حق الطاعة
حق الطاعة: وهذا اصطلاحٌ في أصول الفقه ومسلکٌ اخترعه الشهيد محمد باقر الصدر، وهو حقّ للمولى على العبد في أن يطيعه في كلّ ما ينكشف له من تكاليف، سواء كانت على مستوى القطع أو الظنّ أو الاحتمال.
مسلک حق الطاعة
وهذا المسلك هو المعروف بمسلك حقّ الطاعة أو الاحتياط العقلي [١]، في مقابل قبح العقاب بلا بيان أو البراءة العقلية التي لا يكون للمولى فيها حقّ على العبد إلاّ فيما يقطع به من تكاليف؛ لعدم صدق البيان في صورتي الظنّ والاحتمال [٢].
وقد يكون مراد المتقدّمين من أصالة الحظر[٣] حقّ الطاعة الذي نتحدّث عنه هنا، بل رجّح الشهيد الصدر [٤] أن يكون المراد من التوقّف الوارد في كلام الشيخ الطوسي[٥] ذلك أيضا. وإن اعتبر بعضهم إجمال المراد في أصالة الحظر في كلماتهم [٦].
الحكم في المسألة
اختلف [٧] الأصوليون فيما يحكم به العقل عند الشكّ في التكليف ويقطع النظر عن الأدلّة الشرعية المحددة للوظيفة العملية، حيث ذهب مشهور المتأخّرين إلى البراءة العقلية لبداهة حكم العقل العملي بقبح العقاب بلا بيان [٨]، بل ادّعى بعضهم الاتّفاق عليه بين الاُصوليين والأخباريين[٩].
وخالف في ذلك بعض علماء الإمامية [١٠] وبعض أهل السنّة [١١] فاختاروا لزوم الاحتياط والالتزام بكلّ ما يحتمله المكلّف من تكاليف إلى حين اتّضاح الحكم الشرعي ووصوله من قبل الشارع؛ لأنّ مقتضى العقل العملي ـ باعتقادهم ـ هو ثبوت حقّ الطاعة للمولى تعالى الخالق والمالك والمنعم.
وتزداد درجة الإدانة وقبح المخالفة كلّما ازدادت درجة الانكشاف للتكليف [١٢].
وقد رفض الشهيد الصدر صحّة مقايسة مولوية المولى تعالى بالموالي العرفيين؛ لكونهم يختلفون عنه في كون مولويتهم مجعولة من قبل العقلاء ومحدودة بحدود العلم بالتكليف، بخلاف مولوية المولى الحقيقي التي هي ذاتية غير محدودة بالعلم، بل تشمل الظنّ والاحتمال؛ لأنّه خالقنا ومبدع وجودنا، فلا بدّ من الاحتياط في كلّ ما نحتمل إرادته من تكليف.
كما رفض أيضا ما يدعيه البعض من بداهة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، موضحا أنّ الأمر لو كان كذلك فلماذا لم يتعرّض لهذا الحكم العقلي أحد من العقلاء إلى زمان الوحيد البهبهاني ؟! [١٣].
وفي مقابل القول بـ البراءة أو الاحتياط العقليين توقف [١٤] بعضهم فيما يقتضيه حكم العقل العملي في هذا المجال، حيث عبّر الشيخ الطوسي عن ذلك بأصالة التوقّف [١٥].
وكأنّه تحفظ في مقام الفتوى فلم يسند الحظر والمنع إلى الشارع، إلاّ أنّه لم يكن أمامه إلاّ الاحتياط من الناحية العملية، فيلتقي من هذه الجهة مع نظرية حقّ الطاعة.
