبّر عن وجهة نظر أهل البيت، بل الأمر يعود إلى ما يمكن استفادته من قرائن تفيد كون الصدور عن تقية أم لا.
وناقش أصوليو الشيعة هذا المرجّح، ووردت عنهم آراء مختلفة في تبريره<ref>. فرائد الأصول 4: 119 ـ 138.</ref>. ويأتي المزيد حوله؛ باعتباره من المرجّحات الخارجية.
===ب ـ المرجّحات الخارجية===
وهي اُمور مستقلّة بنفسها حتّى لو لم يكن هناك خبر، أي غير متقوّمة بالخبر، كما هو شأن المرجّحات الداخلية<ref>. فرائد الأصول 4: 79، عناية الأصول 6: 130، المحكم في أصول الفقه 6: 216.</ref>.
منها: اعتضاد أحد الخبرين بقرينة من الكتاب<ref>. اللمع: 176، البحر المحيط 6: 175 ـ 177.</ref>.
منها: اشتهار أحد الخبرين، سواء كان الاشتهار بمعنى اشتهار روايته بين الرواة، بناءً على كشفها عن شهرة العمل به. أو كان بمعنى اشتهار الفتوى به ولو مع العلم بعدم استناد المفتين إليه.
منها: كون رواية الفقيه أرجح من رواية غيره؛ لأنّه يميّز ما يحتاج إلى قرينة وما لا يحتاج، وقد يكتفي بالعبارة وقد يشير إلى الملابسات، بينما غيره يكتفي بالعبارة دون ذكر القرائن ممّا يسبّب الضلال.
منها: رواية الأفقه أرجح من رواية الفقيه؛ لأنّ احترازه عن الغلط أكثر، فالظنّ الحاصل بخبره أقوى.
منها: كون رواية العالم بالعربية أرجح من رواية غيره؛ لتمكّنه من احتراز الوقوع في الخطأ. وقيل: رواية غير العالم أرجح؛ لأنّه يبالغ في الحفظ بينما العالم بالعربية يعتمد على معرفته.
منها: رواية الأعلم بالعربية أرجح من رواية العالم بها؛ لأنّ ظنّ احترازه أقوى.
منها: مخالفة أحد الخبرين مذهب العامّة، أي المذهب السائد والمؤيّد من قبل السلطة عهد صدور الرواية<ref>. نهاية الوصول 5: 300 ـ 305، فرائد الأصول 4: 139 ـ 143.</ref>.
وباعتبار اقتران المرجّح الأخير، الوارد في الرواية ذات الصلة، مع مرجّح آخر، وهو موافقة الكتاب، يقرن أحيانا هذان المرجّحان في كلمات أصوليي الشيعة<ref>. فرائد الأصول 4: 61، كفاية الأصول: 444، درر الفوائد 2: 665 و 670، مقالات الأصول 2: 478.</ref>.
منها: الترجيح بكثرة الأدلّة؛ باعتبار أنّ كلّ دليل يفيد مقدارا من الظنّ ومجموعها يزيد نسبة الظنّ. نسب هذا الرأي إلى الشافعي<ref>. المحصول الرازي 2: 446.</ref> وجمهور الأصوليين<ref>. بحوث في التعارض: 27 ـ 31.</ref>.
لكنّ الحنفية رفضوا جواز الترجيح بهذا المرجّح؛ لأنّ الأدلّة إذا كثرت تماثلت وسقط الزائد منها<ref>. المحصول 2: 446 ـ 451، كشف الأسرار البخاري 4: 136، بحوث في التعارض: 27 ـ 31.</ref>.
وهناك مرجّحات أخرى وردت في هذا الباب<ref>. البحر المحيط 6: 175 ـ 179.</ref>.
والدليل على هذا الصنف من المرجّحات هو ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربية أحدهما إلى الواقع وإن كان خارجا عن الخبرين<ref>. فرائد الأصول 4: 140.</ref>.
واستدلّ العلاّمة الحلّي على هذا الصنف من المرجّحات بإجماع ادّعاه حول وجوب العمل بأقوى الدليلين<ref>. نهاية الوصول الحلّي 5: 286 ـ 287، مبادئ الوصول: 232.</ref>، وحكى الإجماع غيره كذلك مثل السيّد المجاهد<ref>. مفاتيح الأصول: 686.</ref>.
لكن شكّك البعض في هكذا اجماعات، مع أنّها منقولة غير محصّلة؛ وأنّها إن صحّت فتشمل القوي بنفسه لا بدليل خارجي، وهذا هو الظاهر من هذه القاعدة<ref>. فرائد الأصول 4: 141، زبدة الأصول 4: 407.</ref>.
الكثير من هذه المرجّحات غير خالية عن النقاش نعرض لموردين منها:
الأوّل: النقاش في أصل اعتبار موافقة الكتاب ومخالفة العامّة من المرجّحات؛ لأنّ الخبر المخالف للكتاب فاقد للحجّية منذ البداية، فهما واردان لتمييز الحجّة عن اللاحجّة من الأخبار لا للترجيح<ref>. كفاية الأصول: 444، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 254، نهاية الدراية في شرح الكفاية 5 ـ 6: 391.</ref>.
كما أنّ هناك نقاشا في اتّحاد كلٍّ منهما أو استقلالهما، فيذهب السيّد الخوئي إلى استقلال كلٍّ منهما، والأمر يعود إلى ما يستظهر من كلام المعصوم في المقبولة، حيث قال في موضع: «ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة، وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة». وقال في موضع آخر: «ما خالف العامة ففيه الرشاد»... فاستظهر استقلالهما، لكن استظهر البعض الآخر اتّحادهما استظهارا لذات العبارة<ref>. مصباح الأصول 3: 414 ـ 415، المحكم في أصول الفقه 6: 184 ـ 185، زبدة الأصول 4: 355.</ref>.
