تاريخ علم الأصول

تاريخ علم الأصول: البحث عن تطوّر علم الأصول يرجع الی زمن النبي(ص) وينقسم الی ثلاث مراحل: الأولی: مرحلة قبل التدوين. الثانية: مرحلة التدوین. الثالثة: مرحلة التکامل. والآن نقدّم هذه المباحث للقارئ الکريم.

تاريخ علم الأصول

يمكن الكلام عن تاريخ علم الأصول وتطوره في ثلاث مراحل رئيسة:

المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل التدوين

في هذه المرحلة لم يُعرف علم الأصول بشكله وملامحه بعد، بل كان مجموعة من القواعد والآليات الأصولية التي أعملها الشارع أو أقرها في بعض المسائل الفقهية[١]، فقد أورد الأصوليون مجموعة من النصوص ذكروا فيها أنّ الشارع أجاز إعمال بعض القواعد الأصولية، فقد أورد أصوليو أهل السنّة مجموعة من الروايات تجيز إعمال الرأي والقياس عند فقدان النصّ على الحكم الشرعي، كما ورد من قصّة معاذ لمّا قال له النبي(ص) حيث بعثه قاضيا إلى اليمن: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال: أقضي بكتاب اللّه‏، قال: «فإن لم تجد في كتاب اللّه‏» قال: فبسنّة رسول اللّه(ص) قال: «فإن لم تجد في سنة رسوله ولا في كتاب اللّه‏» قال: اجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله وقال: «الحمد اللّه‏ الذي وفق رسول اللّه‏ لما يرضي من رسول اللّه»(ص). [٢]
فالنبي(ص) أقرّه على إعمال القياس فيما لم ينصّ عليه في الكتاب والسنّة وهو أحد الأصول المهمّة عندهم. [٣]
وأيضا ما روي عنه(ص) أنّه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري وقد أنفذهما إلى اليمن: «بم تقضيان؟» فقالا: إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا السنّة قسنا الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحقّ عملنا به[٤] فالنبي(ص) أقرّهم على العمل بالقياس فيما لم ينصّ على حكمه في الكتاب والسنّة. [٥]
وكذلك ما روي عنه(ص) أنّه كان يعلل كثيرا من الأحكام الشرعية مثل ما روي إنّه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: «أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم، فقال: «فلا إذا»[٦] وهو الذي يصطلح عليه بمنصوص العلّة وغير ذلك من الأحكام. [٧]
وكذلك استدلّوا للاستحسان بقوله(ص): «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه‏ حسن».[٨]، فقد ادّعى أصحابه أنّ النبي(ص) كان يعمل بالاستحسان وأقرّ العمل به. [٩]
وغير ذلك من الأصول التي كان يعملها الشارع ـ حسب مدعى أصحابها ـ في جملة من الموارد والتطبيقات الفقهية مثل العمل بظهور الكلام والأخذ به، وحجّية خبر الثقة والاعتماد عليه، والرجوع إلى العرف في تحديد بعض الموضوعات الشرعية.
وقد اشتهر قول الإمام الصادق عليه‏السلام لبعض أصحابه: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم التفريع»[١٠]، وقول الإمام الرضا عليه‏السلام: «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»[١١] فإنَّ ارجاع الفروع إلى الأصول يحتاج إلى إعمال موؤنة استنباط وهو بدوره يحتاج إلى قواعد وآليات تضبط تلك العملية، وكأنّ الإمام عليه‏السلام يشير بذلك إلى تلك الآليات والضوابط التي يستعين بها المجتهد في استنباط الحكم الشرعي، فإنَّ الاجتهاد لا يتحقّق دون الاعتماد على قواعد أصولية ولو على مستوى بسيط وفي حدود ضيقة.[١٢]
وقد أشار أئمة أهل البيت عليهم‌السلام إلى مجموعة من الأصول الفقهية مثل ما ورد عنهم من حجّية الاستصحاب واعتباره كقوله عليه‌السلام: «لا تنقض اليقين أبدا بالشكّ، وإنّما تنقضه بيقين آخر»[١٣]، وقوله عليه‏السلام: «ولا ينقض اليقين بالشكّ ولا يدخل الشكّ في اليقين... لكنّه ينقض الشكّ باليقين...»[١٤] وغير ذلك من الروايات التي تدلّ على الاستصحاب.
وكذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من ذمّ القياس وعدم جواز العمل به في استنباط أحكام الشارع، والنقض على أصحاب القياس بمجموعة من الأحكام، وأنّه محق للدين وغير ذلك. [١٥]
وكذلك ما ورد عنهم من استحباب الاحتياط وتوقّي الشبهات في موردها، مثل ما روي عنه عليه‏السلام قوله: «أخوك دينك فاحتط لدينك».[١٦]، وكذلك ما ورد عنهم عليهم‏السلام من البراءة الشرعية وسقوط التكليف بما لا يعلم كقوله عليه‌السلام: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي».[١٧]
وكذلك ما ورد عنهم عليهم‏السلام من علاج الأخبار المتعارضة كقوله عليه‏السلام: «فاتّبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله...». [١٨]
وغير ذلك من النصوص التي دلّت على جملة من القواعد الأصولية التي تبحث في علم الأصول، والتي أصبحت مصدرا لكثير من الأدلّة والقواعد الأصولية العامّة، وقد ألفت كتب عديدة في هذا المجال كانت تهدف إلى استخراج القواعد الأصولية من النصوص والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت [١٩]، مثل كتاب «الأصول الأصيلة» للفيض الكاشاني (ت 1091 هـ)، و«الفصول المهمّة في أصول الأئمة» للحرّ العاملي (ت 1104 هـ)، و«الأصول الأصلية والقواعد المستنبطة من الآيات والأخبار المروية» للسيّد عبد اللّه‏ شبر (ت 1242 هـ)، و«أصول آل الرسول» للخونساري (ت 1318 هـ).
ففي هذه المرحلة كانت القواعد الأصولية مجموعة من الآليات والضوابط متناثرة في خلال الروايات والأحكام الصادرة عن الشارع، ولم يكن علم الأصول معروفا بملامحه وسماته كعلم له استقلاله عن العلوم الأخرى.