وقد واجهت نظرية حقّ الطاعة انتقادات في الأوساط العلمية الحوزوية، أهمّها أنّها تعاني من تناقض داخلي بسبب اختلاف مقتضيات حكم العقل العملي؛ لأنّ الواقع المشكوك كما يحتمل أن يكون الملاك فيه إلزاميا، كذلك يحتمل أن يكون ترخيصيا، فإذا كان مقتضى حكم العقل العملي الاحتياط ـ مثلاً ـ حفاظا على الملاك الإلزامي المحتمل، فإنّ مقتضى حكم العقل العملي أيضا هو الترخيص حفاظا على الملاك الترخيصي المحتمل، لاهتمام الشارع بالملاك الترخيصي كاهتمامة بالملاك الإلزامي؛ لأنّ اللّه تعالى يحبّ أن يعمل برخصه كما يحبّ أن يعمل بعزائمه، فلا وجه لترجيح الملاك الإلزامي وتقديمه على الملاك الترخيصي، ما لم نحرز كون الإلزامي أكثر أهمّية عند المولى منه، إلى حدٍّ يدعو إلى تقديمه عليه.
ولما كان التناقض في حكم العقل غير معقول دلَّ ذلك على وجود خلل وإشكال في أصل النظرية، وعدم صلاحيتها للقيام مقام النظرية المقابلة، وهي نظرية قبح العقاب بلا بيان التي يعتبرها المخالفون في منأى عن هذا التناقض؛ لأنّها لا تعترف للمولى بحقّ إلاّ في حال البيان والقطع بالأحكام، فليس هناك تزاحم بين الملاكات المحتملة بحكم العقل العملي، كما هو الحال في نظرية حقّ الطاعة [١٦].
واُجيب عن ذلك:
أوّلاً: بأنّه لو أمكن قياس الملاك الترخيصي بالملاك الإلزامي بنحو يكون عدلاً ومزاحما له، فما وجه تقديم العلماء لملاكات الأحكام الإلزامية على الترخيصية حتّى ممّن يعتقد منهم بقبح العقاب بلا بيان، في موارد متعددة، كالعلم الإجمالي بوجوب فعل أو إباحته، حيث قدموا الإلزام على الترخيص، بل فعلوا ذلك أيضا في الشبهة البدوية، حيث حكموا بحسن الاحتياط وتقديم احتمال الإلزام على احتمال الترخيص، حتّى بعد حكم الشارع بـ البراءة الشرعية رغم كونها تعبِّر عن اهتمام الشارع بحفظ ملاكات الترخيص في مورد الشكّ أكثر من اهتمامه بحفظ ملاكات الإلزام، ممّا يعني أنّ الملاك الترخيصي ليس في مكانة تؤهله من مزاحمة الملاك الإلزامي حتّى ولو كان ملاكه اقتضائيا.
ثانيا: إنّ صلاحية الملاك الترخيصي للتزاحم إن كان المقصود بها اقتضاءه إلقاء نوع من المسؤولية على عاتق العبد لتحقيق ذلك الملاك وحفظه، بالإتيان بالعمل المباح امتثالاً لملاكه الإباحي ـ مثلاً ـ فهو مردود، لوضوح أنّ الإباحة لا تعني إلاّ عدم المسؤولية والإدانة سواء فعل متعلّقها أو لم يفعله.
وإن كان المقصود استلزامه التنافي بين ملاكه الترخيصي المحتمل المقتضي للتعذير، وبين ملاك الإلزام المحتمل المقتضي للمسؤولية والتنجيز، فإنّ هذا لا يبرر الأخذ بملاك الإباحة؛ لأنّ الأخذ به يؤدّي إلى تضييع ملاك الإلزامالمحتمل، فالأخذ بالملاك الإباحي وتقديمه على الإلزامي يعدّ ترجيحا بلا مرجح مع أنّ الأخذ بأحد الملاكين وإن كان يؤدّي إلى تفويت الملاك الآخر على فرض وجوده، إلاّ أنّ اجتماع الداعي إلى كلا الملاكين غير ممكن من الناحية العملية فلا يقع التزاحم بينهما من هذه الجهة؛ لأنّ العقل لا يحكم إلاّ بأحدهما، إمّا الاحتياط أو الإباحة، فلو تمّ موضوع حكم العقل بالتنجيز وحكم بالاحتياط والإلزام فلا يحكم بالتعذير والإباحة حتّى ولو كان ما حكم به أوّلاً غير مطابق للواقع، وكان الملاك الإباحي هو الثابت واقعا، لعدم إمكان حكم العقل بالإلزام والترخيص في آن واحد، للتنافي الموجود بينهما.