وهناك نقاشات كذلك في تفسير ووجه الترجيح بمخالفة آراء العامّة، وكذا في المراد من العامّة واُمور من هذا القبيل<ref>. فرائد الأصول 4: 121 ـ 137، فوائد الأصول 4: 789، كتاب التعارض: 496 ـ 528.</ref>، وكذلك في كونها من صنف المرجّحات الداخلية أو الخارجية<ref>. عناية الأصول 6: 132، الأصول العامة للفقه المقارن: 355.</ref>.
الثاني: ذهب الكرخي إلى كون الشهرة ليست من المرجّحات<ref>. نهاية الوصول الحلي 5: 301.</ref>، وناقش فيها بعض المتأخّرين مثل السيّد الخوئي، وذهب في النهاية إلى أنّها ليست من المرجّحات؛ باعتبار أنّ ما ورد في المقبولة هو الأخذ بالمجمع عليه. وهذا لا ينافي فرض الشهرة في روايتين متعارضتين بعد أمره بالأخذ بالمجمع عليه، فإنّ الشهرة ـ لغة ـ تعني الوضوح، وما في المرفوعة: «خذ بما اشتهر بين أصحابك» محمول على الشهرة بمعناها اللغوي لا الاصطلاحي؛ لأنّ فرض الشهرة بمعناها الاصطلاحي يوجب دخولها تحت عنوان السنّة القطعية، فتكون الرواية الأخرى خارجة عن دليل الحجّية طبعا، بمقتضى ما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنّة.
هذا مضافا إلى كون المرفوعة غير حجّة لضعف سندها<ref>. مصباح الأصول 3: 412 ـ 413.</ref>.
والشهيد الصدر بعد ما يستدلّ على الشهرة كمرجّح برواية أخرى لا يستبعد ظهور رواية الطبرسي «خذ بما اجتمعت عليه شيعتنا؛ فإنّه لا ريب فيه»<ref>. الاحتجاج الطبرسي 1 ـ 2: 358.</ref> في كون المراد من الاجتماع هو الاجتماع في العمل والفتوى، أي الشهرة الفتوائية؛ باعتبار أنّ الاجتماع فيها يعود إلى الشيعة لا الرواة بالخصوص، وهو يتناسب مع كون المراد الاجتماع في الرأي والعمل<ref>. بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 361.</ref>.
كما لا يستبعد حمل الشهرة في المرفوعة على الشهرة في الفتوى كذلك، وذلك بقرينتين:
الاُولى: افترض السائل إمكان اشتهار روايتين متعارضتين معا، وهذا لا يناسب الشهرة في الرواية المساوق مع قطعية صدورها وإلاّ فلا يبقى مجال للترجيح بالأعدلية والأوثقية عقلائيا.
الثانية: سياق الترجيح بالصفات في المرفوعة يأبى عن إرادة الشهرة الروائية، إذ لو كان المراد ذلك لكان المناسب أن يرجّح ما كان مجموع رواته أعدل وأصدق، بينما الظاهر ممّا ورد في الرواية هو ملاحظة الراويين المباشرين.
وفي النهاية حمل الشهرة في المقبولة على الشهرة في الرواية، وذهب إلى أنّ ظاهر التعبير: «فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم» يثبت هذا المعنى<ref>. بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 371 ـ 372.</ref>.
كما أنّ هناك نقاشات اُخرى في هذا المجال<ref>. المحكم في أصول الفقه 6: 178 ـ 180.</ref>.
====المرجّحات المنصوصة وغير المنصوصة====
المرجّحات التي وردت في كتب الأصوليين، وبخاصّة المتقدّمين منهم، خليط من المرجّحات التي ورد نصٌّ فيها والتي تدعى المنصوصة، والتي لم يرد نصٍّ فيها والتي تدعى غير المنصوصة. وقد اختلف الأصوليون في المرجّحات التي ينبغي إعمالها ما إذا كانت مقتصرة على المنصوصة منها أو تشمل غيرها كذلك، وفي المجال آراء:
الأوّل: الاقتصار على المنصوصة منها، وهو ظاهر كلام الكليني<ref>. الكافي 1: 8.</ref>، كما أنّه رأي الأخباريين<ref>. الحدائق الناضرة 1: 90، الدرر النجفية 1: 313 ـ 314.</ref>، وهو مبني على مبدئهم في الاعتماد على ظاهر النصوص والجمود عليها<ref>. أنظر: أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 261.</ref>، مضافا إلى اعتبارهم أخبار مثل (الكافي) كلّها صحيحة، ممّا دعاهم إلى إهمال النظر في المرجّحات غير المنصوصة<ref>. الحدائق الناضرة 1: 97.</ref>.
كما هو رأي بعض الأصوليين ممّن تقدّم على الشيخ الأنصاري مثل الفاضل التوني، حيث قال: «وأنا لم أبسط القول فيها؛ لأنّ الملاك في بعضها غير ظاهر، والأولى الرجوع في الترجيح إلى ما ورد به، وهو روايات»<ref>. الوافية: 323 ـ 324.</ref>.
كما أنّه رأي أكثر الذين تأخّروا عن الشيخ الأنصاري مثل المحقّق الخراساني<ref>. كفاية الأصول 446 ـ 447.</ref>، والسيّد الخوئي<ref>. مصباح الأصول 3: 411 و 420 ـ 422.</ref>، والسيّد الكلبايكاني<ref>. إفاضة العوائد 2: 383.</ref>، والسيّد الروحاني<ref>. زبدة الأصول الروحاني 4: 377 ـ 382.</ref>، وبعض آخر<ref>. منتهى الأصول 2: 602.</ref>.
