حول الإصلاح الإسلامي
نتناول قي هذه المقالة موضوعاً حيوياً ومهمّاً ، يعدّ الحجر الأساس في أغلب الدعوات الوحدوية والتقريبية والتجديدية .
مفهوم الإصلاح
الإصلاح ( Reform ) لغة : ضدّ الإفساد ، وهو من الصلاح المقابل للفساد وللسيّئة (1).
(1) راجع : المصباح المنير ص345 ،القاموس المحيط ج1 ،ص243 .
وفي القرآن الكريم : ( خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ) ( سورة التوبة : 102 ) ، ( وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) ( سورة الأعراف : 56 ) .
فالإصلاح هو : التغيير إلى الأفضل ، والحركات الإصلاحية هي : الدعوات التي تحرّك قطاعات من البشر لإصلاح ما فسد في الميادين الاجتماعية المختلفة ، انتقالاً بالحياة إلى درجة أرقى في سلّم التطوّر الإنساني .
والإصلاح : تعديل أو تطوير غير جذري في العلاقات الاجتماعية دون المساس بأُسسها .
والإصلاح الإسلامي : إحدى الوجوه المرادة في تقويم الاعوجاج وإقامة الأود الحاصل في الكيان الإسلامي نتيجة الظروف المحيطة به والتحدّيات التي تواجهه . ولا يخفى أنّ ذلك يحتاج إلى سعي حثيث وبذل للجهود ، فضريبة الإصلاح هي الاضطهاد ، على حدّ تعبير الأُستاذ عبد الوهاب حمّودة المصري .
ولا يفرّق بين الإصلاح وبين مصطلح الثورة في مستوى التغيير وشموله ، وإنّما من حيث الأُسلوب في التغيير وزمن التغيير ، فكلاهما إسلامي ، يعني التغيير الشامل والعميق ، لكنّ الثورة تسلك سبل العنف غالباً والسرعة في التغيير ، في حين تتمّ التغييرات الإصلاحية بالتدريج ، وكثيراً ما تعطي الثورة الأولوية لتغيير الواقع ، في حين تبدأ مناهج الإصلاح عادةً بتغيير الإنسان وإعادة صياغة نفسه وفق الدعوة الإصلاحية ، وبعد ذلك ينهض هذا الإنسان بتغيير الواقع وإقامة النموذج الإصلاحي الجديد .
ولذلك وصفت رسالات الرسل ( عليهم الصلاة والسلام ) بأنّها دعوات إصلاح ، فيقول رسول الله شعيب (عليه السلام) : ( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) ( سورة هود : 88 ) .
ومن هنا يتبيّن أنّ المصلح هو : المزيل للفساد والعداوة ، والآتي بما هو صالح ونافع ، والمسالم والمصافي ، والمستقيم المؤدّي لواجباته .
وهذا هو ديدن المصلحين في الأُمّة الإسلامية ، إلاّ أنّه قلّ أن تجد مصلحاً أو مرشداً إلاّ لقيته قد ضاق من الاضطهاد ألواناً ، وأصاب من العنت والشقاء ضروباً ، وليست هذه السنّة ـ أي : سنّة الاضطهاد والشقاء ـ وقفاً على رسل الله وأنبيائه ، بل هي مطّردة في جميع المجاهدين لإصلاح البشرية، الذين يحاربون المفسدين للنظم الاجتماعية الصحيحة ، ويكافحون شرور الطغيان ، ويعملون على هدم صروح البغي والتفرقة والعدوان في أيّ عصر كانوا وإلى أيّ أُمّة انتسبوا .
يقول الدكتور محمّد عمارة : « والناظر في تاريخ المجتمعات الإنسانية يرى سلسلة من التدافع بين دعوات الإصلاح وحركاته وبين الفساد والإفساد في تلك المجتمعات ، وعلى سبيل المثال: نجد الحركة الإصلاحية التي قادها جمال الدين الأفغاني منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر بدءاً من مصر وشمولاً لكلّ العالم الإسلامي تمثّل إحياءً وتجديداً للفكر الإسلامي بالعودة إلى منابعه الجوهرية: القرآن الكريم ، والسنّة النبوية الصحيحة ، ومناهج السلف الصالح » .
أهداف الحركات الإصلاحية
قد عبّر الإمام محمّد عبده عن أهداف الحركة الإصلاحية ، فقال : « إنّها ثلاثة :
الأوّل : تحرير الفكر من قيد التقليد ، وفهم الدين على طريقة سلف الأُمّة قبل ظهور الخلاف ، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأُولى ، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لتتمّ حكمة الله في حفظ نظام العالم الإسلامي .
الثاني : إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير .
الثالث : التمييز بين ما للحكومة من حقّ الطاعة على الشعب وما للشعب من حقّ العدالة على الحكومة » .
وهكذا مثّلت هذه الحركة الإصلاحية منهاجاً وسطاً بين أهل الجمود والتقليد وبين المتغرّبين المنبهرين بالنموذج الحضاري الغربي ، وكانت دعوتها الإصلاحية شاملة لميادين الفكر الديني واللغة العربية وعلومها وآدابها وعلاقات الحاكمين بالمحكومين .
ولقد تحوّلت فكرية هذه الدعوة الإصلاحية إلى روح سارية في الكثير من الدعوات والحركات والمشاريع الفكرية للعديد من العلماء والمفكّرين على امتداد العقود التي تلت وعلى امتداد أقاليم عالم الإسلام » (2) .
