عبد الهادي آوانج
عبد الهادي بن آوانج محمّد: رئيس الحزب الإسلامي في ماليزيا، وعضو الجمعية العمومية للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
يقول في مقالةٍ له نشرتها مجلّة «رسالة التقريب» الطهرانية: «جعل اللَّه سبحانه وتعالى الاختلاف من طبيعة هذه الحياة الدنيا وغريزتها، وجعله بين أهلها من البشر، والاختلاف سنّة ربّانية وباقية إلى أن يرث اللَّه الأرض ومَن عليها.... فالخلاف موجود ومقدّر، ولكنّه من حيث الشرع، منه ما يكون مقبولًا وما يكون مذموماً، ومنه ما يكون واجباً وما يكون محرّماً،
وما تكون فيه حكمة بالغة في تنوّع النظريات والحلول في الأُمور الاجتهادية التي لا نصوص فيها، أو فيها نصوص عامّة يتنوّع تفسيرها، أو نصوص متعلّقة بأسباب خاصّة، فالعبرة بخصوص السبب.
والخلاف بين الإيمان والكفر، وبين الحقّ والباطل، وبين العدل والظلم، وهو على المبادئ المنصوصة، لا مساومة فيها، فيجب مواجهتها بالحكمة سواء أكانت بالنصيحة أم بالمجادلة بالتي هي أحسن أم الجهاد في الدفاع عن هذا الدين ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. وأمّا الخلاف في الأُمور الفرعية والاجتهادية فأمر ضروري في الحياة على الآداب والأخلاق والسلوك التي تسقط العلاقة بين المجتمع الإنساني الذي يمرّ بتنوّع الطبائع والأوضاع والأزمان، ولا يجوز كذلك إذا كان منحرفاً عن الأخلاق التي تهدم الأُخوّة والمحبّة، وعن السلوك الذي يعطّل الترابط بين الأُمّة الواحدة.
فالإسلام يهدي إلى سواء السبيل، ليقوم الناس بالقسط، ويعيشون في الدنيا على الصراط المستقيم، ولكن الطبيعة البشرية المكلّفة جعلت الصراع بين الحقّ والباطل في المنصوصة القطعية التي لا يستطيع الناس مواجهة التحدّيات إلّابالهداية من عند اللَّه، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ومنهم من اهتدى ومنهم من ضلّ عن سواء السبيل.
فهناك أُمور مسلّمة التي حدّدها اللَّه للناس على ضرورة اختلاف عقولهم ومشاربهم
ومآربهم وضرورياتهم في مواجهة الحياة وأداء العبادة والخلافة في الأرض، وحدث الاختلاف بين المسلمين في أُمور لا تمسّ الأركان الإيمانية والإسلامية والأُمور المعلومة من الدين بالضرورة، واختلفوا إلى مذاهب في الاعتقاد والسياسة والفقه. فالاختلاف نوعان: اختلاف لم يفرّق الأُمّة، ولا ينبغي أن يفرّق،
ولم يجعل بأسها بينها شديداً، فهناك اختلافات قد انحرفت عن الدين تارة، وتارة أُخرى لم تنحرف عن أركان الدين ولكنّها فرّقت الأُمّة وأذهبت ريحها ووحدتها.
فموضوعنا الاختلاف الطبيعي الإيجابي الذي يوفّر الحكمة البالغة؛ لتكون الأُمّة خير أُمّة أُخرجت للناس على اختلاف شعوبهم وألوانهم وأوطانهم وأزمانهم، وهي تحمل قيادة البشرية على تعاليم الرحمة للعالمين، وتطبيق العدالة الإلهية للدولة والعالم وعلى المستوى الأُسري والأُممي رغم التعدّد والتنوّع.
لقد كان الخلاف موجوداً في عصر الرسول صلى الله عليه و آله بين الصحابة الكرام (رضوان اللَّه عليهم)، وبعد ذلك بين الأئمّة المتبوعين الكبار: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم بين أهل السنّة.
ولم يحاول أحد منهم أن يحمل الآخرين على رأيه أو يتّهمهم في علمهم أو دينهم من أجل مخالفتهم، بل كان الخلاف موجوداً في عصر شيوخ الأئمّة وشيوخ شيوخهم من التابعين الكبار والصغار.
فالخلاف موجود في عهد النبوّة بين الصحابة الكرام (رضوان اللَّه عليهم)؛ نظراً لاختلاف أفهامهم وتفسيرهم للنصوص والأوامر، فأقرّه ولم ينكره، كما في قضية صلاة العصر في بني قريظة، وهي مشهورة، والخلاف الذي ذهب إليه الرسول صلى الله عليه و آله لحسمه في بني عمرو بن عوف واشنغل في الإصلاح بينهم حتّى تأخّر عن الصلاة، والخلاف بين الصحابيّين في كيفية التيمم، وغيرها من القضايا. وهكذا ظلّت كثير من القضايا الشرعية والنازلة يقع فيها الاختلاف بين الجيل الأوّل، ثمّ يتّفقون عليها ويتسامحون بينهم، لا سيّما القضايا الكبيرة والمصيرية، ولا يزال الخلاف قائماً في المسائل الفقهية والعلمية التي لم تكن فيها نصوص قاطعة في الشريعة. فالدعوة الإسلامية منتشرة عبر القارّات، والفتوحات
الإسلامية متقدّمة في مشارق الأرض ومغاربها.
