الاستحباب

الاستحباب اصطلاحٌ فقهي أو حکمٌ شرعي يراد به مطلوبية الشئ من غير أن يصل إلی حدّ الإلزام.

أولاً: التعريف لغةً واصطلاحاً

الاستحباب بمعنى الاستحسان، وإذا تعدى بـ (على) فهو بمعنى الإيثار. وأما في الاصطلاح فهو اقتضاء الخطاب الشرعي الفعل اقتضاءً غير جازم. وقريب منه ما قاله الشهيد الصدر من الإمامية في تعريفه من أ نّه: حكم شرعيّ يبعث نحو الشيء الذي تعلق به بدرجة دون الإلزام. والذي اعتاد عليه أكثر الأصوليين هنا هو تعريف المستحب أو المندوب باعتباره متعلق الاستحباب أو الندب. ويمكن تقسيم هؤلاء إلى طائفتين: الطائفة الأولى: حاولت تمييز المستحب عن أصل الواجب من دون التفات أو عناية لها بذكر قيد يميّزه عن الواجب التخييري ـ والذى يُعَدّ قسما من الواجب ـ وهذه الطائفة منقسمة إلى أقسام: أ ـ من ركّز على عنصرَي الرجحان وجواز الترك، كالرّازي من أهل السنّة، والعلاّمة الحلّي من الإمامية فعرّفاه بأ نّه: الرّاجح فعله شرعا مع جواز تركه.
ب ـ من ركّز على عنصر المثوبة وعدم العقوبة، كابن بدران والطوفي، حيث قالا: ما يثاب على فعله ولايعاقب على تركه، أو عنصر المدح وعدم الذمّ، كما في تعريف البيضاوي له بانّه: ما يمدح فاعله ولايذمّ تاركه، أو عنصر عدم اللّوم كما في تعريف الجويني له حيث قال: هو الفعل المقتضَى شرعا من غير لوم على تركه. ج ـ من ركّز على عنصر عدم الجزم في الطلب وعرّفه بأنّه: ما طلب الشارع فعله طلبا غير جازم. الطائفة الثانية: من كانوا ملتفتين إلى أنّ من أقسام الواجب ـ الواجب التخييري ـ فحاولوا إعطاء تعريف للمستحب يميّزه عن الواجب تمييزا دقيقا فيخرج به قسماه التعييني والتخييري. وهؤلاء على قسمين: أ ـ من ركّز على عنصر جواز الترك مع إضافة قيد (لا إلى بدل) إليه، وهؤلاء بعض من علماء الإمامية، كالشيخ محمد حسن النجفي حيث قال: «إنّ المستحب ما جاز تركه لا إلى البدل». وحسب هذا التعريف، فإنّ المستحب مقابل للواجب الذي هو عبارة عمّا لايجوز تركه لا إلى بدل، ويتبيّن تمييز هذا التعريف للمستحب عن الواجب التخييري من خلال الالتفات إلى أنّ الواجب التخييري هو الذي يجوز تركه فيما إذا جيء ببدله. وقد أضاف النراقي إلى هذين القيدين قيد: «مع الثواب على الفعل» وقال: الاستحباب المصطلح بمعنى جواز الترك لا إلى بدل مع الثواب على الفعل. ب ـ من ركّز على عنصر عدم الذم على تركه مع تقييده بالإطلاق كالآمدي، حيث قال في تعريفه: هو المطلوب فعله شرعا من غير ذمّ على تركه مطلقا. وتقييده بالإطلاق لإخراج الواجب المخيّر، حيث إنّ تاركه لايذم في بعض الأحوال وهو فيما إذا ترك أحد الأفراد مع الإتيان ببدله، بخلاف المندوب.

