الزيارة
الزيارة: وهو في الاصطلاح الإكرامُ والتعظيم، والمقصود من هذا البحث إثبات مشروعية الزيارة في القرآن و السنة النبوية. وسنبحث أيضاً عن شئٍ من أهداف الزيارة.
الزيارة لغة واصطلاحا
الزيارة، من الزور، والزور: أعلى الصدر. وزرت فلانا: تلقيته بزوري، أي بصدري.. أو قصدت زوره، أي صدره.
وزاره يزوره زورا، وزيارة، وزوارة: عاده.. وزار فلان فلانا: مال إليه. والزورة: المرة الواحدة. ورجل زائر، وامرأة زائرة، من قوم زور، وزوار، وزور. والأخيرة اسم للجمع.
والزور: الذي يزورك، يقال: رجل زور، وقوم زور، وامرأة زور، ونساء زور، يكون للواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد لأنه مصدر.. وفي الحديث: إن لزورك عليك حقا. وقد تزاوروا: زار بعضهم بعضهم.
والتزوير: كرامة الزائر، وإكرام المزور للزائر، يقال: زوروا فلانا: أي أكرموه، وقد زور القوم صاحبهم تزويرا، إذا أحسنوا إليه. وأزاره: حمله على الزيارة. واستزاره: سأله أن يزوره. [١]
وتطلق الزيارة ويراد بها، عندما يبحث عن حكمها، زيارة القبور غالبا.
الزيارة في التشريع
أولا: في القرآن الكريم
إذا لم يرد في القرآن الكريم التصريح نصا بالزيارة، فقد وردت في مضامين أكثر من واحدة من آياته، منها:
1 - في قوله تعالى في شأن أصحاب الكهف ونزاع القوم فيهم بعد أن أماتهم الله: ( إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ). [٢]
قال المفسرون: ذكر اتخاذ المسجد يشعر بأن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وهذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور. وهذا هو الراجح عند أهل التفسير على قول بعضهم أن الذي غلب هم أصحاب الملك، فهم الذين يغلبون على أمر من عداهم. قالوا: الأول أولى. [٣]
بل قال بعضهم إن الملك الذي عثر عليهم كان مؤمنا. [٤] وأيا كان القائل فالمسجد إنما يتخذ ليؤتى على الدوام، ينتابه الناس، سواء المعاصرون منهم لقصته أو الأجيال اللاحقة.. وبهذا أصبحت مراقد أصحاب الكهف مزارا يقصده الناس للزيارة، بل أقاموا عليه مسجدا يذكرون اسم الله فيه.
ولعل مراقد هؤلاء الفتية المؤمنين، أصحاب الكهف، هي المثال الأسبق تاريخا في ما ذكره القرآن الكريم لاحترام مراقد الأولياء وتعاهدها بالزيارة، بل إقامة المسجد عندها كما هو صريح القرآن الكريم.
2 - قوله تعالى في النهي عن القيام عند قبور المنافقين ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ). [٥]
لا خلاف في أن المراد بالصلاة هنا هو خصوص الصلاة على الميت، يدل عليه السياق و سبب النزول، أما موضع الاستدلال لدينا على المطلوب فهو قوله تعالى: ( ولا تقم على قبره ) فقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد يتجاوز الوقوف عنده وقت الدفن، إلى عموم الأوقات.
قال البيضاوي، والآلوسي، والبروسوي: المراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة. [٦] فإذا كان هذا النهي قد ورد في شأن من مات على الكفر، كما هو في ذيل الآية نفسها ( إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ) ففيه دلالة واضحة على أن ذلك جائز، بل ومعهود، في شأن من مات على الاسلام. إذن ففي هذه الآية أيضا دلالة على مشروعية زيارة قبر المسلم، بقصد الزيارة والدعاء للميت، فهذا هو المعهود في قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر الميت بعد دفنه.
3 - قوله تعالى: ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ). [٧]
جاء في أسباب النزول أن الآية في صدر الحديث عن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآيات السابقة والذين ارتضوا التحاكم إلى الطاغوت فرارا من التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو أنهم جاءوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأظهروا الندم على ما فعلوه، وتابوا عنه واستغفروا منه، واستغفر لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتاب الله عليهم.