وكذا الحال لو وقع العكس بأن حكم العقل بالتعذير، وكان الملاك الواقعي هو الإلزام، فإنّه لا مجال لحكمه بعد ذلك بالتنجيز، لنفس السبب المتقدّم، رغم فوات مصلحة الحكم الترخيصي في الحاله الاُولى، ومصلحه الحكم الإلزامي في الحالة الثانية.
وليست العلّة في حكم العقل بالتنجيز أو التعذير هي الملاكات الواقعية للأحكام حتّى يكون من المتحتّم مطابقة حكم العقل لها، بل علّته سعة حقّ الطاعه أو ضيقها، فمع سعته يحكم العقل بالاحتياط حتّى في مورد احتمال التكليف أو الظنّ به، ومع ضيقه لا يحكم إلاّ بـ البراءة في صورة عدم البيان وعدم معرفة الأحكام، وليس بالإمكان اجتماع حكم العقل بالتنجيز والتعذير في آن واحد، حتّى يقال: بأنّ تقديم الحكم الإلزامي على الترخيصي يعدّ ترجيحا بلا مرجح؛ لأنّ موضوع حكم العقل بالتنجيز
يتنافى مع موضوع حكمه بالتعذير، فلا يحكم العقل إلاّ بأحدهما، سواء كان موافقا للملاك الواقعي أو لم يكن موافقا له، لعدم نشوئه منه، رغم كون الغرض هو إحرازه والتوصّل إليه، فلو كان المولى مهتمّا بحصول المكلّف على الملاك الإباحي ـ مثلاً ـ فعليه تنظيم حكمه الواقعي أو الظاهري ثبوتا وإثباتا بنحو لا يتمّ به موضوع حكم العقل بالتنجيز، بل يتمّ نقيضه، وذلك بإيصال الإباحة الواقعية أو الظاهرية إلى المكلّف بحيث تنتفي به فرصة بروز الحكم الإلزامي، فإن لم يفعل ذلك لأي سبب كان، فسوف يتمّ موضوع حكم العقل بالتنجيز، ويضيع به ملاك الإباحة على تقدير وجوده، وليس ذلك لتقصير من العبد، بل للموانع التي حالت دون إزالة موضوع حكم العقل بالتنجيز، فليس هناك تزاحم بين ملاكين في عالم التنجيز والتعذير العقليين سواء على مسلك حقّ الطاعة أو على مسلك قبح العقاب بلا بيان [١٧].
حدود حقّ الطاعة
هناك مسألتان لابدّ من الإشارة إليهما في تعيين حدود حقّ الطاعة من حيث المنجزية والمعذرية:
المسألة الاُولى: في مسؤولية العبد تجاه مولاه
واختلاف الدرجة التي ينكشف له فيها التكليف، فإنّه لو كان الانكشاف بدرجة القطع واليقين فسوف يكون حجّة في جانبي التنجيز والتعذير معا، فكما يكون المكلّف مسؤولاً عمّا يقطع بثبوته من تكليف، كذلك يكون معذورا عمّا يقطع بعدمه منه، وليس في المعذرية استنقاصا لمولوية المولى أو تخصيصا لها لاستحالة تحريك العبد نحو فعل يقطع بعدم تكليف المولى به.
وأمّا لو كان الانكشاف بغير درجة القطع بالتكليف، كالظنّ والاحتمال، فهو وإن كان ينجِّز التكليف عند احتماله أو الظنّ به، إلاّ أنّه لا يكون معذِّرا عنه باحتمال عدمه، لبقاء احتمال التكليف على حاله، إذ المفروض في هذا الاحتمال محركيته نحو التكليف على مسلك حقّ الطاعة، بخلافه على مسلك قبح العقاب بلا بيان، فإنّ مجرّد الاحتمال أو الظنّ بالتكليف لا يكون محركا نحو التكليف ومنجزا له.
