البدعة

مراجعة ١٨:٢١، ٥ أبريل ٢٠٢٣ بواسطة Wikivahdat (نقاش | مساهمات) (استبدال النص - '=المصادر=↵{{الهوامش|2}}' ب'== الهوامش == {{الهوامش}}')
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)

البدعة: اصطلاحٌ فقهيٌ وأصوليٌ بمعنی فعل ما لم يُعهد في عهد الرسول، ولذا قسّم اصحاب هذا الرأي البدعة إلى أقسام خمسة: البدعة الواجبة، والمستحبّة، والمحرّمة، والمكروهة، والمباحة. وهو منسوب إلى مشهور العلماء من أهل السنّة. وأما الإمامية وجماعة من أهل السنّة كالإمام مالك والشاطبي والطرطوشي من المالكية، والإمام الشمني والعيني من الحنفيّة، والبيهقي من الشافعية، وابن رجب وابن تيمية من الحنابلة قالوا: إنّ البدعة إدخال ما ليس من الدين أو ما لم يعلم كونه من الدين، في الدين سواء كان ذلك في العبادات أو غير العبادات. وعلى هذا المسلك تكون البدعة من الاُمور المذمومة على كلّ حال، ولايصحّ تقسيمه إلى المحرمة والمباحة وغيرها من الأحكام الخمسة.
والغرض في هذا المقال أنّه يبحث في علم الأصول أنّ كلّ ما لم يثبت حجّيته فإنّه لايجوز الاستناد إليه، ويكون من البدع بناء على التعميم في تعريف البدعة لكلّ ما لم يعلم كونه من الدين كما سيأتي توضيحه.

تعريف البدعة لغةً

البدعة اسم من الابتداع، بمعنى إحداث شيء واختراعه لا على مثال سابق[١]. يقال: بدع الشيء وابتدعه: أنشأه وبدأه[٢]. والبدع: الشيء الذي يكون أوّلاً[٣]. ومنه قوله تعالى: «قُلْ مَا كُنتُ بِدْعا مِّنَ الرُّسُلِ»[٤] أي أوّلهم[٥].

تعريف البدعة اصطلاحاً

قد عرّفت البدعة في كلمات العلماء بتعاريف عديدة، يمكن جمعها ضمن تعريفين رئيسيين:
1 ـ البدعة كلّ حادث لم يوجد له ذكر بالخصوص في الكتاب والسنّة القولية والعملية. من ذلك تعريف عزّ بن عبدالسلام: من أنّها فعل ما لم يُعهد في عهد الرسول[٦]. وبناءً على هذا التعريف يكون كلّ عمل لم يكن في زمان النبي(ص) من البدعة، ولو كان مشمولاً لعمومات الكتاب والسنّة. ولذا قسّم اصحاب هذا الرأي البدعة إلى أقسام خمسة: البدعة الواجبة، والمستحبّة، والمحرّمة، والمكروهة، والمباحة. وهو منسوب إلى مشهور العلماء من أهل السنّة كالإمام الشافعي والعزّ بن عبد السلام والنووي وأبي شامة من الشافعية، ومن المالكية القرافي والزرقاني، ومن الحنفية ابن عابدين، ومن الحنابلة ابن الجوزي، ومن الظاهرية ابن حزم[٧]. وهو ظاهر ذكرى الشهيد الأوّل من الإمامية أيضا حيث قسّم البدعة بالأحكام الخمسة[٨]، إلاّ أنّ كلامه في القواعد والفوائد يخالف الذكرى ويوافق قول المشهور[٩].
2 ـ البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية. وهذا التعريف ذكره الشاطبي في الاعتصام[١٠]، ويرجع هذا التعريف إلى ما ذكرته الإمامية من أنّ البدعة: «إدخال ما ليس من الدين ـ أو لم يعلم كونه من الدين ـ في الدين»[١١]. سواء كان ذلك في العبادات أو غير العبادات. وعلى هذا المسلك تكون البدعة من الاُمور المذمومة على كلّ حال، ولايصحّ تقسيمه إلى المحرمة والمباحة وغيرها من الأحكام الخمسة؛ إذ الخروج عن الطريقة الشرعية وإدخال ما ليس من الشرع فيه غير جائز عند جميع الناس كما لايخفى.
وهذا التعريف ذكره مشهور الإمامية ـ بل جميعهم إلاّ الشهيد فيما مرّ من عبارته ـ وجماعة من أهل السنّة كـ الإمام مالك و الشاطبي والطرطوشي من المالكية، والإمام الشمني والعيني من الحنفيّة، والبيهقي من الشافعية، وابن رجب و ابن تيمية من الحنابلة[١٢].
اتّضح من ذلك أنّ إتيان العمل بلا إسناد الشارع وبلا اتّخاذه طريقة شرعية ـ بل رجاءً واحتياطا ـ ليس من البدعة عند جميع العلماء من أهل السنّة والإمامية.
كما أنَّ العمل إذا كان مشمولاً لعمومات الكتاب والسنّة لا يعدّ من البدعة لوجود الدليل عليه بالعموم. نعم، إذا التزم العامل فيه بخصوصية معيّنة في كيفية العمل أو زمانه أو مكانه بقصد الورود والتخصيص بهذه الخصوصية كان ذلك من البدعة؛ لأنّه من إسناد الشيء إلى الشارع بلا دليل، ومحرّم عند الإمامية بلا إشكال، إلاّ إذا أتاه المكلّف بدون قصد الورود والخصوصية المعيّنة فيصحّ للعموم المزبور، وهذا ما يسمّى عند بعض أهل السنّة بالبدعة الإضافية، يعني أنَّ العمل يكون من جهة بدليل ومن جهة بلا دليل، وقيل: إنّها صارت مثار الخلاف عند متكلّميهم[١٣].