وقيل: إنها نزلت في قوم من المنافقين، قال الحسن: اثني عشر رجلا اجتمعوا على أمر مكيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم دخلوا عليه لذلك الغرض، فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه، فليقوموا وليستغفروا الله حتى استغفر لهم فلم يقوموا، فقال: ألا تقومون ؟ فلم يفعلوا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: قم يا فلان، قم يا فلان، حتى عد اثني عشر رجلا، فقاموا وقالوا: كنا عزمنا على ما قلت، ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا، فاستغفر لنا. فقال: الآن أخرجوا عني، أنا كنت في أول أمركم أطيب نفسا بالشفاعة، وكان الله أسرع إلى الإجابة.[٨]
فهذا ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يأتيه المذنب، فيستغفر، ويطلب منه الاستغفار و الشفاعة له، ولما ورد فيها من تكريم خاص وإجلال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجد المسلمون استحباب العمل بها بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فيأتي قبره الشريف، ويستغفر عنده ويسأل صاحبه الشفاعة، ذلك لان إجلال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتكريمه واجب بعد موته كوجوبه في حياته، والعمل بهذه الآية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالعمل بالآية القائلة: ( لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول ) [٩] حيث مضت سيرة المسلمين على وجوب العمل بها عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأثر في ذلك كثير، بحيث كتبت هذه الآية على الجدار المقابل لقبر الرسول اليوم.
ومثل ذلك ورد في الأثر الكثير في العمل بالآية موضع الاستدلال عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في عهد الصحابة وبعده، سنورد أمثلة منها في المباحث اللاحقة، ونكتفي هنا بذكر استدلال مالك بن أنس بالآية في رده على أبي جعفر المنصور، وهما عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد سأله أبو جعفر المنصور: أستقبل القبلة وأدعوا، أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله تعالى، قال الله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما). [١٠]
وفي مقدمة كلام مالك وأبي جعفر كان مالك قد استنكر على أبي جعفر رفعه صوته عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال: ( لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) ومدح قوما فقال: ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ) الآية... وذم قوما فقال: ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ) الآية... وإن حرمته ميتا كحرمته حيا.
وعلى هذا قال السبكي: دلت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له لا تنقطع بموته، تعظيما له.
قال: والآية وردت في أقوام معينين في حالة الحياة، فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلو هذه الآية ويستغفر الله تعالى.
وحكاية العتبي - وهو من مشايخ الشافعي - مشهورة، وقد شهد أعرابيا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتلى هذه الآية واستغفر وانصرف.. وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب، والمؤرخون، وكلهم استحسنوها ورأوها من آداب الزائر وما ينبغي له أن يفعله. [١١]
ثانيا: في السنّة النبوية
في هذا المبحث فقرتان:
الأولى: في اثبات مشروعية الزيارة في السنة النبوية.
والثانية: ممارسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها وأحاديثه الواردة فيها. باستثناء ما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة قبره الشريف خاصة.
يلاحظ أن زيارة القبور بشكل عام مرت في عهد الرسالة بثلاث مراحل: [١٢]:
مرحلة الإباحة استمرارا لما كان عليه أهل الشرائع السابقة، كما أشارت إليه آية سورة الكهف، وكما يثبته الحديث النبوي الآتي الذي يضع نهاية لهذه المرحلة، وتبتدئ المرحلة الثانية، وهي مرحلة المنع من الزيارة، وكان هذا المنع معللا كما سيأتي في الحديث النبوي، وأخيرا مرحلة الإباحة وتجديد العمل بها وفق الآداب التي أقرها الاسلام.
هذا التقسيم الثلاثي يستفاد بشكل مباشر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها. أخرجه مسلم والترمذي والنسائي والحاكم والبغوي، وغيرهم. [١٣] وهو واضح في أن المسلمين كانوا يزورون القبور، ثم نهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارتها، ثم أذن لهم بعد ذلك بالزيارة.