المسألة الثانية: في أنّ منجزية الظنّ والاحتمال على مسلك حقّ الطاعة قابلة للنقض شرعا
وذلک بترخيص ظاهري من قبل الشارع وتنازله عن هذا الحقّ، بعكس منجزية القطع فإنّها غير قابلة للنقض [١٨]؛ لأنّ من يقطع بوجود تكليف لا يمكنه القطع بعدمه، إلاّ إذا زال عنه القطع الأوّل، فيكون خارجا عن محلّ البحث.
أقسام حقّ الطاعة
يمكن تقسيم مولوية المولى وحقّ طاعته على مواليه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: المولوية الذاتية الثابتة بلا جعل واعتبار
وهي مخصوصة بالمولى الحقيقي، وهو اللّه تعالى، بحكم خالقيته ومالكيته لنا.
وقد أكّد الشهيد الصدر على أنّ ملاك الخالقية بحدّ ذاته كافٍ لإثبات مولوية المولى، من دون حاجة للاستعانة بوجوب شكر المنعم لإثبات ذلك، كما حاول بعض الحكماء إثباتها عن هذا الطريق؛ لأنّ إرادته التشريعية كإرادته التكوينية، فكما أنّ إرادته التكوينية نافذة في الكون، فكذلك إرادته التشريعية نافذة على المخلوقين عقلاً.
وهذه المولوية لا تكون إلاّ ذاتية، ويستحيل أن تكون جعلية؛ لأنّها إذا كانت كذلك فلن تكون نافذة إلاّ إذا كانت مسبوقة بمولوية ذاتية تتفرع عنها وتنبثق منها، وبدونها لا تثبت، لكونها فاقدة لها، وفاقد الشيء لا يعطيه [١٩].
نعم، يظهر من بعضهم الاعتقاد بإمكانية الجعل لمولوية المولى تعالى، مستندين في ذلك إلى تباني العقلاء واتّفاقهم على طاعة اللّه، والأخذ بأوامره ونواهيه [٢٠].
وإن نوقش فيه بأنّ هذا التباني ليس كاشفا عن جعلهم للمولوية، بل عن إدراكهم لها، كإدراكهم لسائر الاُمور الواقعية الاُخرى [٢١].
القسم الثاني: المولوية المجعولة عن طريق المولى الحقيقي
كالمولوية المجعولة للنبي أو الوصي.
القسم الثالث: المولوية المجعولة بتباني العقلاء وتوافقهم
كجعلهم السلطات التنفيذية لشخص معين عن طريق الانتخابات.
ولا إشكال في أنّ حدود المولوية والإطاعة تابعة لحدود جعلها في القسمين الأخيرين، وأمّا القسم الأوّل فقد تقدّم اختلاف الأصوليين في حدود المولوية فيه، وفي أنّها تثبت بالبيان والقطع بالأحكام، بناءً على مسلك المشهور من قبح العقاب بلا بيان، أو تثبت بمجرّد الظنّ والاحتمال على مسلك حقّ الطاعة، من دون حاجة في إثباتها إلى البيان والقطع بالأحكام [٢٢].
وإطلاق حقّ الطاعة في الأوساط العلمية ينصرف إلى القسم الأوّل خاصّة.
التجرّي على مسلك حقّ الطاعة
وقع الخلاف في معاقبة المتجرّي على عدم اعتنائه بما قطع به من تكاليف، رغم عدم مصادفة ما قطع به للواقع، حيث ذهب جماعة إلى معاقبته على ما تجرأ به، وذهب آخرون إلى عدم معاقبته[٢٣].
وهذا الاختلاف إنّما يتصوّر بناءً على مسلك قبح العقاب بلا بيان، إذ بإمكان النافين للعقاب تفسير البيان على هذا المسلك بوصول التكاليف الواقعية إلى المكلّفين دون التخيلية التي لا يصدق عليها البيان باعتقادهم [٢٤]، فلا يعاقب المتجرّي حينئذٍ على مخالفة ما قطع به من تكاليف.