الألفاظ ذات الصلة

أ ـ السنّة

للسنّة اطلاقات كثيرة، أهمّها مايلي:
1 ـ مطلق الأمر المندوب في مقابل الواجب وأخواته، سواء ثبت استحبابه بالكتاب أو بالأخبار أو بفعل المعصوم. ويستعمل كثيرا في مقابل الفرض والفريضة، يقال: هذا العمل سنّة أم فريضة؟ وإطلاقاته في كلمات الفقهاء كثيرة[١٤]. من ذلك ما روي عن الصادق عليه‏السلام: إنّه سئل عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أو سنّة؟ فقال: فريضة[١٥].
2 ـ مطلق قول النبي(ص) وفعله وتقريره، وكذا من يلحق به من الخلفاء والأئمّة، على خلاف معروف في ذلك بين الإمامية و أهل السنّة. وتستعمل السنّة بهذا المعنى مقابل الكتاب حينما يقولون في استدلالاتهم على الأحكام الشرعية: «يدلّ عليه من الكتاب كذا، ومن السنّة كذا»، بلا فرق بين أن يكون مفادها الوجوب أو الاستحباب أو الحرمة أو أمرا آخر. وهذا واضح لمن له أدنى معرفة بكلمات الفقهاء.
3 ـ مقابل البدعة: فالسنّة بهذا المعنى تطلق على كلّ حكم قام عليه دليل شرعي واندرج لذلك في سلك الأحكام الشرعية ـ سواء كان هو الوجوب أو الاستحباب أو غير ذلك، وسواء كان الدليل عليه الكتاب أو السنّة بالمعنى السابق ـ . والبدعة عنوان لكلّ ما ليس من الدين وأُريد إدخاله فيه. نعم، لو عرّفنا البدعة بكل ما لم يعهد في زمن النبي(ص) ولو كان مشمولاً لعمومات الكتاب والسنّة ـ كما مرّ ذكره من جماعة من أهل السنّة ـ فلا تكون البدعة خارجا عن السنّة ومقابلاً لها على كلّ حال، بل قد تكون كذلك ـ أي مقابل السنّة ـ وهو ما كان من البدع المحرّمة أو المكروهة كما لايخفى.
ثُمّ من موارد إطلاق السنّة في مقابل البدعة في كلمات الفقهاء قولهم: «طلاق السنّة وطلاق البدعة»[١٦].
وقولهم: «ذلك العمل سنّة أو بدعة؟»[١٧] وما ورد في الخبر: «من أحيا سنّة أو أمات بدعة كان له أجر مئة شهيد»[١٨] وقول علي عليه‏السلام: «ما أُحدثت بدعة إلاّ تركت بها سنّة، فاتقوا البدع والزموا المهيع...»[١٩].