المرحلة الثانية: مرحلة تدوين علم الأصول

ويقصد بهذه المرحلة بداية استقلال مسائل علم الأصول ووضعها في كتاب على حدة والتعامل معها بمفردها بغض النظر عن علم الحديث و علم الفقه، فلما كان علم الأصول في بدايات عهد التشريع مجموعة من القواعد مبثوثة هنا وهناك في كلام النبي(ص) وأهل بيته عليهم‌السلام وأصحابه، مثل: مسائل تعنى بالاجتهاد والرأي والقياس والاستحسان و خبر الواحد و الاستصحاب والبراءة والاحتياط وأحكام التعارض، لكن وبمرور الزمن وظهور حوادث مستجدة اشتدت الحاجة إلى تلك القواعد الأصولية ممّا أدّى بالبعض إلى التفكير في تمحيص هذه القواعد وتبويبها فوضعت في كتاب أو تصنيف على حدة ليسهل التعامل معها ومعرفة حدودها وضوابطها.
وقد وقع البحث في من هو هذا البعض بالتحديد، ومن هو أوّل من صنف في مسائل علم الأصول، وهنا أقوال:
القول الأوّل: يذهب الشيعة الامامية إلى أنّ أوّل من صنّف في مسائل علم الأصول هو هشام بن الحكم الكوفي الشيباني (ت 169 ه ) في رسالته «الألفاظ»[٢٠]، وكذلك يونس بن عبدالرحمن مولى آل يقطين في رسالته «اختلاف الحديث ومسائله».[٢١]
يقول أسد حيدر: «فالإمام الباقر عليه‌السلام هو واضع علم الأصول وفاتح بابه، وأوّل من صنّف فيه هو هشام بن الحكم، صنف كتاب (الألفاظ ومباحثها)، وهو أهمّ مباحث علم الأصول، ثُمّ من بعده يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين صنّف كتاب (اختلاف الحديث ومسائله) وهو مبحث تعارض الحديثين ومسائل التعادل والتراجيح، ثُمّ أخذت حركة التأليف في الأصول من بعدهما بالتوسعة».[٢٢]
القول الثاني: أنّ الشافعي هو أوّل من صنّف في مسائل أصول الفقه وله كتاب معروف سمّي بـ «الرسالة» واحتوى جملة من المسائل الأصولية: كالاجتهاد والتقليد والاجماع والعموم والخصوص والاستحسان وبعض مسائل الأمر والنهي. [٢٣]
وصرح بذلك جملة من العلماء كابن خلكان[٢٤] وابن خلدون[٢٥] والتهانوي. [٢٦] يقول الأسنوي: «كان امامنا الشافعي رضى‏الله‏عنه هو المبتكر لهذا العلم بلا نزاع وأوّل من صنّف فيه بالإجماع».[٢٧]
ويقول الزركشي: «الشافعي أوّل من صنّف في أصول الفقه، صنّف فيه كتاب «الرسالة» وكتاب «أحكام القرآن» و«اختلاف الحديث» و«إبطال الاستحسان» و«القياس».[٢٨]
القول الثالث: أنّ أوّل من صنّف في مسائل أصول الفقه هم الأحناف، فقد ذُكر: «إنّ أوّل من صنّف في علم الأصول... أبو حنيفة النعمان رضى‏الله‏عنه حيث بيّن طرق الاستنباط في كتاب (الرأي) له».[٢٩]
بينما ينقل ابن خلكان عن جماعة وهو يتحدّث عن أبي يوسف: «هو أوّل من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب الإمام ابي حنيفة وأملى المسائل ونشرها».[٣٠] ويقول المكّي: «إنّ أبا يوسف أوّل من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة».[٣١]
ويذكر ابن النديم في محمّد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ): إنّ له كتابا في أصول الفقه، وإنّ له كتابا في اجتهاد الرأي وآخر في الاستحسان. [٣٢]
والذي يلاحظ على تأليفات وتصنيفات هذه المرحلة أنّها لم تدوّن إلاّ لمسائل معينة في أصول الفقه ولم تدون لعلم الأصول بعنوان أنّه شكله وملامحه وحدوده التي عرف فيها فيما بعد، ولم تكن تستوعب جميع مباحثه، لذلك نجد رسالة الشافعي تحتوي على كثير من المسائل والبحوث الفقهية، وحتّى المسائل الأصولية التي تطرّق لها لم يتمحّض البحث فيها بالبحث الأصولي، بل ضمنها كثير من المسائل الفقهية. [٣٣]
لذلك ترى هناك اختلافا واضحا بين «الرسالة» وبين الكتب الأصولية التي كتبت في علم الأصول فيما بعد.