(2) موسوعة الحضارة الإسلامية ص416-417 .
فلسفة تاريخ الإصلاح في الإسلام
من الحقائق التاريخية أنّ تاريخ الإصلاح والتجديد متّصل في الإسلام ، والمُتقصّي لهذا التاريخ لا يرى ثغرة ولا ثُلمة في جهود الإصلاح والتجديد ، ولا فترة لم يظهر فيها من يُعارض التيّار المنحرف، ويُكافح الفساد الشامل ، ويرفع صوت الحقّ ، ويتحدّى القوى الظالمة أو عناصر الفساد ، ويفتح نوافذ جديدة في التفكير .
والدارس لهذا التاريخ والمتتبّع لحوادثه وشخصياته لا يعرف عهداً قصيراً ساد الظلام فيه على العالم الإسلامي ، وخَبت مصابيح الإصلاح ، وخفتت أصوات الحقّ ، ومات الضمير الإسلامي ، وتبلّد الشعور ، وأضرب الفكر الإسلامي عن العمل .
إنّ هذه الثغرات قد نشعر بها في دراستنا العابرة للتاريخ الإسلامي وفي نظرتنا العجلى في كتبه، إنّ مردّها إلى منهج التأليف الذي اتّخذه المؤرّخون للإسلام قديماً وحديثاً ودرجت عليه الأجيال . .
إنّ النقص ـ ومعذرتي إلى المؤلّفين الذين أدين لهم في معلوماتي ومحاضراتي ويدين لهم كلّ مؤلّف ودارس ـ في التأليف وليس في التاريخ ، أو بكلمة أُخرى : إنّ المسؤولية تقع على المؤرّخين والمؤلّفين ، لا على المُجدّدين والمصلحين الذين ظهروا حيناً بعد حين ، وحفظوا على الإسلام جدّته وشبابه ، وقضوا على كثير من الفتن والبدع والمؤامرات والتحريفات ، حتّى أصبحت مطمورة في ركام الماضي ، لا يهتدي إليها أحد في هذا العصر إلاّ بعد بحث وعناء ، وكثير من أفراد هذا الجيل لم يسمعوا بأسمائها ولا يعرفون حقيقتها إلاّ بشقّ الأنفس واجتهاد العقل والعين! وقد كان بعض هذه المذاهب وبعض هذه الحركات تتمتّع بحماية البلاط ، وتستند إلى الملك والسلطان والمال والجاه ، وقد كانت في عصرها صاحبة حَوْل وطَوْل ، ولكنّها طُويت بفضل جهود هؤلاء المصلحين المخلصين في صحائف الماضي ، وأصبحت موضوع علماء الآثار ، لا محلّ لها إلاّ في المتاحف والصحائف!
إنّ هذا النقص في التأليف الذي صرّحت به مع الاعتذار جعل كثيراً من الناس يعتقدون أنّ تاريخ الإصلاح والكفاح في الإسلام متقطّع يحتوي على ثغرات واسعة وفترات طويلة ، لا ترى فيها إلاّ المندفعين مع التيّار المستسلمين للفساد ، وأقزاماً في العقل والتفكير والعلم والإنتاج ، لقد كان يظهر « عملاق » أو نابغة أو عبقري بعد عصر طويل ، وقد تخلو قرون ومئات سنين عن عظيم يستحقّ أن يسمّى عملاقاً أو عبقرياً أو مجدّداً في العلم والدين .
إنّ هذه العقيدة الخاطئة التي لم تَقُم إلاّ على الدراسة القاصرة المستعجلة للتاريخ ، وعلى منهاج التأليف الذي اتّخذه مع الأسف أكثر المؤرّخين ، وهو تأليف التاريخ الذي يدور حول الملوك وحاشيتهم ، وحول الحوادث التي لها اتّصال بالسياسة والحكم ، قد تنتهي ببعض الشباب المتحمّسين وببعض رجال الدعوة إلى سوء الظنّ بالإسلام وضعف إنتاجه ، إنّها نتيجة خطرة تُضعِف الثقة بالإسلام ، وتُضعف العاطفة والإرادة للكفاح في هذا العصر ، فإنّ القوّة الباطنة التي تدفع إلى الكفاح والعمل للدعوة لا تنبع إلاّ من الثقة بالماضي وبأنّ هنالك رصيداً من الجهاد والإخلاص وسنداً من الكفاح والنجاح .
والذنب ليس على المؤرّخين فقط ، إنّ الذنب على من يقتصر على كتب التاريخ « الرسمي » والمصطلح، ولا يتعدّى هذه الكتب إلى الكتب التي لا تحمل اسم التاريخ ولا توجد في ركن التاريخ في مكتبة ، ولكنّها مادّة واسعة للتاريخ ، ومصدر قيّم من مصادر التاريخ ، هي : كتب الأدب ، وكتب الدين ، والكتب التي دوّن فيها بعض العظماء اعترافاتهم وسجّلوا حوادث حياتهم وتجاربهم ، والكتب التي حفظ فيها بعض التلاميذ وأصحاب الشيوخ كلمات شيوخهم أو مواعظهم أو ما دار في مجلسهم من حديث أو حوار ، ومجاميع الرسائل والخطب التي تدلّ على روح أصحابها وفكرتهم ، أو الكتب التي أُلّفت في الحسبة وفي انتقاد المجتمع وإنكار البدع والمنكرات .