ب ـ التشريع

وهو تفعيل من الشرع، بمعنى جعل الإنسان حكما شرعا لنفسه أو لغيره. وفي اصطلاح الفقهاء مرادف للبدعة بما مرّ له من المعنى الاصطلاحي، إلاّ أنّ المعروف لدى أكثر المتقدّمين من علماء الإمامية، وجميع أهل السنّة إطلاق لفظ البدعة على التشريع، بخلاف المتأخّرين من الإمامية، حيث شاع تعبير «التشريع» بينهم بمعنى البدعة. وقد جُمعا معا في عبارة المحقّق الحلّي في المعتبر: «أما كون الثالثة بدعة فلأنّها ليست مشروعة، فإذا اعتقد التشريع أثِمَ، ولأنّه يكون إدخالاً في الدين ما ليس منه...»[٢٠].

البدعة في أصول الفقه

كما تجري البدعة في فروع الفقه كذلك تجري في أصوله، فإنّ ما وقع البحث عن حجّيته في علم الاُصولِ أي اختلف فيه من حيث ثبوت الحجّية له وعدمها، فما كان حجّة يجوز الاستناد إليه في مقام الاستنباط. وأمّا ما ثبت عدم حجّيته ـ لورود نهي عن العمل به في مقام الاستنباط كالقياس من وجهة نظر الشيعة الإمامية ومذاهب أخرى ـ فالاستناد إليه بدعة، بل وكذلك كلّ ما لم يثبت حجّيته فإنّه أيضا لايجوز الاستناد إليه، ويكون من البدع بناء على التعميم في تعريف البدعة لكلّ ما لم يعلم كونه من الدين أيضا كما سيأتي توضيحه.
وأمّا تفصيل موارد الحجج عن غيرها فالبحث عنه موكول إلى أصول الفقه، ولا خلاف بين العلماء ـ جميعا ـ في حجّية الكتاب والسنّة النبويّة ودليل العقل و الإجماع في الجملة. ومحلّ الخلاف حجّية قول الأئمة عليهم‏السلام، حيث ذهب إليها الإمامية دون غيرهم، وكذا القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة ونحوها، حيث ذهب إلى حجّيتها مشهور أهل السنّة، وأنكر حجّيتها الإمامية وبعض أهل السنّة.

البدعة في الاعتقادات

كما تجري البدعة في الفقه وأصوله كذلك تجري في أصول الاعتقادات، بل الظاهر من كلمات العلماء ـ خصوصا المتقدّمين منهم ـ[٢١] أنّ أكثر إطلاق هذه الكلمة ومشتقاتها كانت بالنسبة للفُرق المنحرفة وذوي المذاهب المختلفة الكلاميّة الذين كان سبب افتراقهم غالبا اعتقادهم بمذهب وطريقة خاصّة في أصول الدين وما يتعلّق بها، كالخوارج والغلاة والمجسمة و الوهابيّة و البهائية وغيرها، ولذلك تطلق عليهم في لسان الأخبار بـ أهل البدع والأهواء، ومن ذلك ما روي عن علي عليه‌السلام خطيبا: «أيّها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب اللّه‏، يتولى فيها رجالٌ رجالاً، فلو أنّ الباطل خلص لم يُخفَ على ذي حجى، ولو أنّ الحقّ خلص لم يكن اختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم الحسنى»[٢٢].