استدلّ المحقّق العراقي على هذا الرأي بأنّ الأصل وإن كان يقتضي وجوب الأخذ بكلّ ما يحتمل أن يكون مرجّحا لأحد المتعارضين، للشكّ في حجّية الآخر والأصل عدمها، إلاّ أنّه يجب الخروج عمّا يقتضيه الأصل بإطلاقات أدلّة التخيير، فإنّ المتيقّن من تقييدها ما إذا كان في أحد المتعارضين أحد المزايا المنصوصة، ولا يستفاد من أدلّة الترجيح وجوب الأخذ بكلّ مزية توجب أرجحية أحدهما سندا أو مضمونا، فالقول بوجوب التعدّي عن المرجّحات المنصوصة خالٍ عن الدليل»<ref>. فوائد الأصول 4: 774 ـ 775، أنظر: نهاية الأفكار 5: 194 ـ 196.</ref>.
الثاني: وجوب التعدّي إلى كلّ ما يوجب الأقربية إلى الواقع. يظهر هذا الرأي من المحقّق القمّي؛ باعتبار قوله بأنّ المدار في المرجحات هو حصول الظنّ مهما كان صنفها<ref>. القوانين المحكمة: 425.</ref>، ومال إليه الشيخ الأنصاري ونسبه إلى جمهور المجتهدين<ref>. فرائد الأصول 4: 73 ـ 75.</ref>، كما نُسب إلى المشهور<ref>. كتاب التعارض: 439، أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 261 ـ 262.</ref>. ويبدو أنّ الشهرة المدّعاة وعبارة جمهور المجتهدين ناظرة عمدة إلى عهد الشيخ الأنصاري وما قبله؛ لأنّ أكثر المتأخّرين عن الشيخ ذهب إلى القول بعدم التعدّي.
وقد استدلّ الشيخ الأنصاري على هذا الرأي بوجوه، نورد بعضها:
الأوّل: كون المختار بعد التكافؤ والتعادل هو التخيير، والأصل فيه هو العمل بالراجح، بينما الأصل لو كان المختار هو التوقّف والاحتياط هو عدم الترجيح إلاّ بما علم كونه مرجّحا<ref>. فرائد الأصول 4: 75.</ref>.
لكن ردّ هذا بعدّة ردود:
منها: كون الأدلّة لا تنهض على الدلالة على التخيير، ومع عدم وجود مزية منصوصة لا يكون الأخذ بذي المزية متيقّنا، مع أنّ الأصل عدم اعتبار شيء من المتعارضين.
منها: على فرض دلالة الأخبار على التخيير وعلى فرض اعتبار أسانيدها، فإنّها مطلقة من حيث وجود مزية في أحد الخبرين أو عدمه، فقد ورد في بعضها: «يجيئنا الرجلان بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيّهما الحقّ؟ فقال: إذا تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»<ref>. الاحتجاج الطبرسي 1 ـ 2: 357.</ref>. وهذا الكلام صادق مع وجود مزية ومع عدمها، وكذلك غير هذا من الأخبار<ref>. نهاية الأفكار العراقي ج4، ق2: 193 ـ 194، منتقى الأصول 7: 418 ـ 422، تسديد الأصول 2: 483.</ref>.
الثاني: الأخبار التي تضمّنت المرجّحات المنصوصة احتوت على قرائن تقتضي التعدّي منها إلى غيرها، فإنّ ميزة الأصدقية والأوثقية اعتبرتا لكونهما موجبين لقوّة احتمال صدق الخبر، فلتسري هذه الخصوصية إلى الأضبطية وإلى النقل باللفظ في قبال النقل بالمعنى، أي تلغى خصوصية المنصوصات لتعمّ غيرها كذلك<ref>. فرائد الأصول 4: 76.</ref>.
وردّ هذا باُمور:
منها: إنّ صفات من قبيل الأصدقية وردت في المقبولة، مع أنّها واردة في مجال الحاكم، فموردها الحاكم لا الراوي، ولا دليل على السريان إلى الرواية، مضافا إلى اشتمالها على صفات اُخرى لا ربط لها في تقريب نصّ الراوي إلى الواقع صدورا أو جهة<ref>. تسديد الأصول 2: 484.</ref>.
منها: لم يعلّل الترجيح بالصفات المزبورة بالأقربية للواقع، ولعلّ في الأصدقية والأوثقية خصوصية، كما هو الحال في حجّية خبر الواحد، فإنّا لا نتعدّى به إلى مطلق الظنّ<ref>. نهاية الأفكار العراقي ج4، ق2: 193 ـ 194، منتقى الأصول 7: 418 ـ 422، زبدة الأصول (الروحاني) 4: 378، تسديد الأصول 2: 483.</ref>.
الثالث: المرجّحات تشمل كلّ ما يوجب الظنّ. يظهر هذا الرأي من السيّد المجاهد.
واستدلّ عليه بأنّها تفيد الظنّ بالصدور، والظنّ حجّة وفق أصالة حجّيه الظنّ، هذا مضافا إلى أنّ الاقتصار على المزايا المنصوصة لو كان واجبا لزم القول بتحريم غير المنصوصة، مع أنّا لم نجد روايات تحرّمها كما حرّمت القياس مثلاً<ref>. مفاتيح الأصول: 688.</ref>.
الرابع: يجوز التعدّي في صفات الراوي دون غيرها. احتمله السيّد اليزدي، بل يظهر ذهابه إليه<ref>. كتاب التعارض: 439.</ref>. وذكره الشيخ المظفر كأحد الأقوال دون التفصيل فيه<ref>. أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 261.</ref>.