فلو اتّسعت الدراسة وشملت هذه المصادر المهجورة ، وتخصّص لهذا الموضوع باحث واسع الفكر ، صبور على المطالعة ، دقيق في الملاحظة ، استطاع أن يُنتج تاريخاً متّصلاً شاملاً للإصلاح والتجديد والتفكير الجديد في الإسلام ، يدلّ على أنّ الإصلاح والكفاح مرافقان لهذه الأُمّة لا يتخلّفان عنها .
ويجب على هذا الدارس ألاّ يقتصر على بعض النقول ، وألاّ يقتضب العبارات المنقولة عن كتب هذه الشخصيات العظيمة ، ولا يضُنّ بالألفاظ والكلمات ، وألاّ يمرّ بها وبمؤلّفاتها ومنتجاتها مرّاً سريعاً في دراسته التاريخية ، بل يجب أن يعيش في كتبها ومؤلّفاتها وأفكارها مدّة ، ويتذّوق أدبها وفكرتها ، ويتنسّم طِيبها ، ويحاول أن ينتقل من جوّه إلى جوّ هؤلاء الرجال ، ومن عصره إلى عصرهم، حتّى يعرفهم على حقيقتهم ، ويُصورّهم في حقيقتهم ، ويُشعر القارئ أنّه انتقل إلى عصرهم ، وعرفهم معرفة شخصية ، وعاش معهم مدّة من الزمان .
ثمّ الخطيئة الثانية التي يرتكبها يعض المتحمّسين والمؤلّفين في هذا العصر أنّهم يكوّنون في ذهنهم صورة خاصّة للمجدّد أو المصلح ، ثمّ يلتمسونها في تاريخ الإسلام ومجموع صور الأعلام ، فإذا لم يجدوا هذه الصورة الحبيبة في التاريخ الإسلامي أو في عصر من العصور تذمّروا وأنكروا ، وكثير منهم عندهم مقاييس خاصّة ، وهي مقاييس عصرية يقيسون بها « العظيم » أو « الداعي » أو « المصلح » أو « المفكّر » في كلّ زمن وفي كلّ بيئة ، فإذا لم تنطبق هذه المقاييس ـ والتي هي مقاييس العصر ـ على رجل مهما كان عظيماً ، ومهما كان قديماً ، ومهما كانت خدمته للإسلام عظيمة، ومهما كان مخلصاً ، ومهما نجح في مهمّته التي تكفّلها أو أُسندت إليه ، أسقطوه أو بخسوه حقّه ، ولم يعدّوه من المصلحين !
وبعضهم يلتزم مقياساً واحداً كمقياس الإبداع في الأفكار مثلاً ، أو فتح باب الاجتهاد مثلاً ، أو الكفاح لإقامة الحكم الإسلامي ، أو معارضة الدولة القائمة في عصره مثلاً ، فإذا لم يُحقّق هذه الشريطة لم يكن رجل عصره ، ولم يستحقّ أن يدخل في صفّ المصلحين !
إنّ هذه المقاييس والمعايير لها قيمة عظيمة ، وأنا لا أُنكر أهمّيتها ومكانتها في الإصلاح ، ولكن الذي أُريد أن أقول : إنّ الزمان والبيئة عاملان هامّان في حياة الرجال ، فلكلّ عصر مشاكل ومسائل وملابسات وعوائق ، قد تحدّد نطاق العمل ، وقد تفرض منهجاً دون منهج وأُسلوباً دون أُسلوب، والغاية واحدة .
فلا يجوز لنا أن ننقل رجلاً من عصره ، ونُطبّق عليه مقاييس هذا العصر ، ثمّ نحكم عليه بالفشل والإخفاق أو الضعف والعجز ، ونسلبه محاسن نفسه ، ونحرمه من كلّ مأثرة وكلّ عظمة ; لأنّه لم يحقّق شرطاً من شروطنا ، ولم يكن « المثل الكامل » في الإصلاح المنشود والتجديد المطلوب .
إنّ هذا التراث الذي وصل إلى أيدينا اليوم ، ولست أسمّيه التراث بالمعنى الذي يريده الغربيّون من كلمة ( Legacy ) ; لأنّ الإسلام دين حيّ خالد ، ولكن أُسمّيه بمعنى الثروة التي انتقلت إلينا من أسلافنا : تراث العلم الواسع ، والعقيدة المحفوظة ، والإيمان القوي ، والسُنّة الخالصة ، والأخلاق المستقيمة ، وثروة الفقه والتشريع الزاخرة ، والأدب الإسلامي الرائع ، مجموعة فيها نصيب ، لكلّ مَن ساهم فيها بإقامة حكم على منهاج الرشد ، ومحاربة الجاهلية والمادّية ، وبالعودة إلى الله وإلى دار السلام ، وإحياء ما دُرِس من الخصائص الإسلامية ، وبثّ الروح الإيمانية في هذه الأُمّة . .
ولكلّ مَن أوجد الثقة بالدين ومصادره وتعبيراته ، وردّ هجمات الفلسفات الأجنبية . .
ولكلّ مَن دافع عن الفكرة الأصيلة ، وعصم هذه الأُمّة من فتنة هدّدت الإسلام . .