وأمّا بناءً على مسلك حقّ الطاعة وسعة دائرة التكاليف الشاملة لاحتمالها أو الظنّ بها، فلا يبقى لنفي العقاب عن المتجرّي مجال؛ لأنّه بإقدامه على المخالفة كان قد تجرأ على مولاه وهتك حرمته؛ لأنّ مجرّد احتمال التكلّيف أو الظنّ بوجوده كافٍ لتنجيزه وجعل المكلّف مسؤولاً قباله، فضلاً عن القطع به، فيعاقب على تركه، لقبح صدور ذلك منه حتّى بعد انكشاف الخلاف؛ لأنّه كان قد أقدم على تضييع حقّ مولاه، فيستحقّ العقاب على ظلمه له [٢٥].
قيام الأمارة مقام القطع الطريقي
لا إشكال في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي، لكونه هو المتيقن من دليل حجّيتها، بل هو الغاية من جعلها، إلاّ أنّ الإشكال في توجيه ذلك من الناحية النظرية على مسلك قبح العقاب بلا بيان، إذ كيف يمكن قيام الأمارة مقام القطع الطريقي رغم عدم بلوغها درجة البيان والقطع بالأحكام، وكيف يحاسب المكلّف على ما لا يصل هذه المرتبة من البيان.
وهذا الإشكال وإن أمكن دفعه ـ بالقول بأنّ قيام الدليل على لزوم العمل بالأحكام الظاهرية والأمارات يعدّ بمثابة البيان الذي يحاسب المكلّف على تركه وعدم الاعتناء به ـ إلاّ أنّ أصل الإشكال لا يتوجّه على مسلك حقّ الطاعة القاضي بلزوم العمل بكلّ ما يقطع به المكلّف أو يظنّه أو يحتمله من تكاليف؛ لأنّ الأمارة من الظنون التي إن كانت دالّة على التكليف فلا إشكال في لزوم العمل بها، لكونها مؤكّدة لحقّ الطاعة وموجبة للمسؤولية على العبد تجاه مولاه في تلك الواقعة وإن كانت نافية له ودالّة على الترخيص فهي لا تكون منافية لحقّ الطاعة؛ لأنّ العقل يحكم بلزوم الاحتياط مع احتمال التكليف، إلاّ إذا انتفى هذا الحقّ بقيام الحجّة على خلافه، حيث لا يكون ذلك منافيا لحقّ الطاعة والعبودية، ولا يكون سالبا لحقّ مولوية المولى [٢٦].
حقّ الطاعة والمخالفة القطعية للعلم الإجمالي
المشهور حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي [٢٧]، لاستلزامها ارتكاب المعصية القطعية، ومن جوّز هذه المخالفة فهو إنّما يجوزها للتردد في صدق البيان على ما علم بالإجمال، بناءً على مسلك قبح العقاب بلا بيان.
وأمّا على مسلك حقّ الطاعة فلن يكون لهذا التشكيك مجال؛ لأنّ العلم الإجمالي يكون منجزا للتكليف على هذا المسلك بأيِ درجة من درجات الانكشاف، حتّى ولو بدرجة الاحتمال أو الوهم، فضلاً عن العلم الإجمالي بالتكليف.
إلاّ أنّ منجزية العلم الإجمالي وحرمة المخالفة معلّقة على عدم ترخيص الشارع في مخالفة هذا العلم، فمع ترخيصه بها يرتفع التنجيز وينتفي المنع من المخالفة [٢٨].
شمول حقّ الطاعة للشبهات الموضوعية
لا ينبغي الإشكال في جريان البراءة الشرعية في الشبهة الموضوعية كجريانها في الشبهة الحكمية؛ لإطلاق بعض الأدلّة كـ حديث الرفع الذي رُفع فيه تسعة اُمور، منها ما لا يعلمون.
أمّا البراءة العقلية فقد اختلف أصحاب مسلك قبح العقاب بلا بيان في جريانها في الشبهة الموضوعية، فذهب جماعة إلى عدم جريانها، لصدق البيان في الأحكام[٢٩]، إذ ليس من وظيفة الشارع بيان موضوع هذا الحكم خارجا[٣٠].