استدلّ عليه السيّد اليزدي بالأدلّة التي وردت تحت القول الذاهب إلى الترجيح كأصل ثانوي في التعارض، وهي: الاجماع الذي ادّعاه البعض، وبناء العقلاء، وأضاف إليهما سياق أخبار الترجيح والعلاج، التي تضمّنت فقرات من قبيل الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة، فيفهم منهما التعدّي في الصفات، من حيث رجوع جميع الصفات التي عُدّت مزايا إلى الأصدقية والأوثقية، فيقال في العدل: كونه أصدق من الفاسق، ويقال في الأضبط: كونه أصدق من غيره، وهكذا... ولذلك اقتصرت الروايتان على ذكرهما دون غيرهما، وبذلك تكون جميع الصفات من المرجّحات المنصوصة<ref>. كتاب التعارض: 439 ـ 453.</ref>.
==3 ـ الترتيب بين المرجّحات==
اختلف القائلون بإعمال المرجّحات في مسألة الترتيب بينها، وما إذا كان هناك ترتيب محدّد أم لم يكن، وانقسموا على أقوال:
الأوّل: رعاية الترتيب بالنحو التالي: إذا تعارض حديثان يقدّم الموافق للقرآن والسنّة المقطوعة على المخالف لهما، وإن لم تعلم الموافقة أو المخالفة فالترجيح باعتبار صفات الراوي، ومع التساوي فالترجيح بكثرة الراوي وشهرة الرواية، ومع التساوي فبالعرض على روايات العامّة أو مذاهبهم أو عمل حكّامهم، فيقدَّم المخالف لهم، وإن لم تعلم الموافقة أو المخالفة فيعمل بالأحوط منهما، فإن لم يتيسَّر العمل بالاحتياط يتوقّف إن أمكن التوقّف وإن لم يمكن فالتخيير بينهما.
استظهر هذا الرأي الفاضل التوني من مجموع الروايات الواردة في هذا الباب، ثُمّ نقل قولاً آخر في هذا المجال، وهو أنّ التخيير يختصُّ بالعبادات المحضة والتوقّف بغيرها، واعتبر القول الأخير ممّا تأباه الروايات<ref>. الوافية: 333 ـ 335.</ref>.
الثاني: تقديم المرجّحات السندية أو الصدورية على غيرها.
استدلّ على هذا الرأي بعض من ذهب إليه بأنّ المرجّحات السندية مثل: الشهرة توجب أقربية الرواية المشهورة من الواقع قياسا بالمعارضة لها التي تحظى بمرجّح جهتي أو مضموني<ref>. منتهى الأصول 2: 607.</ref>.
واستدلّ عليه المحقّق النائيني: بأنّ مرجّح الصدور فرع اعتبار صدور المتعارضين، ومع عدم إحراز الصدور لا يصل الدور إلى ملاحظة جهة الصدور<ref>. فوائد الأصول 4: 781.</ref>.
وردّ رأي النائيني واستدلاله: بأنّه مجرّد استحسان لا يصلح لرفع اليد عن ظهور النصوص في تقديم الترجيح بموافقة الكتاب التي هي من المرجّحات المضمونية على الترجيح بمخالفة العامّة، التي هي من المرجّحات الجهتية<ref>. مصباح الأصول 3: 420.</ref>.
الثالث: تقديم المرجّح الجهتي (مخالفة العامّة) على المرجّح السندي.
نسبه أكثر من واحد إلى الوحيد البهبهاني دون إيراد التفاصيل والأدلّة<ref>. كفاية الأصول: 454، منتهى الأصول البجنوردي 2: 607، أصول الفقه (المظفر) 3 ـ 4: 257.</ref>.
وردّ السيد الخوئي هذا الرأي: بأنّ مجرّد المخالفة للعامّة لا توجب الترجيح والقطع بالصدور؛ لكثرة المشتركات بين الشيعة والسنّة<ref>. مصباح الأصول 3: 419.</ref>.
الرابع: لزوم رعاية الترتيب حتّى مع القول بالتعدّي وتقدّم المرجّحات الدلالية التي تعنى بالمتن على مرجّحات الصدور والسند، وتقدّم مرجّحات الصدور والسند على مرجّحات جهة الصدور.
ذهب إلى هذا الشيخ الأنصاري واستدلّ عليه: بأنّ المرجّحات الدلالية تدخل في الجمع المقبول الذي يقدّم على الطرح. ويقدّم مرجّح الصدور على مرجّح الجهة؛ لأنّ مورد المرجّح الأخير هو تساوي الخبرين من حيث الصدور، وجهة الصدور متفرّعة على أصل الصدور<ref>. فرائد الأصول 4: 136 ـ 138.</ref>.
وردّ هذا: بأنّه بناءً على التعدية تكون المرجّحات في عرض واحد ويلزم عندئذٍ وقوع التزاحم بينها، فلو كان لأحد الخبرين مزية الشهرة في الرواية وللآخر مزية مخالفة العامّة قدّم عندئذٍ الأقوى مناطا في القرب إلى الصدور. أمّا بناءً على الاقتصار على المنصوصات، فإنّ التعبُّد كما اقتضى الاقتصار على أصل المرجّحات يقتضي التعبُّد في الترتيب بينها وفق ما جاء في الروايات<ref>. نهاية الأفكار العراقي ج4، ق2: 201، أنظر: حقائق الأصول 2: 589 ـ 590.</ref>.
الخامس: عدم الترتيب بينها.
ذهب إليه البعض مثل المحقّق الخراساني<ref>. كفاية الأصول: 453 ـ 454.</ref> والسيّد محمّد سعيد الحكيم<ref>. المحكم في أصول الفقه 6: 219 ـ 220.</ref> والسيّد الروحاني<ref>. زبدة الأصول 4: 404.</ref>.