فقد أراد اللَّه أن تكون في هذا الدين أحكاماً منصوصة ومسكوت عنها، وأن تكون في المنصوص عليه: المحكمات والمتشابهات، والقطعيات والظنّيات، والصريح والمؤوّل؛ لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط فيما يقبل الاجتهاد.
ولو شاء اللَّه لأنزل كتابه كلّه نصوصاً محكمة قطعية الدلالة، لا تختلف فيها الأفهام، ولا تتعدّد التفسيرات، ولا تكثر فيها الاجتهادات، ولكنّه لم يفعل ذلك؛ لتتّفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة وطبيعة الناس وضروريات الزمن وطبيعة الرسالة المحمّدية إلى كافّة الناس في كلّ مكان وزمان في المدر والوبر وما بلغ الليل والنهار.
فالاختلاف في الرأي والفهم بآدابهما غير التفرّق الذي يفرّق الأُمّة الواحدة، فالأوّل محمود ومأجور: «من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد»، والثاني مذموم: «فتفرّقت أُمّتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلّهم في النار، إلّاواحدة».
والاختلاف المحمود يسمّيه العلماء «اختلاف تنوّع» مع الاجتهاد في البحوث بالعلوم الشرعية بإخلاص الإيمان والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللَّه للعبادة وإقامة الدين وسياسة الدنيا به.
وفي الكتاب والسنّة نصوص قطعية الدلالة التي لا خلاف فيها بين العلماء، وهناك نصوص عامّة ظنّية الدلالة لاختلاف المعاني وتغيّر الأسباب بخصوصها وعمومها، وما هو مسكوت عنه أكثر منها. وهذه ما حدث فيها الاختلاف بين العلماء، ولا تفرّقهم ولا تشتّت الأُمّة بسببها، بل رحمة وحكمة لحلول المشاكل وبناء الحضارة العادلة الوسطية.
والخلاف العلمي يكون على نهج الأُمور الاجتهادية بآداب الاختلاف بشروط:
1- أن يكون صادراً من العلماء المخلصين الذين تكلّموا أو كتبوا بصلاحية العلوم الشرعية المعتبرة. والجهلاء لا يحقّ لهم الكلام في الأُمور الدينية، وكذلك علماء السلاطين الذين يتكلّمون على حسب المصالح الرسمية فحسب.
2- أن لا يكون مخالفاً للإجماع القطعي الصحيح، كإيجاب الفرائض الكبيرة وتحريم
الفواحش المعلومة.
3- أن لا يكون صادراً عن أصل غير معتبر بالإجماع الذي مضى عليه سلف الأُمّة وأئمّتها المعتبرة، أو بالدليل القاطع على عدم اعتباره، كأقوال نفاة القياس والسياسة الشرعية.
4- أن لا يكون مخالفاً لأدلّة ثابتة، كالنصوص الثابتة ذات الدلالة القطعية الواضحة في قطعيتها، كموالاة الكفّار ضدّ المسلمين.
وفي الخلاف أُمور يجب مراعاتها بين العلماء والمفكّرين وقادة الأُمّة:
1- التعاون على البرّ والتقوى والتنسيق بينهم، فإنّ الميادين مكشوفة وقضايا الأُمّة معقّدة، فالأولى تعزيز روابط التعاون والأُخوّة والتنسيق في الإصلاح وحلّ القضايا التي تحيط بالأُمّة من الداخل والخارج.
2- العناية والتركيز على الجوانب المتّفق عليها والمصالح المشتركة، والمراعاة والتسامح في جوانب الاختلاف.
3- التفريق بين الثوابت والمتغيّرات في الأُمور الاجتهادية من الدين والرجوع إلى أولياء الأُمور من العلماء والقادة.
4- الاهتمام بالأزمات والمحن التي تعانيها الأُمّة، فإنّنا اليوم نعيش في أزمة ومحنة لا يعلمها إلّااللَّه، ونحتاج إلى وحدة الصفّ والتقارب فيما بيننا، واجتناب عوامل الفرقة والانشقاق بين الأشخاص والجماعات والشعوب المسلمة.
ولقد ظهر بين الأُمّة العلماء ورثة الأنبياء الذين يأمرون الناس بالقسط ويقومون على الحقّ ولا يخافون في اللَّه لومة لائم، وتركوا علوماً شرعية في الصدور والسطور، وورثنا كتبهم ومؤلّفاتهم، أُولئك الذين يعملون بعلمهم وجاهدوا في سبيل اللَّه، وأُولئك هم الصادقون.
ولدينا كتب تراثية متوفّرة وبحوث علمية متدفّقة على جميع المذاهب المعتبرة بين أهل السنّة والشيعة والإباضية، وأبواب الاجتهاد مفتوحة لأهلها لحلّ المشاكل العصرية
التي فشلت فيها الحلول المستوردة التي جنت على أُمّتنا، ووسائل العلاقات متيسّرة بيننا، فاستفيدوا منها للّقاء والحوار بالأُخوّة الإيمانية والمحبّة المخلصة».