ولكلّ مَن حفظ على هذه الأُمّة دينها ومصادره ، وقام بتدوين جديد للحديث والفقه ، أو فتح باب الاجتهاد ومنح هذه الأُمّة ثروة واسعة في التشريع وقانوناً مُنظّماً للحياة والمجتمع . .
ولكلّ مَن حاسب المجتمع في عصره ، وأنكر انحرافه عن مُثل الإسلام ونظمه ، ودعاه إلى الإسلام الصحيح . .
ولمَن سلك سبيل الإقناع العلمي في العصر الذي كثُرت فيه الشكوك واضطربت العقائد ، ووضع لعصره كلاماً جديداً . .
ولكلّ مَن خلف الأنبياء في الدعوة والتذكير والإنذار والتبشير ، وحرّك الإيمان في النفوس ، وقام في وجه المادّية الجارفة في عصره ، فحدّ من تأثيرها ، وأنقذ خلقاً كثيراً من الاندفاع والغرق فيه . .
ولكلّ مَن حفظ هذه الأُمّة وقوّتها السياسية من الانهيار ، ومن أن تكون فريسةً للغارات الأجنبية . . ولمَن أخضع بدعوته الحكيمة الرفيعة عدوّاً لم تعمل فيه السيوف ولم تقاومه الجنود وحطّم العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه ، فسخّره أصحاب الدعوة بقوّتهم الروحية وإيمانهم القوي للإسلام ، وجعلوه من أتباع محمّد (صلى الله عليه وآله) . .
ولمَن أخضع بأدبه القوي وشعره البليغ عقولاً لم تُخضعها المباحث العلمية والفلسفات الدينية ، إلى غير ذلك ، ولكلّ فضلٌ .
وما التاريخ إلاّ تأدية الأمانات إلى أهلها ، والحكم بالعدل ، والاعتراف بالفضل ، وقد قام كلّ واحد منهم بدوره ، وساهم بقسطه ; القسط المطلوب منه ، وكلّ كان مرابطاً على ثغر من ثغور الإسلام ، وكلّ كان سهماً مصيباً في كنانة الإسلام . . ولولا هذه الجهود المخلصة ، ولولا هذه الأقساط التي قد لا تُرى إلاّ بمكبّرة التاريخ ، لما وصلت إلينا هذه المجموعة التي نعتزّ بها ونستند إليها ، ونقتبس منها النور سليمة موفورة نتباهى بها على الأُمم والديانات (3) .
(3) رجال الفكر والدعوة في الإسلام ج1 ،ص52-58 .
كلام أحد المصلحين الإسلاميّين حول الإصلاح وفلسفته
من ألطف وأطرف ما رأيته في كلمات القوم حول الإصلاح الإسلامي ما جاء في كتاب « البيّنات » لصاحبه الشيخ عبد القادر المغربي ، وأنا أنقله هنا على طوله للسبب المتقدّم المذكور آنفاً .
يقول : « حصل الانقلاب العجيب في الدولة العثمانية ، وأخذت تتهيّأ لحدوث مثله كلّ من الحكومتين الأفغانية والمراكشية ، فالانقلاب فيهما واقع ما له من دافع ، إن لم يكن الآن فبعد الآن ! وإنّ حدوث هذه الانقلابات في البلاد الإسلامية مؤذن بتنظيم أُمور حكوماتها الإدارية والسياسية ، وتحسين حالة شعوبها الأدبية والاجتماعية ، وترقية شؤونها الصناعية والاقتصادية ; إذ أنّ من طبيعة الانقلابات الدستورية أن يحدث على أثرها ما ذكرنا من التنظيم والتحسين والترقية . أمّا الإصلاح الديني في تلك البلاد فليس أثراً طبيعياً لأمثال هذه الانقلابات ، وإنّما هو أثر لإرادة رجال الدين ، فإن أرادوه وسعوا إليه سعيه حصل الإصلاح ، فصانوا به دينهم وقوميتهم وعرف الله والتاريخ لهم سعيهم ومنزلتهم ، وإن لم يريدوه وجمدوا استغنى العمران الحديث عنهم ، وربّما عدّ نفسه مستغنياً عن تعاليمهم الدينية أيضاً ، فتكون تبعة ذلك عليهم ، وعاره لاحقاً بهم !
نعم ، إن لم يُرد رجال الدين العناية بأمر الإصلاح الإسلامي فلا يحسبوا أنّهم بذلك يعوّقون حركة الانقلاب العامّ في أُمم الإسلام ، أو يعوّقون نهوض هذه الأُمم وعروجها في معارج الحضارة والعمران . كلاّ ; إذ أنّ القوّة المادّية أصبحت اليوم بيد رجال السياسة ، وفي طاقة هؤلاء أن يذلّلوا بها كلّ صعوبة تعترض سيرهم مهما كان نوعها !
ولكن رجال الدين يرتابون في أن يكون الإسلام محتاجاً إلى إصلاح ، وكثيرون منهم يرون أنّ الكلام في إصلاحه لغو وباطل ; إذ أنّ الدين الإسلامي لم يكن بالفاسد في يوم من الأيّام حتّى نفكّر في إصلاحه أو نبحث عن طريقة لأجل إصلاحه . . ثمّ يقولون لمريدي الإصلاح : إذا أردتم عمل شيء من هذا القبيل فدونكم إصلاح المسلمين من حيث تعليمهم طرق المعاش وتدريبهم على الأساليب الحديثة في الصناعة والتجارة والزراعة وفنون الاختراع ، أمّا أن تعمدوا إلى الدين الإسلامي نفسه فتقدّموا وتؤخّروا فيه بزعم إصلاحه فإنّه منكر ولا نرضى به ونبذل جهدنا وأرواحنا في مقاومته ومعارضة تنفيذه .