ثانيا: الألفاظ ذات الصلة

هنالك ألفاظ لها صلة بمصطلح الاستحباب، وهي «السنّة» و«الندب» و«التطوّع» و«النفل» و«الفضل» و«الإحسان». وقد جرى البحث في تعيين هذه الصلة والنسبة، فظهر اتّجاهان: الاتّجاه الأول: يرى أنّها ألفاظ مترادفة، أي: أنّها أسماءٌ لمعنىً واحدٍ، رغم اختلافها في التعبير، وقد حصل هذا الاختلاف في التعبير كنتيجة للاختلاف الحاصل بينها من حيث زاوية النظر التي روعيت عند اختيار واستعمال كلّ لفظ، فجاء التعبير بالمندوب، من جهة أنّ الشارع يدعو إليه، والمستحب من جهة أنّ الشارع يحبّه، والنفل من جهة أنّه زائد على الفرض، والتطوّع من جهة أنّ فاعله يأتي به تبرعا، والفضيلة حيث إنّ فعلها يفضل تركها. وقد ذهب بعض من أصحاب هذا القول إلى أنّ لفظة السنّة قد تطلق على الواجب في مواضع، وسيأتي توضيح أكثر لذلك. الاتجاه الثاني: يرى أنّها غير مترادفة، وهذا الاتجاه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يعتبر أنّ السنّة ما فعله الرسول(ص)، والمستحبّ ما أمر به سواءٌ فعله أو لا، أو فعله ولم يداوم عليه، فالسنّة إذا مأخوذة من الإدامة. القسم الثاني: يعتبر أنّ الفعل إن واظب عليه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فهو السنّة، أو لم يواظب عليه كأن فعله مرّة أو مرّتين فهو المستحب، أو لم يفعله وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد فهو التطوّع، وهذا قول القاضي الحسين وغيره. وذكر السبكي أنّ الخلاف في ذلك لفظي. ويبدو أنّ الكلّ يتّفقون على كون المندوب والمستحب بمعنى واحد.

ثالثا: أقسام الاستحباب ومراتبه

للاستحباب أقسام ومراتب:

أقسام الاستحباب

قسّم الأصوليّون من الإمامية الاستحباب إلى قسمين: استحباب نفسي، واستحباب للغير. والأول: مثل استحباب الطهارة عند الحدث. والثاني: مثل استحباب غُسل الجنابة للصلاة المستحبة.

مراتب الاستحباب

حصل الاتفاق بين الأصوليين على وجود مراتب للمستحب من حيث الشدة والضعف، غير أ نّهم اختلفوا في جانبين: الأول: تعيين المراتب. فالأحناف قسّموه إلى مرتبتين رئيسيتين هما: السنّة أولاً، وما عداها ثانيا، وقسّموا السنّة إلى: سنّة الهدى، ويعنون بها مايكون مكملاً للدّين، بمعنى أ نّها تكون على سبيل العبادة كالأذان والإقامة، وسنّة الزوائد، ويعنون بها ما كان على سبيل العادة. فيما جعله بعض الحنابلة على ثلاث مراتب: سنّة، وفضيلة، ونافلة، وفسروا الأولى بما عظم أجره، والثالثة بما قلّ أجره، والثانية بما يتوسط بينهما في الأجر. وكذلك فعل القاضي حسين من الشافعية، حيث جعل المراتب ثلاثة، لكن فسّرها بما يلي: السنّة: وهي ماواظب عليه الرسول(ص)، والمستحب: وهو ما لم يواظب عليه الرسول(ص) ولكنه فعله مرّة أو مرتين، والتطوّع: وهو ما ينشئه الإنسان باختياره ولم يرد فيه نقل. وتلتقي جميع هذه التقسيمات مع بعضها كما أ نّها تختلف، والاختلاف بينها إنّما نشأ تبعا للاختلاف فيما تبنوه من ملاكات في تحديد هذه المراتب، وأهم الملاكات هي: 1 ـ إكمال الدين. 2 ـ زيادة الأجر. 3 ـ مواظبة الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله. الثاني: تسمية المراتب. ذهب قسم من الأصوليين إلى تسمية كلّ مرتبة باسم من الأسماء: السنّة، الندب، النفل، التطوّع، المرغّب فيه. فيما أطلق آخرون هذه الأسماء على جميع المراتب، وهؤلاء ذهبوا ـ تبعا لذلك ـ إلى القول بالترادف بين هذه الألفاظ، وهذا هو قول الشافعية والاماميّة. وانقسم من قال بتخصيص الأسماء بالمراتب إلى طائفتين: الطائفة الأولى: لايجوز إطلاق اسم كلّ مرتبة على غيرها، وهؤلاء هم الأحناف والقاضي حسين من الشافعية. وذهبوا ـ تبعا لذلك ـ إلى القول بالتباين بين هذه الالفاظ غير أنّ القاضي حسين يرى أنّ التباين قائم بينها ما عدا الندب، وأمّا الندب، فهو عنوان عام يشملها جميعا، والاحناف يرون أنّ التباين قائم بين السنّة وما عداها. الطائفة الثانية: تجوّز اطلاق اسم كلّ مرتبة على غيرها أحيانا، بمعنى أنّ كلّ اسم من هذه الأسماء قد يطلق على أساس تخصيصه بمرتبة، وقد يطلق على أيّ مرتبة دون تعيين. وهذا ظاهر الحنابلة والمالكية.