شمول البدعة للمشكوكات وعدمه

وقع الكلام في أنّ البدعة هل هي اسم لخصوص إسناد ما ليس من الدين واقعا إليه، أو أنّها تشمل إسناد ما لم يعلم كونه من الدين إلى الدين أيضا؟ وبعبارة أُخرى: هل للبدعة حقيقة وواقعية خارجية ـ وهي إسناد ما ليس من الدين واقعا وفي علم اللّه‏ إليه ـ بحيث يكون إسناد ما ليس من الدين بزعم المكلّف، مع انكشاف الحال بعده خارجا عن مفهوم البدعة، أو أنّها ليست لها واقعية خارجية قد ينطبق عليها عمل المكلّف وقد لاينطبق، بل هي مطلق إسناد شيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه، وإن كان في الواقع ممّا شرعه الشارع؟ وهذا التعميق من البحث في حقيقة البدعة وإن لم نجده في كلمات العلماء من أهل السنّة، إلاّ أنّه مذكور في كلمات الإمامية، ووقع الخلاف بينهم، فذهب مشهور المتعرّضين للمسألة إلى الثاني ـ وهو العموم ـ منهم العلاّمة كاشف الغطاء[٢٣] والشيخ الأنصاري في بعض رسائله[٢٤] والمحقّق النائيني[٢٥] والسيّد الحكيم[٢٦] و السيّد الخوئي[٢٧] وغيرهم[٢٨]، ولعلّه الظاهر من حاشية المحقّق الخراساني على فرائد الشيخ أيضا[٢٩].
قال المحقّق النائيني: «وبالجملة ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه المكلّف أو لايصيبه، بل واقع التشريع هو اسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إيّاه، سواء كان في الواقع ممّا شرعه الشارع أو لم يكن»[٣٠] وفي قبال هؤلاء ذهب الامام الخميني قدس‏سره إلى الأوّل، حيث حكم بأنّ التشريع خصوص إدخال ما ليس من الدين إليه، وأمّا إسناد ما لم يعلم كونه من الدين مع انكشاف الخلاف بعده أنّه كان من الدين فهو خارج عن حقيقة البدعة ومفهومها، وداخل في عنوان آخر ـ وهو القول بغير العلم، أو الإفتاء بغير العلم ـ ، وادّعى قدس‏سره خلط بعض العلماء بين العنوانين [ البدعة والإفتاء بغير العلم ] حيث استدلّوا على حرمة الأوّل بما يدل على حرمة الثاني، مع أنّ بينهما فرقا واضحا؛ إذ البدعة هي تغيير القوانين الإلهيّة، بخلاف الإفتاء بغير العلم الذي هو إسناد ما لم يعلم كونه من الدين إليه وقبيح بما له من المناط ـ وهو قبح الافتراء على اللّه‏ تعالى ـ لا بمناط قبح البدعة والتشريع، وهو قبح تغيير دين اللّه‏ والتصرّف فيه[٣١]. وسيأتي تفصيلها في أدلّة حرمة البدعة.