وهذه هي نقطة الخلاف التي يشتدّ عندها تقلّص الشفاه ، ويكثر في النزاع عليها صرير الأسنان .
وأوّل مَن تكلّم في وجوب الإصلاح الديني الإسلامي ، أو يقال : أوّل مَن جهر به وأكثر من القول والعمل للوصول إليه هو المرحوم السيّد جمال الدين الأفغاني . ولقد سألته مرّة عن أيّة الطرق نسلك للمّ الشعث وانتشال أُمّتنا الإسلامية من هوّة انحطاطها ، فقال : لا بدّ في الوصول إلى هذا الغرض من « حركة دينية » ، قلت : بماذا ؟ قال : حركة دينية ، قلت : وما تعني بالحركة الدينية ؟ ففسّرها لي تفسيراً ينطبق على ما نسمّيه اليوم الإصلاح الديني تارةً ، والإصلاح الإسلامي تارةً أُخرى ، ثمّ قال جمال الدين : « إنّه كما استفادت أُمم الأُوربا ( كذا كان يلفظها بالألف واللام ) بحركة « لوثيروس » الدينية وإصلاحه تعاليم الديانة المسيحية ، كذلك نحن معشر المسلمين يجب علينا أن نستفيد من « حركة دينية » نقوم بها ، ويكون من أثرها إصلاح تعاليمنا وتحسين حالة اجتماعنا » ، ثم قال (رحمه الله) : « وليس المراد بإصلاح تعاليمنا أن نجدّد في الدين تعليماً أو نحدث فيه حدثاً لم يأتِ به نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) ، أو نحذف منه تعليماً أو حكماً أتى به ونصّ عليه ، وإنّما المراد أن نرجع في بساطة عقائدنا وسهولة تعاليمنا إلى ما كان عليه الحال في الصدر الأوّل ، فنتوسّع ما شئنا في أُمور الدنيا ومقوّمات عمرانها ، أمّا أُمور الدين فنقف عند حدوده ونصوصه وقفة عواجز ، ثمّ نسعى إلى تعلّمه وتفهّمه من أقرب الطرق وأسهلها ، فلا يقضي أحدنا عمره في تعلّم الدين تعلّماً يُقصينا عنه ويحول بيننا وبين العمل به والاهتداء بهديه » .
وبهذا الكلام أوضح جمال الدين ما أراده بقوله : « حركة دينية » و« إصلاح ديني » ، فالإصلاح الذي أراده إذاً إصلاح علمي تعليمي محض لا شائبة فيه للحركات الثوروية والمشاغبات الفسادية ، ولا مسحة عليه من المروق والإلحاد .
ولكن هل نرى الأشياخ من رجال ديننا يعجبهم قول جمال الدين ويرضيهم تفسيره للحركة الدينية بما ذكر ؟ وهل هم يعترفون بأنّ الدين الإسلامي يلزمه إصلاح ؟
الوصول إلى إقناع الكثيرين منهم عسير جدّاً ، ومهما أحلتهم على النظر في الكون وتقلّباته واستشهدت بالحوادث التي تجري أمامهم كابروا وجادلوا وقالوا : إنّ علّتنا ليست في تعاليم ديننا ، وإنّما هي في سوء حالة حكوماتنا وفساد أخلاق الآحاد منّا ، وهذا الفساد وذاك السوء ناشئان عن تركنا العمل بديننا ، فالعلّة إذن ليست في الدين وإنّما هي في ترك العمل به . هذا قولهم ، وهو في الحقيقة قولنا وقول جمال الدين نفسه ، وقد وقعوا عليه من دون أن يشعروا به .
نقول لهم : إنّنا تركنا العمل بديننا وشغلنا عنه بالتعاليم والآراء والتقاليد الدخيلة ، فنحن نريد أن نصلح الدين ، أي : أن نميّز تلك التقاليد والآراء عنه ، ونقتصر على محض نصوصه الصحيحة ، ونتّخذ طرائق سهلة في تعلّمها وتفهّمها ; كي نتمكّن من العمل به ، فنكون بذلك قد أصلحنا ديننا كما قلنا ، وعملنا به كما قلتم أنتم ، فلا خلاف بيننا ولا شقاق ، وإنّما هو التعارف والوفاق .
إنّ الإيمان الحقيقي وعمل الصالحات لا يكون من أثره في الأُمم إلاّ السيادة والعزّة والغلبة ، فإذا فقدنا المسبّب عرفنا أنّ السبب مفقود وغير محقّق الوجود .
أراك ـ يا أخي ـ قد حميت واشتدّ غيظك عليَّ وقلت في نفسك : إنّي من المفسدين ، أو لا فمن المتطرّفين المتهوّرين ! اصبر قليلاً ولا تعجل . .