وفي رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يتضمن علة النهي أو بعضها، ففيها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هجرا. [١٤]
والهجر - بضم الهاء - الكلام القبيح الذي ينبغي هجره لقبحه. قال الراغب الأصفهاني: الهجر، الكلام القبيح المهجور لقبحه، وفي الحديث: ولا تقولوا هجرا، وأهجر فلان، إذا أتى بهجر من الكلام عن قصد.. وهجر المريض، إذا أتى ذلك من غير قصد. [١٥]
وفي لسان العرب: الهجر، القبيح من الكلام، والهذيان.. والهجر الاسم من الاهجار، وهو الافحاش، وكذلك إذا أكثر الكلام في ما لا ينبغي.. وفي التنزيل العزيز: ( مستكبرين به سامرا تهجرون ) أي تقولون القبيح. وقرئ ( تهجرون ) أي تهذون. ثم قال: وأما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هجرا فإن أبا عبيد ذكر عن الكسائي والأصمعي أنهما قالا: الهجر الافحاش في المنطق، والخنا.. ومعنى الحديث: لا تقولوا فحشا. [١٦]
وفيه دلالة على أن الناس كانوا عند زيارة القبور يقولون ما لا ينبغي من الكلام، فأباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيارة، وحرم الهجر من الكلام. يؤيده ويزيده وضوحا وتحديدا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا ما يسخط الرب. [١٧]
فهي رواية تفسر الهجر بما يسخط الرب. وقد تكون رواية بالمعنى للحديث الأول نفسه. وحديث آخر في هذا السياق جاء فيه: من أراد أن يزور قبرا فليزره، ولا يقول إلا خيرا، فإن الميت يتأذى مما يتأذى منه الحي. [١٨]
ومن حديث بريدة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية. [١٩]
وهكذا يؤسس الاسلام لأدب الزيارة، لاغيا ما كان متعارفا في عادات الجاهلية. وبعد ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزور القبور بنفسه، ويعلم المسلمين ماذا يقولون عند زيارتها، فاصلا بين ما ينبغي وبين ما لا ينبغي من القول.
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزور القبور
1 - أخرج مسلم، والترمذي، والنسائي، والحاكم، والبغوي حديث بريدة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تذكر الآخرة. [٢٠] قال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعيد، وابن مسعود، وأنس، و أبي هريرة، و أم سلمة. وحديث بريدة حديث حسن صحيح. [٢١] ولكلام الترمذي تتمة تأتي في محلها. وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ثم حثه على زيارة القبور، دليل صريح على جواز قصد قبر معين بالزيارة.
2 - أخرج الحاكم عن بريدة، قال: زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه في ألف مقنع، فلم ير باكيا أكثر من يومئذ. [٢٢] قال الذهبي: صحيح على شرطهما - أي البخاري ومسلم -. ومثله عن أبي هريرة: زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. [٢٣]
3 - من حديث طلحة بن عبيد الله، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد قبور الشهداء حتى إذا أشرفنا على حرة واقم، فلما تدلينا منها وإذا قبور ممحية، قلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه ؟ قال: قبور أصحابنا فلما جئنا قبور الشهداء، قال: هذه قبور إخواننا.
الحديث رواه أبو داود في ( السنن ) [٢٤] وفيه دلالة صريحة على الخروج بقصد زيارة قبور بعينها، لمنزلة اختصت بها، وليس لأجل التذكير بالآخرة فقط، وإلا لكانت الزيارة لأقرب المقابر في المدينة وافية بالغرض، أو لوقف صلى الله عليه وآله وسلم عند القبور الأولى التي قال فيها قبور أصحابنا، والحديث كله صريح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قاصدا زيارة قبور الشهداء، وراء حرة واقم، وهي في طرف المدينة الشرقي. وحرة واقم هذه هي التي حصلت فيها وقعة الحرة سنة 62 ه، بين أهل المدينة المنورة وكلهم من الصحابة وأبنائهم، وبين جيش الحاكم الفاجر يزيد بن معاوية.