واستدلّ عليه المحقّق الخراساني: بأنّ الروايات غير واردة لبيان الترتيب، بل لبيان المرجّحات فقط، فلا يستفاد منها الترتيب<ref>. كفاية الأصول: 456.</ref>.
==4 ـ مرجّحات التعارض بين الدليل العقلي والنقلي==
إذا كان الخبر موضع قبول كالمتواتر وأمكن تخصيص القياس كدليل عقلي به أو بالعكس، فيعمل بكلاهما جمعا بين الدليلين<ref>. بحوث في التعارض والترجيح: 145.</ref>.
وإذا كان الدليل النقلي خاصّا ودالاًّ على الحكم بمنظومه قدِّم على القياس؛ لكونه أصلاً بالنسبة إلى الرأي، ولقلّة تطرّق الخلل إليه.
أمّا إذا دلّ الخاصّ لا بمفهومه على الحكم فهناك مجال للنظر والموازنة بينه وبين القياس حسب قوّته وضعفه<ref>. الإحكام الآمدي 4: 248 ـ 299.</ref>.
أمّا بالنسبة لخبر الواحد، فأهل السنّة مختلفون فيه، فجمهورهم يقدّم خبر الواحد على القياس، وقد ذهب إليه الشافعي<ref>. الرسالة: 599 ـ 600.</ref>، ونسب إلى أحمد بن حنبل كذلك.
واستدلّ عليه: بأنّ الخبر قول المعصوم والقياس اجتهاد شخصي، وكذلك كون الخبر يقلّ الخطأ فيه عكس القياس؛ باعتبار كونه اجتهادا.
والمخالفون لرأي الجمهور مختلفون كثيرا، فبعضهم يقدّم القياس على الخبر مطلقا، والبعض الآخر يفصّل، مستدلّين على رأيهم باعتبارات عقلية وكذلك موارد منقولة يبدو منها ترك الصحابة لبعض الأخبار أخذا بالقياس.
كما أنّ أصحاب التفصيل منقسمون من حيث الشروط التي يقدَّم وفقها القياس على الخبر أو بالعكس، تبعا لمستوى اعتبار أو حجّية أو ضعف الخبر، لأجل أنّ ذلك خاضع لسند الحديث تارة ولمتنه اخرى أو لاُمور اُخرى يمكن ترجيح الخبر على القياس أو بالعكس وفقها<ref>. التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعية 2: 447 ـ 479، بحوث في التعارض والترجيح: 145 ـ 156.</ref>.
( عقل، قياس)
==5 ـ مرجّحات التعارض بين القياس والاستحسان==
هناك اختلاف في المراد من الاستحسان وتعريفه، وبناءً على القول بأنّ الاستحسان ليس تشهيا، بل عدولاً عن الحكم في مسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى اقتضى ذلك، فالاستحسان عندئذٍ قياس خفي، وهو مرجَّح على القياس الجلي للوجه الأقوى المزبور، وقد يكون استثناءً لمسألة جزئية عن حكم الكلّي. وبذلك يبرّر القائلون به تقديمه على القياس عند التعارض<ref>. كشف الأسرار البخاري 4: 19 ـ 20، التعارض والتعادل بين الأدلّة الشرعية 2: 480 ـ 486.</ref>.
( استحسان، قياس)
==6 ـ مرجّحات التعارض بين الأقيسة==
يعالج تعارض الأقيسة كتعارض باقي الأدلّة، ففيها يحصل التعارض كما يحصل في باقي الأدلّة، بل أكثر باعتبار خضوع هذا الدليل للاجتهاد والفكر الإنساني<ref>. التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعية 2: 380 ـ 381.</ref>.
ويقال في علاجه: إذا كان لأحدهما مزية على الآخر فيعمل وفقها، وإذا لم يكن لأحدهما مزية على الآخر، ففي المجال رأيان على أقلّ تقدير:
الأوّل: التخيير بأيّهما شاء ولا يسقطان، وهو للشافعية.
الثاني: يعمل بأحدهما بعد التحرّي.
أمّا مرجّحات الأقيسة بعضها على بعض فاُمور:
1 ـ المرجّحات بحسب الأصل، من قبيل الموارد التالية:
أ ـ قطعية حكم الأصل، فيرجّح على غير القطعي.
ب ـ قوّة دليل المثبت لأحد القياسين، فإنّه يرجّح على ضعيفه.
ج ـ موافقة أحد القياسين للقواعد الكلّية ومخالفة الآخر لها.
د ـ كون حكم الأصل في أحدهما اتّفق على عدم نسخه، بينما اختلف في الآخر على نسخه، وكثير من المرجّحات الاُخرى.
2 ـ المرجّحات بحسب الفرع، وهي اُمور:
منها: الترجيح بقطعية العلّة في الأصل في أحدهما وعدم قطعية العلّة في الآخر.
منها: كون طريق إثبات العلة في أحدهما أقوى، كما في حالة النصّ القطعي، من طريق الآخر، كما في حالة النصّ الظنّي.
منها: ترجيح قياس الشبه على قياس المعنى.
منها: ترجيح العلّة المتعدّية على القاصرة.
وكثير من المرجّحات الاُخرى.
3 ـ الترجيح بحسب الفرع والأمر الخارجي، وذلك من  قبيل:
أ ـ الترجيح بالقطع بوجود العلّة بأن يقطع بوجود العلّة في الفرع في أحدهما ويشتبه بثبوتها في الآخر.
ب ـ الترجيح بالعلم بثبوت أصل أحد القياسين في أحدهما واشتراك الفرع بالنصّ جمله دون الآخر.
ج ـ موافقة أحد القياسين لعمل أهل المدينة دون الآخر.