أنا لم أشكّ في إسلام كلّ فرد من المسلمين ، أي : لم أقل بالشكّ في إسلام جميعهم ، وإنّما الشك في إسلام مجموعهم ، فيقال : إنّ الهيئة العامة للإسلام فقدت مسحتها وتجرّدت عن صبغتها ، بدليل فقد أثرها الطبيعي بشهادة القرآن ، وذلك الأثر هو العزّة والغلبة والاستخلاف في الأرض والإرث لها. وإنّ في المسلمين أفراداً كثيرين كمل إسلامهم وصحّ يقينهم ، وقد ظهر أثر ذلك في أخلاقهم وأعمالهم وسائر ضروب معاملاتهم ، وهؤلاء ناجون وفي الجنان منعمون إن شاء الله تعالى . . لكنّ إسلام هؤلاء الأفراد لا يكفي في تحصيل الأثر العامّ الذي ينبغي أن تكتسبه الأُمّة بمجموعها ، من العزّة وإرث الأرض والاستخلاف فيها . فهل حسّنت ظنّك بي الآن يا أخي ، وعرفت الفرق بين إسلام الأفراد وإسلام المجموع وأنّ أحدهما لا يستلزم الآخر ، وأنّ لكلّ منهما أثراً خاصّاً به ؟ ! فتحصّل معنا : أنّ المسلمين في أيّ زمن كانوا وعلى أيّة حالة أصبحوا يكثر بينهم وجود أفراد كاملي الإسلام ناجين ، كما يكثر وجود آخرين مقصّرين وعن أعمالهم بين يدي الله محاسبين .
أمّا الأُمّة الإسلامية بمجموعها وبقطع النظر عن أفرادها فقد يأتي عليها دور أو تدخل في طور تكون فيه بمعزل عن . . عن أيّ شيء ! لا أقدر أن أقول : بمعزل عن الإسلام ، ولكن أقول : بمعزل عن أن تكون قد استوفت آثار الإسلام وجوائزه السماوية التي وعدها الله المسلمين في الآيات المختلفة والنصوص المتعدّدة . .
ثمّ إذا وصلت الأُمّة بمجموعها إلى هذا الدور أو الطور ألا تكون مسؤولة يوم القيامة بين يدي خالقها عن هذا التقصير ومناقشتها الحساب فيه ؟ !
أو لا تُسأل ولا تُحاسب اعتباراً بأنّ مجموع الأُمّة شخص معنوي ، لا قالب له حسّي ، وإنّما يكون تقصيرها ذنباً عقابه فيه ، أي : يكون مجرّد تقصيرها في الدار الدنيا عقاباً لها من حيث إنّها تعيش محتقرة بين الشعوب ، حقّها ضائع وعزّها مسلوب ، وهذا القدر كاف في عذابها وتحميلها مسؤولية ذنبها ؟!
وقد يخطر في البال أنّ الأُمّة بمجموعها ممثّلة في هيئة حكومتها ، فهيئة الحكومة والأفراد الذين تتألّف منهم هذه الهيئة ـ وهم ولاة الأُمور ـ يكونون مسؤولين يوم القيامة عن تقصير الأُمّة في كسب العزّة والغلبة ووسائل الاستخلاف في الأرض وسائر آثار الإسلام ومميّزاته الطبيعية .
ولكن هذا الاعتبار صحيح في الحكومات المستبدّة التي تكون الأُمّة خاضعة لها ، وتكون نسبتها إليها نسبة العبد إلى السيّد ، أمّا في الحكومات الدستورية الحرّة فلا تكون الأُمّة للحكومة ، وإنّما على العكس الحكومة تكون للأُمّة ، والأُمّة إذ ذاك تصبح هي السيّدة وهي المسؤولة عن تقصيرها في عدم استيفاء آثار الإسلام المذكورة .
وحينئذ نرجع للإشكال الأوّل ونقول : هل يتصوّر أن تكون الأُمّة بمجموعها مسؤولة يوم القيامة سؤالاً تعاقب عليه ، أو أنّ ذنبها عقابه فيه وعذابها في الدار الدنيا تستوفيه ؟
وقد يقولون : إن كان لا بدّ من هذا الإصلاح فينبغي أن يكون المطالبون به هم الحكّام والرؤساء والعظماء والأغنياء ، أمّا علماء الدين فمعظهم قد شغلهم أمر دنياهم عن النظر في أمره ، وإن فرغوا له فليس معهم مال ليساعدهم ولا لهم عصبية تعضدهم .
بمثل هذا الكلام يحاول العلماء زحزحة عبء العمل عن عواتقهم وإلقاءه على عاتق غيرهم .
ومن الغريب أن يوجد قوم من الشبّان المتحمّسين يذهبون إلى أنّ الإصلاح الإسلامي لا يتأتّى للمصلحين ما لم يقوموا بتأليف جمعيات ثوروية تسعى في قلب هيئة المجتمع الإسلامي رأساً على عقب ثمّ يعودون فينشِئونه خلقاً جديداً . ومن لطف الله أن كان هذا الرأي مقصوراً على ذوي الأمزجة العصبية والطباع الشاذّة ، وهم قليلون في شبّاننا المتنوّرين .
وهذا ما جعلني أرتاب في السيّد جمال الدين مذ قال لي : لا بدّ في الوصول إلى الإصلاح من « حركة دينية » ، فحسبته من أُولئك النفر القائلين بلزوم تأليف الجمعيات الثوروية ، حتّى فسّر لي الحركة الدينية بالإصلاح الإسلامي الذي أبنّا رأينا فيه وشرحنا قوادمه وخوافيه . إصلاحنا المنشود ليس بدعاً من كلّ إصلاح ديني أو اجتماعي قامت به جماعات البشر وحصل في أزمنة التاريخ القديم والحديث .