4 - ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يخرج مرارا إلى البقيع لزيارة قبور المؤمنين المدفونين هناك، أخرج مسلم من حديث عائشة، أنها قالت: كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين.. الحديث. [٢٥]
5 - أخرج ابن أبي شيبة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي قبور الشهداء بأحد على رأس كل حول، فيقول: السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار. [٢٦]
6 - وفاطمة في حياة أبيها: ثبت في الصحيح عن فاطمة الزهراء البتول عليها السلام انها كانت في حياة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخرج في كل جمعة لزيارة قبر عمها حمزة بن عبد المطلب، فتصلي وتبكي عنده. أخرجه البيهقي، والحاكم.[٢٧]
وقال الحاكم معقبا على الحديث: هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات، وقد استقصيت في الحث على زيارة القبور تحريا للمشاركة في الترغيب، وليعلم الشحيح بذنبه أنها سنة مسنونة، وصلى الله على محمد وآله أجمعين. [٢٨]
أهداف الزيارة
ماذا يجد الزائر في سريرته وهو يزور القبور، أو يتوجه لزيارتها؟ ! ما هي الدوافع التي تحركه صوب هذا الفعل؟ وعلى نحو أكثر تحديدا، هل عرف التشريع شيئا من الأهداف التي يرجى تحققها من خلال زيارة القبور، أو زيارة قبر بعينه؟
هذا بدوره إن وجد سيكشف عن فضائل الزيارة وما يرتجى منها من ثمرات في دنيا المرء وأخراه.
إن كل الأهداف المتعلقة بالزيارة هي مستفادة بشكل مباشر من السنة النبوية المطهرة، ومن ذلك يمكن أن نجمل هذه الأهداف بما يلي:
الهدف الأول: الخشوع وتذكر الموت والآخرة
وهذه أهداف لا غنى لمؤمن عنها، ومهما كان عليه أن يستحضرها في كثير من أوقاته، غير أن أشياء بعينها ذات أثر مباشر في استحضار هذه المعاني، ستكون لها أهميتها الكبيرة بحسب مقدار ما تحققه من ذلك.. ولا شك في أن الوقوف بين القبور بتأمل، أو عند قبر خاص، له أكبر الأثر في إحياء تلك المعاني في القلوب، وعلى نحو ربما لا يضاهيه فيه فعل آخر، إلا تشييع جنازة ميت والوقوف عنده ساعة دفنه.
وفي تحقق هذه المعاني من وراء الزيارة جاء حديث نبوي كثير، منه: - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إني نهيتكم عن زيارة القبور، فمن شاء أن يزور قبرا فليزره، فإنه يرق القلب، ويدمع العين، ويذكر الآخرة.. ولا تقولوا هجرا. أخرجه أحمد والبيهقي، وصححه الحاكم والذهبي. [٢٩]
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فزوروا القبور فإنها تذكر - أو تذكركم - الموت. أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجة وأبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم. [٣٠]
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: زر القبور تذكر بها الآخرة. صححه الحاكم في المستدرك. [٣١]
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إني نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإن فيها عبرة. أخرجه أحمد والبيهقي، وصححه الحاكم والذهبي. [٣٢]
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة. أخرجه ابن ماجة. [٣٣]
الهدف الثاني: الدعاء للميت
هذا السلوك الأخلاقي الرفيع، الذي يحفظ كرامة المسلم في مجتمعه حتى بعد موته، ويربي في المسلمين روح الإخاء والحب والمودة وأداء حقوق الآخرين التي لا تنقطع برحيلهم من الدنيا، لهو واحد من الجوانب التربوية والاجتماعية الراقية التي تميز بها نظام الأخلاق في الاسلام.
ويشغل الدعاء للموتى عند زيارتهم المساحة الأكبر في أدب الزيارة، كما هو ملاحظ في النصوص المأثورة في زيارة القبور. فكثيرا ما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقف عند قبور المسلمين فيقول:
السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويأمر أصحابه بذلك متى مروا بالقبور أو قصدوها بالزيارة. [٣٤]
وقال صلى الله عليه وآله وسلم مؤكدا هذا المعنى: نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، واجعلوا زيارتكم لها صلاة عليهم واستغفارا لهم. [٣٥]
وكثيرا ما جمع صلى الله عليه وآله وسلم بين الهدفين: السلام على الميت، والعبرة، ومنه قوله المشهور والوجيز المذكور أولا في هذه الفقرة: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون.