البدعة عنوان للعمل الخارجي أو للبناء القلبي؟

قد وقع الكلام والخلاف بين المتعرّضين للمسألة ـ وهم الإمامية ـ فذهب جماعة إلى أنّها ليست إلاّ عنوانا للالتزام القلبي بكون شيء من الدين، كالمحقّق العراقي[٣٢] والسيّد الحكيم[٣٣] والسيّد الروحاني[٣٤]. وقد يستظهر ذلك من بعض عبارات المحقّق الخراساني أيضا[٣٥]، بل لعلّه ظاهر كلّ من حكم بسراية القبح من التشريع إلى العمل،حيث جعل التشريع غير العمل، وأنّه تسري الحرمة والقبح منه إلى العمل[٣٦]، فهو لا محالة من أفعال القلب.
قال السيّد الروحاني في المنتقى: «إنّ التشريع ليس من صفات الفعل الواقع كَي تكون حرمته حرمةً للفعل، بل هو من صفات القلب، فإنّ التشريع عبارة عن البناء القلبي على جعل الحكم، ولايكون العمل سوى الكاشف عن البناء والتشريع...»[٣٧]. وعلى هذا لابدّ لإثبات الحرمة للعمل من البحث عن سراية القبح من التشريع إلى العمل.
وفي قبال هؤلاء ذهب جماعة إلى أنّ البدعة والتشريع عنوان لنفس العمل الخارجي المأتّي به بهذا القصد والبناء، دون مجرّد البناء القلبي، وأنّ أدلّة قبح البدعة وحرمتها ـ على ما يأتي تفصيلها ـ تحكم بحرمة هذا العمل مباشرة، من دون حاجة إلى البحث عن سراية القبح من البناء القلبي إلى العمل الخارجي وعدمه. وهذا القول ظاهر جماعة كالسيّد الخوئي[٣٨] والبجنوردي[٣٩] والشهيد الصدر قدس‏سره في تقريرات بحثه[٤٠]، ولعلّه الظاهر من بعض عبارات صاحب الجواهر أيضا[٤١].
وحاصل الفرق بين المسلكين أنّ على المسلك الثاني يستدلّ بأدلّة حرمة البدعة على حرمة العمل الخارجي الذي أتى به المكلّف بدعة وتشريعا، وبالتالي فساده ـ على ما يأتي تفصيله ـ وعلى المسلك الأوّل بعد تسليم حرمة البناء القلبي لابدّ من البحث في تأثّر العمل الخارجي بهذا البناء القلبي في القبح والحرمة وعدمه، مضافا إلى إمكان إنكار أصل حرمة الأمر القلبي المحض الذي سيأتي الكلام عنه في حكم البدعة.

حكم البدعة

ويقع البحث عنه في مقامين: الأوّل: حرمة البدعة وعدمها، الثاني: فساد العمل المبدع فيه وعدمه.

المقام الأوّل: حرمة البدعة وعدمها

قد مرّ الكلام عن تعريف البدعة، وقابلية اتّصافها على بعض التعاريف من أهل السنّة بـ الأحكام الخمسة، فعلى هذا القول لا معنى للقول بحرمة البدعة بقول مطلق.
وأمّا على المسلك الذي يعرفها: بإدخال ما ليس من الدين في الدين، وما في معناه، فالظاهر عدم الخلاف بينهم في الحرمة، ولذلك اُرسل في كلمات جماعة إرسال المسلّمات[٤٢]، بل في الرياض: «للاتفاق على حرمة التشريع»[٤٣]، وفي الجواهر: «ضرورة معلومية حرمة التشريع»[٤٤].
نعم، قد يظهر من بعضهم الإشكال في حرمتها الشرعية المولوية بعد تسليمه للحرمة العقلية، بمعنى استحقاق فاعلها للذمّ والعقاب في حكم العقل[٤٥]، كما يظهر من بعضهم التردّد في حرمتها الشرعيّة المولويّة بناءً منه على تفسيرها بالالتزام القلبي[٤٦]، ولعلّ نظره إلى ما ورد من العفو عن العقاب على مجرّد العزم، ولكن يرد عليه: أنّ العفو غير مُناف للحرمة الشرعية، بل لعلّ نفس أخبار العفو من أدلّ الأدلّة على الحرمة؛ إذ لو لم يحرم لم يكن عقاب، ولا معنى حينئذٍ للعفو كما لايخفى.