بينما ذهب الأكثر إلى جريانها[٣١]؛ لأنّ المراد من البيان حصول العلم بالتكليف الموجب لتحريك المكلّف وهو غير متحقّق في الشبهة الموضوعية، وليس الكلام في كون المولى مقصرا أو لا حتّى يقال: بأنّه ليس من وظيفته بيان الموضوعات، بل الكلام في حصول العلم المحرك نحو التكليف وعدمه.
هذا على مسلك قبح العقاب بلا بيان، وأمّا على مسلك حقّ الطاعة وأصالة الاحتياط فلا إشكال في جريان حقّ الطاعة والاحتياط في الشبهات الموضوعية كجريانها في الشبهات الحكمية، لإدراك العقل بثبوت هذا الحقّ عند احتمال التكليف سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية، لتحقّق الإدانة وقبح المخالفة في كلا الشبهتين [٣٢].
النسبة بين حقّ الطاعة والأصول الشرعية المؤمّنة
ممّا يميز الأصل العقلي عن الشرعي ـ بل عن مطلق الأحكام الظاهرية الشرعية ـ أنّ العقل يستقل ويتصدّى لتعيين حدود حقّ الطاعة لمولاه في مقام الامتثال إثباتا أو نفيا، بخلاف الأصل الشرعي والأحكام الظاهرية، فإنّ المولى هو الذي يتصدّى مباشرة لتعيينها، ومعالجة حالات اشتباه الأغراض الإلزامية والترخيصية، حفاظا على الملاك الأهمّ عنده، وخروجا من حالة التردد والاشتباه، من دون حاجته لتدخل العقل في تعيينها وإحرازها، بل الشارع وحده قادر على تعيين الأهمّ وتميزه عن المهمّ منها؛ لأنّه أعرف باهتماماته من غيره.
وبذلك يتّضح السبب في تأخّر مرتبة الأصول العقلية عنالأصول الشرعية والأمارات التي هي واردة على الأصول العقلية، لكونها في طولها ورافعة لموضوعها [٣٣].
دور حقّ الطاعة في التخيير العقلي
تختلف التوجيهات والتخريجات الفنية التي تستند إليها أصالة التخيير باختلاف الأصل الأولي الذي يتبناه الأصولي في حالات الشكّ والترديد عند دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التوصليين في واقعة واحدة غير قابلة للتكرار، كما لو علم المكلّف إجمالاً بأنّه كان قد حلف ـ مثلاً ـ إمّا على السفر في يوم معين أو على ترك السفر في نفس ذلك اليوم، فإنّ الأصل وإن كان يقتضي تخيير المكلّف بين السفر وعدمه، سواء أخذنا بمسلك حقّ الطاعة أو قبح العقاب بلا بيان، إلاّ أنّه من السهولة توجيه هذا التخيير على مسلك حقّ الطاعة؛ لأنّ احتمال كلّ من الوجوب والحرمة وحده كافٍ في تنجيز متعلّقه من الفعل والترك على هذا المسلك، فيقع التزاحم في تنجز الاحتمالين في مقام التأثير والاقتضاء؛ لأنّ تنجزهما معا محال؛ لعدم إمكان اجتماع البعث والزجر على مورد واحد، وتنجز أحدهما دون الآخر يعدّ ترجيحا بلا مرجح، فلا يتنجز شيء منهما، فيتحتم التخيير بين هذين الاحتمالين، وهو عبارة اُخرى عن التخيير العقلي [٣٤]. وأمّا على مسلك قبح العقاب بلا بيان، فمن الصعب توجيه التخيير المذكور، كما صرح بذلك بعضهم؛ لأنّ العقل وإن كان يحكم بعدم منجزية العلم الإجمالي، وبالتالي يحكم بالتخيير، إلاّ أنّ حكمه هذا لا يستند إلى عدم البيان ـ لأنّ البيان الإجمالي قد حصل ـ بل يستند إلى الاضطرار إلى ارتكاب أحد الاحتمالين (الفعل أو الترك)، فجواز الارتكاب لا يستند إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، بل إلى قاعدة عقلية مفادها عدم إمكان إدانة العاجز، وهي عبارة اُخرى عن التخيير العقلي، فإن اُريد من التمسّك بالبراءة العقلية إبطال منجزية العلم الإجمالي فهو مستحيل؛ لأنّ البراءة العقلية فرع عدم البيان، والبيان الإجمالي حاصل بنفس العلم الاجمالي. وإن اُريد إجراء البراءة العقلية بعد إبطال منجزية العلم الإجمالي بقاعدة قبح إدانة العاجز، لإثبات الترخيص في أحد الاحتمالين، فإنّ هذا لا محصل له؛ لأنّ الترخيص كان قد حصل بإبطال العلم الإجمالي بالقاعدة المذكورة فما الداعي إلى تحصيله مرّة اُخرى بالبراءة العقلية [٣٥].