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا فزوروا إخوانكم، وسلموا عليهم، فإن فيها عبرة. [٣٦]
وفي المأثور عن أمير المؤمنين عليه السلام الجمع بين الغرضين، فقد كان عليه السلام إذا دخل المقبرة قال: السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات.. اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم.. الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا، والحمد لله الذي منها خلقنا.. وإليها معادنا، وعليها يحشرنا.. طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل الحسنات، وقنع بالكفاف، ورضي عن الله عز وجل. [٣٧]
الهدف الثالث: أداء حقوق الموتى
وهذا ما نلحظه بوضوح في فحوى الخطاب في الحديث النبوي الشريف الآنف الذكر: ألا فزوروا إخوانكم، وسلموا عليهم ففيه إشارة في غاية الوضوح إلى أن لإخواننا الموتى حقوقا علينا، ينبغي علينا أداؤها بزيارتهم والتسليم عليهم، ولمزيد من الترغيب في ذلك يذكرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ذلك سيعود علينا أيضا بالنفع الكبير: فإن فيها عبرة.
ولا شك في أن لبعض الموتى حقوقا خاصة على البعض، تتأكد معها الزيارة، وكلما تعاظمت الحقوق أصبح لهذه الزيارة شأن أكبر ومرتبة أرفع.. ولا شك في أن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبناء أمته أثبت الحقوق وأعظمها، الامر الذي يجعل قصد أحدهم زيارته صلى الله عليه وآله وسلم من القربات المهمة في حياته.
وهذا ما أكده حديث أهل البيت عليهم السلام في هذا الشأن:
فعن الإمام الرضا عليه السلام: إن لكل إمام عهدا في عنق أوليائهم وشيعتهم، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء، زيارة قبورهم.. الحديث. [٣٨]
الهدف الرابع: قصد القربی والثواب
القربى والثواب، المترتبان قطعا، مع خلوص النية وصحة الفعل، على الزيارة التي يؤديها المسلم تحت أي واحد من العناوين المتقدمة، قد يكون هو الآخر بنفسه غرضا للزيارة وعنوانا لها، فيقصد المسلم التقرب إلى الله تعالى ونيل الثواب بزيارة قبور المؤمنين، أو قبر واحد بعينه. وذلك لما انطوت عليه الزيارة من فضائل ومستحبات لا تنفصل عنها.
فالزيارة وإن كانت بقصد القربى فإن مقاصدها الرئيسية الثلاثة متحققة فيها على أي حال، من العبرة، والدعاء للميت، وأداء حقه.
أما زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين فهي من القربات الأكيدة، كما ستأتي في ذلك الأحاديث الشريفة وكلمات الاعلام من علماء المسلمين.
وفي ( شفاء السقام ) جعل الزيارة من حيث مقاصد الزائرين أربعة أقسام، فذكر الثلاثة الأولى التي استفدناها نحن من الحديث الشريف مباشرة، ثم جعل الرابع: التبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الصلاح والخير.. وقال: مقصودنا أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين للتبرك بهم مشروعة، وقد صرح به. [٣٩]
المصادر
- ↑ مفردات القرآن / الراغب ( زور ) ، لسان العرب / ابن منظور ( زور ) .
- ↑ سورة الكهف : 18 / 21 .
- ↑ انظر : مجمع البيان / الطبرسي 5 : 710 ، التفسير الكبير / الرازي 11 : 106 ، فتح القدير / الشوكاني 3 : 277 ، الميزان / الطباطبائي 13 : 267 .
- ↑ الدر المنثور ، وعنه الميزان 13 : 286 في رواية قال عنها : والرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم وتلقوها بالقبول .
- ↑ سورة التوبة : 9 / 84 .
- ↑ أنوار التنزيل / البيضاوي 1 : 416 ، وروح المعاني / الآلوسي 10 : 155 ، روح البيان / البروسوي 3 : 378 .
- ↑ سورة النساء : 4 / 64 .
- ↑ مجمع البيان 3 : 105 ، تفسير الرازي 5 : 167 - 168 .