أدلة حرمة البدعة

قد يستدلّ على حرمة البدعة بالآيات والأخبار الواردة في ذمّ البدعة والمبتدعين[٤٧] كبحث فقهي، وهذا بحث لانتعرّض له هنا ونتركه في مقامه.
وقد يستدلّ على حرمتها بقبحها عقلاً؛ لأنّها تصرّف في ما هو سلطان المولى من تشريع الأحكام ووضع القوانين، وهذا هتك لحرمته وظلم عليه[٤٨]، فإذا انضمّ إلى هذه المقدّمة ما ثبت في علم الاُصول ـ على خلاف فيه ـ من الملازمة بين حكم العقل والشرع ثبتت الحرمة الشرعية أيضا.
وقد يفصّل في الحرمة بين ما إذا كان التشريع في مقام الأمر والجعل فيكشف قبحه العقلي حينئذٍ عن الحرمة شرعا، وبين ما إذا كان التشريع في مقام الامتثال الذي هو بمثابة المعلول للأحكام الشرعية ـ لا العلّة ـ فلايكشف القبح في هذا المقام عن حرمة العمل شرعا[٤٩].
وبعبارة اُخرى: الحرام إنّما هو التصرّف في ما هو سلطان المولى، وما هو سلطان المولى إنّما هو مقام الجعل والأمر لا مقام الامتثال[٥٠].
وقد أُجيب عنه بما ذكره النائيني من أنّ نفس البدعة والتشريع في أيّ مقام كانت تشتمل على مفسدة موجبة لجعل حكم مولوي على طبقها وهو الحرمة؛ لأ نّها من أفراد الكذب والافتراء فيستقل العقل بقبحه والشرع بحرمته[٥١]، ولكن لايخفى أنّ هذا الجواب إنّما يصحّ بناءً على تفسير البدعة والتشريع بما يجعلهما من مصاديق الكذب والافتراء على اللّه‏ القبيحين عقلاً، وأمّا بناءً على افتراقهما مفهوما فقد يشكل الاستدلال على حرمة البدعة بأدلّة حرمة الافتراء، بل ينحصر الوجه في حرمتها بما مرّ من قبح التصرّف في سلطان المولى.
وقد يجاب عن ذلك بأنّ هذا إنّما هو فيما إذا لم نقل بأنّ النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، وأمّا عليه فيصدق حينئذٍ على أفراد البدعة الافتراء على اللّه‏ أيضا، لمكان انطباق أفراد البدعة على أفراد الافتراء خارجا، فتكون محكومة بحكمها، كما لا يخفى.
هذا كلّه بناءً على صدق البدعة القبيحة ـ وبالتالي المحرّمة ـ على العمل الخارجي، وأمّا بناءً على القول بأنّ البدعة عنوان للبناء القلبي، فقد مرّ الإشكال عن بعضهم في حرمتها في نفسه[٥٢]، وقد مرّ وجهه وجوابه.

سراية القبح والحرمة إلى الخارج وعدمه

بناءً على القول بكون البدعة عنوانا للبناء القلبي وأنّها محرّمة أيضا، يقع الكلام في أنّ قبح البناء القلبي وحرمته هل يسري إلى العمل الخارجي ليحكم بحرمته أيضا أو يبقى على العمل القلبي؟ وهذا أمر له التأثير التامّ في البحث المقبل ـ وهو فساد العمل فيه وعدمه ـ إذ لايبقى مجال للفساد بناءً على عدم الحرمة خصوصا في المعاملات كما لايخفى.
وكيف كان قد يناقش في السراية المزبورة بادّعاء أنّ البدعة إذا فرض انطباقها على البناء القلبي، فلا محالة يكون العمل الخارجي خارجا عن حقيقة البدعة والتشريع، ولا وجه للقول بسراية القبح والحرمة من عنوان إلى عنوان آخر مغاير معه، كما هو مطّرد في سائر الأحكام العقلية[٥٣]. نعم، المستفاد من المحقّق النائيني الالتزام بالسراية استنادا إلى إمكان كون القصد والداعي من الجهات المغيّرة لحسن العمل وقبحه، فلا بُعد في كون التعبّد بعمل ليس من الشرع ـ أو لم يعلم كونه منه ـ موجبا لانقلاب العمل عمّا هو عليه من الإباحة، وطريان جهة مفسدة بذلك عليه تقتضي قبحه عقلاً وحرمته شرعا، واستشهد لذلك بقول الإمام عليه‏السلام في عداد القضاة: «ورجل قضى بالحقّ وهو لايعلم فهو في النار»[٥٤]، حيث إنّ القضاء بالحقّ ليس في نفسه محرما، ولكن حيث كان ممّن لايعلم الحقّ فأوجب ذلك قبح نفس القضاء أيضا، فصار العمل المباح حراما[٥٥].
ولكن اُجيب عنه بأنّ الالتزام بالكليّة المزبورة ـ وهو طريان القبح على بعض العناوين المباحة لبعض الجهات ـ لايستلزم الالتزام به في خصوص المقام، وبعبارة اُخرى: الاشكال في الصغرى لا الكبرى، مضافا إلى أنّ الخبر المزبور لايدلّ على أكثر من حرمة هذا القضاء، وهذا أمر لاينكر، حيث إنّ القضاء بما لايعلم قد دلّت على حرمته الأخبار وإن صادف الواقع، وهذا الخبر أحدها، وأمّا أنّ الحرمة المزبورة إنّما كانت من باب سراية القبح والحرمة من النية إلى العمل الخارجي ـ وهو القضاء في هذا الخبر ـ فهو أوّل الكلام[٥٦].