المرحلة الثالثة: مرحلة تكامل علم الأصول

لأيّ كان السبق في تدوين مسائل علم الأصول، فإنَّ كلّ ما دون من مسائل أصولية لا يشكل الملامح الرئيسة لعلم له تعريفه وموضوعه وهدفه وغايته، وإنّما غاية ما تصبو إليه هو التأليف في مسائل معينة من أصول الفقه ولم تكن مستوعبة لمسائل علم الأصول. [٣٤]
إلى أن توالت التأليفات والتصنيفات المتكاملة والشاملة بجميع مسائل أصول الفقه، فوصل علم الأصول إلى أوجه في القرن الرابع الهجري وما بعده[٣٥]، وانفصل تماما عن العلوم الأخرى وبدا كعلم مستقل له أركانه ومقوماته التي يتميّز بها عن العلوم الأخرى، وأصبحت الغاية منه واضحة وهي إعانة الفقيه على استنباط الأحكام الشرعية من مداركها الأصلية.
وفي أثناء هذه المرحلة ظهر منهجان في تدوين علم الأصول:[٣٦]

المنهج الأوّل: طريقة المتكلّمين

وهي الطريقة المتّبعة في علم الكلام بتقرير مطالب ومباحث أصول الفقه من غير التفات إلى فروع المذهب أو مخالفته، بل أتباع هذا المنهج يبحثون في مسائل أصول الفقه طبق القواعد والحجج المتعارفة التي يقاس عليها صحّة كلّ أمر أو سقمه، فما وافق تلك الحجج والقواعد أُخذ به وإن خالف فروع المذهب، ولذا نجدهم يتطرّقون إلى مباحث أصولية مع عدم أخذهم بها واعتمادهم عليها في الفقه.
وقد جرى على هذه الطريقة المعتزلة و الشيعة الإمامية و المالكية و الشافعية و الحنابلة و الزيدية.
وهي بالإضافة إلى اعتمادها المنهج الكلامي في الاستدلال كان روّادها جلّهم من المتكلّمين، ولذا سمّيت بطريقة المتكلّمين. [٣٧] «وأهمّ خصائص هذه الطريقة عدم أخذ الضوابط الأصولية من الفروع الفقهية، والميل الشديد إلى الاستدلال العقلي والتبسيط في الجدل والمناظرات».[٣٨]
واُلفت معظم كتب الأصول على هذه الطريقة فألف كلّ من الباقلاّني (ت 403ه) «التقريب والإرشاد»، والمفيد (ت 413ه) «التذكرة بأصول الفقه»، وأبي الحسين البصري (ت 436ه) «المعتمد في أصول الفقه»، والمرتضى (ت 436ه) «الذريعة إلى أصول الشريعة»، والطوسي (ت 460ه) «العدّة في أصول الفقه»، وأبي يعلى (ت 458ه) «العدّة في أصول الفقه»، والجويني (ت 487ه) «البرهان في أصول الفقه»، وأبي المظفر السمعاني (ت 489ه) «قواطع الأدلّة»، والغزالي (ت 505ه) «المستصفى من علم الأصول»، والآمدي (ت 630ه) «الإحكام في أصول الأحكام» وغيرهم كثير.
ومن آثار هذه الطريقة وجود مسائل كلامية عديدة في علم الأصول مثل: مسألة «التحسين والتقبيح العقليين» ومسألة «وجوب شكر المنعم» ومسألة «الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع»، ومسألة «التكليف بالمحال» ومسألة «التكليف بالمعدوم» ومسألة «عصمة الأنبياء» كما أشار إلى ذلك السيّد المرتضى في مقام انتقاده لإدخال تلك المباحث في علم الأصول. [٣٩]