د ـ موافقة أحد القياسين لعمل الخلفاء الراشدين الأربعة دون الآخر.
ه ـ موافقه أحد القياسين لظاهر الكتاب أو السنّة دون  الآخر.
و ـ موافقة أحد القياسين لقياس آخر دون الآخر.
4 ـ الترجيح بحسب العلّة، وذلك من قبيل الموارد التالية:
أ ـ ترجيح القياس الذي تكون علّته حكمة على الذي علّته وصفا عدميا؛ لأنّ الوصف العدمي لا يكون علّة إلاّ إذا علمنا باشتماله على حكمة قصدها الشارع.
ب ـ ترجيح القياس الذي تكون علّته وصفا عدميا على الذي تكون علّته حكما شرعيا؛ لأنّ الحكم الشرعي لا يكون علّة بمعنى أمارة.
ج ـ ترجيح القياس المعلّل فيه الحكم بعلّة بسيطة على المعلّل الحكم فيه بعلّة مركّبة؛ لأنّ التعليل بالوصف البسيط متّفق عليه، وبالوصف المركّب مختلف فيه؛ ولأنّ البسيط يقلّ فيه الخطأ بعكس المركّب الذي يكثر فيه الاجتهاد.
ووجوه اُخرى كثيرة<ref>. روضة الناظر: 208، البرهان 2: 205 ـ 246، ميزان الأصول 2: 1028 ـ 1031، البحر المحيط 6: 181 ـ 194، المختصر الوافي في أصول الفقه: 263 ـ 266، أصول الفقه أبو زهرة: 292 ـ 293، أصول الفقه (شلبي): 533 ـ 534، التعارض والترجيح بين الأدلّة الشرعية 2: 383 ـ 394، بحوث في التعارض والترجيح: 118 ـ 139.</ref>.
وقد تناول بعض أصوليي الشيعة موضوع التراجيح بين الأقيسة لا من باب القول به، بل من باب التفريع على القول به من قبل أهل السنّة، كما يصرّح بذلك<ref>. نهاية الوصول الحلّي 5: 338 ـ 364.</ref>.
==7 ـ المرجّحات وفق صنف الحكم==
ناقش بعض الأصوليين مسألة ما إذا كانت هناك أولوية بين الأحكام، لأجل ترجيح بعضها على بعض عند تعارض دليلين دالّين على حكمين مختلفين، وفي هذا المضمار وردت النقاشات التالية:
1 ـ التعارض بين ما تضمّن الحرمة وما تضمّن الإباحة، وهنا ثلاثة آراء:
الرأي الأوّل: ترجيح الذي حكمه الحرمة على الإباحة، وهو ما نسب إلى جمهور الأصوليين، واستدلّ عليه باُمور:
أ ـ العمل وفق الحرمة أحوط، فإنّ مخالفة الحرمة عصيان، ومخالفة الإباحة ليس كذلك.
ب ـ تقديم الإباحة على الحرمة إيضاح واضح، فإنّ الأصل في جميع الأشياء هو الإباحة، وهذا الدليل لم يفد شيئا جديدا، بل يؤكّد الأصل، بينما الحرمة تؤسّس حكما جديدا، ويقدّم التأسيس على التأكيد وفقا لقاعدة واردة في هذا المجال.
ج ـ قوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: «ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ وغلب الحرامُ الحلالَ»<ref>. السنن الكبرى البيهقي 7: 169، عوالي اللئالئ 3: 466، ح17.</ref>. وقوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»<ref>. مسند أحمد بن حنبل 3: 623 ح 1214، عوالي اللئالئ 3: 330 ح214.</ref>.
الرأي الثاني: تقديم الذي يفيد الإباحة، واستدلّ عليه بأنّ الذي يفيد الإباحة يفيد التخيير، وفي التخيير مصلحة للمكلّف تمنعه من الوقوع في الحرج الذي رفع بنصٍ قطعي.
الرأي الثالث: التساوي بينهما؛ باعتبارهما حكمين شرعيين، فلا مرجّح بينهما.
2 ـ التعارض بين ما تضمّن الحرمة وما تضمّن الندب.
ويبدو أنّ الآراء الواردة في المورد الأوّل واردة هنا كذلك.
3 ـ التعارض بين ما تضمّن الحرمة وما تضمّن الوجوب.
وفي هذا المجال رأيان:
الرأي الأوّل: ترجيح الحرمة على الوجوب.
واستدلّ عليه باُمور:
أ ـ كون الغالب أنّ التحريم لدفع المفسدة، واهتمام الشارع بدفع المفسدة أكثر من جلب المصلحة.
ب ـ امتثال الموجب للتحريم أيسر؛ لأنّه يتمّ بمجرّد الترك، بينما ينبغي القصد في الواجب.
ج ـ الترك أسهل في طبع الإنسان.
الرأي الثاني: كونهما متساويين، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر؛ باعتبار أنّ كلّيهما حكمان شرعيان بمستوى واحد، ولا مزية لأحدهما على الآخر.
4 ـ التعارض بين ما تضمّن الحرمة وما تضمّن الكراهة.
الرأي الوارد هنا هو ترجيح الحرمة على الكراهة؛ لأنّ التزام الحرمة أحوط، ومفسدة الحرمة أكبر من الكراهة.
5 ـ التعارض بين ما تضمّن الوجوب على ما سوى الحرمة.
وهنا يرجّح ما تضمّن الوجوب على ما تضمّن الحرمة؛ باعتبار أنّ الوجوب أحوط من غيره.
6 ـ التعارض بين ما تضمّن حكما تكليفيا وما تضمّن حكما وضعيا.