المقام الثاني: فساد العمل المبدع فيه وعدمه

وهو تارة في العبادة واُخرى في المعاملة.
وعلى كلّ حال إمّا أن تكون البدعة في أصل العمل، أو في جزئه وشرطه، أو في وصفه، أو في ما هو خارج عنه من مقدّماته ومؤخّراته ومقارناته.
وهذا بحث ليس هنا محلّ ذكره؛ إذ هو من صغريات البحث الاُصولي المعروف بـ (اقتضاء النهي للفساد وعدمه) وقد وقع البحث عنه هناك بجميع صوره، فراجع.
نعم، الأمر الذي ينبغي الإشارة إليه هنا هو أنّ ما ذكروه هناك ـ من اقتضاء النهي التحريمي المولوي للفساد وعدمه ـ هل يشمل النهي التشريعي أو لا؟ وقد اُجيب عنه هناك بنعم، ضرورة أنّ الجهة المبحوث عنها في مبحث الاقتضاء هي حرمة العمل المنهي عنه، وأنّ حرمته الشرعية هل تلازم الفساد أو لا؟ وأما أنّ وجه الحرمة الشرعية المزبورة هل هو مفسدة كامنة في نفس العمل بما له من العنوان الأولي الذاتي، أو مفسدة في عنوان عام آخر ـ كالتشريع ونحوه ـ منطبق على العمل، بحيث توجب اتّصافه بنفسه بالحرمة، بحيث يكون النهي من قبيل النهي النفسي لا الغيري؟ فهو أمر لا دخل له في الجهة المبحوث عنها في المسألة كما لايخفى. وقد صرّح بذلك بعض محقّقي الاُصوليين[٥٧].
نعم، مع إنكار حرمة التشريع من أصله، أو إنكار سراية النهي من العنوان إلى المعنون، أو الالتزام بأنّ التشريع عنوان للبناء القلبي فحسب، وأنّه لايسري قبحه‏الخارج أصلاً ـ كما مرّ الكلام عن بعض ذلك ـ فلايبقى مجال لإلحاق الحرمة التشريعية بالحرمة الذاتية كما لايخفى. والتفصيل في محلّه.