هذه الإصلاحات إنّما يقوم بها أُولئك الذين لم تلههم مناصب الجاه ولا مظاهر العظمة عن النظر في ما حلّ بقومهم من البؤس والشقاء والبحث عن أسبابه ووسائل النجاة منه .
أمثال هؤلاء هم المرجوون للبحث في الإصلاح ، لا أُولئك الرؤساء والعظماء الذين لا يشعرون بالحاجة إليه ، وقد يأنفون من الاشتغال به ، بل ربّما قاوموه أشدّ مقاومة ; لأنّه قلّما يخلو من تحطيم امتيازاتهم وزحزحتهم عن مستوى عظمتهم !
ومحصّل القول : إنّ أيّ نوع من الإصلاح لا يتمّ إلاّ بسعي الذين يعنيهم أمره ، وإصلاحنا الإسلامي إنّما يعني علماء الدين ، فهم المكلّفون به ، المخاطبون شرعاً بالعمل على تحصيله ، وليس العمل منهم سوى الدعوة إليه بخطبهم وكتاباتهم وتآليفهم ، حتّى إذا اقتنع بذلك جمهور الأُمّة ومعظم أفرادها هبّوا هبّة واحدة ، فاكتتبوا لمدارس يشيّدونها ، ونشرات يوزّعونها ، ومؤتمرات يعقدونها ، ومن كلّ ما فيه تحصيل هذا الإصلاح وتحقيق أمره (4).
(4) البيّنات ج1 ،ص2-8 .
أركان وأصول الإصلاح
عماد الإصلاح بوجه عامّ أو أصل الأُصول في الإصلاح إنّما هو التربية والتعليم الإسلاميّان ، أو يقال : هو المدرسة الإسلامية . . هذا هو أصل الأُصول .
أمّا بقية الأُصول والأركان فنأتي على ذكرها هنا موجزة بصفة فهرست يجمعها وكفاف يضمّ شتيتها :
1 ـ أن نعلّم طلاّب العلوم الدينية تعليماً يؤهّلهم للاجتهاد ، ما دمنا على يقين أنّه لا يوجد اليوم في المسلمين من هو أهل للاجتهاد .
2 ـ أن نصلح المكتبة الإسلامية ، فنختار الكتب المفيدة منها ، ونهمل ما لا يفيد ، ونتّخذ طرائق في التأليف سهلة تقرّب العلم وتختصر الزمان .
3 ـ أن لا ندع أحداً يعدّ نفسه من رجال الدين ، ويتزيّا بزي أهله ، ويتصدّى للفتيا والإرشاد ، ما لم نتحقّق أهليته ، بواسطة جمعية مكلّفة بذلك .
4 ـ إذا أراد الله وعاد إلينا الاجتهاد فلا يكون اجتهادنا ( فردياً ) ، وإنّما يكون ( إجماعياً ) ، فيجتمع المجتهدون ، ويقرّرون الحكم بالأكثرية .
5 ـ أن ننظر إلى جميع المذاهب على السواء ، فلا نفرّق بين الأئمّة ، ولا نلتزم أقوال إمام بعينه، وإنّما يأخذ أهل كلّ عصر من مذهب كلّ إمام ما يناسب مصلحتهم .
6 ـ أن يكون مدار الأحكام الشرعية والمعاملات القضائية المصلحة ، فهي المحكّمة في كلّ محكمة والمسؤولة في كلّ مسألة .
7 ـ أن لا نحدث في الدين حَدَثاً ، ولا نبتدع شيئاً كبيراً بداعي أنّ له في السنّة أصلاً صغيراً ، وإنّما نقف عند حدّ ما ورد عن الشارع وثبت في السنّة بقدره .
8 ـ أن نميّز العقائد الدينية عن التقاليد التي مرجعها النقل الآحادي أو الرأي الاجتهادي أو مجرّد الشيوع بين الأشياخ ، فلا نكلّف أنفسنا عقائد لم يكلّفنا إيّاها الشارع الرحيم ، ولا نكفّر مؤمناً إلاّ إذا أنكر عقيدةً ثابتةً ، لا تقليداً مروياً . 9 ـ أن لا نعتمد في تصحيح الحديث على صحّة روايته وسنده فحسب ، بل ننظر في متن الحديث ومدلوله ومضمونه ، فإن وافق أُصول الدين وآي القرآن قُبِل ، وإلاّ ردّ مهما كان من أمر سنده وروايته .
10 ـ أن لا يجري قياس واستنباط في العقائد والعبادات والشعائر ، بل نعتمد فيها ظاهرة النصّ ، وإنّما القياس يكون في المعاملات الفقهية وكلّ ما يتعلّق به القضاء ويختلف باختلاف الزمان والمكان ، ويسمّى اليوم ( الحقوق المدنية ) .
11 ـ أن نرفع من شأن العمل قليلاً ، فلا نزعم أنّ المسلم ينجو بمجرّد أقوال يردّدها ، أو تقاليد يُبطنها ، أو حركات يأتي بها ، بل إنّ المسلم : من سلم المسلمون من لسانه ويده بالفعل ، وعمل الأعمال التي حثّ عليها الإسلام ، وتخلّق بالأخلاق التي أمر بها ، وإلاّ كان الدين دعاوي فارغة وألفاظاً مهملة ، أو يقال : كان الدين عبثاً والوحي سدى .