رابعا: حكم الاستحباب

1 ـ حكم المستحب بعد الشروع فيه

جرى البحث هل يجب إتمام المندوب بعد الشروع فيه، أم لا يجب؟ فظهر قولان: الأول: عدم وجوب إتمامه، وهو قول الإمامية والكثير من السنّة، ومنهم الشافعية. الثاني: وجوب إتمام مطلق المستحب، وهو قول بعض المالكية، والأحناف، قالوا يلزم إتمامه بالشروع فيه، فلو شرع في صلاة نافلة أو صوم نفل فإنّه يلزمه أن يتمادى ويمضي إلى آخره، وإذا قطعه فإنّه يُطالب بالقضاء. وقد استدلّ له بوجوه: أ ـ قوله تعالى: «وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ» إنّه نهي والنهي للتحريم، فإذا ما تلبّس بالمندوب فقد تلبّس بالعمل، فوجب عليه صيانته، وهي تتم بإتمامه. ب ـ إنّ النفل ينقلب واجبا بالنذر، فيجب أداؤه مع أ نّه مجرد اللفظ، فإذا كان مجرد اللفظ ينقل العمل من مندوب أو مباح إلى واجب، فأولى أن ينقل الشروع ذلك إلى الواجب. وقد ردّ الاستدلال الأوّل: بأنّ النهي هنا لم يتعيّن للتحريم، كما أ نّه لم يتعيّن للأعمال المندوبة، فوجب حمله على الواجبات توفيقا بين الأدلّة، ولذلك لم يبق فيه حجّة للحنفية. كما ردّ الثاني بأنّنا نوافق على أنّ ما أدّاه الإنسان من المندوب صار للّه‏ تعالى، وأنّ ذلك لايتمّ إلاّ بلزوم الباقي، ولكنّنا نخالفهم في الباقي، ونقول: إنّ إبطال ما صار للّه‏ تعالى جائز، لأنّ للإنسان أن لايفعله أولاً، فيكون له أن يبطله بعدد فعله، فلم يكن الإتمام لازما لذلك. ومحلّ الخلاف ما عدا الحج والعمرة، فأمّا إتمامهما بعد الشّروع فيهما فهو واجب، قال ابن أبي جمهور: والنفل لايجب بالشروع فيه، إلاّ الحج والعمرة إجماعا. وقد اختلف الإمامية في وجوب إتمام الاعتكاف بعد الشروع فيه. وقد تحدّث الشهيد الأول عن هذا بقوله: «وفي الاعتكاف للأصحاب ثلاثة أوجه: الوجوب بالشروع، والوجوب بمضي يومين، وعدم الوجوب، وأوسطها وسطها». ولايمثّل وجوب الإتمام في هذه الموارد انتقاضا للأصل القائل بعدم وجوب إتمام المستحبّ بعد شروعه، بل ذلك من باب الخروج بدليل خاص؛ قال البحراني من الإمامية: لا شيء من المستحب يجب بالشروع فيه إلاّ ما خرج بدليل خاص.

2 ـ حكم ترك المندوب

وتنقسم هذه المسألة إلى مسألتين:

المسألة الأولى: ترك المستحب لا بالكلّ

جرى البحث عند الأصوليين في كون ذلك هل هو مكروه أم لا؟ فاتفقوا على أنّ ترك المندوب يكون مكروها فيما إذا ورد نهي مخصوص. يقول ابن عابدين: إنّ ترك المندوب لايلزم أن يكون مكروها تنزيهيا إلاّ بدليل. وأمّا لو لم يرد نهي مخصوص، فاختلفوا على أقوال ثلاثة: الأول: أنّه ليس مكروها، وإنّما المكروه ترك سنّة الهدى فقط، وهذا قول الأحناف الثاني: أنّه ليس مكروها بقول مطلق، وهذا رأي جمهور الأصوليين من أهل السنّة، كما أنّه رأي أكثر الإمامية، يقول الشهيد الثاني: ترك المستحب لايعد مكروها. ويقول السيد علي الطباطبائي: القول بأنّ ترك المستحب مكروه خلاف التحقيق، ويقول الشيخ محمد حسن النجفي: ليس ترك المستحب مكروها عندنا، ومثله الميرزا القمي. ورغم ذلك فقد ذهب أصحاب هذا القول إلى كون تركه خلاف الأَولى، قال ابن عابدين: لا شك أنّ ترك المندوب خلاف الأَولى، ومثله ابن نجيم المصري، كما قال الشهيد الثاني من الإمامية : ترك المستحب خلاف الأَولى. وقد يتمّ التعبير عن ذلك بتعابير أخرى، يقول البجنوردي: ترك المستحب ليس بمكروه مع أنّ نقيضه أفضل، ويقول المحقّق الأصفهاني: إنّ كمال الإيمان يقتضي رعاية المندوب كرعاية الواجب، فلو ترك المستحب فهو منافٍ لكمال الإيمان، وصحّ نفيه عنه. الثالث: أنّه مكروه، وهذا ما قد يبدو من بعض الإمامية كالمحقّق الحلّي، وغيره، وهو كذلك رأي بعض المتقدمين من أهل السنّة، ويمكن القول بأنّ الخلاف بين هذا القول والقول الثاني لفظي؛ وذلك لبعض التعابير التي وقعت من قبل بعض من أصحاب هذا القول على كلا المستويين ـ الإمامية وأهل السنّة ـ فأمّا على مستوى الإمامية؛ فقد قالوا: إنّ هذه الكراهة ـ الثابتة لترك المستحب ـ ليست بمعنى المبغوضيّة الذاتيّة التي تثبت بدليل خاص، بل بمعنى المرجوحيّة والتي تطلق على ترك الأَولى، وأمّا على مستوى أهل السنّة؛ فلأنّ القائلين بكراهية تركه قد سمّوا الكراهة الثابتة بدليل خاص بالكراهة الشديدة، ممّا قد يشعر بأنّ نظرهم من الكراهة ترك الأَولى.

المسألة الثانية: ترك المستحب بالكلّ

وقد اختلفوا في جواز ذلك على أقوال أربعة: الأول: أنّه غير جائز مطلقا، وهذا قول الشاطبي، حيث ذهب إلى أنّ ترك المندوب بالكلّ غير جائز وإن كان غير لازم بالجزء. وقد نصّ على ذلك بقوله: «إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكلّ، كالأذان في المساجد والجوامع وغيرها، وصلاة الجماعة، وصلاة العيدين، وصدقة التطوّع، والنكاح، والوتر، وسنّة الفجر، والعمرة، وسائر النوافل الرواتب، فإنّها مندوب إليها بالجزء، ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها، ألا ترى أنّ في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام؟ ولذلك يستحق أهل المصر القتال عليه إذا تركوه، وكذلك صلاة الجماعة، من داوم على تركها يجرح ولا تقبل شهادته؛ لأنّ في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين، وقد توعَّد الرسول من داوم على ترك الجماعة فهمّ أن يحرق عليهم بيوتهم، كما كان لايغير على قوم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإلاّ أغار، والنكاح لايخفى ما فيه ممّا هو مقصود للشارع، من تكثير النسل وإبقاء النوع الإنساني وما أشبه ذلك، فالترك له جملة مؤثر في أوضاع الدّين إذا كان دائما، أمّا إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له، فلا محظور في الترك». الثاني: أنّه جائز مطلقا، وهذا قول الشيخ محمد حسن النجفي من الإمامية ، حيث قال: «الإنصاف ضرورة عدم المعصية في ترك جميع المندوبات، أو فعل جميع المكروهات من حيث الإذن فيهما، فضلاً عن ترك صنف منها ولو للتكاسل والتثاقل منه». وقد مال إليه بعض آخر. الثالث: أنّه جائز ما لم يبلغ حدّا يؤذن بالتهاون بالسنّن، وهذا قول جماعة من الإمامية، كما يبدو من المحقق السبزواري حيث قال: «ذكر الأصحاب أنّ ترك المندوبات لايقدح في العدالة ما لم يبلغ حدّا يؤذن بالتهاون بالسنّن، لدلالته على قلة المبالاة بأمر الدّين»، وقال أيضا: «ولايعتبر في العدالة الإتيان بالمندوبات، إلاّ أن يبلغ تركها حدّا يؤذن بقلة المبالاة بالدّين والاهتمام بكمالات الشرع، كترك المندوبات أجمع». الرابع: أ نّه غير جائز حتى لو تمثل هذا الترك في الاعتياد على ترك صنف من المندوبات (لا كلّها)، وهذا رأي الشهيد الثاني من الإمامية، حيث قال: «ترك المندوبات لايقدح في التقوى، ولايؤثر في العدالة، إلاّ أن يتركها أجمع فيقدح فيها، لدلالته على قلة المبالاة بالدّين والاهتمام بكمالات الشرع، ولو اعتاد ترك صنف منها، كالجماعة والنوافل ونحو ذلك، فكترك الجميع، لاشتراكهما في العلّة المقتضية لذلك». ولم ينقل خلافا في ما ادّعاه، غير أ نّه قد علّق السبزواري عليه: بأنّ ذلك الذي ادّعاه لاريب فيه في خصوص الجماعة، لدلالة الأخبار المتعدّدة عليه.