الهوامش
- ↑ . بحوث في علم الاُصول 4: 29 ـ 31، مباحث الاُصول 3 ق 2: 72، دروس في علم الاُصول 2: 336.
- ↑ . فرائد الاُصول 2: 56، نهاية الأفكار 3: 199 ـ 200، مصباح الاُصول 2: 282.
- ↑ . التبصرة: 532، الذريعة 2: 808، اللمع: 246، شرح اللمع 2: 977.
- ↑ . بحوث في علم الأصول (الهاشمي) 5: 79.
- ↑ . عدّة الاُصول 2: 742.
- ↑ . المحكم في اُصول الفقه 4: 12.
- ↑ . دراسات في علم الاُصول 3: 288.
- ↑ . اُنظر فوائد الاُصول 3: 215، مصباح الاُصول 2: 282.
- ↑ . مصباح الاُصول 2: 282.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 29 ـ 31، 186، مباحث الاُصول (الحائري) 3 ق 2: 61 ـ 73، ونقل هذا القول عن بعضهم في كتاب دراسات في علم الاُصول 3: 288.
- ↑ . المستصفى 1: 77 ـ 78.
- ↑ . دروس في علم الاُصول 2: 198 و3: 45.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 29 ـ 31، مباحث الاُصول (الحائري) 3 ق 2: 61 ـ 73.
- ↑ . عدّة الاُصول الطوسي 2: 742، منتقى الاُصول 4: 438.
- ↑ . عدّة الاُصول الطوسي 2: 744.
- ↑ . اُنظر: مجلة پژوهشهاى اُصولي العدد الأوّل: 14 ـ 15.
- ↑ . هذا حاصل ما ذكره بعض الأفاضل في مجلة پژوهشهاى اُصولي، العدد الأوّل: 34 ـ 37.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 30 ـ 31.
- ↑ . المصدر السابق: 28.
- ↑ . نقل ذلك عنهم في المصدر المتقدّم.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 29 و5: 26.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول 4: 28 ـ 29.
- ↑ . فرائد الاُصول 1: 39، درر الفوائد المحقّق الحائري 1 ـ 2: 337.
- ↑ . اُنظر: أجود التقريرات 3: 55.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 38 ـ 39.
- ↑ . المصدر السابق: 73 ـ 74.
- ↑ . المحكم في اُصول الفقه 4: 190.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 4: 150 ـ 153.
- ↑ . نهاية الاُصول المنتظري: 329.، زبدة الاُصول (الروحاني) 3: 293.
- ↑ . قرب ذلك عنهم في تحريرات الاُصول 7: 135، 203.
- ↑ . كفاية الاُصول: 374، فوائد الاُصول 3: 389، تحريرات الاُصول 7: 137، منتقى الاُصول 5: 329.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 5: 139 ـ 141.
- ↑ . بحوث في علم الاُصول الهاشمي 5: 16.
- ↑ . المصدر السابق: 154.
- ↑ . اُنظر: نهاية الأفكار 3: 293.