المنهج الثاني: طريقة الأحناف

وهي الطريقة التي يراعى فيها تطبيق فروع المذهب على أصول الفقه وأدلّته، ويقام البحث في حجّية الأدلّة وعدمها على ضوء ما هو موجود في فروع المذهب، بل قد يرفض أصل أو دليل معين طبقا لما هو مذكور في فروع المذهب، وأصحاب هذه الطريقة لا يتطرقون إلى أصول فقهية لم يصحّ الاستدلال بها عندهم في الفقه مثل مبحث «المصالح المرسلة» ومبحث «سد الذرائع» وغيرهما من الأدلّة المختلف فيها.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل أثّر المنهج المذكور على شكل وهيئة علم الأصول عندهم، فتراهم يتطرّقون إلى مباحث فقهية مثل: مبحث «الأهلية» و«الإكراه» وغير ذلك من المباحث التي حقّها أن تذكر في علم الفقه، فكانت الفروع الفقهية هي المصدر والأساس لتشكيل علم الأصول عندهم، وأصبح يعكس لما هو معتمد عندهم في علم الفروع.
وألّف على هذه الطريقة كثير من الأحناف كالجصّاص (ت 370ه) «الفصول في الأصول»، والدبوسي (ت 430ه) «تقويم الأدلّة»، والسرخسي (ت 490ه) «المحرر في أصول الفقه» الذي عرف فيما بعد بـ «أصول السرخسي»، وصدر الشريعة المحبوبي (ت 747ه) «تنقيح الأصول»، وابن الهمام (ت 861ه) «التحرير»، وابن عبد الشكور (ت 1180ه) «مسلّم الثبوت».
ويذكر أنّ هناك جماعة خرجوا عن المنهجين المذكورين في التأليف كابن حزم الظاهري (ت 456ه) والشاطبي (ت 790ه )، حيث سلك ابن حزم منهجا نقليا في بحثه الأصولي فعمد إلى حشد كثير من النصوص الشرعية في طي المباحث الأصولية فألف كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» وسلك الشاطبي منهجا خاصّا يعتمد نظريته ومبناه في «مقاصد الشريعة» في تأليف كتابه «الموافقات في أصول الشريعة».[٤٠]
وبقي أصول الفقه بعد ذلك على حاله عند أهل السنّة ولم يمر بمراحل غيّرت منهجه أو أضافت له مسائل جديدة أو توسعت في أبحاثه وظلّ يسير على خُطى رتيبة ولم يتأثّر بعوامل الزمان والمكان، ولعلّ السرّ في ذلك هو انغلاق باب الاجتهاد عندهم ممّا أفقد دوره في عملية الاستنباط لعدم الحاجة إليه بعد غلق باب الاجتهاد وفتح باب التقليد على مصراعيه عند المذاهب الأربعة. بخلافه علم الأصول عند الشيعة الإمامية ـ ولعلّه لانفتاح باب الاجتهاد عندهم ـ فقد مرّ بمراحل ومنعطفات أثّرت عليه تأثيرا كبيرا، فيذكر أنّ علم الأصول عندهم ولمدّة قرن كامل مرّ بمرحلة جمود وركود واستمرّت هذه المرحلة من بداية عصر الشيخ الطوسي (ت 460ه) حتّى عصر ابن إدريس الحلّي (ت 598ه) وهي المرحلة التي أطلق عليها «عصر المقلّدة»[٤١]، ثُمّ ما أن لبث ونهض من جديد على يد الشيخ ابن ادريس الحلّي (ت 598ه) فاستخدم مسائل أصولية كثيرة في فقهه «السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى» والشيخ ابن زهرة (ت 585ه) في كتابه «غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع».[٤٢]