- ↑ سورة الحجرات : 49 / 2 .
- ↑ شفاء السقام / السبكي : 69 - 70 .
- ↑ شفاء السقام : 81 - 82 .
- ↑ على أساس ما ورد في كتب الجمهور .
- ↑ صحيح مسلم - كتاب الجنائز - 2 : 366 / 107 ، سنن الترمذي 3 : 370 / 1504 ، السنن الكبرى للنسائي 1 : 653 / 2159 ، المستدرك 1 : 530 / 1385 ، مصابيح السنة 1 : 568 / 1239 .
- ↑ المعجم الكبير / الطبراني 11 : 202 / 11653 ، والمعجم الأوسط 3 : 343 / 2730 ، مجمع الزوائد / الهيثمي 3 : 58 .
- ↑ معجم مفردات ألفاظ القرآن ( هجر ) .
- ↑ لسان العرب ( هجر ) .
- ↑ مجمع الزوائد 3 : 58 ، رجاله رجال الصحيح .
- ↑ الروض الفائق في المواعظ والرقائق : 22 ، وعنه : الغدير 5 : 245 .
- ↑ سنن ابن ماجة 1 : 485 / 1547 .
- ↑ صحيح مسلم 2 : 366 / 107 - كتاب الجنائز - ، سنن الترمذي 3 : 370 / 1054 ، السنن الكبرى / النسائي 1 : 653 / 2159 ، المستدرك على الصحيحين 1 : 530 / 1385 ، مصابيح السنة / البغوي 1 : 568 / 1239 . ولا يخفى أن الغرض من ذكر مثل هذا الحديث هو الاستدلال على مشروعية زيارة القبور بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله ، وقد ذهب أصحابنا وجمع من علماء الجمهور إلى أن والديه صلى الله عليه وآله وسلم كانا مؤمنين وهما من أهل الجنة .
- ↑ سنن الترمذي 3 : 370 / 1054 .
- ↑ المستدرك 1 : 531 / 1389 .
- ↑ المستدرك 1 : 531 / 1390 .
- ↑ سنن أبي داود 2 : 218 / 357 - كتاب المناسك - باب زيارة القبور .
- ↑ صحيح مسلم 2 : 363 / 102 - كتاب الجنائز - ، وسنن ابن ماجة 1 : 485 / 1546 .
- ↑ أخرجه الأميني في الغدير 5 : 258 عن ابن عابدين في رد المختار على الدر المختار 1 : 604 - 605 .
- ↑ السنن الكبرى للبيهقي 4 : 78 ، المستدرك على الصحيحين 1 : 533 / 1396 .
- ↑ المستدرك على الصحيحين 1 : 533 / 1396 .
- ↑ مسند أحمد 4 : 119 / 13075 ، 140 / 13203 ، السنن الكبرى 4 : 77 ، المستدرك 1 : 532 / 1393 .
- ↑ صحيح مسلم 2 : 365 / 106 - كتاب الجنائز - ، مسند أحمد 3 : 186 / 9395 ، سنن ابن ماجة 1 : 501 / 1572 ، سنن أبي داود 3 : 218 / 3234 ، سنن النسائي 1 : 654 / 2161 ، المستدرك 1 : 531 / 1388 .
- ↑ المستدرك 1 : 533 / 1395 .
- ↑ مسند أحمد 3 : 427 / 10936 ، السنن الكبرى 4 : 77 ، المستدرك 1 : 530 / 1368 .
- ↑ سنن ابن ماجة 1 : 492 / 1571 .
- ↑ انظر : صحيح مسلم / 102 و 103 - كتاب الجنائز - ، مسند أحمد / 8661 ، سنن الترمذي 3 : 370 / 1053 ، سنن البيهقي 4 : 79 .
- ↑ المعجم الكبير / الطبراني 2 : 94 / 1419 ، مجمع الزوائد 3 : 58 .
- ↑ مجمع الزوائد 3 : 58 .
- ↑ العقد الفريد 3 : 11 ، الغدير 5 : 249 .
- ↑ تهذيب الأحكام 6 : 78 - 79 / 3 .
- ↑ شفاء السقام 86 - 87 .