12 ـ أن نرفع أيضاً من شأن الأسباب قليلاً ، ونعتبرها مظاهر لإرادة الله تعالى وقدرته ، فلا نهملها إلى حدّ أن نقول : إنّ السمّ لا دخل له في موت من تناوله فمات به ، وإنّ هذا المتناول لو لم يتناوله لمات حتماً ! فإنّ هذا القول يؤدّي إلى تعطيل الحدود والشكّ في حكمة المعبود .
13 ـ أن يترك الفقهاء كثيراً من النظريات والمسائل إلى أرباب الاختصاص في علومها ، فلا يكون الفقيه طبيباً ومهندساً وكيمياوياً وقائد حرب . . الخ ، وإنّما يبحث فيما يعلم ، ويدع ما لا يعلم لمن يعلم من الأخصّائيّين المسلمين » (5) .
(5) البيّنات ج1 ،ص13-17.
مميّزات المشاريع الإصلاحية للمجدّدين
هذا ، ولا بدّ في المقام من وقفة قصيرة جدّاً مع موضوع « التجديد » :
فالتجديد كان قائماً على مرّ التاريخ الإسلامي ، خاصّة في عصر الحركة الحضارية نرى ذلك التجديد في الفقه والأُصول والتفسير والحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية . الاجتهاد وشيوع حديث ظهور المجدّدين على رأس كلّ قرن من مظاهر هذا التجديد المستمرّ .
وكان من المفروض في عصر الركود الحضاري أن لا تظهر في العالم الإسلامي مشاريع تجديدية ، غير أنّ الإسلام بما فيه من طاقات ذاتية يأبى على أتباعه الخضوع للوضع القائم ، ويثير فيهم الهمّة للإصلاح والتجديد .
من هنا نرى قائمة المجدّدين في عصرنا غنية بالأسماء والمشاريع النظرية والعلمية .
وقد قدّم بعض هؤلاء المجدّدين مشاريع لعملهم ، يمكن تلخيصها فيما يلي :
1 ـ نقد ورفض الجمود والتقليد ، سواء أكان هذا التقليد للسلف وجموداً على تراثهم ، أم تقليد الغرب والجمود على الثقافة الحداثية للتغريب .
2 ـ التجديد الذي يؤدّي إلى تحرير الفكر من القيود ، وفهم الدين على طريقة سلف الأُمّة قبل ظهور الخلاف ، والرجوع في كسب معارف الدين إلى ينابيعها الأُولى ، واعتبار الدين من ضمن موازين العقل البشري ، وإصلاح أساليب اللغة العربية ، والتمييز بين ما للحكومة من حقّ الطاعة على الشعب ، وما للشعب من حقّ العدالة على الحكومة .
3 ـ الإصلاح بالإسلام ، لا بالمشاريع الغريبة على البيئة الإسلامية .
4 ـ الوسطية الإسلامية التي برِئت من الغلو والإغراق في المادّية أو في الروحانية .
5 ـ العقلانية المؤمنة التي تجمع بين العقل والنقل .
6 ـ الوعي بسنن الله الكونية التي تحكم عوالم المخلوقات ، وجعل هذه السنن علماً من العلوم المدوّنة .
7 ـ الدولة في الإسلام مدنية ـ إسلامية ، لا كهنوتية ولا علمانية
8 ـ الشورى ، أي : مشاركة الأُمّة في صنع القرارات .
9 ـ العدالة الاجتماعية التي تحقّق التكافل الاجتماعي بين الأُمّة كلّها .
10 ـ إنصاف المرأة لتشارك الرجل في القيام بفرائض وتكاليف العمل العامّ (6).
(6) نقل عن د.محمّد عمارة في المعجم الوسيط للساعدي ج1 ،ص93 .
وراجع لجميع ما تقدّم موسوعة أعلام الدعوة والوحدة والإصلاح ج1 ،ص13-26 .
المصدر
1.البيّنات .
تأليف: عبد القادر مصطفى المغربي(ت 1956 م)\نشر :المطبعة السلفية ومكتبتها-القاهرة\1344ه .
2.رجال الفكر والدعوة في الإسلام .
تأليف: أبي الحسن الندوي (ت 1420ه)\نشر : دار ابن كثير-دمشق وبيروت\الطبعة الثانية-1425ه .
3.القاموس المحيط .
تأليف : محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت817ه)\نشر : دار الجيل-بيروت .
4.المصباح المنير .
تأليف : أحمد بن محمّد الفيومي (ت 770ه)\نشر : دار الفكر-بيروت .
5.المعجم الوسيط فيما يخصّ الوحدة والتقريب .
تأليف : محمّد جاسم الساعدي\نشر : المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية-طهران\ الطبعة الأولى-1431ه .
6.موسوعة أعلام الدعوة والوحدة والإصلاح .
تأليف : محمّد جاسم الساعدي\نشر : المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية-طهران\ الطبعة الأولى-1431ه .
7.موسوعة الحضارة الإسلامية .
تأليف : مجموعة من الباحثين\نشر : المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية-القاهرة\1426ه .