ومن ثَمّ توالت التأليفات في علم الأُصول فألف المحقّق الحلّي (ت 676ه) «معارج الأصول»، وألف العلاّمة الحلّي (ت 726ه) «تهذيب الوصول» و«مبادئ الوصول» و«نهاية الوصول»، واستمرّ الحال على هذا النهج إلى زمان ظهور المدرسة الأخبارية عند الشيعة الإمامية على يد زعيمها محمّد أمين الإسترآبادي (ت 1033ه) الذي ألف كتابه «الفوائد المدنية» منتقدا فيه علم الأصول وناسبا مسائله إلى أهل السنّة[٤٣]، وتبعه في ذلك الحرّ العاملي (ت 1104ه) فألف كتابه «الفوائد الطوسية» منتقدا فيه أيضا علم الأصول ومبيّنا أنّ أكثر رجالاته هم من أهل السنّة، وأنّ الشيخ الطوسي والسيّد المرتضى لم يؤلّفا في علم الأصول إلاّ للردّ عليه. [٤٤]
لكن ما لبث الأمر إلاّ وتراجعت المدرسة الأخبارية وانحسر نفوذها لصالح المدرسة الأصولية التي تزعمها آنذاك الوحيد البهبهاني (ت 1205ه) فظهرت تأليفات عدّة في علم الأصول فألف الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت 1227ه) «كشف الغطاء» الذي خصص قسما منه بمباحث علم الأصول، وألف الميرزا القمّي (ت 1231ه) «القوانين المحكمة»، وألف السيّد محمّد الطباطبائي (ت 1242ه) «مفاتيح الأصول»، وألف أحمد النراقي (ت 1245ه) «مناهج الأحكام والأصول»، وألف محمّد تقي الإصفهاني (ت 1248ه) «هداية المسترشدين»، وألف محمّد حسين الإصفهاني (ت 1250ه) «الفصول الغروية». إلى أن دخل علم الأصول في مرحلة جديدة على يد الشيخ الأنصاري (ت 1281ه) وكان من ملامح هذه المرحلة خصلتان بارزتان:
الأولى: حذف أبحاث كثيرة من علم الأصول والتي كان بعضها ينسب إلى أصول فقه السنة من قبيل «القياس» و«الاستحسان» و«المصالح المرسلة» وحتّى «قياس الأولوية» و«تنقيح المناط» و«القياس المنصوص العلّة»، فلم تبحث هذه المباحث في علم الأصول بعد هذه المرحلة ولم تول اهتماما كسائر المباحث الأصولية الأخرى، ولم ينقح المراد منها تحديدا، ولم يلجوا في تفاصيلها وشرائطها ومعارضاتها.
الثانية: التوسّع في المباحث الأصولية إلى افتراضات وتشعبات ذهنية واسعة لا مجال لها إلاّ الدقّة العقلية، واُدخلت فيه مباحث فلسفية عديدة فإنَّ «انتشار فلسفات كبيرة ومجددة كفلسفة صدر الدين الشيرازي (ت 1050ه ) أدّى إلى إقبال الفكر الأصولي... على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام، وبخاصّة التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين الشيرازي ومن أمثلة ذلك: ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل أصولية متعددة كمسألة اجتماع الأمر والنهي ومسألة تعلّق الأوامر بالطبائع والأفراد».[٤٥]
ولم يقتصر الأمر على الشيخ الأنصاري بل تبعه الآخوند الخراساني (ت 1329ه) في ذلك وبالغ في إقحام المباحث والمفاهيم الفلسفية في علم الأصول حتّى قيل فيه بأنّه: «أدخل المسائل الفلسفية في الأصول أكثر من قبله».[٤٦]
ولايزال البحث الأصولياليوم ينهج نفس النهج الذي انتهجه الأنصاري ومن بعده الآخوند الخراساني في بحثهما الأصولي.