الهوامش

  1. . المصباح المنير: 38، لسان العرب 1: 243.
  2. . لسان العرب 1: 243.
  3. . القاموس المحيط 646 ـ 647، لسان العرب 1: 243.
  4. . الأحقاف: 9.
  5. . العين 2: 54 .
  6. . أنظر: قواعد الأحكام عزّ بن عبد السلام 2: 133.
  7. . تلبيس إبليس: 22 ـ 28، تهذيب الأسماء واللغات 3: 22، قواعد الأحكام 2: 133.
  8. . ذكرى الشيعة 4: 144.
  9. . القواعد والفوائد 2: 145.
  10. . الاعتصام 1: 24.
  11. . جواهر الكلام 2: 277 و278، معتمد الأصول: 441، تسديد الأصول 1: 457.
  12. . الاعتصام 1: 28 ـ 29، اقتضاء الصراط المستقيم ابن تيمية: 276، جواهر الإكليل 1: 112، عمدة القارئ 25: 37.
  13. . أنظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 8: 32.
  14. . أنظر: المقنع: 446، إشارة السبق: 138، المجموع شرح المهذّب 4: 203 و5: 3، الجامع للشرائع: 97، مواهب الجليل 2: 81، مغني المحتاج 1: 276، حواشي الشرواني 2: 247، مستند الشيعة 13: 131.
  15. . الكافي 4: 435، كتاب الحجّ، باب السعي بين الصفا والمروة وما يقال فيه، ح 7.
  16. . أنظر: كتاب الاُم 5: 194، المبسوط الشيخ الطوسي 5: 4، غنية النزوع 1: 372، المجموع شرح المهذّب 17: 211، وغيرها.
  17. . عون المعبود 3: 309 ـ 310 وغيره.
  18. . تذكرة الموضوعات: 44.
  19. . وسائل الشيعة 16: 175، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلحق به، باب 16 استحباب إقامة السنن الحسنة وإجراءات عادات الخير والأمر بها وتعليمها، وتحريم إجراءات الشر، ح 11.
  20. . أنظر: المعتبر 1: 159.
  21. . أنظر: المقنعة: 701، تذكرة الفقهاء 9: 408، الدروس 2: 344.
  22. . الكافي 1: 54 كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقائيس، ح 1.
  23. . كشف الغطاء 1: 269.
  24. . رسائل فقهية الشيخ الانصاري: 139.
  25. . فوائد الاُصول 3: 123 ـ 124.
  26. . حقائق الاُصول 2: 29، مستمسك العروة الوثقى 5: 341 ـ 342.
  27. . مستند العروة الوثقى 2: 72.
  28. . منتهى الاُصول 2: 106.
  29. . درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 77 ـ 78.
  30. . فوائد الاُصول 3: 123 ـ 124.
  31. . تهذيب الاُصول 2: 85 ـ 86.
  32. . نهاية الأفكار 1 ـ 2: 466 ـ 467.
  33. . مستمسك العروة الوثقى 3: 308 ـ 311.
  34. . منتقى الاُصول 3: 193.
  35. . كفاية الاُصول : 259 ـ 260، در الفوائد في الحاشية على الفرائد : 77 ـ 78.
  36. . التنقيح في شرح العروة الوثقى 5: 423 ـ 424 و6: 355.
  37. . منتقى الاُصول 3: 193.
  38. . التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 299.
  39. . منتهى الاُصول 2: 76.
  40. . بحوث في علم الاُصول 3: 123.
  41. . أنظر: جواهر الكلام 2: 278.
  42. . أنظر: رياض المسائل 1: 193، عوائد الأيّام: 319 ـ 326، مستند الشيعة 5: 436، جواهر الكلام 1: 58، 32: 116، مستند العروة الوثقى 4: 449 ـ 450.
  43. . أنظر: رياض المسائل 4: 68.
  44. . أنظر: جواهر الكلام 18: 98.
  45. . در الفوائد في الحاشية على الفرائد: 77 ـ 79.
  46. . منتقى الاُصول 3: 193.
  47. . أنظر: الكافي 1: 56 ـ 58 كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس و2: 375 كتاب الإيمان والكفر، باب مجالسة أهل المعاصي.
  48. . أنظر: درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 77 ـ 78، فوائد الاُصول 3: 120، نهاية الدراية 2: 398، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 465، بحوث في علم الاُصول 3: 123.
  49. . أنظر: فوائد الاُصول 3: 120 ـ 121، التنقيح في شرح العروة الوثقى 5: 443.
  50. . أنظر: بحوث في الفقه الإصفهاني: 42.
  51. . أنظر: فوائد الأصول 3: 121.
  52. . أنظر: منتقى الاُصول 3: 193.
  53. . أنظر: نهاية الأفكار 1 ـ 2: 467، تهذيب الاُصول 2: 85 ـ 86.
  54. . وسائل الشيعة 27: 22 كتاب القضاء، باب 4 عدم جواز القضاء و الإفتاء بغير علم بورود الحكم عن المعصومين عليهم‏السلام من أبواب صفات القاضي ومايجوز أن يقضي به، ح 6.
  55. . فوائد الاُصول 3: 121 ـ 122.
  56. . أنظر: تهذيب الاُصول 2: 85 ـ 86.
  57. . أنظر: كفاية الاُصول: 186 ـ 187، محاضرات في أصول الفقه 5: 14 ـ 15.