يوجد هنا رأيان:
الرأي الأوّل: ترجيح الحكم التكليفي على الوضعي؛ لما تضمّنه التكليفي من ثواب مع أنّه مقصود من قبل الشارع بالذات، بعكس الوضعي.
الرأي الثاني: ترجيح الوضعي على التكليفي؛ لأنّ الوضعي لا يتوقّف على أهلية المخاطب وفهمه وقدرته على الفعل، بخلاف التكليفي<ref>. الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 482، روضة الناظر: 209 ـ 210، كتاب التقرير والتحبير 3: 27 ـ 32، ميزان الأصول 2: 1029، البحر المحيط 6: 169 ـ 174، التعارض والترجيح بين الأدلّة 2: 329 ـ 356.</ref>.
=التعادل=
لم يرد تعريف محدّد للتعادل من قبل أكثر الأصوليين، إلاّ البعض القليل منهم، حيث عرّفه باستواء الأمارتين<ref>. إرشاد الفحول 2: 342 ـ 343.</ref>، أو تكافؤ الدليلين المتعارضين فى كلّ شيء يقتضي ترجيح أحدهما على الآخر<ref>. أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 121.</ref>، كما أنّ استقراء كلماتهم يفيد كونه يعبّر عن حالة تحصل بين الدليلين أو الخبرين بعد إعمال الموازنة بينهما، وذلك حينما يكونان متكافئين من جميع الجوانب ولا مزية توجب ترجيح أحدهما على الآخر. وقد اختلفوا فيما ينبغي أن نعمله هنا، وذلك بسبب اختلاف الروايات الواردة في هذا المجال<ref>. أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 237.</ref>، فوردت أقوال:
==القول الأوّل: التخيير في الأخذ بأحدهما==
نسب إلى الجبائي وابنه أبو هاشم وإلى كلّ من يذهب إلى التصويب<ref>. البحر المحيط 6: 115.</ref> وهو رأي مشهور الشيعة كذلك<ref>. معارج الأصول: 156، مبادئ الوصول: 233، فرائد الأصول 4: 39، فوائد الأصول 4: 770 ـ 778.</ref>، بل ذهب نجل الشهيد الثاني إلى أنّه لا يعرف مخالفا له<ref>. معالم الدين: 250.</ref>.
لكن يشكّك السيّد الخوئي بذهاب المشهور إلى التخيير، وذلك لانعدام الدليل عليه؛ باعتباره يرفض دلالة الروايات المستدلّ بها على التخيير من جانب، ومن جانب آخر يقول: بأنّ الأصحاب في الفقه عملوا على خلاف التخيير، ولم يعثر على من أفتى به<ref>. مصباح الأصول 3: 426.</ref>.
استدلّ على هذا الرأي بثمان روايات، اعتبرها الشيخ الأنصاري مستفيضة بل متواترة<ref>. فرائد الأصول 4: 39.</ref>.
منها: رواية سماعة عن أبي عبداللّه  عليه‏السلام: سألته عن الرجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ فقال : «يُرجئه حتّى يلقى من يُخبره، فهو في سعة حتّى  يلقاه»<ref>. وسائل الشيعة 27: 109، الباب 9 من أبواب صفات القاضي باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة ح 5.</ref>.
عبارة «فهو في سعة حتّى يلقاه» ظاهرة في جواز الأخذ بأي الحديثين، وهو معنى التخيير. أمّا قوله: «يرجئه حتّى يلقى من يخبره» فناظر إلى الحكم الواقعي، ولا تتنافى مع التخيير في الحجّية الذي هو حكم ظاهري.
وأشكل السيّد الخوئي على هذه الرواية بأنّ موردها دوران الأمر بين المحذورين، بدليل أنّ أحد الخبرين يأمر والآخر ينهى، والعقل هنا يحكم بالتخيير بين الفعل والترك<ref>. مصباح الأصول 3: 424.</ref>.
لكن ردّ هذا باُمور:
الأول: كون التخيير العملي في مورد دوران الأمر بين محذورين ينتهي إليه فيما إذا لم يكن هناك أصل حاكم، كعموم فوقاني يثبت أحد الحكمين الإلزاميين أو أصل عملي منجّز له، وإلاّ كانت النتيجة التعيين لا التخيير.
الثاني: إن اُريد من التخيير التخيير في الحجّية، فالعقل لا يحكم إلاّ بالتخيير في مقام العمل لا في مقام الحجّية المساوق مع حجّية ما يلزم به وتعيينه. وإن اُريد التخيير في مقام العمل، فهذا لا يتوقّف على فرض الدوران بين المحذورين. وعليه يكون هذا إشكالاً آخر على الرواية حتّى لو فرض إطلاق مفادها من حيث المورد؛ لأنّه يساوق البراءة الجارية في غير موارد الدوران بين المحذورين أيضا.
ويشكل الشهيد الصدر على هذه بوجهين آخرين:
أحدهما: من المحتمل قويّا أنّ الملحوظ فيها التعارض الواقع في أصول الدين، بدليل قوله: «أحدهما يأمر بأخذه» ولو كان ناظرا إلى الفروع لكان الأنسب أن يعبّر بقول: «يأمر بفعله».
ثانيهما: في قوله: «فهو في سعة حتّى يلقاه» احتمالات ثلاثة:
1 ـ التخيير في الحجّية.
2 ـ تأكيد للجمله الاُولى: «يرجئه حتّى يلقى من يخبره».
3 ـ السعة العملية في مقام تفريغ الذمّة عن الواقع المجهول بعد حصول التعارض، فيكون بيانا لعدم نشوء تنجيز زائد على ما ورد في الخبرين.
وباعتبار مساواة الاحتمالات يبطل الاستدلال بها<ref>. بحوث في علم الأصول الهاشمي 7: 339 ـ 341.</ref>.