3 ـ هل المستحب مأمور به؟

قد اختلف الأصوليون في ذلك على رأيين:

الرأي الأول: أنّ المستحب مأمور به مجازا لا حقيقة

وهو لجمهور الحنفية، وبعض من الإمامية، قال الرازي: لا نسلّم كون المستحب مأمورا به حقيقة بل مجازاً. وقد استدلّ لهذا الرأي بالوجوه التالية: الأول: الأمر حقيقة في قول: (افعل)، وافعل حقيقة في الإيجاب دون غيره، وعلى ذلك يكون الأمر حقيقة في الوجوب، فلا يكون حقيقة في غيره وهو الندب. الثاني: لو كان المندوب مأمورا به لكان تركه معصية؛ لأنّ فيه مخالفة الأمر، مع أنّ الاتّفاق على عدم تأثيم تارك المندوب، فلا يكون مأمورا به لذلك. الثالث: قول النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة»، والسواك عند الوضوء مندوب بالاتفاق، وهو غير مأمور به بنص الحديث، فكان المندوب غير مأمور به لذلك. الرابع: قوله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ...» فقد تضمّنت هذه الآية وعيدا شديدا لمن خالف الأمر، والمندوب لايستلزم مخالفته مثل ذلك. الخامس: أنّ الندب تخيير بدليل جواز تركه، فالمكلّف مخيّر بين الفعل والترك، بينما الأمر استدعاء وطلب. والتخيير والطلب متنافيان.

الرأي الثاني: أنّ المستحب مأمور به حقيقةً

وهذا مذهب جمهور الشافعية والقاضي الباقلاني، ومعهم المالكية والحنابلة وبعض من الإمامية كالعلاّمة الحلّي والشيخ محمد حسن النجفي، وبه قال أبو هاشم وغيره، ونقله ابن القشيريّ وغيره عن المعتزلة، وقد استدلّ لهذا الرأي بوجوه: الأول: أنّ فعل المندوب يسمى طاعة وعبادة من العبادات التي يثاب الإنسان على فعلها بالاتفاق، وليس طاعة لذات الفعل وخصوص نفسه، وإلاّ كان طاعة بتقدير ورود النهي عنه، ولا لصفة من الصفات التي يشاركه فيها غيره من الحوادث، وإلاّ كان كلّ حادث طاعة، ولا لكونه مرادا للّه‏ تعالى، وإلاّ كان كلّ مراد الوقوع طاعة، وليس كذلك ولا لكونه مثابا عليه، فإنّه لايخرج عن كونه طاعة، وإن لم يثب عليه، ولا لكونه موعودا بالثواب عليه؛ لأ نّه لو ورد فيه وعد لتحقق، لاستحالة الخلف في خبر الشارع، والثواب غير لازم له بالإجماع، والأصل عدم ما سوى ذلك. فتعيّن أن يكون طاعة لما فيه من امتثال الأمر، فإنّ امتثال الأمر يسمى طاعة، ولهذا يقال: فلان مطاع الأمر، فكان المندوب مأمورا به لذلك. الثاني: أنّ أهل اللغة مطبقون على تقسيم الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب، ولازمه كون المندوب قسما من المأمور به؛ حيث إنّ مورد التقسيم مشترك. وقد يذكر هذا الوجه بشكل آخر فيقال: إنّه شاع في لسان العلماء أنّ الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب وأمر استحباب، وما شاع أ نّه ينقسم إلى أمر إباحة وأمر إيجاب، مع أنّ صيغة الأمر قد تطلق لإرادة الاباحة كقوله تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ»، «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا».

4 ـ هل المستحب من الأحكام التكليفة؟

اختلف الأصوليون في أنّ المندوب هل هو تكليف أم لا؟ فذهب الأكثر إلى أنّه ليس تكليفا؛ لأنّه ليس فيه إلزام، وإنّما عدّوه من الأحكام التكليفية من باب التغليب أو لأنّه يتعلق بالمكلّف، فيما ذهب الحنابلة والإسفراييني والباقلاني إلى أنّه تكليف، وهو ظاهر بعض الإمامية، واستدلّ عليه تارةً بأنّ المشقة ليست منحصرة في الممنوع عن نقيضه، وأخرى بأنّ فعل الندب لتحصيل الثواب فيه مشقة.