المصادر

  1. أنظر: نظرة في تطوّر علم الأصول: 23 ـ 24.
  2. سنن أبي داود 3: 303، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء ح3592.
  3. أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 293.
  4. أنظر: سنن الدارمي 1: 60، باب الفتيا وما فيه الشدّة من حديث معاذ. باختلاف.
  5. أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 293.
  6. سنن أبي داود 3: 251، كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر ح3359.
  7. أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 295 ـ 296.
  8. مجمع الزوائد 1: 177.
  9. أنظر: الإحكام الآمدي 3 ـ 4: 391.
  10. الفصول المهمّة الحر العاملي 1: 554.
  11. وسائل الشيعة 27: 62 كتاب القضاء، باب 6 عدم جواز القضاء والحكم بالرأي والاجتهاد والمقاييس ح 52.
  12. أنظر: نظرة عامة في تطوّر علم الأصول: 24.
  13. وسائل الشيعة 1: 245 كتاب الطهارة، ابواب نواقض الوضوء، باب 1 أنّه لا ينقض الوضوء إلاّ اليقين كحصول الحدث ح 1.
  14. الكافي 3: 352 كتاب الصلاة، باب السهو في الثلاث والأربع ح 3.
  15. وسائل الشيعة 27: 35 ـ 62 كتاب القضاء، باب 6 عدم جواز القضاء والحكم بالرأي والاجتهاد والمقاييس، أحاديث الباب.
  16. وسائل الشيعة 27: 167 كتاب القضاء، باب 12 وجوب التوقّف والاحتياط في القضاء والفتوى ح 46.
  17. من لا يحضره الفقيه 1: 208 كتاب الصلاة، باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ح937.
  18. وسائل الشيعة 27: 114 ـ 115 كتاب القضاء، باب 9 وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة ح 21.
  19. أنظر: تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 310.
  20. أنظر: رجال النجاشي: 432، تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 310.
  21. أنظر: تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 311.
  22. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2: 304 ـ 305.
  23. أنظر: أصول الأحكام: 22، أصول الفقه تاريخه وتطوّره ورجاله: 29 ـ 30.
  24. وفيات الأعيان 4: 165.
  25. مقدّمة ابن خلدون: 455.
  26. كشف الظنون 1: 111.
  27. التمهيد الأسنوي: 45.
  28. البحر المحيط 1: 10.
  29. أصول السرخسي 1: 3 المقدّمة، الفوائد الطوسية: 236.
  30. وفيات الأعيان 6: 382.
  31. مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان 2: 124.
  32. الفهرست: 257.
  33. أنظر: نظرة عامة في أصول الفقه: 29 ـ 30.
  34. أنظر: أصول الفقه الخضري: 5.
  35. أنظر: الفكر الأصولي دراسة تحليلية نقدية: 110 وما بعدها.
  36. أنظر: أصول الفقه الخضري: 6، أصول الأحكام: 23 ـ 24، الأصول العامة للفقه المقارن: 77 ـ 78.
  37. أصول الأحكام: 24.
  38. المصدر السابق.
  39. الذريعة 1: 1 ـ 5.
  40. أنظر: أصول الإحكام: 26.
  41. أنظر: نظرة في تطوّر علم الأصول: 45.
  42. أنظر: المصدر السابق: 47.
  43. الفوائد المدنية: 75 ـ 79، 123 وأنظر: المعالم الجديدة للأصول: 98، نظرة في تطوّر علم الأصول: 52.
  44. الفوائد الطوسية: 235 ـ 236.
  45. المعالم الجديدة للأصول: 115. بتصرّف.
  46. الذريعة إلى تصانيف الشيعة 6: 186.