وهناك وجوه اُخرى من النقاشات في هذه الرواية<ref>. المحكم في أصول الفقه 6: 227.</ref>.
منها: ما رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلاً عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبدالله  عليه‏السلام قال: «إذا سمعتَ مِن أصحابك الحديث وكُلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فترد عليه»<ref>. وسائل الشيعة 27: 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضي باب الجمع بين الأحاديث المختلفة والعمل بها ح 41.</ref>.
أشكل عليها بضعف السند بسبب الإرسال، مضافا إلى أنّها تدلّ على حجّية أخبار الثقة إلى ظهور الحجّة ولا دلالة لها على حكم المتعارضين<ref>. مصباح الأصول 3: 424.</ref>.
رُدّ هذا الإشكال بإمكان استفادة شمولها لصورة التعارض من الإطلاق؛ لأنّ لسان دليل الحجّية هنا لسان التوسعة بخلاف ما لو كان لسانه لسان جعل المنجزية أو الطريقية أو إيجاب العمل، فلا يمكن أن يشمل مورد تعارض الدليلين.
لكن قد يستشكل على الاستدلال من خلال إبراز احتمال أن يكون المراد من التوسعة هنا هو التوسعة في الوظيفة العملية وبملاك الأصول المؤمنة مع افتراض سقوط المتعارضين عن الحجّية، فلا يكون دليلاً على التخيير في الحجّية.
ويردُّ هذا الإشكال بأنّ موارد التعارض لا تكون مجرى للأصول المؤمّنة دائما، فقد تكون موردا للتنجيز إمّا لوجود عموم فوقاني  منجز لا بدّ من الرجوع إليه بعد التعارض أو لوجود أصل عملي منجز كما في باب المعاملات مثلاً<ref>. بحوث في أصول الفقه الهاشمي 7: 346 ـ 347.</ref>.
وهناك استدلالات ونقاشات أكثر وردت في الروايات ذات الصلة<ref>. كتاب التعارض: 238 ـ 244، أنوار الأصول 3: 475 ـ 477، المحكم في أصول الفقه 6: 226 ـ 231.</ref>.
==القول الثاني: التوقّف وعدم الافتاء أصلاً==
وردّ بأنّه إلى متى يمكن التوقّف مع أنّ الحكم قد لا يقبل التأخير. حكاه الغزالي وغيره<ref>. المستصفى 2: 229، البحر المحيط 6: 115.</ref>، كما ذهب إليه الأخباريون<ref>. الحدائق الناضرة 1: 109، مفاتيح الأصول: 683.</ref>، وذكره الشيخ الأنصاري كأحد الوجوه المطروحة هنا<ref>. فرائد الأصول 4: 38.</ref>.
استدلّ البحراني على هذا الرأي ـ بعد مناقشته الروايات الواردة في هذا الباب ـ بخبر الميثمي عن الرضا عليه‏السلام الذي ورد فيه ذكر مرجّحات، ثُمّ جاء فيه: «وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا»<ref>. وسائل الشيعة 27: 115 الباب 9 من أبواب صفات القاضي، باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفية العمل بها ح21.</ref>.
وردّ هذا الحديث بوجود محمّد بن عبد الله المسمعي في سلسلة الحديث، وهو ضعيف؛ لأنّ الصدوق نقل عن شيخه فيه كونه سيئ الرأي<ref>. عيون أخبار الرضا 1: 685 ـ 689 باب 30 ح 45.</ref>.
لكن قيل: بإمكان رجوع سوء الرأي إلى قضايا من قبيل الغلوّ واعتماد المراسيل، وهذا لا يتنافى مع الوثاقة المطلوبة هنا<ref>. المحكم في أصول الفقه 6: 239 ـ 240.</ref>.
أمّا من حيث الدلالة فهو باعتباره متعرّضا لألسنة نصوص التخيير كان حاكما عليها حكومة تفسيرية فيقدّم عليها ويكون كاشفا عن خلل في ظهورها.
لكن قد يقال: بأنّ الحكومة المزبورة تتمّ في بعض الروايات القابلة للحمل على السعة الواقعية ولا تتمّ في مثل مرسل الحسن بن الجهم الذي هو كالصريح في التخيير الظاهري وكذلك مرفوعة زرارة التي فرض فيها لزوم الترجيح الذي لا مجال ولا محلّ له هنا. وبهذا يكون خبر الميثمي معارضا لمثل الخبرين لا حاكما عليهما.
من جانب آخر، فقد يدّعى انجبار نصوص التخيير بالعمل بها من قبل الأصحاب دون نصوص التوقّف، إلاّ أنّه شكّك في أصل عمل الأصحاب بنصوص التخيير<ref>. المصدر السابق: 239 ـ 243.</ref>.
==القول الثالث: وجوب الأخذ بما طابق الاحتياط منهما==
ذكره الشيخ الأنصاري كأحد الوجوه<ref>. فرائد الأصول 4: 39.</ref>، كما ذكره الشيخ المظفر دون أن ينسبه لأحد خاصّ<ref> أصول الفقه المظفر 3 ـ 4: 237.</ref>.
ومن المحتمل كونه عائدا إلى روايات الترجيح بالأحوط، فقد لا يكون قولاً ناظرا إلى ما بعد إعمال المرجّحات على الدليلين.
وهناك آراء اُخرى أوردها بعض الأصوليين<ref>. المستصفى 2: 229 ـ 230، البحر المحيط 6: 115 ـ 116.</ref>.


=المصادر=
=المصادر=
[[تصنيف: اصطلاحات الأصول]]
[[تصنيف: اصطلاحات الأصول]]
confirmed
١٬٦٣٠

تعديل